مقالات

الإنسان في ميادين الامتحان

لا يخلو الإنسان ومنذ بدء خلقه وظهوره على مسرح الحياة وإلى آخر مراحل حياته (سواء امتد به العمر أو قصر) من منغّصات لعيشه وبلايا تترى عليه بين الحين والآخر, فحيناً تكون طبيعية كالكوارث والحوادث كما في السيول والأمطار المخربة والصواعق وما إليها, فتؤدي بالضرر إلى جموع بشرية هائلة,

وحيناً تختصّ بالإنسان نفسه كما إذا أصابه مرض أو سقم في بدنه أو فقد لأحبته أو غربة وتشريد من موطنه إلى غيره, وغير ذلك مما نراه ونسمعه,

كما أنّ هذه المصائب لا تختص أيضا بطائفة دون أخرى ولا بقومية أو عرقية معينة, فالكل معرض للإبتلاء بها على السواسية, و لا مندوحة من القول بأن بعض هذه البلايا يكون الإنسان سببا فيها أو في جزئها, لخطأ في عمل أو سلوك غير مدروس أو تهوّر غير محمود المغبَّة, فيحصد الضرر بدلاً من النفع والخير, فيؤدَّي به إلى عاقبة قد تكون وخيمة في بعض الأحيان, وقد تخرج عن قدرة البشر أحيانا وتتجاوز حدود إرادته ومبتغاه, فتُفرض عليه فلا يستطيع لها دفعاً ولا يجد لها مخرجاً, وأيا كان السبب فما يهمُّنا هو نظرة الإسلام إلى الموضوع بشكل موجز, محورها شمول الرحمة الإلهية والعناية الربانية للإنسان الممتحن والمبتلى, قال تعالى(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) , وقد أشارت ألنصوص الشريفة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) تبعا للقرآن الكريم إلى كمٍّ غير قليل من الآثار المترتبة على الامتحانات الإلهية, نشير إلى قسم منها: أولا: الابتلاء نفسه فيه دلالة على التكريم الإلهي, ويزداد التكريم كلما ازداد الإيمان ورسخ في القلب, ومن هنا فهو يتناسب مع شدة الإيمان وضعفه بالنسبة إلى المؤمنين, فكلما ازداد العبد إيمانا وعلا مقامه عند الباري إشتد بلاؤه, فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): قال (مثل المؤمن مثل كفتي الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه، ليلقى الله عز وجل ولا خطيئة له), وأما إذا لم يكن المبتلى مؤمنا فهو تطهير لذنوبه من جهة, واستمالة له إلى الإعتقاد بالله وتوثيق الإيمان به من جهة أخرى, وكم من نكبة حدت بصاحبها إلى الإيمان بالله وتصديق رسله وشرائعه ورجوع الإنسان عن طيشه وغيّه, ثانيا: إظهار حقيقة الإيمان أو الكفر التي ينطوي عليها العبد, ويكون ذلك عند نزول البلاء واشتداد الألم فتنصهر النفس في بوتقة الامتحان وتنكشف خباياها للمبتلى نفسه وكذلك لمن حوله من الأقرباء والأصدقاء, فينجلي بواسطتها معدنه الأصلي عند التمحيص, وتصدر منه الأفعال التي يترتّب عليها الأجر والثواب كالشكر والرضا, والزجر والعقاب, كالجزع واليأس وما إليها, روي عن الصادق(عليه السلام):(قد عجز من لم يعد لكل بلاء صبرا ولكل نعمة شكرا ولكل عسر يسرا, إصبر نفسك عند كل بلية ورزية في ولد أو في مال, فإن الله إنما يفيض جاريته وهبته ليبلوا شكرك وصبرك), ثالثا: تكفير لما مضى من الذنوب, فعن الباقر(عليه السلام):(إذا ابتلي المؤمن كان كفارة له لما مضى من ذنوبه), رابعا : الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه, بالإستغفار والدعاء واللجوء إليه في الشدائد, فالمؤمن حينما يُبتلى يحسّ بالإخفاق ويشعر بالألم وكأنّه نتيجة لذنوبه أو تقصيره في طاعة الله, فيلجأ إلى الله لكشف الضرّ عنه والبلوى, قال تعالى(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) , وعن صباح بن سيابة, قال قلت لأبي عبد الله (الصادق عليه السلام): (ما أصاب المؤمن من بلاء فبذنب؟ قال:لا, ولكن ليسمع أنينه وشكواه ودعاؤه الذي يكتب له بالحسنات وتحطّ عنه السيئات وتُدّخر له يوم القيامة), وتعليل الإمام في جواب السائل بكلمة (لا), للإشارة إلى عدم انحصار البلاء بالذنب وتقابله به, فمن الممكن كون البلاء إعطاء لدرجة رفيعة لا ينالها إلا المبتلى بابتلاء خاص, كما في مصائب الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام), وذلك لأنهم معصومون عن الذنب والرجس, وكالشهادة التي نالها الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء, والصبر على ذلك المصاب الجلل, فهذه المصائب لم تترتب على ذنب خاص أو جزاء لعمل معين, بل هي للتكريم الخاص والرفعة التامة فحسب, خامسا: عدم الركون إلى الدنيا وملذاتها ومشتهياتها, والإحساس بحقارتها وزوالها, والإلتفات إلى تغيّر حالها ونعيمها, يتمخّض عن ذلك المبادرة إلى عمل الخير وتعزيز الارتباط بالله سبحانه والالتزام بالأوامر والابتعاد عن النواهي, فعن الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه قال:(قال عز وجل: يا دنيا مرّي على عبدي المؤمن بأنواع البلايا وما هو فيه من أمر دنياه, وضيّقي عليه في معيشته, ولا تحوّلي له فيسكن إليك) , و يتضح ممّا تقدم أن النظرة الإلهية للمؤمن المبتلى نظرة شمولية عامة, لا تقتصر على المنفعة والمصلحة الدنيوية فحسب, بل هي أوسع شمولا وأرحب فضاء, تتعداها إلى النعيم المقيم في دار البقاء, لتضمن للمؤمن هناك حياة كريمة وعيشا رغدا, لأن الدنيا دار ممر والآخرة دار سكنى ومقر, ويؤيّد ما ذكر المرويُّ عن الرسول (صلى الله عليه وآله):( إن الله تعالى يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبّه, كما تحمون مريضكم الطعام والشراب, تخافون عليه) , فإن الله تعالى يحمي عبده المؤمن بأساليب شتى, منها الابتلاء بالمصائب, وأخرى بعدم منح النعيم للعبد في الدنيا والتضييق عليه وتأجيله إلى دار الآخرة, والهدف من التنوع في الأساليب واحد, هو إقصاء المؤمن عن الدنيا وزخارفها وتركيز توجهه إلى الآخرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى