مقالات

المبادئ القرآنية العامة التي تعرض لها الطباطبائي

المعارف التي عرض لها الطباطبائي في مقدمة تفسيره ، والتي جعل منها منطلقاً للبحث وهدفاً له ، ولئن كانت هذه العناوين ، أو هذه المعارف قد وجهت بحوث الطباطبائي القرآنية ، فهو إنما صدّر كتابه بهذه العناوين توضيحاً للهدف وتبياناً لحقيقة أن القرآن لا يمكن التنبؤ بحقائقه وعلومه ، وذلك لما بينه القرآن عن نفسه في أنه كتاب يُسّر بلسان الرسول ليكون نوراً وهداية للعالمين وقد جعل الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) معلماً لكتابه بعد أن علمه القرآن ، فقال الله تعالى : ﴿ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [الجمعة : 2] ، وقوله تعالى : ﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [الجمعة : 2] .

وإذا كان الله تعالى قد أقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المقام التعليمي لكتابه ، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدوره قد أقام أهل بيته المعصومين (عليهم السلام) في هذا المقام ، يقول الطباطبائي : «إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقامهم هذا المقام في الحديث المتفق عليه بين المسلمين بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (1) ، وهذا ما صدّقه الله تعالى بقوله : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [الاحزاب : 33] . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تعطي لأهل البيت هذا المقام التعليمي بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وانطلاقاً من ذلك ، نرى أن الطباطبائي ، قد عنون بحوثه القرآنية بالمبادىء والثوابت العامة التي هدف القرآن إلى تعليمها وجعل الناس يقيمون حياتهم الروحية والمادية على أساسها ، وهناك فرق كبير بين أن ينطلق الباحث أو المفسر في أسلوبه ومنهجه في تفسير القرآن من إدراك ووعي بهذه المبادىء والحقائق ، وبين أن تتظهّر له هذه الحقائق والمبادىء في سياق التفسير . نعم يمكن أن تتكشف له أبكار وحقائق قرآنية جديدة ، ولكن هذا شيء ، والوعي بالمبادىء الحاكمة لخلفية المفسر وذهنيته شيء آخر ، ويمكن أن تساق أمثلة كثيرة لتأكيد ما نروم بيانه ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، ماذا لو أن المفسر انطلق في أسلوبه ومنهجه في تفسير القرآن ، وهو محكوم سلفاً بأن آية التطهير ليست في مقام تعيين معلمين للبشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

هناك أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في سياق طرح الإشكالية وما يمكن أن يحيط بها من فرضيات بحثية في دائرة العقل والاستدلال . ولكن يكفي أن نشير إلى حقيقة المبادىء القرآنية العامة التي احتكم إليها الطباطبائي مسبقاً في تفسيره ، وخاصة في أسلوب التفسير الذي ابتعد فيه عن التعقيد والإبهام ، وذلك من منطلق أن القرآن ليس فيه آية غامضة أو مستعصية على الفهم ، فكيف يلجأ المفسّر في أسلوبه التفسيري إلى ما هو معقّد؟ وهل يكون في مقام مَن يحق له أن يفسّر القرآن ، وأن يكشف عن حقائقه التي لا تنفد كما قال الله تعالى : ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ [الكهف : 109] .

وهكذا ، فإن الغاية من عرض رؤية الطباطبائي ، والكشف عن ملامح أسلوبه في التفسير ، إنما تكون ممكنة فيما لو تعرفنا إلى ما اختاره من تقسيمات وبيانات وعناوين المعارف القرآنية في سياق البحث والتفسير ، وهذا ما ألمحنا إليه في مقدمة البحوث عنه ، فهو كما علمنا ، يشرع في البحوث عن المعارف ، وفيما يتعلق بالدين والدنيا والآخرة والأخلاق والآداب إلى غير ذلك ، وهنا يمكن لنا أن نختصر البحث في الإشارة إلى أهم المبادىء التي هي بينة بنفسها في القرآن الكريم ، والتي تشكل لكل مفسّر قاعدة ثابتة ينطلق منها ليكون بحثه على قدر من الأهمية فيما يعرض له من حقائق قرآنية ، وهذه المبادىء والثوابت كما تبينت في بحوث الطباطبائي هي الآتية :

أولاً : الوحي المطلق لكتاب الله تعالى .

ثانياً : الهداية وعالمية الرسالة وشمولها .

ثالثاً : الخلود والبقاء وما أخبر القرآن عنه .

رابعاً : الوضوح والبيان وعدم الاختلاف .

خامساً : تلقي القرآن وسند نبوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .

لا شك في أن هذه ليست حصراً المبادىء والثوابت التي يمكن أن نخلص إليها في بحوث التفسير عند الطباطبائي ، وإنما هي بعض مما يمكن تلمسهُ بوضوح فيما انطلق منه العلامة في أسلوب تفسيره لا لبيانه ، لكونه بيناً بنفسه ، وإنما بهدف اكتشاف أبكار الحقائق القرآنية من خلال منهج تفسير القرآن بالقرآن انطلاقاً من الحديث الشريف الذي قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن ، ظاهره أنيق وباطنه عميق . . .» (2) .

إذاً هذه هي المبادىء الحاكمة التي استلهم منها الطباطبائي أسلوبه ومنهجه في التفسير ، لكون القرآن ، كما بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل ، إضافة إلى كونه دليلاً على خير سبيل ، فإذا وعى الباحث هذه الحقيقة وانطلق في بحوثه لا لبيانها ، فإنه بذلك يكون عالماً بها ومدركاً لها في مبتدأ سلوكه وجسده العقلي ، فتستبين له الآيات فتكون أكثر ظهوراً فيما تنطوي عليه من ظهر وبطن ، وكيف لا يكون الأمر كذلك ، وقد بين الطباطبائي في بحوثه أن التجلي في الكتاب لحقيقة الحي الذي لا يموت هي في هذا الكتاب الخالد؟

بل كيف لا يكون الأمر كذلك ، وقد بين الأئمة (عليهم السلام) : أن القرآن تجلى للعباد من غير أن يكونوا رأوه ، إلى غير ذلك من التجليات الحاكمة على روح الإنسان وعقله فيما ظهر من آيات الله تعالى ، سواء في ما انتهى إليه أهل الاتحاد بالحقيقة القرآنية ، أم فيما انتهى إليه من شهد الجمال والجلال بجذب خاص ، أم فيما انتهى إليه أولئك الذين استغرقتهم الأنفس والآفاق ، بعيداً عن قوله تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت : 53] .

لقد أوضح الطباطبائي أن الوحي مطلق ولا يختلف في ذلك اثنان من أهل الملة ، فهو من عالم الغيب في أصله الثابت الذي لا تطاله أيادي التغيير إلى عالمي الملكوت والملك ، وهو حبل ممدود من خالق الكون إلى عالم الخلق للربط بين عالمي المادة والمعنى ، وهذا ما فصل فيه الكلام الطباطبائي على نحو يجعل الباحث على نور مما ذهب إليه العلامة في كلامه عن خاصية الوحي والغيب والتلقي ، فهو يرى أن القرآن يتحدث عن الوحي ومنزل الوحي أكثر من غيره حتى الكتب السماوية المقدسة ، وحتى نجد فيه آيات تتحدث عن كيفية الوحي نفسه (3) .

فالوحي ، عند الطباطبائي ، حقيقة ثابتة ومسلمة ، فهل يكون البحث والتفسير من المفسّر هادفاً إلى بيانها أو إلى إثباتها ، أم أن ذلك بين بنفسه؟

لا شك أن البحث ليس بهدف تأكيد ذلك وإثباته لما تقدم من أن الظاهر بنفسه والبين بنفسه لا يحتاج إلى مَن يبينه ، وهل يكون لغيره من البيان والظهور ما ليس له ؟ وكما قال الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة : هل يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ، عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً . . .» (4) .

ذلك هو معنى أن يؤسس المفسّر لبحوثه في دائرة الحق ، بحيث ينطلق بوحي من الكتاب إلى اكتشاف ما للحقائق والمعارف القرآنية من دلالات في عالمي الباطن والظاهر ، وليس كما يفعل بعض المفسرين فيما يلجأون إليه من تفسير بوحي من الواقع ، أو بوحي من التجربة ، أو غير ذلك مما لا يصلح أن يكون مبدأً ، أو مسلمة في البحث القرآني .

وهكذا الحال في جميع ما تقدم من معارف قرآنية اشتمل عليها القرآن ، وقد أحسن الطباطبائي ، بل أجاد فيما عرض له من حقائق ، وفيما ميَّز به بين أسلوب ومنهج في تفسير القرآن ، لأنه غالباً ما يؤدي الأسلوب إلى خلاف ما يتوخاه المؤلف في منهجه وخاصة في علوم القرآن ، إذ لا يمكن للمفسّر إلاّ أن يكون مستلهماً للحقائق الثابتة والمبادىء العامة التي اشتمل عليها الوحي ، سواء فيما يخص الدين ، أم فيما يخص الدنيا ، وقد سبق لنا أن بينا معنى أن يكون القرآن هادياً ونوراً مبيناً ، وبياناً لكل شيء ، وكذلك فيما يعنيه الشمول وعدم الاختلاف لكون القرآن من عند الله تعالى . وكذلك الأمر في جميع ما عرض له الطباطبائي في تفسيره لجهة تلقي القرآن وسند النبوة والإمامة المعصومة والخلود ، وغير ذلك مما استلهمه الطباطبائي ، وعبر عنه في تقسيمه للمعارف القرآنية في مقدمة تفسيره ، وليس على الباحث إلاّ أن يستخلص من بحوث الطباطبائي الأبكار والحقائق والمعارف القرآنية التي كشف عنها في منهجه الرسالي ، والتي خلص فيها إلى القول بأن القرآن هو كتاب هداية ، أما الخاصة ، فالقرآن شواهد وبينات في الهدى والفرقان في حقهم (5) .

فالقرآن كتاب شامل وكامل ، وتعاليمه حقة ، وحقائقه ثابتة وباقية ، تجري في حياة البشر مجرى الشمس والقمر ، وكما قال الرضا (عليه السلام) : «إن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غضٌ إلى يوم القيامة» (6) . إنَّ هذا الحديث وغيره من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) ، كان موضع اهتمام عند الطباطبائي في أسلوبه التفسيري ، لاعتقاده الثابت بأن أي اختلاف بين القرآن والسنّة ، معناه الفصل بين عنصري حبل الله الممدود اللذين لا ينفصلان كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض» . وهذا ما اعتمده المفسّر في أسلوبه ، ومكّنه من اكتشاف حقائق قرآنية في زمن قصّرت عنه بحوث القوم في مجال التفسير والفهم للمعارف القرآنية ، فما بالك فيما سيجود به الزمان اللاحق من بيانات وتفصيلات وحقائق قرآنية لا تزال في طي الباطن ، وفي جميع الأحوال يبقى أسلوب ومنهج الطباطبائي هو الأساس في ابتغاء الحقيقة القرآنية المنشودة ، وذلك فيما أشار إليه من تمييز بين تفسير وجري ، أو اختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم ، فهذا ما ينبغي على كل مفسر برأي الطباطبائي أن يتنبه له ، لا أن يكون البديل لعدم التنبه هو القول بغموض القرآن وتعقيد آياته ، أو اخضاعه للواقع لإيجاد المسوّغات العصرية له (7) .

________________________________

  1.  را : الاسترآبادي ، شرف الدين ، تأويل الآيات الظاهرة ، في فضائل العترة الطاهرة ، (ت : 940 هـ) ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، 1409 هـ ، ج2 ، ص616 .
  2.  انظر : ابن أبي حديد المعتزلي ، شرح نهج البلاغة ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ، قم ، 1404هـ ، ج1 ، ص289 . وقا : مع الطباطبائي ، الميزان ، م .س ، ج1 ، ص 13 .
  3.  الطباطبائي ، القرآن في الإسلام ، دار الزهراء ، بيروت ، ط 1 ، 1398هـ ، ص 104 .
  4.  م .ع ، ص 28 .
  5.  م . ، ع .س ، ج 2 ، ص 24 .
  6.  الطباطبائي ، القرآن في الإسلام ، م . س ، ص 28 .
  7.  يقول الطباطبائي : «إن اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعدما عمل فيهم الإنشعاب في المذاهب ما عمل ، ولم يبق بينهم جامع في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واختلفوا في معنى الأسماء والصفات والأفعال والسماوات وما فيها ، والأرض وما عليها ، والقضاء والقدر ، والجبر والتفويض . . . وبالجملة في جميع ما تمسّه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المسّ ، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات ، وكلٌ يتحفّظ على متن ما اتخذه من المذهب والطريقة» ، را : الميزان ، م .س ، ج 1 ، ص 8 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى