مقالات

الفلسفة النورية في خطبة الزهراء(ع)(1)

ورد عن النبي محمّدٍ  أنّه قال: ”فاطمة بضعة مني يرضى اللهُ لرضاها ويغضب لغضبها“

صدق الرّسول الكريم

انطلاقًا من هذه الكلمة المحمّديّة الشّريفة نتحدّث عن محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأوّل: معنى كون الزهراء بضعة الرسول.

إنّ هذه الجملة -وهي قوله: ”فاطمة بضعة مني“- تشير إلى المسانخة بين ذاته وبين ذات فاطمة الزّهراء، فإنّه إنّما يصحّ عرفًا هذا التّعبير بأنْ يقال: «فلانٌ بضعة مني» إذا كانت هناك مسانخة بين الأوّل والثاني حتى يصحّ أنْ يقال أنّه بضعة منه، والمسانخة بين فاطمة وأبيها صلى الله عليهما وآلهما في موردَيْن:

المورد الأوّل: المسانخة في الوجود.

فكما أنّ وجود النبي الأعظم  مرّ بمراحلَ: مرّ بالوجود النّوري حيث كان نورًا محيطًا بساق العرش، ومرّ بالوجود الذرّي حيث أصبح روحًا تسبّح الله تبارك وتعالى وتهلله، ومرّ بالوجود المادّي حيث أصبح مَوْئِلاً للوحي على هذا الكوكب الأرضي، وهو في هذه المراحل كلها عندما كان نورًا وعندما أصبح روحًا وعندما أصبح مهدًا ومستودعًا للوحي فهو في هذه المراحل كلها هو أشرف الموجودات، فهو في عالم الأنوار أشرفها، وفي عالم الأرواح أشرفها، وفي عالم الوجودات الإمكانيّة المادّيّة أشرفها وأفضلها، وبناءً على ذلك فإنّ هناك مسانخة في الوجود بين وجود فاطمة ووجود أبيها في جميع هذه المراحل التي مرّ بها وجودُ النبي الأعظم محمّدٍ.

المورد الثاني: المسانخة في الكمالات.

فالمسانخة في الكمالات لأنّ الكمالات درجاتٌ من محيط الوجود ومنازلُ من حيّز الوجود، فالتّسانخ في  الوجود يعني التّسانخ في الكمالات، فهناك تسانخٌ بينهما في العلم، وهناك تسانخٌ بينهما في الخُلق، وهناك تسانخٌ بينهما في الخَلق، وهناك تسانخٌ بينهما حتى في الكلام، فقوله: ”فاطمة بضعة مني“ أي أنّها نسخة مني في تمام مراحل وجودي وفي تمام الكمالات التي شرّفني اللهُ بها وأعزّني بها حتى تصل هذه المسانخة إلى الكلام نفسه، فكلام فاطمة كلام أبيها، وبيان فاطمة بيان أبيها، فهناك تسانخٌ حتى في مرحلة البيان وحتى في مرحلة الخطاب.

ولأجل ذلك ورد في الزّيارة الجامعة الشّريفة: ”كلامكم نورٌ“، وهذا التّعبير -وهو قوله: ”كلامكم نورٌ“- يرشد إلى المسانخة، فإنّ في الحكمة يقال: «التّشكيك الوجودي مرجعه إلى أنّ ما به الاشتراك عين ما به الامتياز»، مثلاً: النّور يحمل تشكيكًا وجوديًا، فدرجات النّور المتفاوتة ما به الاشتراك بين هذه الدّرجات هو عين ما به الامتياز، فالتّفاوت بين درجات النّور لا يلغي السّنخيّة بين نفس هذه الدّرجات، وهذا معنى أنّ مرجع التّشكيك الوجودي إلى أنّ ما به الاشتراك عين ما به الامتياز.

فعندما يرد علينا هذا الحديث: ”كلامكم نورٌ“ أي أنّه كما أنّ النّور يحمل تشكيكًا وجوديًا فكلامكم كذلك، كلامكم قد يتفاوت في درجاته وقد يتفاوت في منازله إلا أنّ كلامكم يرجع أيضًا إلى خيطٍ واحدٍ ويرجع إلى نقطة اشتراكٍ بين أطرافه وبين درجاته وبين منازله، وهذا معنى أنّ كلامهم كالنّور من حيث رجوع ما به الاشتراك بين كلماتهم إلى ما به الامتياز، ”كلامكم نورٌ، وأمركم رشدٌ، ووصيّتكم التّقوى، وفعلكم الخير“.

 

المحور الثاني: إثبات صحة خطبة الزهراء بحساب الاحتمالات.

ذكر علماؤنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم أنّ دليل حساب الاحتمالات هو دليلٌ عقلائيٌ، ومرجعه لدى البناء العقلائي إلى أنّ هناك ملازمة بين تراكميّة الاحتمال وبين الوثوق والاطمئنان، فكلما حصل تراكمٌ في الاحتمالات في محورٍ معيّنٍ ومنطقةٍ معيّنةٍ أدّى وجود هذا التّراكم في ذلك المحور إلى الوثوق والاطمئنان به، فهناك ملازمة يبني عليها المجتمعُ العقلائي بين تراكم الاحتمالات وبين الوثوق بمحور هذه الاحتمالات، إلا أنّ هذه التّراكميّة أحيانًا تنشأ عن عاملٍ كمّي، وأحيانًا تنشأ عن عاملٍ كيفي، ولا تنحصر التّراكميّة بنشئها عن عاملٍ معيّنٍ.

فمثلاً: ما يذكره العلماءُ في الشّبهة غير المحصورة، يقولون: مثلاً إذا علمتَ بوجود خطرٍ كهربائي في قمّ المقدّسة على سعتها وعلى كبرها وامتداد مساحتها فإنّ كثرة الأطراف بلغت حدًا يضعف معه احتمالُ الإصابة بهذا الخطر إلى حدّ أنْ يصبح احتمال الإصابة بهذا الخطر في كلّ بيتٍ أو في كلّ شارع احتمالاً موهومًا لا يعتني به العقلاءُ في أعمالهم وإنجازاتهم، وهذا معناه أنّ العامل الكمّي أضعف درجة الاحتمال إلى أنْ حوّل الاطمئنانَ على خلافه والوثوقَ على خلافه، فيحصل للإنسان في كلّ طرفٍ يضع يده عليه اطمئنانٌ بعدم وجود هذا الخطر الكهربائي في هذا الموطن المعيّن، إذن هنا ملازمة بين تراكم الاحتمالات واليقين ولكنّ هذا نشأ عن عاملٍ كمّي وهو كثرة الأطراف إلى حدٍ ضَعُفَ معها الاحتمالُ إلى الحدّ الذي لا يُعْتَنَى به.

وأحيانًا يكون منشأ هذه الملازمة عاملاً كيفيًا لا عاملاً كمّيًا، مثلاً: إذا لاحظنا أفعالَ شخصٍ معيّنٍ ودرسنا سيرتَه من خلال سلوكه، من خلال كلامه، من خلال علاقاته، من خلال سائر أنحاء تصرّفاته، فاستطعنا بملاحظة القرائن المختلفة أنْ نكتشف ميزة معيّنة لهذا الشّخص وسِمَة معيّنة لهذه الشّخصيّة من خلال قراءة سيرته وسلوكه وتصرّفاته وأفعاله فهنا الملازمة بين تراكم الاحتمالات والوثوق بمحورٍ معيّنٍ وبميزةٍ معيّنةٍ نشأ عن عاملٍ كيفي وهو حصول مؤشرٍ معيّنٍ في كلماته، في سيرته، في سلوكه، في تصرّفاته، فالملازمة بين التّراكم والوثوق بالمحور قد ينشأ عن عاملٍ كيفي وقد ينشأ عن عاملٍ كمّي.

فإذا جئنا وطبّقنا هذه القاعدة على كلامهم صلوات الله وسلامه عليهم، الكلام المنسوب إليهم ”كلامكم نورٌ“ نرى مثلاً نهجَ البلاغة عندما نلاحظه من حيث المجموع بما هو مجموعٌ نرى أنّ هناك ملازمة في نهج البلاغة بين احتمالات الصّدور عن علي أمير المؤمنين  وبين الوثوق بهذا الصّدور، ومنشأ هذه الملازمة هو العامل الكيفي، أي أنّ لنهج البلاغة لغة معيّنة ونفسًا معيّنًا ونكهة معيّنة تتجلى في تمام خطبه، في تمام أقواله، في تمام بياناته، بحيث كلما قرأنا خطبة قويت تلك النكهة وظهر ذلك النّفس بشكلٍ أوضح إلى أنْ يحصل لنا الوثوق برجوع جميع هذه الخطب والكلمات إلى نفسٍ واحدٍ وإلى منبعٍ واحدٍ وهو أميرُ المؤمنين عليٌ.

وهذا يأتي في خطبة الزّهراء سلام الله عليها، فإنّ خطبة الزّهراء وإنْ وصلتنا بطرق مختلفةٍ إلا أنّ الطريق المهمّ للوثوق بصدورها عن سيّدة النّساء فاطمة صلوات الله وسلامه عليها تطبيق دليل حساب الاحتمالات على هذه الخطبة الطويلة، فإنّ من خلال ذلك نرى ملازمة بين تراكم الاحتمالات في هذه الخطبة وبين الوثوق بصدورها لعاملٍ كيفي، وهو اشتراك نفسٍ معيّنٍ ونكهةٍ معيّنةٍ بين جميع أطراف هذه الخطبة وكلماتها التي نُسِبَت للسّيّدة الزّهراء صلوات الله وسلامه عليها، وهذا ما يؤكّد ما ذكرناه في المحور الأوّل أنّ كلامهم نورٌ وأنّ النّور ما به الاشتراك فيه عين ما به الامتياز، «كثرته فانية في وحدته، ووحدته مظهرٌ لكثرته» فهذه الخاصيّة الموجودة في النّور موجودة في كلماتهم صلوات الله وسلامه عليهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى