مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 110-111)

قال تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 110، 111].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

لما تقدم ذكر الأمر والنهي، عقبه تعالى بذكر من تصدى للقيام بذلك، ومدحهم ترغيبا في الاقتداء بهم، فقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قيل فيه أقوال أحدها: إن معناه أنتم خير أمة، وإنما قال {كنتم} لتقدم البشارة لهم في الكتب الماضية، عن الحسن، ويعضده ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” أنتم وفيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله ” وثانيها: إن المراد كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ، عن الفراء والزجاج. وثالثها: إن كا هاهنا تامة. و {خير أمة}: نصب على الحال، ومعناه: وجدتم خير أمة، وخلقتم خير أمة ورابعها: إن كان مزيدة دخولها كخروجها، إلا أن فيها تأكيدا لوقوع الامر لا محالة، لأنه بمنزلة ما قد كان في الحقيقة، فهي بمنزلة قوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل}. وفي مواضع آخر: {إذ كنتم قليلا فكثركم} ونظيره قوله: {وكان الله غفورا رحيما} لأنه مغفرته المستأنفة كالماضية في تحقيق الوقوع وخامسها: إن كان بمعنى صار، كما في قول الشاعر:

فخر على الآلاء توسدته، وقد كان الدماء له خمارا (2)

ومعناه: صرتم خير أمة خلقت لأمركم بالمعروف، ونهيكم عن المنكر، وإيمانكم بالله. فتصير هذه الخصال على هذا القول شرطا في كونهم خيرا. وقد روي عن بعض الصحابة أنه قال: من أراد أن يكون خير هذه الأمة، فليود شرط الله فيه من الايمان بالله، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

واختلف في المعني بالخطاب فقيل: هم المهاجرون خاصة، عن ابن عباس والسدي. وقيل: نزلت في ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، عن عكرمة. وقيل: أراد بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، عن الضحاك. وقيل: هو خطاب للصحابة، ولكنه يعم سائر الأمة. ثم ذكر مناقبهم فقال {تأمرون بالمعروف} بالطاعات {وتنهون عن المنكر} عن المعاصي.

ويسأل فيقال: إن القبيح أيضا يعرف أنه قبيح، فلم خص الحسن باسم المعروف؟ وجوابه: إن القبيح جعل بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه، وجعل الحسن بمنزلة النبيه الجليل القدر، يعرف لنباهته، وعلو قدره. {وتؤمنون بالله} أي بتوحيده وعدله ودينه {ولو آمن أهل الكتاب} أي: لو صدقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبما جاء به {لكان خيرا لهم} أي: لكان ذلك الايمان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، لأنهم ينجون بها في الدنيا من القتل، وفي الآخرة من العذاب، ويفوزون بالجنة.

{منهم} أي: من أهل الكتاب {المؤمنون} أي: المعترفون بما دلت عليه كتبهم من صفة نبينا، والبشارة به كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى. {وأكثرهم الفاسقون} أي: الخارجون عن طاعة الله تعالى. وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم، لان الغرض الايذان بأنهم خرجوا عما يوجبه كتابهم من الاقرار بالحق في نبوة نبينا. وقيل: لأنهم في الكفار بمنزلة الفساق العصاة، لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع. وأفظع.

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}

{لن يضروكم إلا أذى} وعد الله المؤمنين أنهم منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم، ولا ينالهم من جهتهم إلا أذى من جهة القول. ثم اختلفوا في هذا القول فقيل: هو كذبهم على الله وتحريفهم كتاب الله. وقيل: هو ما كانوا يسمعون المؤمنين من الكلام المؤذي {وإن يقاتلوكم} أي: وإن يجاوزوا عن الايذاء باللسان إلى القتال والمحاربة {يولوكم الادبار} منهزمين. {ثم لا ينصرون} أي: ثم لا يعانون لكفرهم.

ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لوقوع مخبره على وفق خبره، لان يهود المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، ويهود خيبر، الذين حاربوا النبي والمسلمين، لم يثبتوا لهم قط، وانهزموا ولم ينالوا من المسلمين إلا بالسبب والطعن.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص362-365.

2- الآلاء كسحاب: شجر مر دائم الخضرة. توسدته: أي: صارت وسادة له.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) :

أمة محمد :

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } . يقع الكلام في هذه الآية من وجوه :

1 – في المقصود بالأمة . . وليس من شك ان المراد بها هنا أمة محمد ( صلى الله عليه واله ) بدليل السياق وتوالي مخاطبات المؤمنين من قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً . . واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ . . واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ . . ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ . .

ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا . . } إلى قوله سبحانه : كنتم خير أمة .

2 – هل المراد بالأمة جميع المسلمين في كل عصر ، أو خصوص من كان منهم في الصدر الأول كالأصحاب والتابعين ؟

الجواب : ان تعيين المراد بالأمة هنا يتوقف على معرفة المراد من ( كان ) . .

وهي بحسب وضعها ناقصة تحتاج إلى اسم وخبر ، وتدل على حدوث الفعل في آن مضى ، مع سكوتها وعدم دلالتها على الآن السابق الذي حدث فيه الفعل ، ولا على الزمان اللاحق له الا بقرينة مقالية أو مقامية ، مثل كان زيد قائما فإنه محمول على حدوث القيام وانقطاعه ، أي لم يكن زيد قائما فقام فترة من الزمن الماضي ، دون أن يستمر قيامه مدى حياته ، والذي أفاد هذا المعنى لفظ قائم بالذات ، وقد تفيد القرينة المقامية القدم والدوام ، مثل كان اللَّه غفورا رحيما ، فان نسبة الرحمة والمغفرة إليه سبحانه لا تنفك عن ذاته أبدا وأزلا .

وحيث ان اللَّه سبحانه قد أناط خيرية الأمة وفضلها بالإيمان به وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون معنى الآية أيها المسلمون لا تقولوا : نحن خير الأمم وأفضلها إلا إذا أمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر ، وهذا الوصف يزول عنكم بمجرد اهمالكم لذلك ، وعليه فإن ( كان ) هنا تامة غير ناقصة . .

وخير أمة حال من الضمير في كنتم ، أي أنتم خير أمة في حال أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر .

3 – ان قوله تعالى : { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } يشعر بأن اللَّه سبحانه أوجد محمدا وأمة محمد ( صلى الله عليه واله ) لتقود الأمم بكاملها حاملة كتاب اللَّه في يد ، وسنّة نبيّه في يد ، تدعو الأجيال إلى التمسك بهما ، والرجوع إليهما في العقيدة والشريعة والأخلاق ، لأنهما المصدران الوحيدان اللذان يحققان السعادة للجميع ، ويضمنان العيش لكل فرد ، ويفسحان المجال لأرباب الاجتهاد والكفاءات على أساس العدل والأمن والحرية للناس ، كل الناس ( 2) .

وتتفق هذه الآية في مضمونها ، أي كنتم خير أمة ، مع الآية 143 من سورة البقرة : { وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .

وإذا لم ينهض المسلمون بعبء الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر زال عنهم وصف القيادة ، وأصبحوا في حاجة إلى قائد يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .

وقد أتى على المسلمين حين من الدهر نهضوا فيه بهذا العبء ، وكانوا بحق قادة الأمم ، ثم أهملوه ، وبمرور الزمن أصبحوا ينهون عن المعروف ، ويأمرون بالمنكر كما نشاهد ذلك ونراه في هذا العصر الذي تحلل فيه أكثر أبناء الجيل من

الدين ، وكل خلق كريم ، فإذا رأوا مصليا أو صائما قالوا له ساخرين :

أصلاة وصيام في القرن العشرين ؟

وقال صاحب تفسير المنار عند تفسير الآية التي نحن بصددها : « الحق أقول :

ان هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس ، حتى تركت الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وما تركتهما رغبة عنهما أو تهاونا بأمر اللَّه تعالى بإقامتهما ، بل مكرهة باستبداد الملوك والأمراء من بني أمية ، ومن سار على طريقهم من بعدهم » .

وعلى أساس ان الأشياء تذكر بأضدادها كما تذكر بنظائرها نسجل هذا الحديث الشريف الذي ذكره الحافظ محب الدين الطبري ، قال : « قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) :

مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تعلق بها فاز ، ومن تخلف عنها غرق » . . أما حديث « اني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي » فقد رواه خمسة وثلاثون راويا من الأصحاب .

{ ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ } . أي لو ان أهل التوراة والإنجيل آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه واله ) لكان الايمان خيرا لهم في الآجل والعاجل . { مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ } . أي ان أهل الكتاب منهم من آمن بمحمد ( صلى الله عليه واله ) كعبد اللَّه بن سلام ورهطه من اليهود ، وغيرهم من النصارى ، وأكثرهم بقي على الكفر . . ولفظ الكفر والفسق يتناوبان ، فيستعمل الكفر في الفسق ، والفسق في الكفر ، والمراد بالفسق هنا الكفر .

{ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبارَ } . الضرر على نوعين :

الأول عبارة عن مجرد الحزن والألم الذي يذهب مع الأيام ، كالذي يحدث في النفس من سماع كلمة نابية ، والضرر الثاني يمس الحياة ، ويهز الكيان ، كالضرر الناشئ عن دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية .

وقد بشّر اللَّه سبحانه أصحاب محمد ( صلى الله عليه واله ) ان أهل الكتاب لا يستطيعون اضرارهم الا بالكلام كالهجو والافتراءات ، أما في ميدان القتال ، فأنتم المنتصرون عليهم ، وصدق اللَّه وعده ، ونصر المسلمين الأول على المسيحيين وغيرهم .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص129-132.

2- ألف العارفون في هذا الموضوع عشرات الكتب ، وبعض مؤلفيها من الأجانب ، وأكثرها أو الكثير منها يفي بالغرض ، ومن أكثرها فائدة – على ما أرى – كتيب للدكتور عبد الواحد وافي ، اسمه « المساواة في الإسلام » ، فإنه على صغره غزير المادة ، متخم بالأدلة والأرقام .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1)  :

قوله تعالى:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس}، المراد بإخراج الأمة للناس والله أعلم إظهارها لهم، ومزية هذه اللفظة الإخراج أن فيها إشعارا بالحدوث والتكون قال تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] ، والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أن المراد بالناس عامة البشر والفعل أعني قوله: {كنتم} منسلخ عن الزمان – على ما قيل – والأمة إنما تطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمرونه ويقصدونه، وذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.

فمعنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير أمة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المعلوم أن انبساط هذا التشريف على جميع الأمة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام.

والظاهر والله أعلم أن قوله:{ كنتم} غير منسلخ عن الزمان والآية تمدح حال المؤمنين في أول ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق فيه في مقابل الكفر به على ما يدل عليه قوله قبل: {أكفرتم بعد إيمانكم} الآية، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضا فيئول المعنى إلى أنكم معاشر أمة الإسلام كنتم في أول ما تكونتم وظهرتم للناس خير أمة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعتصمون بحبل الله متفقين متحدين كنفس واحدة، ولو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضا لكان خيرا لهم لكنهم اختلفوا منهم أمة مؤمنون وأكثرهم فاسقون.

واعلم أن في الآيات موارد من التفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد وبالعكس، وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرر لفظ الجلالة في عدة مواضع، والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمل.

قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} “الخ” الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر: إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيويا كان أو أخرويا على ما ذكره الراغب مفردات القرآن.

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 325-330.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين  (1)

مكافحة الفساد والدعوة إلى الحقّ أيضاً :

في هذه الآية تطرح مرّة أُخرى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر»، وتعتبر الآية الحاضرة هاتين المسألتين واجبين عموميين كما مرّ في تفسير الآية (104)، بينما تبين الآية السابقة مرحلة خاصّة، وهي مرحلة الوجوب الكفائي أي الخاصّ بجماعة معينة، كما مرّ تفصيله.

فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين.

والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يصف المسلمين ـ في هذه الآية ـ بأنهم خير أمة هُيئت وعُبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أن هذه الأُمة خير أمة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو «قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمانها بالله» وهذا يفيد أن إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان بالله والدعوة إلى الحقّ، ومكافحة الفساد، كما ويستفاد من ذلك أن هاتين الوظيفتين مع ما هما عليه من السعة في الإسلام ممّا تفرد بهما هذا الدين من دون بقية الشرائع السابقة.

أما لماذا يجب أن تكون هذه الأُمة خير الأمم، فسببه واضح كذلك. لأنها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا شكّ أن هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلم الأديان.

وقفتان عند هذه الآية :

ثمّ إنه يتعين علينا أن ننتبه إلى نقطتين أُخريين في هذه الآية وهما :

الأولى : التعبير بلفظ الماضي «كنتم» يعني أنكم كنتم كذلك في السابق، ومفهوم هذا التعبير وإن كان موضع إحتمالات كثيرة بين المفسّرين، إلاَّ أن ما يترجح عند النظر هو أن التعبير بالمضي إنما هو لأجل التأكيد، والتلويح بأن الشيء محقّق الوقوع، ولذلك نظائر كثيرة في الكتاب العزيز حيث عبّر عن القضايا المحقّقة الوقوع بصيغة الفعل الماضي، لإفادة أن ذلك ممّا يقع حتماً حتّى أنه نزل منزلة الماضي الذي قد تحقّق فعلاً.

الثانية : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قُدِّما ـ في هذه الآية ـ على الإيمان بالله، وذلك خير شاهد على أهمية هاتين الفريضتين الإلهيتين ـ وخطورتهما ـ مضافاً إلى أن القيام بهذين الواجبين المقدسين ممّا يوجب إنتشار الإيمان، واتساع رقعته، وتعميق جذوره في النفوس، وتنفيذ كلّ القوانين الفردية والإجتماعية، ولا ريب أن ما يضمن تنفيذ القانون وتطبيقه مقدّم على نفس القانون.

بل إن تعطيل هذين الواجبين يوجب ضعف العقائد في القلوب، وانهيار قواعد الإيمان في النفوس، ولهذا كلّه كان طبيعياً أن يقدِّما على الإيمان.

من هذا البيان يتضح أن المسلمين «خير أُمة» ما داموا يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا نسوا هاتين الفريضتين وأهملوهما لم يعودوا خير أُمة، كما لم يعودوا في خدمة المجتمع البشري أبداً.

على أن المخاطب في هذه الآية هم عموم المسلمين في جميع العصور كما هو الحال في كلّ الخطابات القرآنية، فما إحتمله البعض من أنه خاص بالمهاجرين أو المسلمين الأوائل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.

ثم إن الآية تشير إلى أن ديناً بمثل هذا الوضوح، وتشريعاً بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه : {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم}.

ولكن ـ وللأسف ـ لم يؤمن به إلاّ قلّة ممّن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين حتّى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}

تبشر الآية المسلمين الذين يواجهون ضغوطاً شديدة وتهديدات أحياناً من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنهم منصورون، وأن أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأن ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلاَّ طفيفاً وعابراً : {لن يضروكم إلاَّ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون}.

إن هاتين الآيتين تحتويان ـ في الحقيقة ـ على عدّة أخبار غيبية، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق جميعها في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته الشريفة وهي :

1 ـ إن أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأن ما يلحقونه بهم لن يكون إلاّ أضراراً بسيطة، وعابرة {لن يضروكم إلاّ أذى}.

2 ـ إنهم لن يثبتوا ـ في القتال ـ أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين، ولا يجدون ناصراً ولا معيناً : {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون}.

3 ـ إنهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين، بل سيبقون أذلاء دائماً، إلاَّ أن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق الله، أو أن يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين : {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس}.

ولم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر السماوية زمن حتّى تحققت برمّتها في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصّة بالنسبة إلى اليهود القاطنين في الحجاز (بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر وبني المصطلق} الذين آل أمرهم إلى الهزيمة في جميع ميادين القتال والإندحار أمام القوى الإسلامية بعد أن إقترفوا سلسلة من التحرشات والمؤامرات ضد الإسلام والمسلمين.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص395-399.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى