مقالات

تبليغ الدين دليل على وجود الإمام المهدي

لقد ردَّ العلامة الطَّباطبائي قدس سره على مجموعة من الإشكالات التي وضعها أحد الكتّاب على قضية الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف والمهدويّة، ومن ضمن هذه الإشكالات إشكال حول وجود الإمام والدليل عليه من باب عدم إتمام الحجة، يقول السيد قدس سره:

“أخيراً يختم الكاتب رسالته بالقول: “من المضحك أن نقول: إنّ الله أخفى حجته وغيّبه عن الأنظار، ثم يأتي (سبحانه) في مشهد آخر ليحاسب النّاس على عدم إيمانهم مع وجود الحجة. فلو أنَّ الله (سبحانه) سأل النّاس: ألم أتمّ عليكم الحجة؟ لكان بمقدورهم أن يجيبوا – في الآخرة – لقد جاء حجتك إلينا بيد أنه غاب! والآن هل يعقل أن يهدى النّاس بدليل غائب وحجة مخفية بحيث يحاسبهم الله على إتمام الحجة بهذا الشكل؟ سبحان الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.

نفهم مما مرّ أن جذر الخرافات والأخطاء يتمثّل بعدم معرفة الله تعالى وما له من مقام الكبرياء والأحدية”! انتهت الرسالة.

الجواب: لنوجه أولاً السؤال التالي إلى كاتب هذه السطور: هل هناك نبيّ أو إمام من أئمّة الدين يضطلع بمسؤولية الهداية فيقوم بالاتّصال مع أفراد أمته فرداً فرداً

ويتماسّ معهم بشكل مباشر بحيث يوجّههم في كلّ الحركات ويُبين لهم الحكم في جميع السكنات والصغائر حضورياً ومشافهة؟ وهي بمقدور نبيّ أو إمام – خصوصاً إذا كانت مهمّته ممتدّة بامتداد الزَّمان والمكان كما هو شأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم – أن يباشر مسؤولية هداية الجميع وتعليمهم بصيغة مباشرة دون وسائط؟

إنّ ما نعرفه من منهج الدعوة والتبليغ النبويّ، هو ممارسة مهامّ الدعوة والتبليغ والهداية عن طريق العلاقات الطبيعية، بحيث يمارس الأسلوب الشفاهيّ الحضوريّ مع من حضر ويمكن أن تقع عليه اليد، أمّا من غاب فتبلغهم الهداية كتباً، كما يصرّح بذلك القرآن: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ[1].

ومن البديهيّ أن لا يكون للبعض موقف واضح من الدعوة، فتلك الفئات من النّاس التي تتّسم بالغفلة أو أنّها تكون بعيدة أو يكون ثمة خلل في قدراتها الطبيعية على الوعي والاستيعاب، أو تكون متأثرة بعوامل من هذا القبيل، بحيث تحرم من المعارف الدينية، تسقط عنها المسؤولية المباشرة المترتبة على القبول بالدعوة أو رفضها، وبالتالي لا يترتّب عليها ما يترتّب من ثواب وعقاب على إنسان وصلته الدعوة وتعرف عليها بظروف طبيعية.

وبذلك سيكون لهذه الفئات من النّاس حسابها الخاصّ، كما يعبّر في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً[2] وكذلك قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ[3].

إذاً سيكون موقف الغائبين على صنفين.

فالصنف الأول تبلغه دعوة الرسول بالرسالة والكتاب ونظائرهما بحيث تبلغهم الهداية وتتمّ عليهم الحجّة.

والصنف الثاني وفيه المستضعفون الذين لا يجدون حيلة إلى معارف الدين

وأحكامه ولا يهتدون إليه سبيلاً يكونون معذورين ولهم أحكام خاصة كما صرّح القرآن بذلك.

(..) إنَّ بين أيدينا أخباراً متواترة عن طريق العامّة والخاصّة وصلتْنا عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام تحدّثنا عن حياة الإمام الغائب وسيرته عليه السلام. من معالم هذه السيرة نتبيّن أنّ هذا الإمام هو ابن الإمام الحسن بن علي العسكريّ – الإمام الحادي عشر من أئمة الشّيعة الاثني عشرية – ولد بسامراء سنة 256هـ.

لقد كان قرار الخلافة العباسية في ذلك الوقت يستهدف استئصال نسل الأئمة والقضاء على وجود الإمامة نهائياً في الكيان الشّيعيّ. لذلك حرص الإمام الحسن العسكريّ والد الإمام المهديّ، أن تبقى ولادة ولده خفية ووجوده بعيداً عن الأنظار إلّا لخواصّ الشّيعة.

أمضى الإمام المهديّ ما يقارب الستّ سنوات من حياته على هذه الحالة حتّى مضى والده إلى رحمة ربّه سنة 260هـ فانتقلت الإمامة إليه. بيد أن تبوّأ الإمام المهديّ للإمامة لم يؤثر على منهج التخفّي الذي التزم به – بسبب ضغط السلطة – وإنّما بقي مستمراً حتّى أنّه كان يمارس دوره بين قاعدته الشّيعية من خلال السفراء الذين يصطلح عليهم في لغة العلماء والمحدثين بالنوّاب الخاصين. فهؤلاء كانوا جسر الاتّصال بين الإمام وقواعده الشعبية الموالية، يأخذون منه التوجيهات موقّعة ويضعون بين يديه ما يصلهم من الأسئلة والمشكلات.

امتدَّت هذه الفترة التي أطلق عليها اسم الغيبة الصغرى مدّة تصل إلى السبعين عاماً، اضطلع بدور السفارة فيها أربعة نواب خاصّين للإمام مارسوا دورهم في الوصل بين الإمام وقواعده واحداً بعد آخر[4]. ثمّ أُغلق بعد وفاة السفير الرابع باب النيابة الخاصة ليبدأ عصر الغيبة الكبرى، لتتحوّل علاقة النّاس بالإمام إلى الفقهاء

والمحدّثين، وذلك بأمر الإمام نفسه الذي أناط الدّور بهم.

بعد انقضاء الغيبة الكبرى يظهر الإمام ويمسك بزمام حكومة إسلامية تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن تكون قد مُلئت ظلماً وجوراً. وحين ينبسط له الأمر يسير عليه السلام بسيرة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة والهداية والعمل فيتّصل بمن حضر بصورة مباشرة، وبمن غاب عنه وابتعد بوسائل اتّصال مناسبة.

بهذه اللمحة المختصرة عن حياة وسيرة الإمام الغائب تندفع شبهة كاتب الرسالة الذي يريد أن يبطل حجة الله بذريعة غيبة الإمام وعدم وصول حجّته. إذ لاحظنا أن الحجّة تامّة في زمان غيبة الإمام بواسطة النواب الخاصين (السفراء الأربعة) والنواب العامين (الفقهاء والمحدثين).

وأما في زمان ظهوره فسيتيسّر له إبلاغ حجته لمن حضر حوله مباشرة، وللغائبين البعيدين عن مركز حكمه بالوسائل المناسبة، تماماً كما جرى الأمر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن قد يقال هنا: مع وجود حجية قول الفقهاء والمحدثين فما هي الحاجة لدور الإمامة ولوجود الإمام الغائب أصلاً؟

في الجواب نقول: إنّ حجّية قول الفقهاء والمحدّثين التي تتحدّث عنها الروايات، متوقّفة على وجود الإمام، وإلّا للزم أن يكون الإمام هو الفقيه والمحدّث نفسه”[5].


الهوامش والمصادر

  • [1] سورة الأنعام، الآية 19.
  • [2] سورة النساء، الآية 98.
  • [3]  سورة التوبة، الآية 106.
  • [4] مدة الغيبة الصغرى هي 69 سنة وخمسة أشهر وسبعة أيام تبدأ من وفاة والده الإمام الحسن العسكري أوائل سنة 260هـ إلى وفاة النائب الرابع سنة 329هـ أما النواب الأربعة فهم: عثمان بن سعيد، محمّد بن عثمان بن سعيد، الحسين بن روح وعلي السمري.
  • [5] العلامة الطباطبائي قدس سره، السيد محمد حسين، مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، ص269-273، خالد توفيق(تعريب)، بيروت، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، 2002م، ط1.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى