سيرة وتاريخ

الإمام الجواد عليه السلام قدوة وأسوة

ولد الإمام الجواد سلام الله عليه في العاشر من شهر رجب الأصب عام 195 هجرية في المدينة المنورة. سمّي محمداً وهو بعد في الأصلاب الشامخات والأرحام المطهّرات، أبوه الإمام علي الرضا عليه ‌السلام، وجدّه الكاظم موسىٰ بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي السجاد زين العابدين بن الحسين السبط الشهيد ابن علي بن أبي طالب عليهم ‌السلام.

اما امه هي من أهل بيت مارية القبطية نوبيّة مريسية. وسمّاها الامام الرضا سلام الله عليه، (خيزران) وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بأنها خيرة الإماء الطيبة، وقال الإمام العسكري عليه السلام:(خُلقت طاهرة مطهّرة وهي أم ولد تكنّى بأم الجواد، وأم الحسن، وكانت أفضل نساء زمانها).
الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد (سلام الله عليه) هو التاسع من أئمة أهل البيت الذين أوصى إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،  بأمر من الله سبحانه لتولّي مهام الإمامة والقيادة من بعده بعد أن نصّ القرآن على عصمتهم وتواترت السنة الشريفة بذلك، وتجسّدت في شخصية هذا الإمام العظيم كسائر آبائه الكرام جميع المثل العليا والأخلاق الرفيعة التي تؤهّل صاحبها للإمامة الرسالية والزعامة الربّانية، وتقلّد الإمامة العامة وهو في السابعة من عمره الشريف وليس في ذلك ما يدعو إلى العجب فقد تقلّد عيسى بن مريم عليه السلام، النبوّة وهو في المهد.
أمّا ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة وسمو ذاته وهي: الجواد: لُقب به؛ لكثرة ما أسداه من الخير والبر والإحسان إلى الناس. والتقي: لقب به؛ لأنه اتّقى الله وأناب إليه، واعتصم به ولم يستجب لأي داعٍ من دواعي الهوى. والمرتضى والقانع والرضي والمختار وباب المراد.
وتزامنت سنة ولادته عليه السلام مع السنة التي بويع فيها للمأمون، وعاش في ظلّ أبيه الامام الرضا عليه السلام، حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضا عليه السلام، وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن أبيه في اغتيال المأمون للرضا عليه السلام، وبقي الإمام محمد الجواد بعد حادث استشهاد أبيه عليه السلام، في منعة من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضا(سلام الله عليه) وبقي عند الناس متّهماً بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في القلوب. وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية والاجتماعية. وينتهي عهد المأمون العباسي في سنة ( 218 هـ ) ويتربّع أخوه المعتصم على كرسي الخلافة حتى سنة ( 227 هـ ) ولم يسمح للإمام الجواد عليه السلام بالتحرّك ويراقب- بكل دقّة – النشاط الاجتماعي والسياسي للإمام عليه السلام، ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه  المأمون، المعروفة باُم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجواد عليه السلام ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (220 هـ )، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجوادعليه السلام. اذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم الى قسمين وثلاث مراحل: القسم الاول: حياته في عهد أبيه وهي المرحلة الاولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً. والقسم الثاني: حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته. وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة. وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين: المرحلة الاُولى: حياته في عهد المأمون وهي المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة. وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة. والمرحلة الثانية: وهي مدة حياته في عهد المعتصم العباسي وتبلغ حوالي سنتين وتمثّل المرحلة الثالثة من حياته الشريفة.
لقد ساهم الإمام الجواد عليه السلام طيلة فترة امامته التي دامت نحو سبعة عشر عاما في إغناء مدرسة اهل البيت العلمية وحفظ تراثها والتي امتازت في تلك المرحلة بالاعتماد علی النص والرواية عن رسول الله صلی الله عليه واله وسلم وعلی الفهم والاستنباط من الکتاب والسنة بالاضافة الی اهتمامها بالعلوم والمعارف العقلية التي ساهم الائمة وتلامذتهم في انمائها واغنائها وتوسيع مداراتها حتی غدت صرحا شامخا وحصنا منيعا للفکر الاسلامي وللشريعة الاسلامية. واعتمد الامام الجواد عليه السلام مثل ابائه في منهجه العلمي علی عدة اساليب منها:
1-  اسلوب التدريس وتعليم التلاميذ والعلماء وحثهم علی الکتابة والتدوين وحفظ ما يصدر عن ائمه اهل البيت عليه السلام وامرهم بالتاليف والتصنيف.
2-  اسلوب تعين الوکلاء ونشرهم في انحاء مختلفة من العالم الاسلامي ليکونوا دعاة إلی الإسلام والعمل به وتبليغ احکامه.
3-  اسلوب المناظرة والحوار العلمي.
هذا وامتازت الفترة السياسية التي عاشها الامام الجواد عليه السلام – وهي زمان الخليفتين العباسيين المامون والمعتصم – بانها فترة خف فيها بحسب الظاهر الاضطهاد والارهاب نسبة الی الفترات وان کان الخط العام للسياسة العباسية امتدادا لما سبق. ولکن هذه السياسة لم تستمر طويلا وسرعان ما لجأ الحکام العباسيون الی اذی اهل البيت عليهم السلام والتضييق عليهم. ورغم کل هذا فان التاريخ يؤکد لنا من خلال استقراء الوثائق السياسية التي صدرت عن الامام الجواد عليه السلام – الرسائل والاحاديث – والمواقف التي صدرت من السلطة العباسية تجاه الامام ودراستها نستطيع ان ندرك ان الامام کان يمارس نشاطه في الخفاء وکان له مركز قيادي عميق الاثر في وجدان الامة ووعيها.
لذلك نجد المامون يستقدم الامام الجواد عليه السلام من المدينة سنه (211 ) هـ ويقوم بتزويجه من ابنته ام الفضل ويدخل في نزاع مع اعمامه بني العباس بسبب ذلك التزويج، في محاولة منه لاستيعاب موقف الامام الجواد عليه السلام وضمه الی حاشيته واحتواء حرکته الجماهيرية في المجالين الفکري والسياسي. اذن أراد المأمون من وراء هذا الزواج تحقيق أهداف سياسية منها: رفع شبهة اغتياله للإمام الرضا عليه السلام، والتقرّب إلى الناس فی ذلك. إن ابنته سوف تراقب الإمام مراقبة دقيقة جداً. وإغراء الإمام بالبقاء في بغداد حيث حياة القصور واللهو والترف. لکن الامام عليه السلام کان علی العکس من ذلك، کان يرفض البقاء في بغداد ليکون بعيدا عن حصار السلطة ومراقبتها ويعود الی المدينة المنورة ليسقط الخطة ويحقق الاهداف المرتبطة به کامام للأمة ورائد من رواد الشريعة.
وبعد موت المامون جاء المعتصم للسلطة، فکان کاسلافه العباسيين علی خوفه من امامة اهل البيت عليهم السلام ومکانتهم العلمية والسياسية، فاستدعی الامام الجواد سلام الله عليه من المدينة الی بغداد عام (219) هـ خوفا من تألق نجمه واتساع تاثيره، وليکون علی مقربة من مرکز السلطة والرقابة ولعزله عن ممارسة دوره العلمي والسياسي والشعبي. وفعلا تم استقدام الإمام الجواد عليه السلام من المدينة الی بغداد ولم يبق في بغداد الا مدة قصيرة حيث راح يدبّر المؤامرات بالتعاون مع جعفر بن المأمون الذی أغرى أخته ” أم الفضل ” بدسّ السم إلى الإمام، واستجابت “أم الفضل”، فوضعت السّم فی العنب، وکأنها تعلّمت ذلك من أبيها المأمون الذي اغتال الإمام الرضا عليه السلام بنفس الطريقة. وهکذا استشهد الإمامُ فی 29 ذی القعدة سنة 220 هجرية، وله من العمر 25 عاماً فقط. وحُمل جثمان الإمام إلى مقابر قريش، الکاظمية حالياً، ليدفن إلى جانب جدّه الإمام موسى الکاظم سلام الله عليه حيث مرقده الآن يزوره المسلمون من بقاع العالم .
بالرغم من قصر المدة التي عاشها الإمام محمد الجواد عليه السلام، وهي خمسة وعشرون سنة منذ ولادته وحتى استشهاده، وهو أقصر عمر نراه في أعمار الأئمة الإثني عشر عليهم ‌السلام، من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌ عليه‌وآله ‌وسلم، إلاّ أنّ التراث الذي وصل إلينا إذا قارنّاه بالظروف التي أحاطت بالإمام عليه السلام وبشيعته وقارنّاه بأعمار من سبقه من آبائه الكرام والتي يبلغ معدّلها ضعف عمر هذا الإمام العظيم نجده غنيّاً من حيث تنوّع مجالاته، ومن حيث سموّ المستوى العلمي المطروح في نصوصه وحجمه، ومن حيث دلالاته التي تعد تحدّياً صارخاً عند ملاحظة صدور هذا التراث من مثل هذا الإمام الذي بدأ بالإشعاع والعطاء منذ ولادته وحتى سِنيّ إمامته وهو لم يبلغ عقداً واحداً من العمر.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى