مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 105-109)

قال تعالى : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [آل عمران: 105 – 109].

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{ولا تكونوا كالذين تفرقوا} في الدين، وهم اليهود والنصارى {واختلفوا} قيل معناه: تفرقوا أيضا وذكرهما للتأكيد واختلاف اللفظين، كقول الشاعر: ” متى أدن منه ينأ عني ويبعد “.

وقيل: معناه كالذين تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الديانة {من بعد ما جاءهم البيانات} أي: الحجج والكتب، وبين لهم الطرق {وأولئك لهم عذاب عظيم} عقوبة لهم على تفرقهم واختلافهم، بعد مجئ الآيات والبيانات. والآية تدل على تحريم الاختلاف في الدين، وأن ذلك مذموم قبيح، منهي عنه.

{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} أخبر سبحانه بوقت ذلك العذاب أي: ثبت لهم العذاب في يوم هذه صفته. وإنما تبيض فيه الوجوه للمؤمنين ثوابا لهم على الايمان والطاعة، وتسود فيه الوجوه للكافرين عقوبة لهم على الكفر والسيئات، بدلالة ما بعده وهو قوله: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم}(2) أي: يقال لهم:

أكفرتم {بعد إيمانكم}. واختلف فيمن عنوا به على أقوال أحدها: إنهم الذين كفروا بعد إظهار الايمان بالنفاق، عن الحسن. وثانيها: إنهم جميع الكفار لاعراضهم عما وجب عليهم الاقرار به من التوحيد، حين أشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى} فيقول: أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق، عن أبي بن كعب وثالثها: إنهم أهل الكتاب كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانهم به أي: بنعته وصفته قبل مبعثه، عن عكرمة، واختاره الزجاج والجبائي ورابعها: إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، عن علي عليه السلام، ومثله عن قتادة أنهم الذين كفروا بالارتداد، ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” والذي نفسي بيده ليردن علي الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: أصحابي أصحابي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعد إيمانهم ارتدوا على أعقابهم القهقري “. ذكره الثعلبي في تفسيره، فقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. والألف في أكفرتم أصله الاستفهام والمراد به هنا التقريع أي: لم كفرتم. وقيل: المراد التقرير أي: قد كفرتم.

{فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي: بلفظ الذوق على التوسع ومعناه:

أنظروا ما صار إليه عاقبتكم من عذاب الله بما كنتم تكفرون أي: بكفركم {وأما الذين ابيضت وجوههم} وهم المؤمنون {ففي رحمة الله} أي: ثواب الله. وقيل: جنة الله {هم فيها خالدون} أعاد كلمة الظرف وهي قوله {فيها} تأكيدا لتمكين المعنى في النفس. وقيل: إنما أعادها لأنه دل بقوله ففي رحمة الله على إدخاله إياهم في الرحمة. وبقوله {هم فيها خالدون} على خلودهم فيها. وسمى الله تعالى الثواب رحمة، والرحمة نعمة يستحق بها الشكر، وكل نعمة تفضل. والوجه في ذلك أن سبب الثواب الذي هو التكليف تفضل، فيكون الثواب على هذا الوجه تفضلا.

وقيل: إنما جاز أن يكون تفضلا، لأنه بمنزلة إنجاز الوعد في أنه تفضل مستحق، لان المبتدئ به قد كان له أن لا يفعله، فلما فعله وجب عليه الوفاء به، لان الخلف قبيح، وهو مع ذلك تفضل لأنه جر إليه تفضل.

وقال بعضهم: المراد بابيضاض الوجوه إشراقها واسفارها بالسرور بنيل البغية، والظفر بالمنية، والاستبشار بما يصير إليه من الثواب، كقوله {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة}، والمراد باسودادها ظهور أثر الحزن عليها لما يصير إليه من العقاب، كقوله: {وجه يومئذ باسرة ووجوه يومئذ عليها غبرة}. وفي هذا القول عدول عن حقيقة اللفظ من غير ضرورة. والأصح الأول.

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}

{تلك آيات الله} أي: تلك التي قد جرى ذكرها حجج الله وعلاماته وبيناته {نتلوها عليك بالحق} نقرأها عليك بالحق يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أمتك ونذكرها لك، ونعرفك إياها، ونقصها عليك، {بالحق} أي: بالحكمة والصواب {وما الله يريد ظلما للعالمين} معناه: لا يظلمهم بأن يحملهم من العقاب ما لم يستحقوه، أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه. وإنما يظلم من يظلم لجهله بقبح الظلم، أو لحاجة إليه من دفع ضرر، وجر نفع. وتعالى الله عن صفة الجهل والحاجة، وسائر صفات النقص، علوا كبيرا. وكيف يجوز أن يظلم أحدا، وهو الذي خلقهم وأنشأهم وابتدعهم، وآتاهم من النعم ما لا تسموا إليه هممهم، وعرضهم بها لما هو أعظم منها قدرا، وأجل خطرا، وهو نعيم الآخرة.

ثم ذكر سبحانه وجه غناه عن الظلم، فقال: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} ملكا وملكا وخلقا {وإلى الله ترجع الأمور} اختلفوا في كيفية رجوع الامر إلى الله تعالى، فقيل: إن الأمور تذهب بالفناء، ثم يعيدها ا لله للمجازاة. وقيل : إن الله تعالى قد ملك عباده في الدنيا أمورا، وجعل لهم تصرفا، ويزول جميع ذلك في الآخرة، ويرجع إليه كله، كما قال: {لمن الملك اليوم}. وفي وقوع المظهر موقع المضمر في قوله {وإلى الله ترجع الأمور} قولان أحدهما: ليكون كل واحد من الكلامين مكتفيا بنفسه والاخر: ليكون أفخم في الذكر والموضع موضع التفخيم، وليس كقول الشاعر:

لا أرى الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى، والفقيرا

 لان البيت مفتقر إلى الضمير. والآية مستغنية عنه.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص359-362.

2- [محذوف وتقديره: فأما الذين اسودت وجوههم].

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

الاختلاف بعد النبي :

{ ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ } . هذه الآية متممة لقوله تعالى : { واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً } وما بعدها ، والمراد بالذين تفرقوا أهل الكتاب ، حيث افترق اليهود بعد نبيهم موسى إلى إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى إلى اثنتين وسبعين بعد نبيهم عيسى ، وقوله تعالى :

{ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ } يشعر بأن الإنسان لا يؤاخذ على ترك الحق ، واتباع الباطل الا بعد البيان وقيام الحجة .

أما السر لهذا التأكيد والاهتمام باجتماع الأمة واتحادها فلأن الشقاق مادة الفساد ، ولأن الأمة المتفرقة لا تصلح للحياة فضلا عن ان تدعو الأمم الأخرى إلى الخير والحياة . . وعلى الرغم من الآيات والروايات الكثيرة التي حثت على اجتماع المسلمين واتحادهم فقد تفرقوا شيعا وأحزابا ، وزادت فرقهم فرقتين على فرق اليهود ، وفرقة على فرق النصارى ، كما في الحديث المشهور . وفي حديث آخر : لتركبن

سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة . قالوا : تعني اليهود والنصارى يا رسول اللَّه ؟ قال : فمن أعني ؟ لتنقضن عروة الإسلام عروة عروة .

وعن كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي في حديث رقم 131 : من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ، حتى إذا رأيتهم ، ورفعوا إليّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقول :

رب أصحابي . فيقال لي : انك لا تدري ما أحدثوا بعدك . . وفي الكتاب المذكور أيضا حديث رقم 267 من المتفق عليه من مسند أبي هريرة من عدة طرق قال النبي ( صلى الله عليه واله ) : بينا أنا واقف – يوم القيامة – إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم ، فقال : هلموا . فقلت : إلى أين ؟ قال :

إلى النار . قلت : ما شأنهم ؟ قال : انهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقرى .

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . المراد باليوم يوم القيامة ، وبياض الوجه كناية عن استبشار المؤمن برضوان اللَّه وفضله ، وسواد الوجه كناية عن حزن الكافر والفاسق لغضبه تعالى عليهما ، وعذابه لهما . { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } يقال لهم تقريعا وتوبيخا : { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ } . نقل الرازي والطبري وغيرهما كثير من المفسرين ، نقلوا عن بعض السلف ان المقصود بهؤلاء خصوص الخوارج ، لأن النبي قال فيهم : « انهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » . ولكن ظاهر الآية يشمل كل من كفر بعد الايمان ، ومنهم الخوارج ، وأهل البدع والأهواء والآراء الباطلة ، على ان العذاب لا يختص بمن كفر بعد الايمان ، بل يشمل مطلق الكافر بدليل قوله تعالى : { فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } .

{ وأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } . رحمة اللَّه هي الجنة ، والخلود فيها واضح . . والخلاصة ان الذين يعتصمون بحبل اللَّه ، ويعملون لوجه اللَّه ، ويتعاونون على الخير والصالح العام يحشرون غدا أعزاء فرحين مستبشرين ، وراضين مرضيين ، أما الذين اختلفوا تكالبا على الدنيا غير آبهين بدين ولا أمة ولا وطن ، ولا يهتمون الا بمصالحهم ومصالح أبنائهم فإنهم يحشرون أذلاء خاسرين خاسئين ، مقرهم جهنم وبئس المصير .

وغريبة الغرائب ان البعض من أصحاب الوجوه السود يزعمون لأنفسهم التحدث عن اللَّه ، والكلام باسمه ، وعن طريق هذا الزعم الكاذب بلغوا أعلى المناصب ، بلغوها باسم اللَّه ، ولكن إذا قال لهم قائل : اتقوا اللَّه . قالوا له : أنت كافر باللَّه . . وقد سبقهم إلى هذا عبد الملك بن مروان ، حيث قال يوم تولى الخلافة :

من قال لي بعد اليوم : اتق اللَّه ضربت عنقه .

{ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } . تلك إشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار ، وتعذيب الكفار ، والخطاب موجه لمحمد ( صلى الله عليه واله ) . وقد يسأل سائل : وأية فائدة من هذا الإخبار ، ما دام محمد يعلم علم اليقين ان هذه الآيات حق وصدق ؟

الجواب : لقد دأب القرآن على تكرار ذلك في العديد من الآيات ، وليس المقصود منها محمدا بالذات ، بل من يرتاب ويظن بأن هذه الآيات وما إليها هي من محمد ، لا من اللَّه : { وما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ – 48 العنكبوت } .

{ ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ } . لأن الظلم قبيح ، واللَّه سبحانه منزه عنه ، وفي الآية دلالة قاطعة على انه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيق .

_______________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص126-129.

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}.

لا يبعد أن يكون قوله:{ من بعد ما جاءهم البينات} متعلقا بقوله: {واختلفوا} فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد وبالتفرق الاختلاف والتشتت من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك، ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآراؤهم بعضها عن بعض، وبرز فيهم الفرقة، وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول: ولا تكونوا كالذين تفرقوا بالأبدان أولا، وخرجوا من الجماعة، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد والآراء أخيرا.

و قد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي.

قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] ، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك، ورده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضا ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة، وإعراض الأمة عن ذلك بغي منهم، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.

و قد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد، وبالغ في النهي عن الاختلاف، وليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك، وقد تقدم مرارا أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه، وهذا أمر أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كما أخبر به القرآن، وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة، وأن أمته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجيء الرواية في البحث الروائي.

وقد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن تفرقوا شذر مدر، واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهبا ثالثا.

والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجبا، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما ينقطع الوحي ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا.    **   أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولم يلبث الناس دون أن وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبإ، وباعدت بينهم شتى المذاهب، واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد، وأبدلوا سعادة الحيوة بشقاء الضلال والغي.

والله المستعان، والمرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البراءة إن شاء الله.

قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} إلى آخر الآيتين، لما كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الذي يكنى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى: {فأما الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد إيمانكم}.

و كذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنى به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.

قوله تعالى:{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق}، الظرف متعلق بقوله: {نتلوها}، والمراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلا شيطانيا، أو متعلق بالآيات بإستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر، والمعنى أن هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين: الكافرين والشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم، وهذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله: {وما الله يريد ظلما}.

قوله تعالى: {وما الله يريد ظلما للعالمين}، تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق، وظاهر قوله: {للعالمين} وهو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق، والمعنى على هذا أن الله لا يريد ظلما أي ظلم فرض لجميع العالمين، وكافة الجماعات، وهو كذلك فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشئوم إلى جميع العالمين وكافة الناس.

قوله تعالى: {ولله ما في السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}، لما ذكر أن الله لا يريد الظلم علل ذلك بما يزول معه توهم صدور الظلم فذكر أن الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرف فيها كيف يشاء فلا يتصور في حقه التصرف فيما لا يملكه حتى يكون ظلما وتعديا.

على أن الشخص إنما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكن من رفعها إلا بالتعدي على ما لا يملكه، والله الغني الذي له ما في السماوات والأرض هذا ما قرره بعضهم لكنه لا يلائم ظاهر الآية فإن هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون ملكه، والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى، وكيف كان فملكه دليل أنه تعالى ليس بظالم.

وهناك دليل آخر وهو أن مرجع جميع الأمور أيا ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الأمر شيء حتى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالما، وهذا هو الذي يشير إليه قوله: {وإلى الله ترجع الأمور}.

والوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبني على أن كل شيء له تعالى والثاني مبني على أن شيئا من الأمور ليس لغيره تعالى.

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 323-325.

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات  (1)

الفرقة بعد الإتحاد من شيم النصارى واليهود :

تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرّة بعد أُخرى، ولذا يذكر بأهمية الإتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة، بقوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}.

إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا ـ كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى ـ سبيل الفرقة والإختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.

إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي، ويتأملوا في حياة السابقين، وما آلوا إليه من المصير المؤلم، بسبب الإختلاف والتشتت.

إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كلّ أُمة من سوء العواقب إذا هي سلكت سبيل النفاق، وتفرقت بعد ما توحدت، وتشتّتت بعد ما تجمعت.

إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على إجتناب الفرقة والنفاق إنما هو تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلاً، لأن القرآن لم يحذّر من شيء أو يصر على شيء إلاَّ وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل.

ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها، بصراحة إذ قال :

«إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة»(2).

والظاهر أن عدد (70) إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري، لا عدد إحصائي، فالرواية تعني ان فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقّة الناجية، وفرقاً كثيرة في النار، وهكذا الحال في المسلمين وربّما يزداد عدد إختلافات المسلمين على ذلك.

ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إلى ما يقع بين المسلمين بعد وفاته من الإختلاف والفرقة، والخروج عن الطريق المستقيم الذي لا يكون إلاَّ طريقاً واحداً، والإنحراف عن جادة الحقّ في العقائد الدينية، بل ويذهب المسلمون ـ في هذا الإختلاف ـ إلى حد تكفير بعضهم بعضاً، وشهر السيوف، والتلاعن والتشاتم، وهدر النفوس، واستحلال الدماء والأموال، بل ويبلغ الإختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفّار، وإلى مقاتلة الأخ أخاه.

وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين ونجاحهم إلى النفاق والإختلاف والتشرذم والتمزق، وتنقل حياتهم السعيدة إلى حياة شقية، وتحلّ الذلة محل العزّة، والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية، وينتهي المجد العظيم.

أجل إن الذين يسلكون سبيل الإختلاف بعد الوحدة، والفرقة بعد الإتحاد سيكون لهم عذاب أليم.

{أولئك لهم عذاب عظيم}.

إنّه ليس من شكّ في أن نتيجة الإختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والإنكسار، فذلك هو سر سقوط الأُمم وذلتها، إنه الإختلاف والتشتت، والنفاق والتدابر.

إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتت تماسكه بسبب الإختلاف، سيتعرض ـ لا محالة ـ لغزو الطامعين، وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين، بل ومسرحاً لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه العاقبة ؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والإختلاف في الدنيا.

وأما عذاب الآخرة فهو ـ كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم ـ أشد وأخزى. فذلك هو ما ينتظر المفرّقين المختلفين، وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كلّ من حبذ النفاق على الإتفاق، والتدابر على التآلف، والتشتت على الإجتماع… خزي في الدنيا، وعذاب أخزى في الآخرة.

الوجوه المبيضة والوجوه المسودة :

في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الإرتداد المشؤوم إلى خُلُق الجاهلية وعاداتها، وتصرحان بأن الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والإتحاد، والمحبة والتآلف، بياض الوجوه، فتقول {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء، والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية {فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الإتحاد في ظلّ الإسلام، فذوقوا جزاءكم العادل، وأما المؤمنون فغارقون في رحمة الله {وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون}.

إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأما المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.

ولقد قلنا مراراً أن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات، ومن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا، فهما وجهان لعملة واحدة، إنه تجسم صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلاَّ.

وبعبارة أُخرى : أن لكل ما يفعله الإنسان فى هذه الحياة آثاراً واسعة تبقى في روحه، وقد لا تدرك في هذه الحياة، ولكنها تتجلّى ـ بعد سلسلة من التحولات ـ في الآخرة، فتظهر بحقائقها الواقعية، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في الآخرة، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من هنا يكون لتلك الآثار إنعكاساتها حتّى على الجسد، فتبدو الآثار المعنوية للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوساً لكلّ أحد.

فكما ان الإيمان والإتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم، ويوجب العكس العكس، أي أن الكفر والإختلاف يوجبان للأُمة الكافرة المتفرقة سواد الوجه والذلة، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه، بينما يحشر الكافرون المتفرقون المتخاصمون سود الوجوه.

وتلك حقيقة أشارت إليها آيات اُخرى في القرآن الكريم في شأن من يتمادى في المعصية ويأتي بالذنب تلو الذنب، والإثم بعد الإثم إذ يقول سبحانه : {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27].

ويقول في شأن الذين يفترون على الله الكذب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60].

وكلّ هذه الأُمور هي المردودات والآثار الطبيعية لما يأتيه الإنسان في عالم الدنيا من الأعمال.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص390-394.

2 ـ نقلت هذه الرواية بطرق مختلفة عن الشيعة والسنة وأما كتب الشيعة التي نقلت هذه الرواية فهي : الخصال، ومعاني الأخبار، والإحتجاج، وأمالي الصدوق، وأصل سليم بن قيس، وتفسير العياشي، وأما الكتب السنية فهي الدرّ المنثور، وجامع الأصول، والملل والنحل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى