مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 18-20)

قال تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 18 – 20].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

لما قدم تعالى ذكر أرباب الدين، أتبعه بذكر أوصاف الدين فقال:

{شهد الله أنه لا إله إلا هو} أي: أخبر الله بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيته، من عجيب صنعته، وبديع حكمته. وقيل: معنى شهد الله قضى الله، عن أبي عبيدة.

قال الزجاج: وحقيقته علم الله، وبين ذلك، فإن الشاهد هو العالم الذي يبين ما.

علمه ومنه: شهد فلان عند القاضي أي: بين ما علمه. فالله تعالى قد دل على توحيده بجميع ما خلق، وبين أنه لا يقدر أحد أن ينشئ شيئا واحدا مما أنشأه.

{والملائكة} أي: وشهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته {وأولوا العلم} أي: وشهد أولوا العلم بما ثبت عندهم، وتبين من صنعه الذي لا يقدر عليه غيره. وروي عن الحسن أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: شهد الله أنه لا إله إلا هو {قائما بالقسط} وشهدت الملائكة أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، وشهد أولوا العلم أنه {لا إله إلا هو} قائما بالقسط. والقسط: العدل الذي قامت به السماوات والأرض، ورواه أصحابنا أيضا في التفسير. وأولوا العلم هم علماء المؤمنين، عن السدي والكلبي. وقيل: معنى قوله {قائما بالقسط} أنه يقوم بإجراء الأمور، وتدابير الخلق، وجزاء الأعمال بالعدل، كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي: يجري أفعاله على الاستقامة. وإنما كرر قوله: {لا إله إلا هو} لأنه بين بالأول أنه المستحق للتوحيد، لا يستحقه سواه. وبالثاني أنه القائم برزق الخلق وتدبيرهم بالعدل لا ظلم في فعله.

{العزيز الحكيم} مر تفسيره. وتضمنت الآية الإبانة عن فضل العلم والعلماء، لأنه تعالى قرن العلماء بالملائكة، وشهادتهم بشهادة الملائكة، وخصهم بالذكر، كأنه لم يعتد بغيرهم. والمراد بهذا العلم التوحيد، وما يتعلق به من علوم الدين، لأن الشهادة وقعت عليه.

ومما جاء في فضل العلم والعلماء من الحديث ما رواه جابر بن عبد الله، عن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” أنه قال: ” ساعة من عالم يتكئ على فراشه، ينظر في علمه، خير من عبادة العابد سبعين عاما “. وروى أنس بن مالك عنه ” صلى الله عليه وآله وسلم ” قال: ” تعلموا العلم، فإن تعلمه لله حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وتذكرة لأهله لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة والنار، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والقرب عند الغرباء. يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم، ويقتفى آثارهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتهم تستغفر لهم. وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحار وهوامها، وسباع الأرض وأنعامها، والسماء ونجومها. ألا وإن

العلم حياة القلوب، ونور الأبصار، وقوة الأبدان. يبلغ بالعبد منازل الأحرار، ومجلس الملوك، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يعرف الحلال والحرام، وبه توصل الأرحام. والعلم إمام العمل، والعمل تابعه، يلهم السعداء، ويحرم الأشقياء “.

ومما جاء في فضل هذه الآية ما رواه أنس عن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” قال: ” من قرأ {شهد الله} الآية عند منامه، خلق الله منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة “. الزبير بن العوام قال: قلت لأدنون هذه العشية من رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم “، وهي عشية عرفة، حتى أسمع ما يقوله. فحبست ناقتي بين ناقة رسول الله، وناقة رجل كان إلى جنبه، فسمعته يقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} الآية. فما زال يرددها حتى رفع. غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريبا من الأعمش، فكنت أختلف إليه. فلما كنت ذات ليلة، أردت أن أنحدر إلى البصرة، قام من الليل يتهجد، فمر بهذه الآية {شهد الله أنه لا إله إلا هو} الآية. ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة. إن الدين عند الله الاسلام. قالها مرارا. قلت: لقد سمع فيها شيئا. فصليت معه وودعته، ثم قلت: آية سمعتك ترددها فما بلغك فيها؟ قال: لا أحدثك بها إلى سنة. فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة. فلما مضت السنة، قلت: يا أبا محمد! قد مضت السنة. فقال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم “: يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: إن لعبدي هذا عهدا عندي، وأنا أحق من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي هذا الجنة.

وقال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت {شهد الله أنه لا إله إلا هو} الآية. خررن سجدا. وقوله: {إن الدين} أي:

الطاعة {عند الله} هو {الاسلام} وقيل: المراد بالإسلام التسليم لله ولأوليائه، وهو التصديق. وروي عن أمير المؤمنين ” عليه السلام ” في خطبة له أنه قال: لأنسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الاسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل. رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال: ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه: إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، وإن الكافر يعرف كفرانه بإنكاره. أيها الناس! دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره. إن السيئة فيه تغفر، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

{وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} معناه: وما اختلف اليهود والنصارى في صدق نبوة محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم “، لما كانوا يجدونه في كتبهم بنعته وصفته ووقت خروجه {إلا من بعد ما جاءهم العلم} بعد ما جاءهم العلم. ثم أخبر عن علة اختلافهم، فقال: {بغيا بينهم} أي: حسدا وتقديره: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم، إلا من بعد ما جاءهم العلم. والعلم المذكور يجوز أن يراد به البينات التي هي طرق العلم، فيدخل فيه المبطلون من أهل الكتاب، علموا أو لم يعلموا.

ويحتمل أن يراد به نفس العلم، فلا يدخل فيه إلا من علم بصفة محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم ” وكتمه عنادا.

وقيل: المراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود. والكتاب: التوراة، لما عهد موسى ” عليه السلام ” إليهم، وأقام فيهم يوشع بن نون، ومضى ثلاثة قرون واختلفوا، عن الربيع. وقيل: المراد بالذين أوتوا الكتاب: النصارى. والكتاب: الإنجيل، واختلفوا في أمر عيسى ” عليه السلام “، عن محمد بن جعفر بن الزبير. وقيل: خرج مخرج الجنس، ومعناه كتب الله المتقدمة، واختلفوا بعدها في الدين، عن الجبائي.

{ومن يكفر بآيات الله} أي: بحججه. وقيل: بالتوراة والإنجيل، وما فيهما من صفة محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم “. وقيل: بالقرآن، وما دل عليه {فإن الله سريع الحساب} أي:

لا يفوته شيء من أعمالهم. وقيل: معناه سريع الجزاء. وحقيقة الحساب أن تأخذ ما لك، وتعطي ما عليك.

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

لما قدم الله سبحانه ذكر الإيمان والإسلام، خاطب نبيه فقال {فإن حاجوك} المعنى: فإن حاجك وخاصمك النصارى، وهم وفد نجران {فقل} يا محمد {أسلمت وجهي لله} وفيه وجهان أحدهما: إن معناه. انقدت لأمر الله في إخلاص التوحيد له، والحجة فيه أنه ألزمهم على ما أقروا من أن الله خالقهم، اتباع أمره في أن لا يعبدوا إلا إياه والثاني: إن معناه أعرضت عن كل معبود دون الله، وأخلصت قصدي بالعبادة إليه. وذكر الأصل الذي يلزم جميع المكلفين الإقرار به، لأنه لا يتبعض فيما يحتاج إلى العمل عليه في الدين الذي هو طريق النجاة من العذاب إلى النعيم. ومعنى وجهي هنا: نفسي، وأضاف الاسلام إلى الوجه، لأن وجه الشئ أشرف ما فيه، لأنه يجمع الحواس، وعليه يظهر آية الحزن والسرور. فمن أسلم وجهه فقد أسلم كله، ومنه قوله {كل شئ هالك إلا وجهه}.

{ومن اتبعني} أي: ومن اهتدى بي في الدين من المسلمين، فقد أسلموا أيضا كما أسلمت {وقل} يا محمد {للذين أوتوا الكتاب} يعني اليهود والنصارى {والأميين} أي: الذين لا كتاب لهم، عن ابن عباس وغيره، وهم مشركو العرب.

وقد مر تفسير الأمي واشتقاقه عند قوله: {ومنهم أميون} {أأسلمتم} أي: أخلصتم كما أخلصت، لفظه لفظ الاستفهام وهو بمعنى التوقيف والتهديد، فيكون متضمنا للأمر، فيكون معناه: أسلموا فإن الله تعالى أزاح العلل، وأوضح السبل. ونظيره:

{فهل أنتم منتهون} أي: انتهوا. وهذا كما يقول الانسان لغيره، وقد وعظه بمواعظ: أقبلت وعظي؟ يدعوه إلى قبول الوعظ.

{فإن أسلموا فقد اهتدوا} إلى طريق الحق {وإن تولوا} أي: كفروا ولم يقبلوا، وأعرضوا عنه. {فإنما عليك البلاغ} معناه: فإنما عليك أن تبلغ وتقيم الحجة، وليس عليك أن لا يتولوا {والله بصير بالعباد} معناه هاهنا: إنه لا يفوته شئ من أعمالهم التي يجازيهم بها، لأنه يصير بهم أي: عالم بهم وبسرائرهم، لا يخفى عليه خافية. وقيل: معناه عالم بما يكون منك في التبليغ، ومنهم في الإيمان والكفر.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص257-262.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

الله والْمَلائِكَةُ وأُولُوا العلم :

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهً إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهً إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }. شهادة اللَّه لنفسه بالوحدانية عبارة عن أفعاله التي لا يقدر عليها إلا هو ، قال تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه الْحَقُّ أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ – 53 فصلت . أما شهادة الملائكة للَّه بالوحدانية فلأنهم مفطورون على الايمان . والمراد بأولي العلم هنا الأنبياء وجميع العلماء باللَّه الذين أقامهم مقام الأنبياء في الدعوة إليه سبحانه ، وشهادة العالم تقترن بالحجة التي من شأنها أن تقنع طالب الحقيقة ، والمراد بالقسط في قوله : ( قائِماً بِالْقِسْطِ ) العدل في الدين والشريعة ، وفي سنن الطبيعة ونظامها ، قال تعالى : { وما خَلَقْنَا السَّماءَ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ – 16 الأنبياء } .

وتسأل : ما هو الغرض من تكرار « لا إِلهً إِلَّا هُوَ » في آية واحدة ؟ .

الجواب : ان المعروف من طريقة القرآن أن يكرر ويؤكد أصول العقيدة والمبادئ الهامة بخاصة الوحدانية دفعا لكل شبهة ، وتكلمنا عن التكرار بفقرة مستقلة عند تفسير الآية 48 من سورة البقرة ، وقيل : ان الغرض من قوله أولا : لا إله إلا هو ان يعلم انه هو وحده يستحق العبادة ، ومن قوله ثانية :

لا إله إلا هو ان يعلم انه لا أحد يقوم بالعدل سواه .

ان الدين عند اللَّه الإسلام :

وتسأل : ان ظاهر هذه الآية يدل على ان جميع أديان الأنبياء ، حتى دين إبراهيم وغيره من الأنبياء ليست بشيء عند اللَّه الا دين محمد فقط ، مع العلم بأن كل ما جاء به الأنبياء حق وصدق باعتراف محمد ( صلى الله عليه واله  ) والقرآن ؟ .

الجواب : ان هذه الآية تدل تماما على العكس مما تقول ، فإن ظاهرها ينطق بلسان مبين أن كل دين جاء به نبي من الأنبياء السابقين يتضمن في جوهره الدعوة الاسلامية التي دعا إليها محمد بن عبد اللَّه ( صلى الله عليه واله  ) . واليك هذه الحقائق الثلاث :

1 – ان الإسلام يرتكز قبل كل شيء على أصول ثلاثة : الايمان باللَّه ووحدانيته ، والوحي وعصمته ، والبعث وجزائه . . وكلنا يعلم علم اليقين ، ويؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأن اللَّه سبحانه ما أرسل نبيا من الأنبياء الا بهذه الأصول ، لاستحالة تبديلها أو تعديلها ، ولذا قال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله  ) : « إنّا معاشر

الأنبياء ديننا واحد » . . وقال : « الأنبياء اخوة لعلات ، أبوهم واحد ، وأمهاتهم شتى . »

2 – ان لفظ الإسلام يطلق على معان ، منها الخضوع والاستسلام ، ومنها الخلوص والسلامة من الشوائب والأدران ، وليس من شك ان كل دين جاء به نبي من أنبياء اللَّه فهو خالص وسالم من الشوائب ، وعلى هذا يصح أن نطلق اسم الإسلام على دين الأنبياء جميعا .

3 – ان مصدر القرآن واحد لا اختلاف بين آياته كثيرا ولا قليلا ، بل ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض – كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) – فإذا وردت فيه آية في مسألة من المسائل ، أو موضوع من الموضوعات فلا يجوز أن ننظر إليها مستقلة ، بل يجب أن نتتبع كل آية لها صلة بتلك المسألة ، وذاك الموضوع ، ونجمعها جميعا في كلام واحد ، معطوفا بعضها على بعض ، ثم نستخرج معنى واحدا من الآيات المتشابكة ، مجتمعة لا متفرقة ( 1 ) .

وإذا نظرنا إلى الآيات المشتملة على لفظ الإسلام في ضوء هذه الحقائق نجد أن اللَّه سبحانه قد وصف جميع الأنبياء بالإسلام في العديد من الآيات ، وبذلك نعلم ان الحصر في قوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ } هو حصر لجميع الأديان الحقة بالإسلام ، لا حصر للإسلام بدين دون دين من الأديان التي جاء بها الأنبياء من عند اللَّه . . والسر في ذلك ما أشرنا إليه من أن جميع أديان الأنبياء تتضمن الدعوة الاسلامية في حقيقتها وجوهرها ، عنيت الإيمان باللَّه والوحي والبعث . . والتنوع والاختلاف انما هو في الفروع والأحكام ، لا في أصول العقيدة والإيمان .

وتعال معي الآن لنقرأ الآيات التي وصف بها اللَّه أنبياءه بالإسلام من عهد نوح ( عليه السلام ) إلى عهد محمد ( صلى الله عليه واله  ) . قال تعالى في حق نوح : {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ – إلى قوله – وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس- 72] .

وقال تعالى في إبراهيم ويعقوب : {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة : 130 – 132] .

وقال عن يوسف : {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 101].

وقال عن موسى : {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]

وقال عن أمة عيسى : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [المائدة : 111] .

والآية التي هي أصرح من الكل ، وتعم الأولين والآخرين من الأنبياء وتابعيهم ، وتابعي التابعين قوله تعالى في الآية 85 من سورة آل عمران : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85] . وإذا لم يقبل اللَّه إلا من المسلمين ، وقد قبل من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجميع النبيّين(عليهم السلام) ، والتابعين لهم بإحسان فتكون النتيجة الحتمية ان النبيين من عهد آدم ، حتى محمد ( صلى الله عليه واله  ) والمؤمنين بهم كلهم من المسلمين .

قال الإمام علي ( عليه السلام ) : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل .

ومَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } . قيل :

المراد بأهل الكتاب هنا اليهود . وقيل : بل النصارى . وقيل : هما معا ، وهو الصواب ، لأن اللفظ عام ، ولا دليل على التخصيص ، ويؤيد العموم ان اللَّه سبحانه أشار إلى اختلاف النصارى بعضهم مع بعض في الآية 14 من سورة المائدة : { ومِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } . وأشار إلى اختلاف اليهود في الآية 64 من السورة المذكورة : { وقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ – إلى قوله – وأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } .

ومن الأمور التي اختلف فيها اليهود الحياة بعد الموت . . فبعض فرقهم تقول :

لا بعث أبدا لا في هذه الحياة ، ولا في غيرها ، وان عقاب المسيء ، وثواب المحسن يحصلان في هذه الحياة . وتقول فرقة أخرى : ان الصالحين من الأموات ينشرون في هذه الأرض ثانية ، ليشتركوا في ملك المسيح الذي يأتي في آخر الزمن ، كما نقل عنهم ، إلى غير ذلك من الاختلافات .

أما العقيدة المسيحية فقد تطورت ، واجتازت أكثر من مرحلة قبل أن تستقر على التثليث ، فقد كانت في البدء تدعو إلى عبادة إله واحد ، ثم انقسم المسيحيون فرقتين : فرقة جنحت إلى الشرك ، وفرقة بقيت على التوحيد ، ثم اختلفوا فيما بينهم : هل لعيسى طبيعتان : إلهية ، وأخرى ناسوتية ، أو طبيعة إلهية فقط ؟

إلى غير ما هو مسطور في كتب تاريخ الأديان ، وقد أدت الاختلافات الدينية المسيحية إلى مجازر لا مثيل لفظاعتها في تاريخ الانسانية .

ولم يكن اختلاف كل من اليهود والنصارى فيما بينهم عن جهل بالحقيقة ، فقد جاء اليهود العلم بالبعث والنشر ، كما جاء النصارى العلم بأن عيسى عبد من عباد اللَّه ، ولكنهم اختلفوا لإرادة العلو في الأرض بالبغي والفساد .

تفترق أمتي 73 فرقة :

اشتهر عن النبي ( صلى الله عليه واله  ) انه قال : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .

وقد كثر الكلام وطال حول هذا الحديث ، فمن قائل : انه ضعيف لا يعول عليه . وقائل : انه خبر واحد ، وهو ليس بحجة في الموضوعات . وقال ثالث :

إن « كلها في النار » من دسائس الملاحدة للتشنيع على المسلمين . ورواه رابع

بلفظ « كلها في الجنة الا الزنادقة » . ونحن على شك من هذا الحديث ، لأن الأصل عدم الأخذ بما ينسب إلى الرسول ( صلى الله عليه واله  ) حتى يثبت العكس . . ولكن إذا خيّرنا بين : كلها في النار ، وبين : كلها في الجنة ، نختار الجنة على النار . . أولا انها أقرب إلى رحمة اللَّه . ثانيا ان الفرق الإسلامية على أساس الاختلاف في الأصول لا تبلغ 73 ، والاختلاف في الفروع لا يستدعي الدخول في النار ، لأن الخطأ فيها مغتفر إذا حصل مع التحفظ ، وبعد الجد والاجتهاد . . وما أبعد ما بين هذا الحديث المنسوب إلى النبي ( صلى الله عليه واله  ) وقول ابن عربي في كتاب الفتوحات :

لا يعذّب أحد من أمة محمد ( صلى الله عليه واله  ) ببركة أهل البيت . . ( أنظر تفسير الآية 39 من سورة البقرة ، فقرة أهل البيت ) .

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ } . . كثيرا ما يبتلى العالم المحق بالمبطل اللجوج . . ولا دواء لهذا الا الإعراض عنه . . ومن خاصم المشاكس المشاغب شاركه في الإثم . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : من بالغ في الخصومة أثم . .

ومن أجل هذا ، أمر اللَّه نبيه الكريم أن يترك المبطلين المعاندين وشأنهم ، حيث لا مزيد من البينات والبراهين ، { انما عليك وعلينا الحساب }.

{ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ } أي اليهود والنصارى { والأُمِّيِّينَ } أي مشركي العرب ، ونسبهم اللَّه إلى الأمية لجهلهم بالقراءة والكتابة الا النادر { أَأَسْلَمْتُمْ } بعد ما جاءتكم البينات {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } . حيث لا شيء وراء الإسلام الا الكفر والضلال ، والا الزيغ والباطل { وإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ } .

وبالبلاغ تنتهي وظيفة الرسول عن اللَّه ، إذ به تتم الحجة { واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ } يعامل كلا بما هو أهل له .

والذي نستفيده من هذه الآية ان اللَّه سبحانه قد اختار محمدا ( صلى الله عليه واله  ) لرسالته ، وانه قد رسم له منهجا لتبليغها ، وهو الدعوة بالحجة والبرهان ، مع ضبط النفس ، وتجنّب الخصومة مع اللجوج المعاند ، وبهذا الأسلوب الحكيم تتم الحجة على من خالف وعاند ، ولم يبق له من عذر يتشبث به ، ويلجأ إليه . . وأولى الناس باتباع الرسول والسير على منهجه هم أهل العلم بدينه وشريعته ، الداعون إلى الأخذ بتعاليمه وسنته .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص24-30.

2- وأوضح مثال على ذلك ما ذكرناه عند تفسير الآية 7 من هذه السورة . . فقد وصف اللَّه سبحانه كتابه بأن جميع آياته محكمة ، حيث قال في الآية 1 من سورة هود : { كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ } .

ووصفه بأن آياته كلها متشابهة في الآية 23 الزمر : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً } ووصف بعض آياته بالمحكمة وبعضها بالمتشابهة بقوله : { مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ } – آل عمران 7 . انظر تفسير هذه الآية لترى وجه الجمع .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات(1) :

قوله تعالى : {شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط }، أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور وحس ثم استعمل في أدائها و إظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل و التأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق و الواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظ ا على الحق و الواقع، فبهذه العناية كان التحمل و التأدية كلاهما شهادة أي حفظا وإقامة للحق و القسط هو العدل.

ولما كانت الآيات السابقة أعني قوله : {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا}، إلى قوله :{ والمستغفرين بالأسحار}، تبين : {أن الله سبحانه لا إله غيره و لا يغني عنه شيء}، وأن ما يحسبه الإنسان مغنيا عنه و يركن إليه في حيوته ليس إلا زينة و إلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه و لا ينال إلا بتقوى الله تعالى، و بعبارة أخرى : هذه النعم التي يحن إليها الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر و المؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه.

فشهد و هو الله عز اسمه على أنه لا إله إلا هو و إذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الأسباب إذ لو أغنى شيء من هذه منه شيئا لكان إلها دونه أو معتمدا إلى إله دونه منتهيا إليه و لا إله غيره.

شهد بهذه الشهادة و هو قائم بالقسط في فعله، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الأسباب و المسببات و إلقاء الروابط بينها، و جعل الكل راجعا إليه بالسير و الكدح و التكامل و ركوب طبق، عن طبق و وضع في مسير هذا المقصد نعما لينتفع منها الإنسان في عاجله لأجله و في طريقه لمقصده لا ليركن إليه و يستقر عنده فالله يشهد بذلك و هو شاهد عدل.

و من لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه و على وحدته في ألوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه و مثبت لوحدانيته، بيان ذلك: أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جاريا على مستوى طريق الحيوة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب و الزور فملازمة الصدق و المجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في العالم و الجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا.

و نحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها على خلاف ما نميل إليه و نطمع فيه ثم نعترض عليها و نناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا، و جميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم، فنظام الكون و هو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.

و لو كان هناك إله يغني منه في شيء من الأمور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبة إليه و في دائرة قضائه و عمله.

و بالجملة فالله سبحانه يشهد، و هو شاهد عدل، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه و هو قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو، على ما هو ظاهر الآية الشريفة، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: “لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا”: النساء – 166.

و الملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم و يعملون بأمره و يسبحونه و في تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: “بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون”: الأنبياء – 27، و قال تعالى: “و الملائكة يسبحون بحمد ربهم”: الشورى – 5 و أولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية و الأنفسية و قد ملأت مشاعرهم و رسخت في عقولهم.

و قد ظهر مما تقدم أولا أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل و إن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الألوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه، و بكل جزء من أجزائه التي هي أعيان الموجودات.

و ثانيا: أن قوله تعالى: قائما بالقسط حال من فاعل قوله: شهد الله، و العامل فيه شهد، و بعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى و لا للملائكة و أولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين قوله: لا إله إلا هو، و قوله: قائما بالقسط: بتوسيط قوله: و الملائكة و أولوا العلم، و لو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال: {إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط و الملائكة}، و من ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.

و من أرد الإشكال ما ذكره بعضهم: أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا و هو متوقف عليه فيكون بيانا دوريا، و من هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة و اتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه و إخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره و كذا عبادة ملائكته له و إطاعتهم لأمره، و كذا ما يشاهده أولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى.

و الجواب: أن فيه خلطا و مغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو فرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثرا و أجلى صدقا من القضية التي أقيم عليها برهان مؤلف من مقدمات عقلية نظرية و إن كانت يقينية و أنتجت اليقين.

فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب و الزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، و الله سبحانه و هو الله الذي لا سبيل للنقص و الباطل إليه لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة و أولي العلم يثبت شهادتهم.

على أن من أثبت له شركاء كالأصنام و أربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله و وسائط بينه و بين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، و كذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له، و بالجملة ما اتخذ له من شريك فإنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، و إذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكا، و جرى الكلام مجرى قوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] ، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات و الأرض و لا يخفى عليه شيء، وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية و العظمة كقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ، و نحو ذلك، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبرا في مورد دعوى، و المخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفننا في الكلام، فيئول المعنى إلى أنه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق و التدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله و شهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له، و لعلم و اعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق و التدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له، و لعلم به و شهد أثره أولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.

فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة و إدارة أمورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك و عرفه لأنه من المحال أن لا يحس بوجوده و هو يشاركه، و لعلم به القوى المجرية و العمال المتوسطون بين العرش و الرعية و كيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده و هم يحملون أوامره و يجرون أحكامه بين ما في أيديهم من الأحكام و الأوامر و لعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة و كيف لا و هم يطيعون أوامره و عهوده و يعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده، و عمال الدولة لا يعرفونه، و عقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده؟ فليس.

قوله تعالى : {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام أصالة، و من أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [يونس: 68] ، فقوله : سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى، و نظيره بوجه قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64].

و بالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله و الملائكة و أولي العلم – بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي و يخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم و هو في الآية هو الله سبحانه و على من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول: لا إله إلا هو.

نظير ذلك قوله تعالى في قصة الإفك : {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتانا و أرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق من يجب تنزيهه.

فموضع قوله : لا إله إلا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه و لذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم، و لو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة و القيام بالقسط، فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الألوهية، و المتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره و ما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.

وقد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية، و كذا وجه تتميمها بالاسمين: العزيز الحكيم، و الله العالم.

إِنّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الاسلَمُ وَ مَا اخْتَلَف الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَ مَن يَكْفُرْ بِئَايَتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سرِيعُ الحْسابِ (19) فَإِنْ حَاجّوك فَقُلْ أَسلَمْت وَجْهِىَ للّهِ وَ مَنِ اتّبَعَنِ وَ قُل لِّلّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب وَ الأُمِّيِّينَ ءَ أَسلَمْتُمْ فَإِنْ أَسلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وّ إِن تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْك الْبَلَغُ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ}.
الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب و هم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة للكلام في هذه السورة، وأهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود و النصارى، ففيهم و في أمرهم نزل معظم السورة و إليهم يعود.

قوله تعالى :{ إن الدين عند الله الإسلام}، قد مر معنى الإسلام بحسب اللغة و كان هذا المعنى هو المراد هاهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغيا بينهم فيكون المعنى: أن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به، و لم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه، و لم ينصب الآيات الدالة إلا له وهو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد و حق العمل، و بعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف و الأحكام، و هو و إن اختلف كما و كيفا في شرائع أنبيائه و رسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا و إنما اختلاف الشرائع بالكمال و النقص دون التضاد و التنافي، و التفاضل بينها بالدرجات، و يجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله.

فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده و بينه لهم، و لازمه أن يأخذ الإنسان بما تبين له من معارفه حق التبين، و يقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف فيها من عند نفسه و أما اختلاف أهل الكتاب من اليهود و النصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، و بيانه تعالى لما هو عنده دين و هو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر و كون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك، و إنما حملهم على ذلك بغيهم و ظلمهم من غير عذر و ذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر و حقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به، و من يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه و آخرته: أما في الدنيا فبالخزي و سلب سعادة الحيوة عنه، و أما في الآخرة فبأليم عذاب النار.

والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا و الآخرة قوله تعالى بعد آيتين : {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين}.

ومما تقدم يظهر أولا: أن المراد بكون الدين عند الله و حضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحدا لا يختلف إلا بالدرجات و بحسب استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعا في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة.

وثانيا: أن المراد بالآيات هو آيات الوحي، و البيانات الإلهية التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية و ما يزاملها من المعارف الإلهية.

والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي و هو الانتقام، كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة: {قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنم} الآية على تهديد المشركين و الكفار، و لعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب و المشركين معا في الآية التالية في الخطاب بقوله: {قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين   أأسلمتم} “الخ”، و فيه إشعار بالتهديد أيضا.

قوله تعالى: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن}، الضمير في حاجوك راجع إلى أهل الكتاب و هو ظاهر و المراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا: إن اختلافنا ليس لبغي منا بعد البيان بل إنما هو شيء ساقنا إليه عقولنا و أفهامنا و اجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه و أن ما تراه و تدعو إليه يا محمد من هذا القبيل، أو يقولوا ما يشابه ذلك، و الدليل على ذلك قوله: فقل: أسلمت وجهي لله، و قوله: و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم، فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم و حجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم.

و معناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها: {إن الدين عند الله الإسلام} لا يختلف فيه كتب الله و لا يرتاب فيه سليم العقل، و يتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك و أنت مسلم، فإن حاجوك في أمر الدين فقل: أسلمت وجهي لله و من اتبعن فهذا هو الدين و لا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم: أ أسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا و ليقبلوا ما أنزل الله عليك و على من قبلك و لا حجة عليهم و لا مخاصمة بعد ذلك بينكم، و إن تولوا فلا تخاصمهم و لا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري، و هو أن الدين هو التسليم لله سبحانه، و ما عليك إلا البلاغ.

وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب و الأميين بقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أأسلمتم}، لكون الدين مشتركا بينهم و إن اختلفوا في التوحيد و التشريك.

وقد علق الإسلام على الوجه – و هو ما يستقبلك من الشيء أو الوجه بالمعنى الأخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس و المشاعر إسلاما لجميع البدن – ليدل على معنى الإقبال و الخضوع لأمر الرب تعالى، و عطف قوله: و من اتبعن حفظا لمقام التبعية و تشريفا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم إلى آخر الآية، المراد بالأميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب، و كذا كان أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] والأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ.

وفي قوله تعالى: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد} دلالة أولا: على النهي عن المراء و الإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري لا تكون إلا مراء و لجاجا في البحث.

وثانيا: على أن الحكم في حق الناس و الأمر مطلقا إلى الله سبحانه، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [آل عمران: 128] ، و قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].

وثالثا: على تهديد أهل الكتاب و المشركين فإن ختم الكلام بقوله: {والله بصير بالعباد}، بعد قوله : {فإنما عليك البلاغ} لا يخلو من ذلك و يدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية، و هو قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}.. إلى أن قال: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136، 137] ، تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي و يطيب نفسه، فالآية أعني قوله: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم و بين ربهم، و إرجاع أمرهم إليه، و هو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم و يسأله لسان استعدادهم.

و من هنا يظهر: أن ما ذكره بعض المفسرين، أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد في أمر الدين و أن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقة لغير ذلك.

و في قوله: بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية و لم يقل: بصير بهم أو بصير بالناس و نحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده و مربوبون له أسلموا أو تولوا.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 99-108.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات(1) :

الجميع يشهد بالوحدانية:

تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين، تشير هذه الآية إلى بعض أدلّة التوحيد ومعرفة الله فتقول بأن الله تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب)، كما تشهد الملائكة، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18].

روح الدين التسليم للحقّ :

«الدِين» في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر، و «الدين» في الإصطلاح : مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.

«الإسلام» يعني التسليم، وهو هنا التسليم لله. وعلى ذلك، فإنّ معنى {إنّ الدِين عند الله الإسلام}: إنّ الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة. في الواقع لم تكن روح الدين في كلّ الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.

وإنّما أطلق اسم «الإسلام» على الدِين الذي جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)لأنّه أرفع الأديان.

وقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) هذا المعنى في بيان عميق فقال : «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»(2).

فالإمام في كلمته هذه يضع للاسم ستّ مراحل، أولاها التسليم أمام الحقيقة، ثمّ يقول إنّ التسليم بغير يقين غير ممكن (إذ أنّ التسليم بغير يقين يعني الإستسلام الأعمى، لا التسليم الواعي). ثمّ يقول إنّ اليقين هو التصديق (أي أنّ العلم وحده لايكفي، بل لابدّ من الاعتقاد والتصديق القلبيّين) والتصديق هو الإقرار (أي لا يكفي أن يكون الإيمان قلبيّاً فحسب، بل يجب إظهاره بشجاعة وقوّة)، ثمّ يقول إنّ الإقرار هو الأداء (أي أنّ الإقرار لا يكون بمجرّد القول باللسان، بل هو إلتزام بالمسؤولية). وأخيراً يقول إنّ الأداء هو العمل (أي إطاعة أوامر الله وتنفيذ البرامج الإلهية) لأنّ الإلتزام وتحمّل المسؤولية لا يعنيان سوى العمل. أمّا الذين يسخّرون كلّ قواهم وطاقاتهم في عقد الجلسات تلو الجلسات وتقديم الإقتراحات وما إلى ذلك من الأُمور التي لا تتطلّب سوى الكلام فلا هم تحمّلوا إلتزاماً ولا مسؤولية، ولا هم وعوا روح الإسلام حقّاً.

هذا أجلى تفسير للإسلام من جميع جوانبه، ثمّ إنّ الآية تذكر علّة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول :

{وما اختلف الذين أُوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}.

فعلى هذا إن الاختلاف ظهر أوّلاً بعد العلم والإطلاع على الحقائق. وثانياً كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد. فاليهود اختلفوا في خليفة موسى ابن عمران (عليه السلام) واقتتلوا بينهم، والمسيحيون اختلفوا في أمر التوحيد حيث خلطوه بالشرك والتثليث، وقد اختلف كلّ منهما في أمر الإسلام ودلائل صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الواردة في كتبهم، فقبل بعضهم وانكر آخرون.

والخلاصة إنّ لكلّ دين سماوي دلائله الواضحة التي لا تترك إبهاماً أمام الباحث عن الحقيقة. فالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً ـ بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكّد صدقه ـ وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنّهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر، فأنكروا كلّ ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

{ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريعُ الحساب}.

هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات الله. إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا، فالله سريع في تدقيق حساباتهم(3).

المراد من «آيات الله» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية، ولعلّها تشمل أيضاً الآيات التكوينية في عالم الوجود، وما ذكره بعض المفسرين من أنها تعني آيات التوراة والإنجيل خاصة، لا دليل عليه.

ملاحظة:

منشأ الإختلافات الدينية

ممّا يلفت النظر في هذه الآية هو أنّ سبب الإختلافات الدينية ليس الجهل وعدم المعرفة دائماً، بل هو على الأكثر الظلم والطغيان والإنحراف عن الحقّ واتّباع وجهات النظر الخاصّة، فلو تخلّى الناس ـ وعلى الأخصّ العلماء منهم ـ عن التعصّب، والحقد، وضيق النظر، والمصالح الخاصّة، وتجاوز الحدود، والإعتداء على الحقوق، وتعمّقوا في دراسة أحكام الله بنظرة واقعية وبروح من العدالة، فسيرون محجّة الحقّ منيرة وسيستطيعون حلّ الإختلافات بسرعة.

وهذه الآية في الواقع ردّ دامغ على الذين يقولون : «إنّ الدين هو سبب الخلافات إراقة الدماء بين البشر على امتداد التاريخ».

هؤلاء يخلطون بين «الدين» و «التعصّب الديني» والإنحرافات الفكرية. فنحن إذا درسنا تعاليم الأديان السماوية نجد أنّها جميعاً تسعى لتحقيق هدف واحد، وكلّها جاءت من أجل سعادة الإنسان، وإن كان قد تكاملت تدريجياً على مرور الزمن.

الأديان السماوية أشبه في الواقع بقطرات المطر النازلة من السماء حيث تكمن فيها الحياة، ولكنّها إذا نزلت على الأراضي السبخة، كالأرض المالحة، اكتسبت صبغة هذه الأرض. فهذه الإختلافات ليست من قطرات المطر، بل هي من تلك الأراضي. ولكن من حيث مبدأ التكامل، فإنّ آخر تلك الأديان يكون أكملها.

{فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالاُْمِّيِّنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَواْ وَإِن تُوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ }.

التّفسير:

«المحاجّة» أن يسعى كلّ واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.

من الطبيعيّ أن يقوم أتباع كلّ دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أنّ الحقّ بجانبهم. لذلك يخاطب القرآن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً : قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى…) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق، وربّما هم يصرّون على ذلك، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالآية لا تطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم، بل تأمره أن يسلك سبيلاً آخر، وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه، فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم : إنّني وأتباعي قد أسلمنا لله واتّبعنا الحقّ {فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعني}.

ثمّ يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا لله واتّبعوا الحقّ فعليهم أن يخضعوا للمنطق {وقل للذين اُوتوا الكتاب والاُميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا} فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا لله. عندئذ لا تمضي في مجادلتهم، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له، وما عليك إلاَّ أن تبلّغ الرسالة لا غير {وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ}.

ومن الواضح أن المراد ليس هو التسليم اللساني والادعائي، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق، فلو أنهم خضعوا حقيقة للكلام الحق، فلابدّ أن يؤمنوا بدعوتك القائمة على المنطق والدليل الواضح، وإلاَّ فإنهم غير مستسلمين للحق.

والخلاصة : إن وظيفتك هي إبلاغ الرسالة المشفوعة بالدليل والبرهان، فلو كانت لديهم روحية البحث عن الحقيقة فسوف يؤمنون حتماً، وإلاَّ فإنك قد أديت واجبك تجاههم.

وفي الختام يقول : {والله بَصيرٌ بالعباد} فهو سبحانه يعلم المدّعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كلّ شخص بعمله.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص222-229.

2 ـ نهج البلاغة : قصار الكلمات، 120، اُصول الكافي : ج 2 ص 45 مع تفاوت يسير.

3 ـ انظر تفسير الآية 202 من سورة البقرة بشأن معنى «سريع الحساب».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى