مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 15-17)

قال تعالى : {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [آل عمران : 15 – 17].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

لما صغر تعالى الدنيا، وزهد فيها في الآية الأولى، عظم الآخرة وشرفها، ورغب فيها في هذه الآية فقال: {قل} يا محمد لأمتك {أؤنبئكم} أخبركم {بخير من ذلكم} بأنفع لكم مما سبق ذكره في الآية المتقدمة، من شهوات الدنيا ولذاتها وزهراتها {للذين اتقوا} ما حرم الله عليهم {عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: من تحت أشجارها الأنهار. وعلى القول الآخر أخبركم بخير مما سبق للذين اتقوا عند ربهم. ثم ابتدأ فقال جنات أي: ذلك الخير جنات تجري من تحت أبنيتها الأنهار. وبين الله بهذا أن أنهار الجنة جارية أبدا، ليست كأنهار الدنيا التي يجري ماؤها تارة، وينقطع أخرى {خالدين فيها} أي: مقيمين في تلك الجنات {وأزواج مطهرة} من الحيض والنفاس وجميع الأقذار والأدناس، والطبائع الذميمة، والأخلاق اللئيمة {ورضوان من الله} ووراء هذه الجنات رضوان من الله {والله بصير بالعباد} أي: خبير بأفعالهم، وأحوالهم.

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }

ثم وصف المتقين الذين سبق ذكرهم في قوله {للذين اتقوا} فقال:

{الذين يقولون} أي: المتقين القائلين {ربنا إننا آمنا} أي: صدقنا الله ورسوله {فاغفر لنا ذنوبنا} أي: استرها علينا، وتجاوزها عنا {وقنا} أي: وادفع عنا {عذاب النار}. ثم وصفهم بصفات أخر، ومدحهم وأثنى عليهم فقال:

{الصابرين} أي: على فعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه. وإن شئت قلت الصابرين على الطاعة وعن المعصية {والصادقين} في إيمانهم وأقوالهم.

{والقانتين} قيل: المطيعين، عن قتادة. وقيل: الدائمين على الطاعة والعبادة، عن الزجاج. وقيل: القائمين بالواجبات، عن القاضي {والمنفقين} أموالهم في سبيل الخير. ويدخل فيه الزكاة المفروضة، والتطوع بالإنفاق {والمستغفرين بالأسحار} المصلين وقت السحر، عن قتادة، ورواه الرضا عن أبيه ” عليه السلام ” عن أبي عبد الله ” عليه السلام “. وقيل: السائلين المغفرة في وقت السحر، عن أنس. وقيل: المصلين صلاة الصبح في جماعة، عن زيد بن أسلم. وقيل: الذين ينتهي صلاتهم إلى وقت السحر، ثم يستغفرونه ويدعون، عن الحسن.

وروي عن أبي عبد الله أن من استغفر الله سبعين مرة في وقت السحر، فهو من أهل هذه الآية. وروى أنس بن مالك عن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” أنه قال: ” إن الله، عز وجل، يقول: إني لأهم بأهل الأرض عذابا، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي، وإلى المتهجدين، والى المتحابين في، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفته عنهم “.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص254-255.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ :

 { قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ } .

ذكر سبحانه أولا حب الناس للنساء والمال والبنين ، ثم نعت هذه الأشياء وما إليها بمتاع الحياة الدنيا ، والدنيا بما فيها إلى زوال ، ثم بيّن ان اللَّه عنده حسن المآب ، أي ان الإنسان بعد رجوعه إلى ربه يجد عنده خيرا من النساء والمال والبنين ، ومن الدنيا كلها ، ثم فصّل في هذه الآية ، وهي : قل أأنبئكم الخ ما أجمله في الآية السابقة ، وهو قوله : { واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }.

جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ } . هذه الثلاثة هي خير من النساء والمال والبنين ، وهي حسن المآب : الأول منها جنات لا تزول كالحرث والخيل والانعام ، الثاني : أزواج مطهرة من الحيض والأحداث والأخباث ، ومن كل ما تنفر النفوس منه ، الثالث :

رضوان اللَّه ، وهو أكبر وأعظم من الدنيا والآخرة مجتمعتين ، كل ذلك جعله اللَّه جزاء لمن خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى .

الصَّابِرِينَ والصَّادِقِينَ والْقانِتِينَ والْمُنْفِقِينَ والْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحارِ } الصابر هو الذي يكافح ويناضل متكلا على اللَّه ، ويرضى بنتيجة كفاحه مهما تكن ، والصادق هو الذي يؤثر الصدق ، حيث يضره على الكذب ، حيث ينفعه ، والقانت هو العابد المطيع ، والمنفق هو الذي ينفق أمواله على نفسه وعياله ، وفي سبيل اللَّه ، والسحر هو الوقت الذي قبل الفجر ، وهو خير الأوقات كلها للعبادة والدعاء ، كما جاء في الحديث ، لأنه أبعد عن شبهة الرياء ، ولأنه الوقت الذي يطيب فيه النوم ، ويشق القيام ، وأفضل الأعمال أشقها وأحمزها ، مع العلم بأن خدمة الإنسان أفضل من عامة الصلاة والصيام .

ثمرة الإيمان :

وهذه الأوصاف الخمسة ، أي الصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار هي ثمرة لأصول الدين الثلاثة ، وأعني بها الإيمان باللَّه الواحد الأحد ، ونبوة محمد ( صلى الله عليه واله  ) وباليوم الآخر . ان هذه الأصول ليست مجرد شعار ديني يرفعه الإسلام ، ويكتفي به ، بل لها ثمرات وحقائق يجمعها الخلق الكريم ، والعمل النافع في الحياة ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ان كل أصل من أصول الإسلام ، وكل فرع من فروعه يقوم على هذا المبدأ ، مبدأ ربط الدين بالعمل من أجل الحياة :

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 142].

وتواتر في الحديث ان أفضل أنواع العبادات والطاعات هو العمل لحياة أفضل ، وان أكبر الكبائر والمعاصي هو الفساد والعدوان على العباد ، قال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله  ) : أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا أدخل على قلب أخيه مسرة . .

وقال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ، وقال حفيده الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ان للَّه عبادا ميامين يعيشون ويعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده مثل القطر ، وان للَّه عبادا ملاعين يعيشون ولا يعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده بمنزلة الجراد ، لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص21-23.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات(1) :

قوله تعالى: {قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات} إلى آخر الآية، الآية مسوقة لبيان قوله: {والله عنده حسن المآب} و قد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة أمور هي خير للإنسان لكونها باقية و حسنة حقيقة من غير بطلان، و هي أمور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها و آثارها غير أنها خالية عن القبح و الفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها، و هي الجنة و مطهرات الأزواج و رضوان الله تعالى.

وقد اختصت الأزواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان، و لذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله: {من النساء و البنين و القناطير المقنطرة} “الخ”.

وأما الرضوان بكسر الراء و ضمها فهو الرضا و هو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه و يدافعه، و يقابله السخط .

وقد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه، وهو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالأوصاف و الأحوال وغير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة، ولذلك ربما قوبل بينه و بين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته، و رضى العبد عنه لجزائه الحسن أو لحكمة كقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [البينة: 8] ، و قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28] ، و قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].

و ذكر الرضوان هاهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمرا هو كذلك عنى بذكره في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية، و كذا في مقابل الفضل و الرحمة في قوله: {فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2] ، و قوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20] ، و قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21].

و لعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه و في قوله تعالى: رضي الله عنهم الآية و قوله: راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم، و الرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيئول إلى معنى قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق: 35] ، ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان.

و من هنا يظهر: أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها و خاصة القناطير المقنطرة من بينها أفادته إطلاق المشية و أعطته سعة القدرة فله ما يشاء، و عنده ما يريد.

وقد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء.

قوله تعالى : {و الله بصير بالعباد}.

لما تحصل من هذه الآية و التي قبلها: أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين الدنيا و الآخرة نعما يتنعم بها و مآرب أخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج، و ما يؤكل و يشرب، والملك و نحوها، و هي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر والمؤمن مبذول لهما معا وما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك، وبلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله : {و الله بصير بالعباد}، و معناه: أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن و الكافر ليس مبنيا على العبث و الجزاف تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق و الله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق و هو التقوى في المؤمن دون الكافر، و قد وصف هذا التقوى وعرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله :{ الذين يقولون ربنا} إلى آخر الآيتين و ملخصه: أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم و عدم استغنائهم عنه، و يصدقون ذلك بالعمل الصالح ولكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا و ينسى آخرته و عاقبة أمره.

ومن ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى: ذلك متاع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم إلى آخر الآية و ما في معناهما من الآيات كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] ، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة.

أما الإشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها و أعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى و الأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده و يحفظ بها بقاءه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية و أن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث.

فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه، وإنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه و إنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء، و أيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات و القوى الفعالة و المترتبة ليحفظ بقاء نوعه و الأمر في وجود النبات و الحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان.

ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها و خاصة في تسخير ذوات الشعور منها و هي الحيوان و الإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها و إيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ و هي لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها و هي بقاء الوجود و تغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة، و يلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها ويلعب بها، فلو لا ما في الغذاء و النكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء، و بطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع فيه لذة الغذاء و لذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب وعناء و يقاسي كل مصيبة وبلاء، و هو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور، وأما الصنع و الخلقة فينال بغيته و يبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد و قد حصل بالتغذي، و إلا بقاء وجود النوع و قد حصل بالنكاح والسفاد ولم يبق للإنسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال.

وإذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض، فلذة الأكل و الشرب و جميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل و فساد التركيب و هو الموت، و لذة النكاح و جميع اللذائذ المرتبطة به و هي أمور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء و الاضمحلال، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت و لا فناء و حيوة مأمونة من كل شر و مكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع؟ و أي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن و أعضاؤه كالكلي و المثانة و الطحال و الكبد و غيرها و جميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد؟.

و أما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا و النعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة و يتعلق بها كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف: 7]، و قال {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 46] ، و قال: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] ، و قال – و هو أجمع للغرض -: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] ، و قال أيضا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] ، إلى غير ذلك من الآيات، و جميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا، و اللذائذ المتعلقة بها أمور مقصودة لأجل الحيوة و أمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة و لا مخلوقة، و هذا هو حق الأمر!.

لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث هاهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور، و ليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن و على بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر و القوى الفعالة فيها، و لو فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود و لا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك.

فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا و يأكل و يشرب و ينكح و يتصرف في كل شيء بالأخذ و الإعطاء و يحس و يتخيل و يعقل و يسر و يفرح و يبتهج و هكذا، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها و بعضها مقدمة لبعضها، و هو السائر الدائر في مثل مسافة دورية.

فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء و كتب عليه الخلود و الدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بإبطال وجوده و إيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم و مصائب من سنخ نقم الدنيا و مصائبها.

وكل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك.

فالإنسان هو الإنسان وما يحتاج إليه و يستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه و يستكمل به من مطالبه و مقاصده و إنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء و ما يلحق به.

هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12 – 16] ، انظر إلى موضع قوله: و لقد خلقنا، و الخلق هو الجمع و التركيب، و إلى موضع قوله: {ثم أنشأناه}، الدال على تبديل نحو الخلق و الإيجاد، و إلى موضع قوله: ثم إنكم يوم القيامة، و المخاطب به هو الذي أنشىء خلقا آخر.

ويقول أيضا: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها و من نقمها.

وتقدم بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [البقرة: 213].

وقد قال تعالى في هذه النعم الأرضية: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14] ثم قال: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26] ، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا في الآخرة يتمتع به، و هذا من أبدع البيان، و باب ينفتح به للمتدبر ألف باب، وفيه تصديق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.

وبالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة و هو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته و شقائه أي ما يراه فوزا و فلاحا لنفسه و ما يراه خيبة و خسرانا فيعطى سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها و هما نعيم الجنة وعذاب النار.

وبعبارة أخرى واضحة، للإنسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة و شقاء بحسبها في بقائه شخصا و نوعا وهما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل و الشرب و النكاح و قد زينت له بلذائذ مقدمية و هذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال و أخذ في الفعالية بالشعور و الإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره و إرادته فما لا يشعر به ولا يشاؤه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد و إن كان كمالا طبيعيا و كذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به و إن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن و المال و الولد، ونلتذ بما نشعر به من اللذائذ و إن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحة و نظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الإنسان و إن كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقاء مخلدا كانت سعادته هي التي يشاؤها من اللذائذ، و شقاؤه هو الذي لا يشاؤه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن، إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به و يشاؤه، و شره فيما يعلم به و لا يريده.

فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل و الشرب و النكاح و ما فوق ذلك و هو الجنة، و شقاؤه أن لا ينال ذلك و هو النار.

قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [النحل: 31].

قوله تعالى: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار} وصف للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة: للذين اتقوا، فوصفهم أنهم يقولون ربنا و فيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية و استرحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم: {إننا آمنا}، و الجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فإن المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم، قال تعالى: {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] ، و لذلك فرعوا عليه قولهم: فاغفر لنا ذنوبنا، بفاء التفريع.

و في تأكيد قولهم بأن دلالة على صدقهم و ثباتهم في إيمانهم.

و المغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به و عبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان و الإطاعة أيضا من نعمه و لا يملك غيره تعالى منه شيئا إلا ما جعله على نفسه من حق، و من الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم و يقيهم عذاب النار إن آمنوا به، قال تعالى: {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف: 31].

و ربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة و الجنة كقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 10 – 12] ، فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، و هذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه إن وفقنا له.

قوله تعالى: الصابرين و الصادقين إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق، فالصبر لسبقه على بقية الخصال و إطلاقه يشمل أقسام الصبر، و هي ثلاث: صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية، و صبر عند المصيبة.

والصدق و إن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول و فعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر و القنوت و غيرهما و ليس بمراد فالمراد به و الله أعلم الصدق في القول فحسب.

و القنوت هو الخضوع لله سبحانه و يشمل العبادات و أقسام النسك و الإنفاق هو بذل المال لمن يستحق البذل و الاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل و الاستغفار فيه، و السنة تفسره بصلوة الليل و الاستغفار في قنوت الوتر، و قد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل و الدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل و التهجد به: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } [الإنسان: 29] [المزمل: 19].
____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 93-99.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات(1) :

هذه الآية توضّح الخطّ البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اُشير إليه في الآية السابقة. تقول الآية : هل أُخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادّية المحدودة في الدينا، تلك الحياة فيها كلّ ما في هذه الحياة من النِعم لكنّها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين. {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ}

بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها : {تجري من تحتها الأنهار}.

ونِعمها دائمة أبدية، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال : {خالدين فيها}.

نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهنّ ولا أرواحهنّ نقطة ظلام وخبث : {وأزواج مطهّرة}.

كلّ هذا بانتظار المتّقين. وأسمى من ذلك كلّه، النِعم المعنوية التي تفوق كلّ تصورّ وهي {رضوان من الله}.

نلاحظ أنّ الآية تبدأ بجملة : «أُونّبؤكم» الإستفهامية الموجّهة إلى الفطرة الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق، ثمّ إنّ الإستفهام ينصّ على «الإنباء» التي تستعمل للإدلاء بخبر مهمّ جدير بالاستيعاب.

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية الممزوجة بالمعصية، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كلّ نقص وعيب. إلاَّ أنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتّعوا بها بصورة مشروعة.

هل في الجنّة لذائذ مادّية أيضاً ؟

يظنّ بعضهم أنّ اللذائذ المادّية مقتصرة على الحياة الدنيا، وأنّ الحياة الأُخرى خالية منها، وأنّ جميع ما جاء في القرآن عن الجنّات والفواكه والمياه الجارية والأزواج الطاهرة إنّما هي كناية عن مقامات ونِعم معنوية من باب «كلّم الناس على قدر عقولهم»(2).

ولكنّنا ينبغي أن نقول : إنّنا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني إستناداً إلى الكثير من آيات القرآن الصريحة، فلابدّ من وجود نِعم تناسب الجسم والروح وبمستوى أرفع وأعلى. وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما : ما يناسب المعاد الجسماني، وما يناسب المعاد الروحي.

في الواقع، إنّ الذين يعتبرون نِعم الآخرة المادّية كناية عن نِعم معنوية، إنّما يؤوّلون ظاهر آيات القرآن دون سبب، كما أنّهم ينسون المعاد الجسماني وما يقتضيه.

ولعلّ جملة {والله بصير بالعباد} التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه الحقيقة، أي أنّه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر، وما هي متطلّبات كلّ منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه.

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا} [آل عمران: 16].

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتّقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بِنِعم الله العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة.

1 ـ إنّهم يتوجّهون إلى الله بكلّ جوارحهم، والإيمان يضيء قلوبهم، ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كلّ أعمالهم، ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة، فيطلبون مغفرته والنجاة من النار : {فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}.

2 ـ مثابرون صابرون ذوو همّة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم لله وتجنّبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والإجتماعية (الصابرين).

3 ـ صادقون ومستقيمون، وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر، ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث (والصادقين).

4 ـ في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك (والقانتين)(3).

5 ـ لاينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل الله، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع (والمنفقين).

6 ـ في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله، وتلهج كلّ ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه {والمستغفرين بالأسحار}.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص218-220.

2- أصول الكافي ، ج1 ،ص23.

3 ـ «قانتين» من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع امام الله وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى