مقالات

آية التبليغ‏ : من الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر

قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ الَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ انَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ}. (المائدة/ 67)

شأن النزول :

جاء في الكثير من كتب علماء السنّة (وكافة كتب الشيعة المعروفة) سواءً التفسير أو الحديث أو التاريخ، أنّ الآية أعلاه نزلت بحق علي عليه السلام.

وروى‏ هذه الروايات جمعٌ كثير من الصحابة، منهم‏ «أبو سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وابن عباس، والبراء بن عازب، وحذيفة، وأبو هريرة، وابن مسعود، وعامر بن أبي ليلى‏»، وجاء في رواياتهم أنّ هذه الآية نزلت بشأن علي عليه السلام وواقعة يوم الغدير.

واللطيف أنّ بعض هذه الروايات نُقلت بطرق متعددة منها :

رواية أبي سعيد الخدري عن أحد عشر طريقاً.

رواية ابن عباس عن أحد عشر طريقاً أيضاً.

ورواية البراء بن عازب نُقلت عن ثلاثة طرق.

ومن بين الذين أوردوا هذه الروايات‏ (بشكل واسع أو بالإجمال) في كتبهم، العلماء المعروفون المدرجة أسماؤهم فيما يلي :

«أبو الحسن الواحدي النيشابوري في أسباب النزول ص 150.

«ابن عساكر الشافعي نقلًا عن «الدر المنثور»، ج 2، ص 298.

«الفخر الرازي في التفسير الكبير ج 3، ص 636.

«أبو اسحاق الحمويني في «فرائد السمطين» (مخطوط).

«ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة» ص 27.

«جلال الدين السيوطي في «الدر المنثور» ج 2، ص 298.

«القاضي الشوكاني في «فتح القدير» ج 3، ص 57.

«شهاب الدين الالوسي الشافعي في «روح المعاني» ج 6، ص 172.

«الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في «ينابيع المودّة» ص 120.

«بدر الدين الحنفي في عمدة القاري في «شرح صحيح البخاري» ج 8، ص 584.

«الشيخ محمد عبدة المصري في تفسير المنار ج 6، ص 463.

«الحافظ ابن مردويه (المتوفي عام 418 ه. ق) (على‏ ضوء نقل السيوطي في الدر المنثور) وكثيرٌ غيرهم.

وبالطبع لا ينبغي نسيان أنّ بعض هؤلاء العلماء في الوقت الذي ينقلون به الرواية وشأن النزول فإنّهم يمرون بها مرور الكرام للأسباب التي سنشير إليها لاحقاً، أو يبادرون إلى‏ نقدها…

حادثة الغدير :

اتضح من البحث السابق وبشكل إجمالي أنّ هذه الآية وعلى‏ ضوء الشواهد التي لا تحصى‏ قد نزلت بحق علي عليه السلام، وأنّ الروايات التي نقلت في الكتب المعروفة لأهل السنّة- فضلًا عن كتب الشيعة- أكثر من أن يستطيع أحدٌ إنكارها.

وبالإضافة إلى‏ الروايات أعلاه، فلدينا روايات اخرى‏ تفيد بصريح القول : إنّ هذه الآية وردت أثناء واقعة الغدير وخطبة النبي صلى الله عليه و آله في التعريف بعلي عليه السلام على‏ أنّه الوصي والولي، وعددها يربو على‏ الروايات السابقة، حتى‏ أنّ المحقق الكبير العلّامة «الأميني» ينقل في كتاب الغدير، حديث الغدير عن 110 من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالإسناد والوثائق الحية، وكذلك عن 84 من التابعين و 360 من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.

إنّ كلّ من يلقي نظرةً على‏ مجموعة هذه الأسانيد والوثائق يدرك بأنّ حديث الغدير من أكثر الروايات الإسلامية جزماً، ومصداقاً واضحاً للحديث المتواتر، ومن يشك في تواتره، فعليه أن لا يؤمن بايّ حديث متواتر.

وحيث إنّ الولوج في هذا البحث بنحوٍ واسعٍ يخرجنا عن اسلوب كتابة تفسير موضوعي، فنكتفي بهذا القدر بشأن اسناد الرواية وشأن نزول هذه الآية، ونتطرق إلى‏ مضمون الرواية، ونرشد من يريد المزيد من المطالعة حول إسناد الرواية إلى‏ الكتب التالية :

1- كتاب الغدير، ج 1.

2- احقاق الحق، تأليف العلّامة الكبير القاضي «نور اللَّه التستري» مع شرح مفصلٍ لآية اللَّه النجفي، ج 2 و 3 و 14 20.

3- المراجعات للمرحوم السيّد «شرف الدين العاملي».

4- عبقات الأنوار للعالم الكبير «مير حامد الحسيني الهندي» (من الأفضل مراجعة خلاصة العبقات، ج 7 و 8 و 9).

5- دلائل الصدق، تأليف العالم الكبير المرحوم «المظفر»، ج 2.

مضمون روايات الغدير :

وهنا نأتي بقصة الغدير بشكل مختصر كما يستفاد من مجموع الروايات أعلاه، (وطبعاً فإنّ هذه الواقعة قد وردت في بعض الروايات بشكل مفصّل ومطوّل، وفي بعضها بشكل مختصرٍ وقصير، وفي بعضها اشير إلى‏ جانبٍ من هذه القصة وفي البعض إلى‏ جانب آخر، ومنها جميعاً يستفاد ما يلي) :

في السنّة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه و آله اقيمت مراسم حجة الوداع بكل جلال بمشاركة النبي صلى الله عليه و آله، وكانت الأفئدة تمتلئ بالمعنويات ولم تزل اشعاعات هذه اللذة المعنوية وهذه العبادة العظيمة تنعكس في النفوس.

وكان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذين كان عددهم كثيراً للغاية لا تسعهم أنفسهم نتيجة لإدراكهم هذا الفيض والسعادة العظيمة (1).

ولم يكن أهل المدينة وحدهم الذين يرافقون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا السفر، بل كان المسلمون من مختلف بقاع الجزيرة العربية برفقته صلى الله عليه و آله لنيل هذا الفخر التاريخي العظيم.

وكانت شمس الحجاز تضفي على‏ الجبال والأودية حرارة لا تطاق، إلّا أنّ حلاوة هذا السفر المعنوي النادر كانت تيسِّر كل شي‏ء، وقد اقترب الظهر، وأخذت منطقة الجحفة، وصحراء «غدير خم» الجافة الرمضاء تبدو للعيان.

ومن هذا المكان الذي يتشعب إلى‏ أربعة طرق يفرق أهل الحجاز، فطريق يتجه إلى‏ الشمال نحو المدينة، وطريق إلى‏ الشرق نحو العراق، وطريق إلى‏ الغرب نحو مصر، وطريق إلى‏ الجنوب نحو اليمن، وهنا يجب أن تُطرح آخر المستجدات في هذا السفر، ويتفرق المسلمون بعد استلامهم لآخر حكم وهو في واقع الأمر كان خط النهاية في الواجبات الناجحة للنبي صلى الله عليه و آله.

كان ذلك في يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت عشرة أيّام على‏ عيد الأضحى، وفجأة صدر الأمر من الرسول صلى الله عليه و آله إلى‏ الذين معه بالتوقف، ونادى‏ المسلمون بأعلى‏ أصواتهم أصحابَهم الذين تقدموا الركب بالتوقف والعودة، وامهلوا المتأخرين حتى‏ يصلوا، وزالت الشمس وصدح صوت مؤذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالأذان : اللَّه أكبر، داعياً الناس إلى‏ صلاة الظهر، وسرعان ما استعد الناس للصلاة، إلّا أنّ حرارة الجو كانت إلى‏ الحد الذي اجبر البعض على‏ أنّ يغطي أرجله بقسم من ازاره ويستر رأسه بالقسم الآخر، وإلّا فإنّ حصى‏ الصحراء وأشعة الشمس ستحرق أرجلهم ورؤوسهم.

فلا خيمة في الصحراء، ولا خضرة، ولا نبات، ولا شجرة، سوى‏ بعض الأشجار البرية الجرداء التي تقاوم حرارة الصحراء، والتي لاذ بها البعض، ووضعوا قطعة من القماش على‏ إحداها وجعلوها ظلًا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إلّا أنّ الرياح اللاهبة تهب تحتها وتلفها بحرارة الشمس المحرقة.

وانتهت صلاة الظهر، وعزم المسلمون على‏ اللجوء إلى‏ خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم، بَيدَ أنّ النبي صلى الله عليه و آله أوعز لهم بالاستعداد لسماع بلاغ إلهي جديد يُوضح ضمن خطبة مفصلة، ولم يكن بمقدور البعيدين عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رؤية وجهه الملكوتي وسط زحام الناس، لذا فقد صنعوا له منبراً من أربعة من أحداج الإبل، فارتقاهُ النبي صلى الله عليه و آله، وفي البداية حمد اللَّه واثنى عليه واستعاذ به، ثم خاطب الناس قائلًا :

«أيّها الناس : يوشك أن أُدعى‏ فأُجيب.

أنا مسؤول، وأنتم مسؤولون.

فكيف تشهدون بحقي؟

فصاح الناس : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك اللَّه خيراً، ثم قال :

ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّي رسول اللَّه إليكم، وأنّ البعث حق، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور؟! فقالوا : نشهد بذلك، قال : اللّهم اشهد، ثم قال :

أيّها الناس أتسمعوني؟ قالوا : نعم، ثم عمّ السكوت الصحراء فلم يسمع إلّا صوت الريح، فقال صلى الله عليه و آله : فانظروا ماذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟

فقال رجل من بين القوم : ما هذان الثقلان يا رسول اللَّه؟!

قال صلى الله عليه و آله : أمّا الثقل الأكبر فهو كتاب اللَّه حبل ممدود من اللَّه إليكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فلا تدعوه، وأمّا الثقل الأصغر فهم عترتي وقد أخبرني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى‏ يردا علي الحوض، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا.

ونظر الناس إلى‏ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يلتفت حوله، وكأنّه يبحث عن أحد، ولما وقعت‏ عيناه على‏ علي عليه السلام التفت إليه وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض ابطيهما، وشاهدهما جميع القوم، وعرفوا أنّه ذلك الفارس المقدام، وهنا ارتفع صوت النبي صلى الله عليه و آله، وقال : أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : اللَّه ورسوله أعلم، فقال النبي صلى الله عليه و آله : اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين وأولى منهم بأنفسهم، ثم قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه، وكرر هذا الكلام ثلاث مرات، وكما قال أرباب الحديث : إنّه كرره أربعاً، ثم رفع رأسه نحو السماء، وقال :

اللّهم والِ من والاه وعاد من عاداه، واحب من أحبّه وابغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأَدر الحق معه حيث دار.

ثم قال صلى الله عليه و آله : إلّا فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ».

هنا انتهت خطبة الرسول صلى الله عليه و آله وكان العرق يتصبب من النبي صلى الله عليه و آله وجميع من حضر، وما زال الناس لم يتفرقوا من ذلك المكان حتى‏ نزل عليه الوحي وقرأ هذه الآية على‏ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله : {اليومَ اكملتُ لكُم دينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَليكم نِعمتي}.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله : «اللَّه أكبر، اللَّه أكبر على‏ إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعلي من بعدي».

في هذه الأثناء عمّ الناس النشاط والحركة، وأخذوا يهنئون علياً عليه السلام بهذا المقام، وكان من الذين هنّأوه، أبو بكر وعمر حيث نطقا بهذه العبارة أمام أعين الحاضرين :

«بخ، بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».

أثناء ذلك قال ابن عباس : «واللَّه أنّه عهد سيبقى في أعناقهم»، واستأذن النبيّ صلى الله عليه و آله الشاعر المعروف «حسان بن ثابت» لينشد شعراً بهذه المناسبة، ثم استهل قصيدته المعروفة :

يناديهمُ يومَ الغدير نبيُّهم‏       بُخمٍّ وأسمِعْ بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكُمُ ونبيُّكمْ؟              فقالوا ولم يُبدو هناك التعاميا

إلهكَ مولانا وأنت نبيُّنا         ولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليُّ فإنني‏        رضيتُكَ من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاهُ فهذا وليُّهُ‏             فكونوا له أتباعَ صِدقٍ مَواليا

هناك دعا اللّهُمَّ والِ وليَّهُ‏       وكُن‏ للذي عادى‏ علياً مُعاديا (2)

دراسة وتحليل حول آية التبليغ :

لو تغاضينا عن جميع الروايات الواردة بشأن نزول الآية الآنفة الذكر، وكذا الروايات الواردة حول واقعة الغدير، وأمعنا النظر بمضمون الآية نفسها وما تلاها من الآيات، نستطيع من خلال عمق هذه الآيات اتخاذ موقف ازاء مسألة خلافة النبي صلى الله عليه و آله.

والتوضيح : إنّ الآية المذكورة باختلاف التعابير التي وردت فيها تؤكّد على‏ أنّها ناظرة إلى‏ قضية ذي ثلاث مزايا مهمّة :

1- إنّها قضية تحظى بأهميّة فائقة من وجهة نظر الإسلام إلى‏ الحد الذي يؤمر النبي صلى الله عليه و آله بإبلاغها، وإن لم يفعل فما بلّغ رسالة اللَّه! وبتعبير آخر فقد كانت أمراً مرادفاً لقضية النبوة، فإن لم يؤدّها تبقى رسالة النبي صلى الله عليه و آله ناقصة!

ومن البديهي أنّهُ ليس المراد أنّ هذا أمرٌ الهيٌّ عاد وكل أمر إلهي لا يبلغ لم تبلغ رسالة اللَّه، فهذا الكلام من قبيل توضيح الواضح وغني عن البيان، بينما ظاهر الآية هو أنّ القضية المشار إليها تحظى‏ باهتمام خاص من حيث إنّها خلاصة الرسالة والنبوة.

2- إنّ هذه القضية لا تتعلق بالصلاة والصوم والحج والزكاة وما شابه ذلك من قواعد تعاليم الإسلام، لأنّها من آيات سورة المائدة، ونحن نعلم أنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على‏ النبي صلى الله عليه و آله (أو من أواخر السور) أي في آواخر عمر النبي صلى الله عليه و آله المبارك حيث كان قد تم بيان كافة الأركان المهمّة للإسلام‏ (3).

3- إنّ عبارات الآية تدلل على‏ أنّ القضية المقصودة من الآية كانت مسألة قد اتخذ البعض ازاءها موقفا متصلباً، ولربّما تعرضت حياة النبي صلى الله عليه و آله إلى‏ الخطر بسببها، من هنا أعلن الباري تعالى دعمه الخاص لنبيه في هذا الصدد وقال :

{وَاللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

ثم يؤكد تعالى في نهاية الآية :

{انَّ اللَّهَ لَا يَهدِى القَومَ الكَافِرِينَ}.

وهذه العبارة بحد ذاتها دليل على‏ المواقف السلبية لبعض المخالفين.

إنَّ مجموع هذه الامور الثلاثة التي تستنتج من الآية تؤكد على‏ أنّ المراد منها ليس إلّا ابلاغ خلافة ووصاية النبي صلى الله عليه و آله.

نعم، فمثل هذا الأمر يمكن أن يحظى بالبحث والتمعن في آواخر حياة النبي صلى الله عليه و آله، وليس سائر دعائم الإسلام التي كانت قد بُينت آنذاك، ومثل هذا الأمر باستطاعته أن يكون مرادفاً للنبوة ومماثلًا لها، وربّما تثار الاعتراضات نتيجة لإظهار مثل هذا الأمر قبل هذا الوقت ويكمن فيه الخوف من الخطر.

إنّ أي تفسير آخر يعطى‏ لهذه الآية عدا ما يتعلق بالولاية والإمامة والخلافة، لا ينسجم معها.

فلو طالعتم جميع كلمات المفسرين الذين أرادوا صرف مضمون الآية إلى‏ قضايا اخرى‏، لم يستطع أي منهم أن يُشير إلى‏ الأمر الذي تؤكّد عليه الآية، وهذا ما حدا بهم إلى‏ أنّ يتوقفوا عن تفسيرها.

توضيحات‏

1- معنى‏ الولاية والمولى‏ في حديث الغدير

لقد اطلعنا على‏ حديث الغدير المتواتر بشكل إجمالي، والعبارة المشهورة التي جاءت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في جميع الكتب وهي : «من كنتُ مولاه فعليٌ مولاه» توضح الكثير من الحقائق، وإن أصرّ كثيرٌ من كتاب أهل السنّة على‏ تفسير كلمة «المولى‏» بمعنى‏ الصديق والمحبّ والناصر، لأنّ هذا أحد المعاني المعروفة ل «المولى‏».

ونحن نسلّم بأنّ إحدى‏ معاني‏ «المولى‏» الصديق والمحب والناصر، إلّا أنّ ثمّة قرائن عديدة تثبت أنّ المولى‏ في الحديث أعلاه تعني‏ «الولي والمشرف والقائد» وهي كما يلي بإيجاز :

1- إنّ قضية محبّة علي عليه السلام مع جميع المؤمنين لم تكن أمراً خفياً وسريا ومعقداً، بحيث يحتاج إلى‏ هذا التأكيد والايضاح، وبحاجة إلى‏ إيقاف ذلك الركب العظيم وسط الصحراء القاحلة الساخنة والقاء خطبة عليهم لأخذ الاقرارات من ذلك الجمع.

فالقرآن يقول بصريح القول : {انَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ}. (الحجرات/ 10)

وفي موضع آخر يقول : {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ اوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. (التوبة/ 71)

والخلاصة : إنّ الاخوة الإسلامية ومودّة المسلمين مع بعضهم من أكثر المسائل الإسلامية بداهة، حيث كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام، وطالما أكّد عليها النبيُّ صلى الله عليه و آله مراراً بالإضافة إلى‏ عدم كونها مسألة تحتاج إلى‏ بيان بهذا الاسلوب الحاد في الآية، وأن يشعر النبي صلى الله عليه و آله بالخطر من البوح بها (تأملوا جيداً).

2- إنّ عبارة : «ألَسْت اولى‏ بكم من انفسكم» الواردة في الكثير من الروايات لا تتناسب أبداً مع بيان مودّة عادية، بل إنّه يريد القول إنّ تلك الأولوية والصلاحيات التي لي تجاهكم وكوني نبيّكم وإمامكم وقائدكم، فإنّ كل ذلك ثابت لعلي عليه السلام وأنّ أي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل فهو بعيد عن الانصاف والواقعية، لاسيما مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «من أنفسكم» (أنا أولى‏ بكم من أنفسكم).

3- التهاني التي قدمها من حضر في هذه الواقعة التاريخية لعلي عليه السلام، لاسيما التهاني التي قدمها أبو بكر وعمر، إذ إنّها تبرهن على‏ أنّ القضية لم تكن سوى‏ تعيينه للخلافة التى‏ تستحق التبريك والتهاني، فالإعلان عن المودة الثابتة لدى‏ كل المسلمين بشكل عام لا يحتاج إلى‏ تهنئة.

جاء في مسند الإمام أحمد أنّ عمراً، قال لعلي بعد خطبة النبي صلى الله عليه و آله : «هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى‏ كل مؤمن ومؤمنة» (4).

ونقرأُ في العبارة التي ذكرها الفخر الرازي في ذيل الآية : «يَا أَيُّها الرَسُولُ بلِّغْ مَا أُنزِلَ الَيكَ» إنّ عمراً قال : «هنيئاً لك أصبحت مولاي ومولى‏ كل مؤمن ومؤمنة، وبهذا فإنّ عمراً يعدهٌ مولاه ومولى‏ المؤمنين جميعاً».

وفي تاريخ بغداد جاءت الرواية بهذا الشكل : «بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى‏ كل مسلمٍ» (5).

وجاء في‏ «فيض القدير»، و «الصواعق»، أنّ أبا بكرٍ وعمراً باركا لعلي بالقول : «أمسيت يا ابن أبي طالب مولى‏ كل مؤمن ومؤمن» (6).

ومن نافلة القول : إنّ المودّة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم، وهذا لا ينسجم إلّا مع معنى‏ الولاية التي يفيد الخلافة.

4- إنّ الشعر الذي نقلناه آنفاً عن‏ «حسان بن ثابت» بذلك المضمون والمحتوى‏ الرفيع، وتلك العبارات الصريحة والجلية شاهد آخر على‏ هذا الادّعاء، وتشير إلى‏ هذه القضية بما فيه الكفاية (راجعوا تلك الأبيات مرة آخرى‏).

2- آيات أُخرى‏ في القرآن تؤيد حديث الغدير

روى‏ كثيرٌ من المفسرين ورواة الحديث في ذيل الآيات الاولى‏ من سورة المعارج :

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ* مِنَ اللَّهِ ذي الْمَعَارِجِ}. (المعارج/ 1- 3)

سبب النزول وخلاصته :

إنّ النبي صلى الله عليه و آله عيَّن علياً خليفة يوم غدير خم وقال بحقه : «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فما لبث أن انتشر الخبر، فجاء «النعمان بن الحارث الفهري»- (وكان من المنافقين) (7)- إلى‏ النبي صلى الله عليه و آله وقال : لقد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّك محمد رسول اللَّه، فشهدنا، ثم أمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة فقبلنا، فلم ترض بكل ذلك، حتى‏ أقمت هذا الفتى‏ «مشيراً إلى‏ علي عليه السلام خليفة لك، وقلت : مَنْ كنتُ مولاه فعليٌ مولاه فهل هذا منك أم من اللَّه»؟ قال النبي صلى الله عليه و آله : «واللَّه الذي لا معبود سواه إنّه من اللَّه»، فالتفت إِليه‏ «النعمان بن الحارث»، وقال : «إلهي إن كان هذا حقاً منك فانزل علينا حجارة من السماء».

وفجأةً نزلت حجارة من السماء على‏ رأسه وقتلته فنزلت آية {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}.

ما ورد أعلاه يطابق الرواية التي نقلت في مجمع البيان عن أبي القاسم الحسكاني‏ (8) وقد نقل هذا المضمون الكثير من مفسري أهل السنّة ورواة الأحاديث مع شي‏ء من الاختلاف، مثل : القرطبي في تفسيرهِ المعروف‏ (9)، والآلوسي في تفسير روح المعاني‏ (10)، وأبو اسحاق الثعلبي في تفسيره‏ (11).

وينقل العلّامة الأميني هذه الرواية في كتاب الغدير عن ثلاثين من علماء السنة (مع ذكر المصدر ونص العبارة)، منها السيرة الحلبية، «فرائد السمطين» للحمويني، و «درر السمطين» للشيخ محمد الزرندي، و «السراج المنير» لشمس الدين الشافعي، و «شرح الجامع الصغير» للسيوطي، و «تفسير غريب القرآن» للحافظ أبو عبيد الهروي، و «تفسير

شفاء الصدور» لأبي بكر النقاش الموصلي، وكتب اخرى‏.

وقد أورد بعض المفسرين أو المحدِّثين الذين يُقرّون بفضائل علي عليه السلام على‏ مضضٍ إشكالات مختلفة على‏ سبب النزول هذا، أهمها الإشكالات الأربعة التالية التي أوردها صاحب تفسير المنار وآخرون بعد ذكرهم لهذه الرواية :

الإشكال الأول : إنّ سورة المعارج مكية، ولا تتناسب مع واقعة غدير خم.

والجواب : إنّ كون السورة مكية لا يعتبر دليلًا على‏ أنّ جميع آياتها نزلت في مكة، فلدينا العديد من سور القرآن الكريم التي تُدعى‏ بالمكية وكتبت في جميع المصاحف على‏ أنّها مكية، بيد أنّ عدداً من آياتها نزلت في المدينة، وكذا العكس، فعلى‏ سبيل المثال أنّ سورة العنكبوت من السور المكية، والحال أنّ آياتها العشر الاولى‏ نزلت في المدينة، على‏ ضوء قول الطبري في تفسيرهِ المعروف، والقرطبي في تفسيره وآخرين من العلماء (12).

أو سورة الكهف المعروفة بأنّها مكية بينما نزلت آياتها السبع الاولى‏ في المدينة استناداً لتفسير «القرطبي»، و «الاتقان» للسيوطي، وتفاسير عديدة (13).

وهكذا فهنالك سورٌ عُدَّت بأنّها مدنية بينما نزلت آيات منها في مكة، مثل سورة «المجادلة» فهي مدنية كما هو معروف، إلّا أنّ الآيات العشر الاولى‏ منها نزلت في مكة، طبقاً لتصريح بعض المفسرين‏ (14).

وموجز الكلام أنّه توجد حالات كثيرة بأنّ تذكر سورة على‏ أنّها مكية أو مدنية، ويكتب عليها في التفاسير والمصاحف هذا الاسم إلّا أنّ جانباً من آياتها قد نزل في موضع آخر.

وعليه فلا مانع أبداً من أن تكون سورة المعارج هكذا أيضاً.

الاشكال الثاني : جاء في هذا الحديث أنّ الحارث بن النعمان جاء إلى‏ النبي صلى الله عليه و آله في الأبطح، ونحن نعلم أنّ الأبطح اسم لوادي مكة، ولا تتلائم مع نزول الآية بعد واقعة الغدير بين مكة والمدينة.

الجواب : أولًا : إنّ عبارة الأبطح في بعض الروايات فقط لا في جميعها، وثانياً : إنّ‏ «الابطح والبطحاء» تعني الأرض الرملية التي يجري فيها السيل، وهنالك مناطق في المدينة وسائر المناطق يطلق عليها اسم الأبطح أو البطحاء أيضاً، واللطيف أنّه قد اشير إليها مراراً في الشعر العربي.

منها : الشعر المعروف الذي أنشده‏ «شهاب الدين» المشهور ب «حيص بيص» في رثائه لأهل البيت عليهم السلام، عن لسانهم في مخاطبة قاتليهم :

ملكنا فكان العفو منّا سجية           فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ‏

وحلّلتم قتل الاسارى‏ وطالما           غدونا عن الاسرى‏ نعفُّ ونصفحُ‏

ومن الواضح أنّ مقاتل أهل البيت عليهم السلام كانت على‏ الأغلب في العراق وكربلاء والكوفة والمدينة، وما أُريق دمٌ في أبطح مكة أبداً، نعم استشهد بعض أهل البيت عليهم السلام في واقعة «الفخ» التي تبعد عن مكة ما يقرب من فرسخين، والحال أنّ الأبطح يجاور مكة (15).

وشاعرٌ آخر يرثي الإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء قائلًا :

وتأنُّ نفسي للربوعِ وقد غدا           بيت النبيِّ مقطّع الاطنابِ‏

بيتٌ لآلِ المصطفى‏ في كربلا          ضربوه بين اباطحٍ وروابي‏

وثمّة أشعار اخرى‏ كثيرة ورد فيها تعبير «الأبطح» أو «الأباطح» لا تعني منطقة خاصة في مكة.

وملخّص الكلام، صحيح أنّ أحد معاني الأبطح هو بقعة في مكة، إلّا أنّ معنى‏ ومفهوم ومصداق الأبطح لا ينحصر بتلك البقعة.

___________________
(1) ذكر البعض أنّ عدد الذين كانوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 90 ألفاً، والبعض 112 ألفاً، وبعضٌ 120 ألفاً، وبعضٌ 124 ألفاً.

(2) روى‏ هذا الشعر جماعة من كبار علماء السنة منهم، الحافظ «أبو نعيم الاصفهاني»، والحافظ «أبو سعيد السجستاني»، و «الخوارزمي المالكي»، والحافظ «أبو عبد اللَّه المرزباني»، و «الكنجي الشافعي»، و «جلال الدين السيوطي»، و «سبط بن الجوزي»، و «صدر الدين الحموي».

(3) يقول الفخر الرازي في ذيل هذه الآية، قال أصحاب الآثار أنّه لما نزلت هذه الآية على‏ النبي صلى الله عليه و آله لم يعمر بعد نزولها إلّا رأحد وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين يوماً، التفسير الكبير، ج 11، ص 139؛ وجاء في تفسير المنار أيضاً وبعض الكتب الاخرى‏ أنّ سورة المائدة جميعها نزلت في حجة الوداع (تفسير المنار، ج 6، ص 116) وبالطبع فقد نقل البعض بشأن عدد الأيّام أعلاه، أقل من ذلك.

(4) مسند أحمد، ج 4، ص 281 (على‏ ضوء نقل الفضائل الخمسة، ج 1 ص 432).

(5) تاريخ بغداد، ج 7، ص 290.

(6) فيض القدير، ج 6، ص 217؛ الصواعق، ص 107.

(7) جاء في بعض الروايات أنّه «الحارث بن النعمان» وفي بعضها «النضر بن الحارث».

(8) تفسير مجمع البيان، ج 9 و 10، ص 352.

(9) الجامع لأحكام القرآن، ج 10، ص 6757.

(10) تفسير روح المعاني، ج 29، ص 52.

(11) وفقاً لنقل نور الابصار للشبلنجي، ص 71.

(12) تفسير جامع البيان، ج 20، ص 86؛ وتفسير القرطبي ج 13، ص 323.

(13) للمزيد من الاطلاع على‏ الموضوع، راجعوا الغدير، ج 1، ص 356، و 257.

(14) تفسير أبي السعود الذي كتب على‏ هامش تفسير الرازي، ج 8 ص 148؛ والسراج المنير، ج 4، ص 310.

(15) الغدير، ج 1، ص 255.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى