مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم(آل عمران 7-9)

قال تعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 7 – 9].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

لما تقدم بيان إنزال القران، عقبه ببيان كيفية إنزاله، فقال: {هو الذي أنزل عليك} يا محمد {الكتاب} أي: القرآن {منه} أي: من الكتاب {آيات محكمات هن أم الكتاب} أي: أصل الكتاب {وأخر متشابهات} قيل في المحكم والمتشابه أقوال أحدها: إن المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه، ولا دلالة تدل على المراد به، لوضوحه، نحو قوله تعالى {إن الله لا يظلم الناس شيئا ولا يظلم مثقال ذرة} ونحو ذلك، مما لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل.

والمتشابه: ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قوله {وأضله الله على علم} فإنه يفارق قوله: {وأضلهم السامري}، لأن إضلال السامري قبيح، وإضلال الله تعالى حسن. وهذا معنى قول مجاهد:

المحكم ما لم تشتبه معانيه، والمتشابه: ما اشتبهت معانيه. وإنما يقع الاشتباه في أمور الدين، كالتوحيد ونفي التشبيه والجور. ألا ترى أن قوله {ثم استوى على العرش} يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره، وأن يكون بمعنى القهر والاستيلاء. والوجه الأول لا يجوز عليه سبحانه.

وثانيها: إن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ، عن ابن عباس وثالثها: إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه: ما يحتمل وجهين فصاعدا، عن محمد بن جعفر بن الزبير، وأبي علي الجبائي. ورابعها: إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه: ما تتكرر ألفاظه كقصة موسى، وغير ذلك، عن ابن زيد وخامسها: إن المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه: ما لا يعلم تعيين تأويله، كقيام الساعة، عن جابر بن عبد الله.

وإنما وحد أم الكتاب ولم يقل هن أمهات الكتاب لوجهين أحدهما: إنه على وجه الجواب، كأنه قيل: ما أم الكتاب؟ فقال: هن أم الكتاب كما يقال: من نظير زيد؟ فيقال: نحن نظيره والثاني: إن الآيات بمجموعها أصل الكتاب وليست كل آية محكمة أم الكتاب، وأصله، لأنها جرت مجرى شيء واحد في البيان والحكمة، ومثله قوله: {وجعلنا ابن مريم وأمه} آية، ولم يقل آيتين، لأن شأنهما واحد في أنها جاءت به من غير ذكر، فلم تكن الآية لها إلا به، ولا له إلا بها. ولو أراد أن كل واحد منهما آية على التفصيل، لقال آيتين.

{فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي: ميل عن الحق، وإنما يحصل الزيغ بشك، أو جهل {فيتبعون ما تشابه منه} أي: يحتجون به على باطلهم {ابتغاء الفتنة} أي: لطلب الضلال والإضلال، وإفساد الدين على الناس. وقيل: لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق، عن مجاهد. وقيل: لطلب الشرف والمال كما سمى الله المال فتنة في مواضع من كتابه. وقيل: المراد بالفتنة ها هنا الكفر، وهو المروي عن أبي عبد الله، وقول الربيع والسدي.

{وابتغاء تأويله} ولطلب تأويله على خلاف الحق. وقيل: لطلب مدة أكل (2) محمد على حساب الجمل، وابتغاء معاقبته، ويدل على ذلك قوله {ذلك خير وأحسن تأويلا} أي: عاقبة، وقول العرب: تأول الشئ: إذا انتهى. وقال الزجاج: معنى ابتغائهم تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله أن ذلك ، لا يعلمه إلا الله. ويدل على ذلك قوله {هل ينظرون إلا تأويله}. واختلف في الذين عنوا بهذا فقيل: عني به وفد نجران، لما حاجوه في أمر عيسى، وسألوه، فقالوا:

أليس هو كلمة الله وروحا منه؟ فقال: بلى. فقالوا: حسبنا. فأنزل الله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} يعني أنهم قالوا إن الروح ما فيه بقاء البدن، فأجروه على ظاهره. والمسلمون يحملونه على أن بقاء البدن كان في وقته به، كما أن بقاء البدن بالروح.

وقد قامت الدلالة على أن القديم تعالى ليس بذي أجزاء وأعضاء، وإنما يضاف الروح إليه تشريفا للروح، كما يضاف البيت إليه. ثم أنزل {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب}، عن الربيع. وقيل: هم اليهود طلبوا علم أكل هذه الأمة، واستخراجه بحساب الجمل، عن الكلبي. وقيل: هم المنافقون عن ابن

جريج. وقيل: بل كل من احتج بالمتشابه لباطله، فالآية فيه عامة، كالحرورية والسبائية (3)، عن قتادة.

{وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} أي: الثابتون في العلم، الضابطون له، المتقنون فيه. واختلف في نظمه وحكمه على قولين أحدهما: إن الراسخون معطوف على الله بالواو، على معنى إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله، وإلا الراسخون في العلم، فإنهم يعلمونه و {يقولون} على هذا في موضع النصب على الحال، وتقديره قائلين {آمنا به كل من عند ربنا} كقول ابن المفرغ الحميري:

الريح تبكي شجوة، * والبرق يلمع في غمامة أي: والبرق يبكي أيضا لامعا في غمامة. وهذا قول ابن عباس والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، واختيار أبي مسلم، وهو المروي عن أبي جعفر ” عليه السلام ” فإنه قال: كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله.

ومما يؤيد هذا القول إن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن، ولم نرهم توقفوا على شيء منه، ولم يفسروه بأن هذا متشابه لا يعلمه إلا الله. وكان ابن عباس يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم.

والقول الآخر: إن الواو في قوله {والراسخون} واو الاستئناف فعلى هذا القول، يكون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى، والوقف عند قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} ويبتدئ {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} فيكون مبتدأ وخبرا.

وهذا قول عائشة، وعروة بن الزبير، والحسن ومالك، واختيار الكسائي والفراء والجبائي وقالوا: إن الراسخين لا يعلمون تأويله، ولكنهم يؤمنون به. فالآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أكل هذه الأمة، ووقت قيام الساعة، وفناء الدنيا، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى وخروج الدجال، ونحو ذلك مما استأثر الله بعلمه، ويكون التأويل على هذا القول بمعنى المتأول كقوله {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله} يعني الموعود به. وقوله {كل، من عند ربنا}: معناه

المحكم والمتشابه جميعا من عند ربنا {وما يذكر} أي: وما يتفكر في آيات الله، ولا يرد المتشابه إلى المحكم {إلا أولوا الألباب} أي: ذوو العقول.

فإن قيل: لم أنزل الله تعالى في القرآن المتشابه؟ وهلا جعله كله محكما؟

فالجواب: إنه لو جعل جميعه محكما لاتكل الناس كلهم على الخبر، واستغنوا عن النظر، ولكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم، ولكان لا يحصل لهم ثواب النظر، وإتعاب الخواطر في استنباط المعاني. وقال القاضي الماوردي: قد وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقوله: {آلر كتاب أحكمت آياته}، ووصف جميعه أيضا بأنه متشابه بقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} فمعنى الإحكام: الإتقان والمنع أي: هو ممنوع بإتقانه وإحكام معانيه، عن اعتراض خلل فيه، فالقرآن كله محكم من هذا الوجه. وقوله متشابها أي: يشبه بعضه في الحسن والصدق والثواب، والبعد عن الخلل والتناقض، فهو كله متشابه من هذا الوجه.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }.

{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} هذه حكاية عن قولي الراسخين في العلم الذين ذكرهم الله في الآية الأولى، وذكر في تأويله وجوه أحدها: إن معناه لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم القلوب، فتميل قلوبنا عن الإيمان، بعد إذ وفقتنا بألطافك، حتى هديتنا إليك. وهذا دعاء بالتثبيت على الهداية، والإمداد بالألطاف والتوفيقات، ويجري مجرى قولهم: اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا. والمعنى لا تخل بيننا وبين من لا يرحمنا، فيسلط علينا، فكأنهم قالوا: لا تخل بيننا وبين نفوسنا بمنعك التوفيق والالطاف عنا، فنزيغ ونضل. وإنما يمنع ذلك بسبب ما يكتسبه العبد من المعصية، ويفرط فيه من التوبة، كما قال {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.

وثانيها: إن معناه لا تكلفنا من الشدائد ما يصعب علينا فعله وتركه، فتزيغ قلوبنا بعد الهداية، ونظيره: {فلما كتب عليهم القتال تولوا} فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه، لأن ذلك يكون عند تشديده تعالى المحنة عليهم، كما قال سبحانه: {فزادتهم رجسا إلى رجسهم}، و{لم يزدهم دعائي إلا فرارا}.

وثالثها: ما قاله أبو علي الجبائي: إن المراد: لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك، وهو ما ذكره الله من الشرح والسعة بقوله: {يشرح صدره للإسلام} وذكر أن ضد هذا الشرح هو الضيق والحرج اللذان يفعلان بالكفار عقوبة، ومن ذلك التطهير الذي يفعله في قلوب المؤمنين، ويمنعه الكافرين، كما قال تعالى: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} ومن ذلك: كتابته الإيمان في قلوب المؤمنين، كما قال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}. وضد هذه الكتابة هي سمات الكفر التي في قلوب الكافرين، فكأنهم سألوا الله أن لا يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضده من العقاب.

ورابعها: إن الآية محمولة على الدعاء بأن لا يزيغ القلوب عن اليقين والإيمان، ولا يقتضي ذلك أنه تعالى سئل عما لولا المسألة لجاز أن يفعله، لأنه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه، والافتقار إلى ما عنده، بأن يفعل ما نعلم أن يفعله، وبأن لا يفعل ما نعلم أنه واجب أن لا يفعله، إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة، كما قال سبحانه: {قل رب إحكم بالحق}، وقال {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} وقال حاكيا عن إبراهيم: {ولا تخزني يوم يبعثون}.

فإن قيل: هلا جاز على هذا أن يقول: ربنا لا تظلمنا ولا تجر علينا؟

فالجواب: إنما لم يجز ذلك، لأن فيه تسخطا من السائل، وإنما يستعمل ذلك فيمن جرت عادته بالجور والظلم، وليس كذلك ما نحن فيه. {وهب لنا من لدنك رحمة} أي: من عندك لطفا نتوصل به إلى الثبات على الإيمان، إذ لا نتوصل إلى الثبات على الإيمان، إلا بلطفك، كما لا يتوصل إلى ابتدائه إلا بذلك. وقيل: نعمة.

{إنك أنت الوهاب} المعطي للنعمة الذي شأنه الهبة والعطية {ربنا} أي:

ويقولون يا سيدنا وخالقنا {إنك جامع الناس} للجزاء {ليوم} أي: في يوم {لا ريب فيه} أي: ليس فيه موضع ريب وشك لوضوحه. وهذا يتضمن إقرارهم بالبعث {إن الله لا يخلف الميعاد} أي: لا يخلف الوعد. وقيل: هو متصل بما قبله من دعاء الراسخين في العلم، وإن خالف آخر الكلام أوله في الخطاب والغيبة، فيكون مثل قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم}، وتقديره: فاغفر لنا إنك لا تخلف ما وعدته. وقيل: إنه على الاستئناف، وهو اختيار الجبائي، فيكون إخبارا عن الله تعالى.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص239-244.

2- الأكل بالضم وضمتين: الرزق والحظ من الدنيا.

3- الحرورية: الخوارج. السبائية: أتباع عبد الله بن سبا الغالي في علي ” عليه السلام “.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

المحكم والمتشابه :

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ }.

تنقسم آيات القرآن بالنظر إلى الوضوح والخفاء إلى نوعين : محكم ومتشابه :

والمحكم هو الذي لا يحتاج إلى تفسير ، ويدل على المعنى المقصود منه دلالة واضحة قطعية لا تحتمل تأويلا ولا تخصصا ولا نسخا ، ولا تترك مجالا للذين في قلوبهم مرض أن يضللوا ويفتنوا بالتأويل والتحريف . . ومن أمثلة المحكم قوله تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . . واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . . لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ . . إِنَّ اللَّهً لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ . . وأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وما إلى ذلك مما يستوي في فهمه العالم والجاهل .

والمتشابه ضد المحكم ، وهو على أنواع :

« منها » : ما يعرف معناه على سبيل الإجمال دون التفصيل ، مثل قوله تعالى :

فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا . . فان منتهى معرفتنا بالروح انها سر إلهي يحدث للإنسان بسببه الإدراك والشعور ، أما معرفة هذا السر بكنهه وحقيقته فهو من أمر ربي لا يعرفه ، حتى العلماء ، وليس الشرط لصحة الخطاب بالشيء أن يعرفه المخاطب بالتفصيل ، بل تكفي المعرفة الاجمالية .

و « منها » : أن يدل اللفظ على شيء يأباه العقل ، مثل ثم استوى على العرش . . فلفظ العرش يدل على السرير ، والعقل يرفض هذه الدلالة ، لأن اللَّه سبحانه فوق الزمان والمكان ، فيتعين التأويل ، وهو من اختصاص أهل العلم ، إذ لا بد للتأويل من دليل صحيح يصرف اللفظ إلى معنى صحيح ، ولا يعرف هذين إلا أهل الاختصاص .

و « منها » : أن يتردد اللفظ بين معنيين أو أكثر ، مثل قوله تعالى :

{والْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، حيث يطلق القرء على الطهر والحيض معا .

و « منها » أن يكون اللفظ عاما يشمل بظاهره جميع المكلفين ، ولكن المراد منه بعض أفراده ، لا جميعها ، مثل قوله تعالى : {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} . . مع العلم بأن السارق لا يقطع إذا كان أبا لصاحب المال ، ولا في سنة المجاعة ، ولا إذا كان المسروق في غير حرز ، أو كان دون ربع دينار .

و « منها » : الحكم المنسوخ ، كالصلاة إلى بيت المقدس ، حيث دل الدليل على ثبوت هذه القبلة واستمرار حكمها في بدء الدعوة ، ثم جاء دليل الناسخ ، وحوّلها إلى الكعبة .

وليس من شرط المتشابه ان لا ترجى معرفته إطلاقا ، حتى للعلماء ، وبشتى أنواعه . . كلا ، فان جميع أنواع المتشابه – ما عدا النوع الأول – يمكن لعلماء الأصول العارفين بطرق التأويل ، وأحكام الخاص والعام ، والناسخ والمنسوخ ، والترجيح بين المتعارضين – ان يستخرجوا الخاص من العام ، ويميزوا بين الناسخ والمنسوخ ، والراجح والمرجوح ، والمعنى المعقول الذي أوّلت به الدلالة اللفظية بعد أن رفضها العقل . . وعلى هذا يكون المتشابه بالنسبة إلى العالم واضحا ، ولكن بعد البحث والاستقصاء ، وعملية الموازنة والمقارنة بين المتشابه ، وبين ما يتصل به من القرائن والدلائل . . أجل ، يبقى المتشابه على أشكاله بالنسبة إلى الجاهل الذي لا يجوز له أن يؤوّل ، أو يأخذ بظاهر يقبل التخصيص أو النسخ .

وخلاصة القول ان العلماء يعلمون معاني القرآن ، وهو بلاغ مبين بالنسبة إليهم إذ لا يجوز بحال أن ينزل اللَّه كلاما لا معنى له ، أو لا يفهمه أحد ، حتى العلماء . . كيف ؟ وقد أمر الله بتدبر القرآن ، ولا يكون التدبر والتعقل إلا للمعقول . . والذي لا يفهم لا يمكن تدبره وتعقله .

وتسأل : ان اللَّه قد وصف كتابه العزيز بأن آياته كلها محكمة ، قال عز من قائل في الآية 1 من سورة هود : { كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ } . . وأيضا وصف كتابه بأن آياته كلها متشابهة ، قال في الآية 23 الزمر : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً } . . وأيضا وصف كتابه بأن بعض آياته محكمة ، وبعضها متشابهة ، قال في الآية التي نحن بصددها : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ } . . فما هو طريق الجمع بين هذه الآيات ؟ .

الجواب : ان المراد بقوله تعالى : ( أُحْكِمَتْ آياتُهُ ) أنها أحكمت في النظم والإتقان ، وانها جميعا فصيحة اللفظ ، صحيحة المعنى ، والمراد بقوله : ( كِتاباً مُتَشابِهاً ) ان بعضه يشبه بعضا في البلاغة والهداية ، قال أمير المؤمنين : القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، والمراد بقوله : { مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ } ان بعضها واضح المعنى لا يحتاج إلى تفسير ، وبعضها غامض يحتاج فهمه إلى تفسير ، والتفسير يحتاج إلى المعرفة والعلم بالصناعة ، كما أشرنا . . فلا تهافت بين الآيات الثلاث بعد اختلاف الجهة ، فهي أشبه بقول القائل : أحب السفر ، ولا أحب السفر ، ثم أوضح مراده بقوله : أحب السفر برا ، ولا أحبه بحرا ، قال بعض الصوفية مخاطبا ربه :

يا من أراه ولا يراني * يا من يراني ولا أراه

يريد أرى اللَّه مفضلا عليّ ، ولا يراني مطيعا له ، ويراني عاصيا ، ولا أراه معاقبا .

سؤال ثان : ما هو المراد من الأم في قوله تعالى : « هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ » ؟ .

الجواب : بعد أن أوضح سبحانه ان في كتابه آيات متشابهات لا يعلمها إلا اللَّه والراسخون في العلم قال : ولكن الآيات التي وردت في أصول العقيدة ، كالإيمان باللَّه ونفي الشريك عنه ، وكالإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) واليوم الآخر ، ان هذه الآيات واضحة المعنى بيّنة القصد ، لا التباس فيها ولا غموض ، ولا مجال فيها للتأويل ، أو التخصيص ، أو النسخ ، ويستوي في فهمها العالم والجاهل ، وهي في نفس الوقت الأصل والأساس في كتاب اللَّه ، لأنها في العقيدة ، وما عداها يتفرع عنها ، ويرجع إليها .

وعلى هذا فلا وجه ، ولا مبرر لوفد نجران اليمن وغيره أن يطلب الآيات المتشابهة ، مثل الآية التي وصفت عيسى بأنه روح اللَّه ، ويتجاهل تلك الآيات

الواضحة التي نفت الربوبية عن عيسى ، لا مبرر لمن يتجاهل المحكم ، ويطلب المتشابه إلا مرض القلب ، والقصد الفاسد .

سؤال ثالث : لما ذا قال : هن أم الكتاب ، ولم يقل أمهات الكتاب ؟

الجواب : انه أفرد الأم لبيان ان الآيات المحكمات بمجموعها هي أم الكتاب وأصله ، وليست كل آية بمفردها اما ، ومثله قوله تعالى : { وجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً } ولم يقل آيتين ، لأن كلا منهما جزء متمم للآية ، فهي لا تكون آية إلا به ، وهو لا يكون آية إلا بها .

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهً مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ } .

معنى الزيغ هنا الميل والانحراف عن الحق ، وابتغاء الفتنة إشارة إلى أن أصحاب المقاصد الفاسدة يطلبون المتشابه ويؤلونه تأويلا باطلا ليفسدوا القلوب ، ويفتنوا الناس عن دين الحق ، ويستشهدوا بمثل قوله تعالى : فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا على أن المسيح من جنس اللَّه ، لأن كلا منهما روح ، ويتجاهلون الآيات المحكمة الواضحة ، مثل قوله تعالى :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهً هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} – المائدة 16 . وقوله : {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} – المائدة 74 ، وقوله : {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} – آل عمران 59 . . بالإضافة إلى أن اللَّه سبحانه نفخ في آدم من روحه ، حيث قال عز من قائل : { فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي – الحجر 29 } . فينبغي أن يكون آدم على زعمهم إلها ، والفرق تحكم .

جاء في مجمع البيان ان أوائل سورة آل عمران إلى نيف وثمانين آية نزلت بوفد نجران ، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) بالمدينة ، وحين حانت صلاتهم أقبلوا يضربون بالناقوس ، وقاموا فصلوا في مسجد رسول اللَّه ، فقال الأصحاب : يا رسول اللَّه هذا في مسجدك ؟ فقال : دعوهم ، فصلَّوا إلى المشرق . . وبعد أن انتهوا من الصلاة قال النبي ( صلى الله عليه واله ) للسيد والعاقب ، وهما رئيسا الوفد : أسلما قالا له : قد أسلمنا قبلك . قال : كذبتما ، يمنعكم من الإسلام الزعم بأن للَّه ولدا ، وعبادة الصليب ، وأكل لحم الخنزير .

قالا : ان لم يكن عيسى ابن اللَّه فمن أبوه ؟ قال : ألا تعلمون ان الولد يشبه أباه ؟ قالوا : بلى . قال : ألا تعلمون ان اللَّه حي لا يموت ، وان عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى . قال : ألا تعلمون ان اللَّه قيم على كل شيء ؟

قالوا : بلى . قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا : لا . قال :

ألا تعلمون ان اللَّه لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ؟ قالوا : بلى . قال : ألا تعلمون ان عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم أرضعته ، وغذي كما يغذى الصبي ، وانه كان يأكل ويشرب ويحدث ؟ قالوا : بلى . قال : فكيف يكون ربا ؟ فسكتوا عجزا وإفحاما ، فأنزل اللَّه فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية .

وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } . قال بعض الناس ، يجب الوقوف عند لفظ الجلالة . أما الراسخون في العلم فكلام مستأنف ، والمعنى ان اللَّه قد استأثر وحده بعلم المتشابه دون العلماء الراسخين في العلم . .

ويلاحظ على هذا القول بأن اللَّه سبحانه حكيم لا يخاطب الناس بأشياء لا يفهمونها ، ولا يريد أن يفهموها . . كما سبق بيانه . . والصحيح ان الراسخين في العلم معطوف على لفظ الجلالة ، وان المعنى يعلم تأويل المتشابه اللَّه والراسخون في العلم ، قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ذاك القرآن الصامت ، وأنا القرآن الناطق ، وكان ابن عباس يقول : أنا من الراسخين في العلم ، أنا أعلم تأويله . .

وتجمل الإشارة إلى أن العالم الحق هو الذي يحجم عن القول من غير علم ، بل من الرسوخ في العلم الاحجام عن القول من غير علم ، وفي الحديث : الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات .

وتسأل : لما ذا جعل اللَّه سبحانه بعض آيات القرآن محكمة يفهمها الجميع ، وبعضها متشابهة لا يفهمها إلا الراسخون في العلم ، ولم يجعلها واضحة بكاملها ، يستوي في فهمها العالم والجاهل ؟ .

وأجيب عن هذا السؤال بأجوبة عديدة ، أرجحها ان دعوة القرآن موجهة إلى العالم والجاهل ، والذكي والبليد ، وان من المعاني ما هو معروف ومألوف للجميع ، ولا تحتاج معرفته إلى علم ودراسة ، فيكشف عنه بعبارة واضحة يفهمها كل مخاطب ، ومنها ما هو عميق ودقيق لا يفهم إلا بعد الدرس والعلم ، ولا يمكن فهمه من غير مؤهلات لذلك مهما كان التعبير ، وهذه حقيقة يعرفها كل انسان . . فالواقع – إذن – هو الذي يحتم أن تكون بعض الآيات ظاهرة المعنى ، دون بعض . . بالإضافة إلى أن الحكمة تستدعي أحيانا الإبهام ، كقوله تعالى ، على لسان نبيه في الآية 24 من سورة سبأ : { وإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } .

{ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا } . هذا كلام مستأنف ، والمعنى ان العالم المؤمن حقا يقول : ان كلا من المحكم والمتشابه وحي من اللَّه . . ومن تجاهل المحكم ، وتشبث بالمتشابه ابتغاء الدس والفتنة فهو فاسد القصد ، مريض القلب .

{ وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبابِ } الذين يدركون الحكمة من وجود المحكم والمتشابه في القرآن ، ولا يتخذون من المتشابه وسيلة للتمويه والتضليل ، شأن من يحاول الطعن في الإسلام .

{رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } . دعاء يدعو به كل عالم مخلص خشية أن يقع في الخطأ ، ويقصر في البحث عن الصواب .

_____________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص9-15.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : {هو الذي أنزل عليك الكتاب}، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة وأخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد وتكثر فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.

قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}، مادة حكم تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، ومنه الإحكام والتحكيم، والحكم بمعنى القضاء، والحكمة بمعنى المعرفة التامة والعلم الجازم النافع، والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس، ففي الجميع شيء من معنى المنع والإتقان، وربما قيل: إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح.

والمراد هاهنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الآيات في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] ، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي والتبعض بعد بتكثر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.

وبعبارة أخرى لما كان قوله : {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أن المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: {كتاب أحكمت ءاياته} الآية وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23].

وقد وصف المحكمات بأنها أم الكتاب، والأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات ومن هنا يظهر أن الإضافة في قوله أم الكتاب ليست لامية كقولنا: أم الأطفال، بل هي بمعنى من، كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، وفي إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة.

وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: {وأخر متشابهات}، والتشابه توافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الأوصاف والكيفيات، وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [الزمر: 23] ، والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم، وإتقان الأسلوب، وبيان الحقائق والحكم، والهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، وأما التشابه المذكور في هذه الآية، أعني قوله : {وأخر متشابهات}، فمقابلته لقوله: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب}، وذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بيانا، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها، كما أن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه، وكذا قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 23] ، إذا أرجع إلى مثل قوله : {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام: 103] ، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا.

فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابها.

ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله : {منه آيات} الخ، وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله:{ هن أم الكتاب}، ولم يصدق قوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت: 3، 4] ، ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك.

على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك، بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة، فالقرآن بعضه يبين بعضا، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.

ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}، لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للأصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضع معانيها بتلك الأصول.

فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه، فما وجه ذلك؟ قلت: وجهه أحد أمرين، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين : فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة، والأفهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وقوله تعالى : {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] ، فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام وخواصها، وتزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد، وهذا مما يطرد في جميع المعارف والأبحاث غير المادية والغائبة عن الحواس، ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، ويوجد أيضا في المباحث الإلهية من الفلسفة، وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد : 17] ، وقوله :” إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم”: الزخرف – 4 ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والأحكام الفرعية، واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة، ونزول القرآن نجوما من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، والمنسوخ إلى الناسخ.

قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، الزيغ هو الميل عن الاستقامة، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه، وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة والتأويل، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه، ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.

ومن هنا يظهر: أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا، وأن هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم ولا ذم فيه.

والمراد بابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس، فإن الفتنة تقارب الإضلال في المعنى، يقول تعالى: يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه، وأمرا آخر هو أعظم من ذلك، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.

والتأويل من الأول وهو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.

وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه: “و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق”: الأعراف – 53، أي بالحق فيما أخبروا به وأنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن النبوة حق، وأن الدين حق، وأن الله يبعث من في القبور، وبالجملة كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها.

ومن هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات اسم مفعول أخبار الأنبياء والرسل والكتب.

ويرده: أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات وبعض الأفعال وعن ما سيقع يوم القيامة، وأما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها، وكذا ما دل على قصص الأنبياء والأمم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع، أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.

ومثلها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 37 – 39] ، والآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.

ولذلك ذكر بعضهم أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام، وهو في مورد الأخبار المخبر به الواقع في الخارج، إما سابقا كقصص الأنبياء والأمم الماضية، وإما لاحقا كما في الآيات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكل ما سيظهر يوم القيامة، وفي مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35] ، فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامة الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع وهو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.

وفيه أولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله.

وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا الآية، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع ومآل لأمر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجية كما في الإخبار أو تعلقها بأفعال أو أمور خارجية كما في الإنشاء لها تأويل، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.

وثانيا: أن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويئول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له، والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا.

يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر (عليهما السلام): {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف: 78] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف: 82] ، والذي نبأه لموسى صور وعناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاث كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور والعناوين، وتلقى بدلها صورا وعناوين أخرى أوجبت اعتراضه بها عليه، فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } [الكهف: 71] ، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف: 74] ، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ } [الكهف: 77].

والذي تلقاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا وعناوينها قوله {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } [الكهف: 71] ، وقوله : {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] ، وقوله: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].

والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 79 – 82]. ، ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام) جملة بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]. ، فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج، لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج.

ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصة يوسف (عليه السلام) كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] ، وقوله تعالى: {وخروا له سجدا }، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعا لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل، وكذا قوله تعالى: “و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 47، 48].

و كذا قوله تعالى: “و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا، وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى أن قال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان”: يوسف – 41.

وكذا قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] ، وقوله تعالى: “و لنعلمه من تأويل الأحاديث”: يوسف – 21، وقوله تعالى: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] ، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف (عليه السلام) فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث، وهو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها، والحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى والخضر (عليهما السلام)، وكذا في قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ  إلى قوله وأحسن تأويلا}[الإسراء: 35].

والتدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله الآية، وقوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [الأعراف: 53] الآية فإن أمثال قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ } [ق: 22] ، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه، وسيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.

فقد تبين بما مر:

أولا: أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.

وثانيا: أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.

وثالثا: أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الأمور الخارجية العينية، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، وأما  إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى: وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب.

قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله، ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه، لقربه كما هو الظاهر أيضا في قوله : وابتغاء تأويله، وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصورا على الآيات المتشابهة.

و من الممكن أيضا رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله: ما تشابه منه.

و ظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصورا عليه سبحانه وأما قوله: والراسخون في العلم، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفا للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ، والمعنى: أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه: ءامنا به كل من عند ربنا، وإنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب ورسوخ العلم.

على أنه لو كان الواو للعطف وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أفضلهم وكيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدري ما أريد به ومن دأب القرآن إذا ذكر الأمة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفرده بالذكر أولا ويميزه بالشخص تشريفا له وتعظيما لأمره ثم يذكرهم جميعا كقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26] ، وقوله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التوبة: 88] ، وقوله تعالى: {وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [آل عمران: 68] ، وقوله تعالى: {لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] ، إلى غير ذلك، فلو كان المراد بقوله: {والراسخون في العلم}، أنهم عالمون بالتأويل – ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم قطعا – كان حق الكلام كما عرفت أن يقال: وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله والراسخون في العلم، هذا وإن أمكن أن يقال: إن قوله في صدر الآية: هو الذي أنزل عليك الكتاب “الخ” يدل على كون النبي عالما بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانيا.

فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى، ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] ،ولا ينافيه أيضا كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلبا وبين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضا منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، الرسوخ هو أشد الثبات، ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم، وهو أن لهم علما بالله وبآياته لا يدخله ريب وشك، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل، وهم يؤمنون به ويتبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقفوا عن اتباعها عملا وفي قولهم: ءامنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معا فإن كون المحكم والمتشابه جميعا من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل: محكمه ومتشابهه، ووضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملا، والتوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم، وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعا، أعني: الإيمان والعمل في المحكم، والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.

قوله تعالى: وما يذكر إلا أولوا الألباب، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه، ولما كان قولهم: كل من عند ربنا كما مر استدلالا منهم وانتقالا لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكرا ومدحهم به.

والألباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب، وقد مدحهم الله تعالى مدحا جميلا في موارد من كلامه، وعرفهم بأنهم أهل الإيمان بالله والإنابة إليه واتباع أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائما فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18] ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190، 191] ، وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } [غافر: 13] ، وقد قال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269][ آل عمران : 7].

قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}، وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم، وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجئوا إلى ربهم، وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، وأن يهب لهم من لدنه رحمة تبقي لهم هذه النعمة ويعينهم على السير في صراط الهداية والسلوك في مراتب القرب.

وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل والاستضعاف، وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم، ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه، وهم مستشعرون بحاجتهم هذه والدليل عليه قولهم بعد: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.

فقولهم:{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}، استعاذة من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الذي فيها وقولهم وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم وتنكير الرحمة، وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة، وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لو لا رحمة من ربهم ولو لا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر.

و في الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضا واستيهاب الرحمة من لدنه محضا دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضا من غير توجه إلى أمر الأسباب.

قوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة وذلك لعلمهم بأن إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغنى فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [الدخان: 40 – 42] ولذلك سألوا رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.

وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء، وعللوا هذا التوصيف أيضا بقولهم: إن الله لا يخلف الميعاد لأن شأنهم الرسوخ في العلم، ولا يرسخ العلم بشيء ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة، وعلة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.

و نظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم وهب لنا من لدنك رحمة بقولهم: إنك أنت الوهاب فكونه تعالى وهابا يعلل به سؤالهم الرحمة، وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم: من لدنك، الدال على الاختصاص، وكذا يجري مثل الوجه في قولهم: {ربنا لا تزغ قلوبنا}، حيث عقبوه بما يجري مجرى العلة بالنسبة إليه، وهو قولهم: بعد إذ هديتنا، وقد مر آنفا أن قولهم: ءامنا به، من حيث تعقيبه بقولهم: كل من عند ربنا، من هذا القبيل أيضا.

فهؤلاء رجال آمنوا بربهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه، وكمل عقولهم فلا يقولون إلا عن علم ولا يفعلون إلا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم، وكنى عنهم بأولى الألباب، وأنت إذا تدبرت ما عرف الله به أولي الألباب وجدته منطبقا على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18].

فوصفهم بالإيمان واتباع أحسن القول، والإنابة إلى الله سبحانه، وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.

وأما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله إن الله لا يخلف الميعاد فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم: ربنا، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الألوهية عام شامل لكل شيء.

كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل:

هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) سيجيء في البحث الروائي.

لكن القوم اختلفوا في المقام، وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم، وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين، وقلما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق.

والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل، فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه، ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث وما قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول

1 – المحكم والمتشابه

الإحكام والتشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة، وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى: “كتاب أحكمت ءاياته”: هود – 1، وقوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} [الزمر: 23] ، ولم يتصف بهما إلا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام.

لكن قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب، وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات، وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة: أحدها: أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم والر وحم، وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر.

نسب إلى ابن عباس من الصحابة.

وفيه: أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما.

فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.

لكن الحق أن النسبة في غير محلها، والذي نقل عن ابن عباس: أنه قال إن الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث، ففي الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول: في قوله منه ءايات محكمات، قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قل تعالوا، والآيتان بعدها.

ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله: آيات محكمات قال: من هاهنا: قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، ومن هاهنا: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.

وثانيها عكس الأول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها.

نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى: هن أم الكتاب: إنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن: الم ذلك الكتاب، منها استخرجت البقرة والم الله لا إله إلا هو الحي القيوم، منها استخرجت آل عمران وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: هن أم الكتاب، قال: أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، انتهى.

ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات والجمل، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.

وفيه: مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه، وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه، وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] ، وغيره من الآيات.

وثالثها: أن المتشابه هو ما يسمى مجملا والمحكم هو المبين.

وفيه: أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين.

بيان ذلك: أن إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها، ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم، دون نفس المحكم، وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب.

رابعها أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها، والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها، ويعمل بها ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.

وفيه: أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.

و فيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ، وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، انتهى.

خامسها: أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر.

وفيه: أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح، وحينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع، وإن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، وكيف لا؟ وهو كتاب متشابه مثاني، ونور، ومبين، ولازمه كون الجميع محكما وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النص.

سادسها: أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.

و فيه: أن الإحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهة اللفظ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى، وأنه نور، وأنه مبين، وأنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 2 – 4] ، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، ولا الوقوف عليه مستحيل، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها.

على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر.

سابعها: أن المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضا، نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.

وفيه: أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص، والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه، ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ويتبين بذلك معانيها.

ثامنها: أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة ونسب إلى الشافعي، وكان المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره والمتشابه خلافه.

وفيه: أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا، فقد بدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد، والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ، ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله، أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء.

تاسعها: أن المحكم ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة، ولازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص.

وفيه: أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها، وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.

عاشرها: أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه، وهذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.

وفيه: أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا، وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.

الحادي عشر: أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به، ونسب إلى ابن تيمية، ولعل المراد به: أن الأخبار متشابهات والإنشاءات محكمات كما استظهره بعضهم وإلا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.

وفيه: أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات، ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها، ومن جهة أخرى: الآيات المنسوخة إنشاءات وليست بمحكمات قطعا.

والظاهر أن مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، إلا أن الأمرين أعني الإيمان والعمل معا في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم والمتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته، وعلى هذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر.

الثاني عشر: إن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم (عليهما السلام): {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } [النساء: 171] ، وما يشبه ذلك، نسب إلى ابن تيمية.

وفيه: أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.

والذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله أنه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي وهو ما أحكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء، وهذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك أمورا جسمانية أو معاني ليست بالحق، وتقوم بذلك الفتن، وتظهر البدع، وتنشأ المذاهب، فهذا معنى المحكم والمتشابه، وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم، والذي لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات، فهب أنا علمنا معنى قوله: إن الله على كل شيء قدير، وإن الله بكل شيء عليم ونحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به، فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى، انتهى ملخصا، وسيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إن شاء الله.

الثالث عشر: أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.

وفيه: أنه قول من غير دليل، والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه في هذه الآية استيفاء هذا التقسيم، وشيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا، على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.

الرابع عشر: أن المحكم ما أريد به ظاهره والمتشابه ما أريد به خلاف ظاهره، وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث، وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل: أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام وكأنه أيضا مراد من قال: إن المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل.

وفيه: أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه.

على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها، وما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معان يعطيها لها آيات أخر محكمة، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ومن المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن متصلة أو منفصلة للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف مترائى بالتدبر فيه، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] الخامس عشر: ما عن الأصم: أن المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكان المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف.

و فيه: أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها وينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آية من آي الكتاب إلا وفيه اختلاف ما: إما لفظا أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] ، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة وهو يناقض قوله وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.

السادس عشر: أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الإشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، ذكره الراغب.

قال في مفردات القرآن: والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبىء ظاهره عن مراده، وحقيقة ذلك: أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه.

فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.

والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأب ويزفون، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين، والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام نحو {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما} تقديره الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا وقوله: {ولو لا رجال مؤمنون} إلى قوله {لو تزيلوا}.

والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما لم نحسه.

والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة أضرب: الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين، والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو {فانكحوا ما طاب لكم}، والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو {اتقوا الله حق تقاته}، والرابع: من جهة المكان أو الأمور التي نزلت فيها نحو {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}، وقوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر}، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية، والخامس: من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصورت علم: أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه {الم}، وقول قتادة: المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، وقول الأصم: المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه.

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحو ذلك.

وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله (عليه السلام) في علي رضي الله عنه: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وقوله لابن عباس مثل ذلك، انتهى كلامه وهو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.

وفيه: أولا: أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات، ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات، بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به.

وأيضا: الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة، ومن المعلوم: أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه، والمطلق من غير رجوع إلى مقيده وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.

وثانيا: أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه، وقد عرفت خلافه.

هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما، وقد عرفت ما فيها، وعرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كله، وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه: أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.

ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك والتعقل.

وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق الإسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه، والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه.

ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم، وأخرى للجبر، وأخرى للتفويض وأخرى لعثرة الأنبياء، وأخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، وأخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات، إلى غير ذلك، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.

وطائفة ذكرت: أن الأحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق وتيسر، وأخرى قالت إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال، ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.

وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنقص وتسقط حكما فحكما، يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية، ولم يبطل حكم أو حد إلا واعتذر المبطلون: أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم، حتى آل الأمر إلى ما يقال: إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا بإجرائها، والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم وإجراءها، وإلى ما يقال إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والإرادة الصالحتين، والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية، والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال الوضوء والغسل والصلوة والصوم.

إذا تأملت في هذه وأمثالها وهي لا تحصى كثرة وتدبرت في قوله تعالى:{ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} الآية، لم تشك في صحة ما ذكرناه، وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه، وابتغاء تأويل القرآن.

وهذا والله أعلم هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب، وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والإلحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار، ومودة ذوي القربى، وقرار أزواج النبي، ومعاملة الربا، واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك.

ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشؤهما الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] ، ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.

2 – ما معنى كون المحكمات أم الكتاب

ذكر جماعة : أن كون الآيات المحكمة أم الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين وأركانها فيؤمن بها، ويعمل بها وليس الدين إلا مجموعا من الاعتقاد والعمل، وأما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيمانا.

وأنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة، وهي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه وفهمه، أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية.

و قال آخرون: إن معنى أمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها، وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم: أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان والاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة، وهذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغايرة، وظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات، رافعة لتشابهها.

و الحق هو المعنى الثالث، فإن معنى الأمومة الذي تدل عليه قوله: هن أم الكتاب الآية يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الأم في القول الأول، فإن في هذه اللفظة.

أعني لفظة الأم عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعض، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات، ولازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات.

على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل، فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فللمتشابه مفسر وليس إلا المحكم، مثال ذلك قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 23] ، فإنه آية متشابهة، وبإرجاعها إلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقوله تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] ، يتبين: أن المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي، وقد قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 – 13] إلى أن قال {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، فأثبت للقلب رؤية تخصه، وليس هو الفكر فإن الكفر إنما يتعلق بالتصديق والمركب الذهني والرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني، فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية ولا بالعقلية الذهنية، والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.

3 – ما معنى التأويل؟

فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام وإذ كان المراد من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل على هذا من قوله تعالى وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية هو المعنى المراد بالآية، المتشابهة، فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابه على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم.

وقالت طائفة أخرى: إن المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.

وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعا بين قدماء المفسرين سواء فيه من كان يقول: إن التأويل لا يعلمه إلا الله، ومن كان يقول إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله.

وذهب طائفة أخرى: إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ، فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى والراسخون في العلم.

وقد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محله، فهي لا محالة معان مترتبة في الطول: فقيل: إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معنى مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا، وقيل: إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما إنك إذا قلت: اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي وهو بعينه طلب للإرواء، وطلب لرفع الحاجة الوجودية، وطلب للكمال الوجودي وليس هناك أربعة أوامر ومطالب، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها.

وهاهنا قول رابع: وهو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام، فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر والنهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه، فتأويل قوله: أقيموا الصلاة مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وإن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والأمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي، وإن كان إخبارا عن الحوادث والأمور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين: فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ، وقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2، 3] وإن كان من الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالأمور المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب وتطاير الكتب، أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية.

والفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الأخر أن الأقسام الأخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم، فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى، نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم، وأما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.

فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل، وهي أربعة.

وهاهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله.

فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية، ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.

و من جملتها: أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا.

ومن جملتها: أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيع أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها، وهو قريب من سابقه.

ومن جملتها: أن التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقة المراد، مثاله: قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد فتفسيره: أن المرصاد مفعال من قولهم: رصد يرصد إذا راقب، وتأويله التحذير عن التهاون بأمر الله والغفلة عنه.

ومن جملتها: أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل.

ومن جملتها: أن التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية.

ومن جملتها: أن التفسير يتعلق بالاتباع والسماع والتأويل يتعلق بالاستنباط والنظر.

فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه، يرد عليها ما يرد عليه وكيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة وما ينشعب منها.

أما إجمالا: فلأنك قد عرفت: أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا، بل هو من قبيل الأمور الخارجية، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلا له، بل أمر خارجي مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل بفتحتين والباطن إلى الظاهر.

وأما تفصيلا فيرد على القول الأول: أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل قرآنا ليناله الأفهام، ولا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام، ويرد عليه: أنه لا دليل عليه، ومجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع وكون التفسير أيضا غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الأم مرجع لأولادها وليست بتأويل لهم، والرئيس مرجع للمرءوس وليس بتأويل له.

على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام وآيات الصفات وغيرها.

وأما القول الثاني فيرد عليه: أن لازمه وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات، ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام، وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنه أريد بإحداهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية، فإن انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن، ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر، إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب واللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق والحق بالتأويل والصرف عن ظاهره، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال، وتناقض الآراء، والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام، ومسرح للبحث والتأمل والتدبر، وليس فيه آية أريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي ولا أن فيه أحجية وتعمية.

وأما القول الثالث فيرد عليه: أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر، إلا أنها جميعا – وخاصة لو قلنا إنها لوازم المعنى – مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام وذكاء السامع المتدبر وبلادته، وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: وما يعلم تأويله إلا الله، فإن المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو ظاهر قوله وما يعلم تأويله إلا الله.

وأما القول الرابع فيرد عليه: أنه وإن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه وإن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن، وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويلا للكلام، وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة.

توضيحه: أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: وابتغاء تأويله “الخ” إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: وما يعلم تأويله إلا الله “الخ” فإن كثيرا من تأويل القرآن وهو تأويلات القصص بل الأحكام أيضا وآيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم، وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الأمور المشرعة.

وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله: وما يعلم تأويله إلا الله الخ، وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه، وهو يؤدي إلى الفتنة وإضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل وقد قيل إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنساني بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح، فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع.

وكأن يقول القائل وقد قيل إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية، وإنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة.

ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل، وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاء للفتنة بلا شك، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.

إذا عرفت ما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية: محكمها ومتشابهها، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 2 – 4] وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.

على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي – استعملها وهي ستة عشر موردا على ما عدت – إلا في المعنى الذي ذكرناه.

4 – هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه

هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين، ومنشؤه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية، وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف، فذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.

وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة، وببعض الروايات.

والطائفة الثانية بوجوه أخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.

والذين ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت موردا للبحث والتنقير، فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم.

وبعبارة أخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبىء به ما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفا.

ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة، أعني الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى.

كما روي من طرق أهل السنة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا لابن عباس فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وما روي من قول ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله، ومن قوله: إن المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة وهو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية.

وأما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روي: أن ابن عباس كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به وكذلك كان يقرأ أبي بن كعب.

وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ: وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، فهذه لا تصلح لإثبات شيء: أما  أولا: فلأن هذه القراءات لا حجية فيها وأما ثانيا: فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.

ومثل ما في الدر المنثور، عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله – والراسخون في العلم يقولون آمنا به – كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به.

وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم ولا ينفع المستدل إلا الثاني.

ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه.

وعدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه.

ومثل ما في تفسير الآلوسي، عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب.

و الحديث مع كونه مرفوعا ومعارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر.

و الذي ينبغي أن يقال: أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.

أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق: أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه، وتفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة، إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك.

فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به.

لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب قال تعالى { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس: 20] ، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ} [الأنعام: 59] ، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] ، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول، ولذلك نظائر في القرآن.

وأما الجهة الأولى – وهي أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة – فبيانه: أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل، فهو وإن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية والحفظ، نظير قولك: “في الصيف ضيعت اللبن” لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد، وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.

كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية وإن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أن قول السيد لخادمه، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود والبقاء، وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن، وهو يقتضي الغذاء اللازم، وهو يقتضي الري، وهو يقتضي الأمر بالسقي مثلا، فتأويل قوله: اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه، ولو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الذي عندهم وهو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه وتكرر المشاهدة ممن شاهده من أهل منطقته، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكية مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك، ولو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتي به من الفعل أو الترك.

فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة، ولذلك ترى أنه تعالى في قوله : {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} الآية، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاء للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس بتأويل له وليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم وتبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم وهو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه واتبعوه.

فقد تبين: أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.

و إذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 2 – 4] ، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمرا أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع والتفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا مقررا وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في أم الكتاب، وأم الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد: 39] ، وبقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22].

ويدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] ، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وآية آية وتنزيله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] ، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلا وأوحي نجوما.

و ليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على حال الذي هو عليه الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق وأنزل على النبي نجوما ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقرىء منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.

وذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقا بينا وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا شيء من ذلك ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع وينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ، وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ، وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة: 1] ، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة: 103] ، ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمراد بالقرآن في قوله: وقرآنا فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.

و بالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرؤه ونعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثل من المثال – وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم – وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه.

وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة.

ثم إنه تعالى قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 – 79] ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير، ومن التغير تصرف الأذهان بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المس إلا نيل الفهم والعلم، ومن المعلوم أيضا: أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وهو المذكور في قوله: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.

وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم، وليس ينزلها إلا الله سبحانه، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه، وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب، وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين، ويرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك ونوسان بين الحق والباطل، وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم وهذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم، هذا.

ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم، لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم، بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} الآية، وقد وصف الله تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك، وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162] ، ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.

وكذلك إن الآية أعني قوله تعالى:{ لا يمسه إلا المطهرون} لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة، وأما أنهم يعلمون كل التأويل ولا يجهلون شيئا منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك، ولو ثبت لثبت بدليل منفصل.

5 – ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه؟

ومن الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه، وأنه قول فصل يميز بين الحق والباطل، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه، وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته، أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب، وأقطع لمادة الخلاف والزيغ؟.

وأجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب! وكالجواب بأنه لولم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة، وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو وأصول الفقه!.

فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر والذي يستحق الإيراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلاثة: الأول: أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.

و فيه: أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي، والإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهورة الإدراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها، وأما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل.

الثاني: أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.

وفيه : أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالا في موارد من كلامه، وتفصيلا في موارد أخرى كخلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه، وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين، وحرض على العقل والفكر، ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.

الثالث: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة، والذكي والبليد والعالم والجاهل، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى.

و فيه: أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات، وعند ذلك يبقى السؤال وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات؟ على حاله، ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات، ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها إلا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا وغير ذلك.

والذي ينبغي أن يقال: أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر.

ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الإلهي والأمور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهي أمور: منها: أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي، وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس، فإن لهم خاصة أن يمسوه.

وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء، ومفتاحه التطهير الإلهي، وقد قال تعالى: ” {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6] ، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.

وهذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة، وإن كانت الدعوة متعلقه بالجميع متوجهة إلى الكل، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين، ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس، كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل.

قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم، وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلا البعض، ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.

وبالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.

ومنها: أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل: أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدإ والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبطه به من الواقعيات معرفة حقيقية وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية، ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه، وخلوص قلبه إلى المبدإ والمعاد، وإشرافه على عالم المعنى والطهارة، والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها.

وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى: ولكن يريد ليطهركم الآية، وإلى قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة : 11] ، وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية الإنسان إليه، والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.

ويتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة : هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها، والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.

وهذه النتيجة – على أنها واضحة التفرع على البيان – تؤيدها التجربة أيضا: فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الأمة وأمعنت النظر فيه : من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف.

وقد ذكرناك فيما مر: أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.

ومنها: أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما استطيع، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة، وكيف لا؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب، ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والإسلام.

وهذا المعنى هو الموجب لأن يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولا، وارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا، وبعبارة أخرى أن يفهمه أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها، وأنه سائر إلى معاده وميعاده سيرا اضطراريا، وكادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله، أيما إلى جنة، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.

ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي، وما تؤديه إلى شقوة النار ما هي؟ أي يبين له الأحكام العبادية والقوانين الاجتماعية، وهذه طائفة أخرى.

ثم يبين له: أن هذه الأحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه: أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى، وأن تشريعها وجعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا والآخرة، وهذه طائفة ثالثة.

وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة، والطائفة الأولى بمنزلة النتيجة، والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى، ودلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها.

و منها: أنه لما كانت عامة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة، وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة، وهذا أمر لا ينكره أحد.

ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته وعيشته، فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء، وإن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال، وعلى قدر ما نال وهذا ينال المعاني من البيان الحسي والعقلي معا بخلاف المأنوس بالحس.

ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف وتشمل عامة الطبقات وهو ظاهر.

وهذا المعنى أعني اختلاف الأفهام وعموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال، وهو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان ويعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزنا.

والآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 3، 4] ، وما يشابهه من الآيات وإن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة والكناية، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق والباطل فقال تعالى :{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] ، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه ويصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما لكنها ستزول وتبطل، ويبقى الحق الذي ينفع الناس، وإنما يزول ويزهق بحق آخر هو مثله، وهذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا، ويصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه، ليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، والكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.

وبالجملة: المتحصل من الآية الشريفة: أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب، من غير تقييد بكمية ولا كيفية، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق، وهذه الأقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف والأحكام التشريعية، ومصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة.

وهذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي.

وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال وذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكما آخر.

هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.

وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها، وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل، لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها، وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية، ومصالح الأحكام وملاكاتها كما مر، وأما الأحكام والقوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة، ومن هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف، دون متن الأحكام والقوانين الدينية.

و منها: أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام والجسمانيات أحد محذورين: فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة، وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم تجمد وانتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة والنقيصة.

نظير ذلك أنا لو ألقي إلينا المثل السائر: عند الصباح يحمد القوم السرى، أو تمثل لنا بقول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.

و قد حيل بين العير والنزوان.

فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح والقوم والسرى، ونفهم من ذلك أن المراد: أن حسن تأثير عمل وتحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه وبدا أثره، وأما هو ما دام الإنسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره، ويظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر، وأما إذا لم نعهد الممثل وجمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل وعاد المثل خبرا من الأخبار، ولو لم نجمد وانتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد وما يجب حفظه للفهم وهو ظاهر.

ولا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة، وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا، ويوضح بعضها أمر بعض، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا: أن البيانات أمثال ولها في ما وراءها حقائق ممثلة، وليست مقاصدها ومراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس وثانيا: بعد العلم بأنها أمثال: يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام، وما يجب حفظه منها للحصول على المرام، وإنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك.

وذاك نفي بعض ما في هذا.

وإيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة والأمثال والأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة واللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم، ولغة دون لغة، وليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.

فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة، وأن يرفع التشابه الواقع في آية بالأحكام الواقع في آية أخرى، واندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية والبيان.

و قد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور: الأول: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: محكم ومتشابه، وذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها.

الثاني: أن لجميع القرآن محكمه ومتشابهه تأويلا.

و أن التأويل ليس من قبيل المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية نسبته إلى المعارف والمقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال، وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.

الثالث: أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون وهم راسخون في العلم.

الرابع: أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها ومقاصدها، وهذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالا وقد أوضحناه فيما مر.

الخامس: أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.

السادس: أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.

السابع: أن الإحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة، متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية ومتشابهة بالإضافة إلى أخرى.

ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن، ولا مانع من وجود محكم على الإطلاق.

الثامن: أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا.

التاسع: أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى، مترتبة طولا من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أو مثل عموم المجاز، ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.

و لتوضيح ذلك نقول: قال الله تبارك وتعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه والايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى، ويعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب ودرجات بعضها فوق بعض.

وقال أيضا: {اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 162، 163] ، فبين أن العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات ومراتب، والدليل على أن المراد بها درجات العمل قوله: والله بصير بما يعملون، ونظير الآية قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19] ، وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 132] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفيها ما يدل على أن درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها.

ومن المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه، وقد استدل تعالى على كفر اليهود وعلى فساد ضمير المشركين وعلى نفاق المنافقين من المسلمين وعلى إيمان عدة من الأنبياء والمؤمنين بأعمالهم وأفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها، فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم ويدل عليه.

وبالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم ويحصله ويركزه في النفس كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] ، وقال أيضا: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] ، وقال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، والآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف والجهالات وهي العلوم المخالفة للحق ما يناسبه.

و قال تعالى – وهو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح والعلم النافع -: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، فبين أن شأن الكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى ويقرب صاحبه منه، وشأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم والاعتقاد.

ومن المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك والريب وكمال توجه النفس إليه وعدم تقسيم القلب فيه وفي غيره وهو مطلق الشرك فكلما كمل خلوصه من الشك والخطوات اشتد صعوده وارتفاعه.

ولفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود ووصف العمل بالرفع، والصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع، وهما أعني الصعود والارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو واقترابه منه، ومرتفع من جهة انفصاله من السفل وابتعاده منه، فالعمل يبعد الإنسان ويفصله من الدنيا والإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة والتشتت والتفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية وكلما زاد الرفع والارتفاع زاد صعود الكلم الطيب، وخلصت المعرفة عن شوائب الأوهام وقذارات الشكوك، ومن المعلوم أيضا كما مر: أن العمل الصالح ذو مراتب ودرجات، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب وتوليد العلوم والمعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها.

و الكلام في العمل الطالح ووضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح ورفعه وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6].

فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل والعلم، ولازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة والدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها، فقد تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة.

و قد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين وخص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم، قال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159، 160] ، وخص بهم أشياء أخر من المعرفة والعلم سيجيء بيانها إن شاء الله تعالى، وكالموقنين وخص بهم مشاهدة ملكوت السماوات والأرض قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] ، وكالمنيبين وخص بهم التذكر، قال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] ، وكالعالمين وخص بهم عقل أمثال القرآن، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ، وكأنهم أولوا الألباب والمتدبرون لقوله تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24] ، ولقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] ، فإن مؤدى الآيات الثلاث يرجع إلى معنى واحد وهو العلم بمتشابه القرآن ورده إلى محكمه، وكالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 – 79] ، وكالأولياء وهم أهل الوله والمحبة لله وخص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء إلا الله سبحانه ولذلك لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشيء، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] ، وكالمقربين والمجتبين والصديقين والصالحين والمؤمنين ولكل منهم خواص من العلم والإدراك يختصون بها، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها.

ونظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها، ولها خواص رديئة في باب العلم والمعرفة، ولها أصحاب كالكافرين والمنافقين والفاسقين والظالمين وغيرهم، ولهم أنصباء من سوء الفهم ورداءة الإدراك لآيات الله ومعارفه الحقة، طوينا ذكرها إيثارا للاختصار، وسنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إن شاء الله.

العاشر: أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآية منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول، بل تتعداها إلى ما يناسبها، وهذا المعنى هو المسمى بجري القرآن، وقد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 18-60.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

المحكم والمتشابه في القرآن :

تقدّم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفيّة بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات).

أي آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي (هنّ أُم الكتاب)، ثمّ أنّ هناك آيات اُخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اُخرى (وآخر متشابهات).

هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيّين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة، فلذلك تضيف الآية :{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } فيفسّرون هذه الآيات المتشابه وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويسبّهوا عليهم {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ(2) فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7].

ثمّ تضيف الآية : أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات (يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربنا) أجل (وما يذكّر إلاّ أولوا الألباب).

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }.

النجاة من الزيغ :

بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتأون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلاّ ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون من الله. فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال، لأنّهم يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من هداية الله. أمّا العلماء المؤمنون فيقولون : {ربّنا لا تزغ قلوبنا…}.

وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد. إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق. نعم هؤلاء هم القادرون على الإستفادة من آيات الله كلّ الاستفادة { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }.

في الحقيقة تشير الآية الأُولى إلى إيمان هؤلاء الكامل «بالمبدأ» ، وتشير الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ «بالمعاد».

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص197-207.

2 ـ «زيغ» في الأصل بمعنى الإنحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة، والزيغ في القلب بمعنى الإنحراف العقائدي عن صراط المستقيم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى