مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 113-115)

قال تعالى : {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 113 – 115].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات  (1) :

{ليسوا سواء) اختلفوا في تقديره، والقول الصحيح أن هذا وقف تام. وقوله: {من أهل الكتاب) ابتداء كلام، ومعناه: ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواء أي: ليس الذين آمنوا من أهل الكتاب {أمة قائمة) كعبد الله بن سلام وأصحابه، والذين لم يؤمنوا، سواء في الدرجة والمنزلة، ثم استأنف، وبين افتراقهم فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة) فحصل بهذا بيان الافتراق. وهذا كما لو أخبر القائل عن قوم بخبر فقال: بنو فلان يعملون كذا وكذا، ثم قال: ليسوا سواء، فإن منهم من يفعل كذا وكذا، وكذلك لو ذم قبيلة بالبخل والجبن، فقال غيره: ليسوا سواء، منهم الجواد، ومنهم الشجاع. فيكون منهم الجواد، ومنهم الشجاع، ابتداء كلام. وقال أبو عبيدة: هو على لغة أكلوني البراغيث. ومثله قوله تعالى: {ثم عصوا وصموا كثير منهم) وقال الشاعر:

رأين الغواني الشيب لاح بعارضي، فأعرضن عني بالخدود النواضر (1) قال الزجاج والرماني: وليس الامر كما قال، لان ذكر أهل الكتاب قد جرى، فأخبر الله أنهم غير متساويين، ولأن هذه اللغة رديئة في القيام والاستعمال. وقال الفراء: المعنى منهم أمة قائمة، وأمة غير قائمة، اكتفاء بذكر أحد الفريقين، كما قال أبو ذويب:

عصيت إليها القلب، إني لأمرها مطيع، فما أدري أرشد طلابها ولم يقل أم غي. وقال آخر:

أواك فلا أدري أهم هممته * وذو الهم قدما خاشع متضائل (2) ولم يقل: أم غيره، لان حاله في التغير ينبئ أن الهم غيره أم غيره، فعلى هذا يكون رفع أمة على معنى الفعل، وتقديره: لا يستوي أمة هادية، وأمة ضالة.

وعلى القول الأول رفع بالابتداء. وأنكر الزجاج هذا القول، وقال: ما بنا حاجة هنا إلى محذوف، لان ذكر الفريقين قد جرى في قوله منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.

ثم قال: ليسوا سواء. ولا يحتاج إلى أن يقدروا أمة غير قائمة، وقد تقدم صفتهم في قوله: {ويكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء). وقوله: أمة قائمة فيه وجوه أحدها:

إن معناها جماعة ثابتة على أمر الله، عن ابن عباس وقتادة والربيع. وثانيها: عادلة، عن الحسن ومجاهد وابن جريج وثالثها: قائمة بطاعة الله، عن السدي. ورابعها:

إن التقدير: ذو أمة قائمة أي: ذو طريقة مستقيمة، عن الزجاج. وأنشد للنابغة: ” وهل يأتمر ذو أمة وهو طائع ” أي: ذو طريقة من طرائق الدين.

قال علي بن عيسى: وهذا القول ضعيف لأنه عدول عن الظاهر. وحكم بالحذف من غير دلالة. {يتلون آيات الله): يقرأون كتاب الله وهو القرآن {آناء الليل) ساعاته وأوقاته، عن الحسن والربيع. وقيل: يعني جوف الليل، عن السدي. وقيل: أراد به وقت صلاة العتمة، لان أهل الكتاب لا يصلونها، يعني أنهم يصلون صلاة العتمة، عن ابن مسعود. وقيل: إنه الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة، عن الثوري، وهي الساعة التي تسمى ساعة الغفلة.

{وهم يسجدون) قيل: أراد السجود المعروف في الصلاة. فعلى هذا يكون معناه: وهم مع ذلك يسجدون، ويكون الواو لعطف جملة على جملة. وقيل: معناه يصلون بغير السجود، فعبر بالسجود عن الصلاة، لان السجود أبلغ الأركان في التواضع، عن الزجاج والفراء والبلخي، قالوا: لان القراءة لا تكون في السجود، ولا في الركوع. وعلى هذا يكون الواو للحال أي: يتلون آيات الله بالليل في صلاتهم، هو قول الجبائي أيضا.

{يؤمنون بالله) أي: بتوحيده وصفاته {واليوم الآخر) المتأخر عن الدنيا، يعني البعث يوم القيامة. {ويأمرون بالمعروف) بالاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، {وينهون عن المنكر) عن إنكار نبوته. {ويسارعون في الخيرات) أي: يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات، خوف الفوات بالموت. وقيل: معناه يعملون الأعمال الصالحة غير متثاقلين فيها، لعلمهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها.

{وأولئك من الصالحين) أي: من جملتهم، وفي عدادهم. وهذا نفي لقولهم: ” ما آمن به إلا شرارنا “. وفي هذه الآية دلالة على عظم موقع صلاة الليل من الله تعالى. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير، خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أني أشق على أمتي لفرضتها عليهم “. وقال أبو عبد الله: إن البيوت التي يصلى فيها بالليل بتلاوة القرآن، تضئ لأهل السماء، كما تضئ نجوم السماء لأهل الأرض. وقال عليه السلام: عليكم بصلاة الليل، فإنها سنة نبيكم، ودأب الصالحين قبلكم، ومطردة الداء عن أجسادكم.

{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }

{وما يفعلوا): ما للمجازاة و {يفعلوا): مجزوم بالشرط، وإنما جوزي بما، ولم يجاز بكيف، لان (ما) أمكن من (كيف) لأنها تكون معرفة ونكرة، لأنها للجنس. و (كيف): لا تكون إلا نكرة، لأنها للحال. والحال لا يكون إلا نكرة، لأنها للفائدة.

المعنى: {وما تفعلوا من خير) أي: من طاعة {فلن تكفروه) أي: لم يمنع عنكم جزاؤه. وسمي منع الجزاء كفرا على الاتساع، لأنه بمنزلة الجحد، والستر له، ومعناه: لا تجحد طاعتكم، ولا تستر بمنع الجزاء. وهذا كما يوصف الله تعالى بأنه شاكر، وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكرين على النعمة. فلما استعير للثواب للشكر، استعير لنقيضه من منع الثواب الكفر، لان الشكر في الأصل هو الاعتراف بالنعمة. والكفر: ستر النعمة في المنعم عليه بتضييع حقها. {والله عليم بالمتقين) أي: بأحوالهم فيجازيهم، وإنما خص المتقين بالذكر، وإن كان عليما بالكل، لان الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين. فنبه بذلك على أنه لا يضيع شئ من عملهم، قل أم كثر، لان المجازي عليهم بكل ذلك. وهذه الآية تدل على أن شيئا من أعمال الخير والطاعة لا يبطل البتة، خلافا لقول من قال بالإحباط.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص366-369.

2- الغانية: المرأة الغنية بحسنها وجمالها عن الزينة.

3- التضاؤل: التصاغر.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

لَيْسُوا سَواءً :

هذه الآيات الثلاث واضحة المعنى لا تحتاج إلى تفسير ، والمحصل منها ان أهل الكتاب ليسوا متساوين في الانحراف والضلال ، بل منهم جماعة طيبة صالحة ، وأكثر المفسرين حملوا هذا المدح على من أسلم من أهل الكتاب ، وحسن إسلامه عقيدة وعملا .

حكم تارك الإسلام :

ان الدعوة إلى الايمان بمحمد ( صلى الله عليه واله ) كنبي مرسل من السماء إلى أهل الأرض ما زالت قائمة ، حتى اليوم ، والى آخر يوم ، وهي موجهة إلى جميع الناس في الشرق والغرب دون استثناء : { قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً – 156 الأعراف } . أما الدليل على صدقها فمنطق العقل وثبوت المعجزة وصلاح الدين للحياة ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : « أصل ديني العقل » . وقال تعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ – 24 الأنفال } . وليس من غرضنا أن نستدل هنا على نبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) ( 2 ) . . وانما الغرض أن نبين : هل من لم يؤمن بنبوة محمد مستحق للعقاب ، أو لا بد من التفصيل ؟ .

وقبل أن نفرّق بين العالم والجاهل ، والقاصر والمقصر نشير إلى الأصول الرئيسية ، والمقاييس الأولى لاستحقاق العقاب وعدمه ، ومنها تتضح الحقيقة ، والتمييز بين الأفراد .

وقد تسالم الجميع على ان الإنسان كائنا من كان ، وعلى أي دين كان لا يستحق العقاب الا بعد قيام الحجة عليه . . ولا تقوم الحجة عليه الا بعد استطاعته الوصول إلى دليل الحق ، وقدرته على العمل به ، ومع ذلك تركه من غير مبرر ، فإذا لم يوجد على الحق دليل من الأساس ، أو وجد ، ولكن عجز الإنسان عن الوصول إليه ، أو وصل إليه ، وأدى حق النظر فيه ، حتى بلغ النهاية ، ومع ذلك خفي عليه الحق ، إذا كان كذلك فهو معذور ، لعدم إتمام الحجة عليه ، لأن من لم يثبت الحق لديه لا يعاقب على تركه الا إذا قصّر في البحث .

وأيضا من القواعد الرئيسية التي تتصل بهذا البحث قاعدة : « الحدود تدرأ بالشبهات » . فلا يجوز لنا أن نحكم على تارك الحق بأنه مجرم يستحق العقاب ، ما دمنا نحتمل ان له عذرا في تركه ، وهذه القاعدة تنطبق على جميع الناس ، لا على المسلمين فحسب ، كما انها تشمل جميع الحدود بشتى أنواعها . . ومثلها قاعدة : « من أخطأ في اجتهاده فخطؤه مغفور له » . . وهذه القاعدة عقلية لا يمكن تخصيصها بدين دون دين ، أو بمذهب دون مذهب ، أو بأصل أو بفرع . . إذا تمهد هذا نشرع بالتطبيق .

1 – أن يعيش الإنسان في بلد ناء عن الإسلام والمسلمين ، ولم تبلغه الدعوة ، وما سمع باسم محمد ( صلى الله عليه واله ) مدة حياته ، ولا مرّ بخاطره من قريب أو بعيد أن في الدنيا دينا اسمه الإسلام ، ونبيا اسمه محمد ( صلى الله عليه واله ) . . وليس من شك ان هذا معذور من حيث عدم استحقاقه للعقاب ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولقوله تعالى : « وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا – 15 الاسراء » . والعقل رسول باطني ما في ذلك ريب الا انه برهان مستقل على وجود اللَّه ، أما الدليل على ثبوت نبوة النبي فلا بد من توسط المعجزة ، وظهورها على يده ، مع حكم العقل باستحالة ظهورها على أيدي غير الأنبياء .

2 – ان يسمع بالإسلام وبمحمد ، ولكنه يفقد القدرة على التمييز بين الحق والباطل ، لقصوره وعدم استعداده لتفهم دليل الحق ومعرفته ، وهذا معذور لأنه تماما كالطفل والمجنون . . ومثله إذا لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه واله ) صغيرا تقليدا لآبائه ، وذهل عن عقيدته كبيرا ، واستمر مطمئنا إليها غير شاك ولا متردد . .

ان هذا معذور ، لأن تكليف الذاهل غير المقصر كتكليف النائم . قال المحقق القمي : ان التحرر من تقليد الآباء والأمهات لا يخطر على بال أكثر الناس ، بل يصعب غالبا على العلماء المرتاضين الذين يحسبون انهم خلعوا التقليد عن أعناقهم . .

وقال أيضا : ان من لا يتفطن لوجوب معرفة الأصول يلحق بالبهائم والمجانين الذين لا يتعلق بهم تكليف ( 3 ) . وقال الشيخ الأنصاري في الرسائل فصل الظن في الأصول ، الذي يقتضيه الانصاف بشهادة الوجدان قصور بعض المكلفين ، وبهذا قال الكليني ، وقال الشيخ الطوسي : العاجز عن التحصيل بمنزلة البهائم .

أجل ، إذا تنبه هذا الغافل من نفسه إلى وجوب المعرفة ، أو قال له قائل :

انك مبطل في عقيدتك ، ومع ذلك أصر ، ولم يبحث ويسأل فهو آثم ، لأنه مقصر ، وجهل المقصر ليس بعذر .

3 – أن لا يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه واله ) ، مع ان فيه الاستعداد الكافي الوافي لتفهم الحق ، ولكنه أهمل ولم يكترث إطلاقا ، أو بحث بحثا ناقصا ، وترك قبل أن يبلغ النظر نهايته ، كما هو شأن الأعم الأغلب ، بخاصة شباب هذا الجيل . .

وهذا غير معذور ، لأنه أخطأ من غير اجتهاد ، وتمكن من معرفة الحق ، وأهمل . . وبالأولى أن يؤاخذ ويعاقب من بحث واقتنع ، ومع ذلك رفض الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه واله ) تعصبا وعنادا .

4 – أن ينظر إلى الدليل ، وهو متجه إلى الحق بإخلاص ، ولكن لم يهتد إلى الوجه الذي يوجب الإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) ، اما لتمسكه بشبهة باطلة دون أن يلتفت إلى بطلانها ، واما لسليقة عرجاء ، وما إلى ذلك مما يصد عن رؤية الحق .

وهذا ينظر إلى حاله : فان جحد ونفى النبوة عن محمد ( صلى الله عليه واله ) بقول قاطع فهو مؤاخذ ومستحق للعقاب ، لأن من خفي عليه وجه الحق لا يجوز له أن يجزم ويقطع بنفيه إطلاقا ، فقد يكون الحق موجودا ، ومنع من الوصول إلى معرفته مانع ، وهذا هو الغالب ، فإن الأشياء الكونية موجودة في ذاتها ، ومع ذلك لا نعلم منها إلا قليلا ، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأنبياء والمصلحين . .

وأي انسان يحيط بكل شيء علما .

وقد عبّر أهل المنطق والفلسفة عن ذلك بعبارات شتى : منها عدم العلم لا يدل على العدم . . عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود . . كل من الجزم بالإثبات والنفي يحتاج إلى دليل . . وقد رأينا الكثير من العلماء الأكفاء ينسجمون مع هذه الحقيقة ، فيتهمون آراءهم ويتحفظون في أقوالهم ، ولا يتخذون من أنفسهم مقياسا للصواب ، ولا يقولون : هذا الرأي مقدس لا ريب فيه ، وما عداه ليس بشيء ، بل ينظرون إلى كل الآراء على انها عرضة للتساؤل . . ولا شيء أدل على نقص العالم من غروره بنفسه ، وتزكيته لعلمه ، وازدرائه لرأي الغير وعقيدته .

وعلى هذا ، فإن مجرد عدم اقتناع زيد من الناس بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) لا يسوّغ له نفي النبوة عن النبي الأعظم ( صلى الله عليه واله ) بقول قاطع . . وان فعل فهو مسؤول ، بخاصة بعد أن رأى العديد من الغرباء الأكفاء الذين لم يتأثروا بالوراثة والبيئة ، رآهم يؤمنون بمحمد ورسالته لا لشيء الا احتراما للحق ، واعترافا بالواقع ( 4 ) .

هذا إذا جحد ، أما إذا نظر إلى الدليل ولم يقتنع ، ولكنه لم يجحد ، بل وقف موقف المحايد من نبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) لم يثبت ، ولم ينف ، وفي الوقت نفسه نوى مخلصا أن يؤمن بالحق متى ظهر له ، تماما كالفقيه العادل ، يفتي بالشيء على نية العدول عنه متى استبان له الخطأ ، أما هذا فهو غير مسؤول ، لأن من أخطأ في اجتهاده من غير تقصير فلا يؤاخذ على خطأه بحكم العقل ، والنقل أيضا ، فعن الإمام جعفر الصادق ( علبه السلام ) : لو ان الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا . . وفي رواية ثانية : انما يكفر إذا جحد . . وقال الشيخ الأنصاري في كتابه المعروف ب « الرسائل » ، فصل « الظن في الأصول » :

« لقد دلت الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والايمان » . أي ان الجاحد كافر ، والمعتقد مؤمن ، والشاك لا كافر ولا مؤمن .

ومن الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على عدم مؤاخذة المجتهد غير المقصر إذا أخطأ فيما يعود إلى العقيدة ، من هذه الأحاديث الحديث المشهور عند السنة والشيعة : « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » .

وإذا قال قائل : ان هذا الحديث خاص بخطأ المجتهد في الأحكام الفرعية ، لا في المسائل العقائدية ، كما ادعى جماعة من العلماء .

قلنا في جوابه وجوابهم : ان المبرر لعدم مؤاخذة المجتهد في الأحكام هو احتراسه وعدم تقصيره في البحث ، وهذا المبرر موجود بالذات في المسائل العقائدية . . هذا ، إلى ان جميع الفقهاء اتفقوا ، ومنهم الذين خصوا هذا الحديث بالمجتهد في الفروع ، اتفقوا كلمة واحدة على ان القاصر الذي يعجز عن ادراك العقيدة الحقة معذور ، ونحن لا نرى أي فرق بينه وبين المجتهد الذي عجز بعد ان استنفد الجهد ، لأن كلا منهما عاجز عن معرفة ما لم يصل إليه .

والخلاصة ان من جحد الحق ، أي حق كان فهو مؤاخذ ، سواء اجتهد أم لم يجتهد إلا إذا كان قاصرا كالبهائم ، وان وقف من الحق موقفا محايدا لم يثبت ولم ينف ينظر : فإن وقف هذا الموقف دون أن يجتهد وينظر إلى الدليل ، أو اجتهد اجتهادا ناقصا فهو مؤاخذ ، وان كان قد نظر إلى الدليل ، حتى بلغ الاجتهاد نهايته فهو معذور ، على شريطة أن يبقى متجها إلى الحق عازما على العدول عن موقفه متى ظهر العكس .

وتسأل : قلت ان القاصر الذي يعجز عن معرفة العقيدة الحقة – ومنها نبوة محمد – معذور : وكذلك المجتهد غير الجاحد ، مع عدم تقصيره في الاجتهاد ، فهل معنى هذا انه يجوز لنا أن نعاملهما معاملة المسلمين في الزواج والإرث ، وما إليهما ؟.

الجواب : نريد بالعذر هنا عدم استحقاق العقاب في الآخرة . . وهذا شيء ، والزواج والإرث في هذه الحياة شيء آخر . . وكل من لا يؤمن بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) مهما كان السبب فلا يجوز أن نعامله معاملة المسلمين من حيث الإرث والزواج ، سواء أكان من الناجين غدا ، أم من الهالكين ، كما ان من قال : لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، حتى ولو كان أفسق الفاسقين ، بل ومن المنافقين أيضا .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص136-142.

2- عرضنا الأدلة عند تفسير الآية 23 – 25 من سورة البقرة ، وذكرنا طرفا من اخلاق الرسول ( صلى الله عليه واله ) في هذا المجلد عند تفسير الآية 160 من السورة التي نحن بصددها .

3- كتاب القوانين ج 2 ، ص 160 و 164 ، طبعة عبد الرحيم ، سنة 1319 هـ .

4- منهم ( ليوبولد فأيس ) النمساوي الذي أسمى نفسه محمد أسد ، وألف كتاب الإسلام على مفترق الطرق ، ومنهم ( فاغليري ) الإيطالية صاحبة كتاب دفاع عن الإسلام ، وغيرهما كثير لم تحضرني أسماؤهم . .

وسمعت أن أحد الإيرانيين وضع كتابا خاصا في أسماء من أسلم من الغربيين ، وانهم جمع غفير .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى: {ليسوا سواء} – إلى قوله: – {بالمتقين} السواء مصدر أريد به معنى الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف و الحكم فإن منهم أمة قائمة يتلون آيات الله “الخ”، ومن هنا يظهر أن قوله: {من أهل الكتاب} “الخ” في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.

وقد اختلف في قوله: {قائمة} فقيل: أي ثابتة على أمر الله، و قيل: أي عادلة، و قيل: أي ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، و الحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب و ذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان و الطاعة.

والآناء جمع إنى بكسر الهمزة أو فتحها، و قيل: إنو و هو الوقت.

والمسارعة المبادرة و هي مفاعلة من السرعة قال في المجمع،: و الفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه، وهي محمودة و ضدها الإبطاء، و هو مذموم، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه و هي مذمومة، وضدها الأناة وهي محمودة، انتهى، والظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة، والعجلة وصف للمتحرك.

والخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة، و هو جمع محلى باللام، و معناه الاستغراق، و يكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.

وقد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات، وهي الإيمان، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، والمسارعة في كل خير، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم و زملاء النبيين والصديقين و الشهداء لقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7] ، وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ، قيل: المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه.

قوله تعالى: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه}، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى: “و من تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم”: البقرة – 158، و قال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ}  – إلى أن قال – { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 331-332.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآية   (1)

الإسلام وخصيصة البحث عن الحقّ :

بعد كلّ ذلك الذم لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن ـ كما هو شأنه دائماً ـ يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كلّ من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وإنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحقّ، ولهذا يقول : {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].

أجل ليس أهل الكتاب سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كلّ من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحقّ والإيمان، وهذا هو أُسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر، بل إنما يعاديه على أساس إعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحقّ والعدل والخير، لا غير.

ثمّ إنه يستفاد من بعض الأحاديث أن الممدوحين في هذه الآية لم ينحصروا في «عبدالله بن سلام» وجماعته الذين أسلموا معه، بل شمل هذا المدح (40) من نصارى نجران و (32) من نصارى الحبشة و (8) أشخاص من أهل الروم كانوا قد أسلموا قبل ذلك، ويدل على ذلك أن الآية استخدمت لفظة «أهل الكتاب» وهو كما نعرف تعبير يعم اليهود وغيرهم.

ثمّ إنّه سبحانه قال : (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملاً للآية، ويعني بقوله أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملاً، وإن كانوا قد إرتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما إقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.

والمراد من كلمة «الكفر» هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلاً الإعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.

كيف {والله عليم بالمتقين} وكأن هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي : أن المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة، ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلمهم الله بعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للإضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبداً قليلة كانت أو كثيرة.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص403-405.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى