مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 64-68)

 

قال تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 64 – 68].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

لما تم الحجاج على القوم، دعاهم تعالى إلى التوحيد، وإلى الاقتداء بمن اتفقوا أنه كان على الحق، فقال: {قل} يا محمد {يا أهل الكتاب تعالوا} أي: هلموا {إلى كلمة سواء} أي: عدل {بيننا وبينكم} أي: عادلة لا ميل لها، كما يقال: رجل عدل أي: عادل لا ميل فيه. وقيل: معناه كلمة مستوية بيننا وبينكم، فيها ترك العبادة لغير الله، وهي {إن لا نعبد إلا الله} لأن العبادة لا تحق إلا له {ولا نشرك به} في العبادة {شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} اختلف في معناه فقيل: معناه ولا يتخذ بعضنا عيسى ربا، فإنه كان بعض الناس. وقيل: معناه أن لا نتخذ الأحبار أربابا بأن نطيعهم طاعة الأرباب لقوله:

{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}. وروي عن أبي عبد الله أنه قال: ما عبدوهم من دون الله، ولكن حرموا لهم حلالا، وأحلوا لهم حراما، فكان ذلك اتخاذهم أربابا من دون الله. وقد روي أيضا: أنه لما نزلت هذه الآية، قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله! فقال ” صلى الله عليه وآله وسلم ” ” أما كانوا يحلون لكم، ويحرمون، فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم. فقال النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم “: هو ذاك “.

{فإن تولوا} أي: أعرضوا عن الإقرار بالعبودية، وأن أحدا لا يستحق العبادة غيره {فقولوا} أنتم أيها المسلمون مقابلة لإعراضهم عن الحق، وتجديدا للإقرار، ومخالفتهم {اشهدوا بأنا مسلمون} أي: مخلصون مقرون بالتوحيد. وقيل:

مستسلمون منقادون لما أتى به النبي والأنبياء من الله. وقيل: مقيمون على الاسلام.

وهذا تأديب من الله لعبده المؤمن، وتعليم له، كيف يفعل عند إعراض المخالف بعد ظهور الحجة، ليعلم المبطل أن مخالفته لا يؤثر في حقه، وليدل على أن الحق يجب اتباعه من غير اعتبار بالقلة والكثرة.

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

{يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) أي: لم تنازعون وتجادلون فيه، وتدعون أنه على دينكم. {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} أي: من بعد إبراهيم {أفلا تعقلون}. أن الإقامة على الدعوى من غير برهان، غير جائزة في العقل، فكيف يجوز الإقامة على الدعوة بعد ما ظهر فسادها. فإن قيل:

لو دل نزول التوراة والإنجيل بعد إبراهيم على أنه لم يكن على اليهودية والنصرانية، لوجب أن يدل نزول القرآن بعده على أنه لم يكن على الاسلام؟

فالجواب: إن الكل متفقون على أنه متسم باسم الاسلام، غير أن اليهود ادعوا أن الاسلام هو اليهودية، والنصارى ادعوا أنه هو النصرانية. والتوراة والإنجيل أنزلتا من بعد إبراهيم، واسمه فيهما اسم الاسلام، وليس في واحد منهما أنه كان على دين اليهودية والنصرانية. وأما القرآن وإن كان منزلا بعده، ففيه وصف إبراهيم بدين الاسلام، ونفي اليهودية والنصرانية عنه، ففي هذا أوضح حجة على أنه كان مسلما، وأن محمدا ” صلى الله عليه وآله وسلم ” وأمته الذين لهم اسم الاسلام أولى به منهم. وقد قيل:

إن اليهود أن اليهودي اسم لمن تمسك بالتوراة، واعتقد شريعته، والنصارى اعتقدوا أن النصراني اسم لمن تمسك بالإنجيل، واعتقد شريعته، فرد الله تعالى دعوى الفريقين. وأخبر أن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف يكون متمسكا بحكمهما.

وأما نحن فلم ندع أن المسلم هو المتمسك بحكم القرآن إذ الاسلام عبارة عن الدين دون أحكام الشريعة، فوصفناه بالإسلام كما وصفه الله به. فإن قيل: فهل كان إبراهيم متمسكا بشرائع الاسلام كلها التي نحن عليها؟ قلنا: إنه كان متمسكا بدين الاسلام، وببعض أحكام شريعة نبينا ” صلى الله عليه وآله وسلم ” لا بجميعها لأن من حكم الشريعة قراءة القرآن في الصلاة، ولم يكن ذلك في شريعته، وإنما قلنا: إنه مسلم، وإن كان متمسكا ببعض أحكام الشريعة، لأن أصحاب النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” في بدو الاسلام، كانوا مسلمين قبل استكمال الشرع، وقبل نزول تمام القرآن. والواحد منا مسلم على الحقيقة، وإن لم يعمل بجميع أحكام الشريعة.

{ها أنتم هؤلاء} يا معشر اليهود والنصارى، وهو في الظاهر تنبيه على أنفسهم، والمراد به التنبيه على حالهم. إذ التنبيه إنما يكون فيما قد يغفل عنه الانسان دون ما يعلمه {حاججتم} جادلتم وخاصمتم {فيما لكم به علم} معناه :

حاججتم، ولكم به علم، لوجود اسمه في التوراة والإنجيل {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} أي: فلم تحاجون في دينه وشرعه (2)، وليس لكم به علم؟ لم ينكر الله تعالى عليهم محاجتهم فيما علموه، وإنما أنكر عليهم محاجتهم فيما لم يعلموا {والله يعلم} شأن إبراهيم ودينه، وكل ما ليس عليه دليل، لأنه العالم لجيمع المعلومات {وأنتم لا تعلمون} ذلك (3)، فلا تتكلموا فيه، ولا تضيفوا إليه ما لا تعلمونه، واطلبوا علم ذلك ممن يعلمه.

ثم كذب الله اليهود والنصارى فقال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا} نزه إبراهيم وبرأه عن اليهودية والنصرانية، لأنهما صفتا ذم قد دل القران والإجماع على ذلك. وهذا يدل على أن موسى أيضا لم يكن يهوديا، ولم يكن عيسى نصرانيا. فإن الدين عند الله الاسلام. واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى.

والنصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى. فهما صفتا ذم جرتا على فرقتين ضالتين.

{ولكن كان حنيفا} أي: مائلا عن الأديان كلها إلى دين الاسلام. وقيل: معناه مستقيما في دينه {مسلما} أي: كائنا على دين الاسلام {وما كان من المشركين} قيل: إن هذا يتضمن كون اليهودية والنصرانية شركا. وقيل: إن معناه لم يكن مشركا على ما يدعيه مشركو العرب.

{إن أولى الناس بإبراهيم} يعني: إن أحق الناس بنصرة إبراهيم بالحجة أو بالمعونة {للذين اتبعوه} في وقته وزمانه، وتولوه بالنصرة على عدوه، حتى ظهر أمره، وعلت كلمته {وهذا النبي والذين آمنوا} يتولون نصرته بالحجة، لما كان عليه من الحق، وتبرئة كل عيب عنه أي: هم الذين ينبغي لهم أن يقولوا: إنا على دين إبراهيم، ولهم ولايته {والله ولي المؤمنين} لأنه يتولى نصرتهم، والمؤمن ولي الله لهذا المعنى بعينه. وقيل: لأنه يتولى نصرة ما أمر الله به من الدين. وإنما أفرد الله النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” بالذكر، تعظيما لأمره، وإجلالا لقدره، كما أفرد جبرائيل وميكائيل.

وقيل: ليدخل في الولاية وتعود إليه الكناية. فإن التقدير: والذين آمنوا به.

وفي هذه الآية دلالة على أن الولاية تثبت بالدين لا بالنسب، ويعضد ذلك قول أمير المؤمنين: إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم (4) بما جاؤوا به، ثم تلا هذه الآية.

وقال إن ولي محمد من أطاع الله، وإن بعدت لحمته. وإن عدو محمد من عصى الله، وإن قربت قربته. وروى عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله: هم والله من آل محمد. قلت: من أنفسهم جعلت فداك قال: نعم والله من أنفسهم. قالها ثلاثا.

ثم نظر إلي ونظرت إليه، فقال: يا عمر! إن الله يقول في كتابه: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} الآية رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس عنه.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص313-318.

2- وفي بعض الخطبة ” شأنه “، بدل ” شرعه “.

3- [في كتبكم].

4- وفي بعض النسخ: ” أعملهم ” بتقديم الميم على اللام، وهو الظاهر.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ :

 { قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهً ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } . يؤمن اليهود بالتوراة ، ويؤمن النصارى بالتوراة والإنجيل ، ويؤمن المسلمون بالتوراة والإنجيل والقرآن ، وقد أجمعت هذه الكتب الثلاثة على ان وراء الكون مدبرا حكيما . . ولكن النصارى بالغوا في الغلو ، فجعلوا للَّه شركاء ، ونسبوا له ولدا ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللَّه ، يحللون لهم ، ويحرّمون ، ويغفرون الخطايا والذنوب ، ويبيعون أذرعا في السماء . . روي ان عدي بن حاتم قال لرسول اللَّه :

ان اللَّه يقول في كتابه العزيز : { اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } .

مع ان النصارى لا يعبدون الأحبار والرهبان . . فقال له الرسول ( صلى الله عليه واله ) : أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بأقوالهم ؟ . قال عدي : نعم . قال ( صلى الله عليه واله ) :

هو ذاك .

وما زلنا ، ونحن في القرن العشرين ، نقرأ في الصحف ونسمع من الإذاعات ان فلانا تشرّف بمقابلة البابا ، ومنحه البابا البركة ، وكذا يمنح البركة الكردينال والبطريرك . . أما المسلمون فإنهم يعتقدون ان البركة لا تكون ولن تكون الا من اللَّه : { رَحْمَتُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ – 73 هود }.

أما اليهود فقد أنكروا عيسى ( عليه السلام ) ، وحاولوا صلبه ، وكفروا بمحمد ( صلى الله عليه واله ) ، وهم على علم من صدقه ، قال تعالى : { فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ } .

وجادل النبي أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، وأورد عليهم أنواع الدلائل ، ولم يدع لهم منفذا ، ولكنهم أصروا على الكفر ، ثم دعاهم إلى المباهلة ، ولكنهم فضلوا أداء الجزية بصغار على الاعتراف بالحق . . ورغم هذا كله فقد ظل حريصا على أن يؤمنوا ، وهذا شأنه مع كل جاحد ، حتى خاطبه اللَّه تعالى في الآية 103 من سورة يوسف : { وما أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وفي الآية 37 من سورة النحل : { إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهً لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} .

وتأكيدا للحجة على المعاندين ، وإظهارا لحقيقتهم لدى النبي ، والناس أجمعين قال تعالى : يا محمد دع جدالهم ومباهلتهم ، واسلك معهم هذا المنهج الذي يشهد كل ذي لب انه العدل والحق . . بل انه البديهة والضمير والوجدان ، وذلك أن تدعوهم إلى ما أقره العقل والكتب السماوية بكاملها ، وهو أن تستووا جميعا في عبادة اللَّه وحده لا شريك له . . لا يعبد بعضكم بعضا ، ولا يعلو بعضكم على بعض ، وهذه هي كلمة سواء .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . أي فإن لم يقبلوا ، حتى هذه البديهة ، وأبوا الا الشرك والعناد فأعرض عنهم ، وقل لهم أنت ومن آمن بك :

{ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وفي إشهاد الكافرين على اسلام المسلمين فائدتان :

الأولى : اشعار الكافرين بعدم المبالاة بهم وبكفرهم ، وان محمدا ومن معه يؤمنون بالحق ، وبه يعملون ، حتى ولو كفر أهل الشرق والغرب .

الفائدة الثانية : الإشارة إلى أن المسلمين يتميزون عن غيرهم بعبادة اللَّه الواحد الأحد ، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون اللَّه ، ولا لأحد منهم كائنا من كان سلطة التحليل والتحريم ، وغفران الذنوب ، كما هي الحال عند غيرهم .

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } . جادل القرآن أهل الكتاب بالعقل والمنطق ، ثم دعاهم إلى المباهلة ، ثم إلى كلمة سواء ، وهي الإيمان باللَّه وحده ، ثم استأنف القرآن جدال أهل الكتاب من جديد ، وعاد إلى ما كان عليه أولا ، كعادته من التعرض للشيء ، ثم الانتقال إلى غيره ، ثم الرجوع إليه . . عاد إلى أهل الكتاب ، وذكر بعض أقوالهم وأبطلها ، ذكر قول اليهود : ان إبراهيم كان يهوديا ، وقول النصارى انه كان نصرانيا ، ورد هذا الزعم بالبديهة ، لأن اليهودية حدثت بعد موسى ، وبينه وبين إبراهيم ألف سنة ، والنصرانية حدثت بعد عيسى ، وبينه وبين إبراهيم ألفا سنة ، كما جاء في تفسير روح البيان ، فكيف يكون السابق على دين اللاحق { أَفَلا تَعْقِلُونَ } .

ويذكرنا قول النصارى واليهود بنادرة يتناقلها اللبنانيون ، ويتندرون بها ، وهي أن رجلين تصاحبا صدفة في سفر ، ولما أخذا بالحديث سأل أحدهما صاحبه :

هل حججت في مكة المكرمة ؟ فقال له : أجل أديت ما عليّ ، والحمد للَّه .

فقال له صاحبه : هل رأيت زمزم هناك ؟ قال : نعم ، انها بنت كويّسة . .

قال له : ويلك . انها بئر ماء ، وليست بنتا . . قال : اذن حفروها بعد ما أديت الفريضة .

وحكاية المذاهب والفرق التي حدثت بعد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) تشبه حجة هذا الرجل إلى حد بعيد . . وكل من أخذ دينه عن انسان فهو من هذا النوع إلا إذا ثبت النص عليه من الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) كثبوت حديث الثقلين الذي أوجب الأخذ والتعبد بكتاب اللَّه وأهل بيت رسول اللَّه ، وساوى بينهما ، وذكرنا ذلك عند تفسير الآية 39 من سورة البقرة .

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } . قد يتخصص الإنسان بعلم من العلوم ، أو بموضوع من الموضوعات ، وعليه فله أن يجادل فيه ويناقش ، وليس من الضروري أن يكون مصيبا في جميع أقواله وجداله ، وانما المهم أن يكون من أهل المعرفة به ، ولو في الجملة . . اما أن يجادل ويناقش في أمر لا يعرف عنه شيئا ، ويبعد عنه كل البعد ، أما مثل هذا الجدال والنقاش فهو جهل وحماقة .

وأهل الكتاب لهم علم بدينهم الذي اعتقدوا بصحته ، فيكون لجدالهم فيه وجه ، ولو بحسب الظاهر ، أما جدالهم في دين إبراهيم فلا وجه له واقعا ، ولا ظاهرا ، لأنهم لا يعرفون عنه شيئا .

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .

لم يكن يهوديا ، لأن بينه وبين موسى ألف سنة ، ولم يلتق في عقيدته وواقعه بالديانة اليهودية ، لأنها محرفة عما جاء به موسى ( عليه السلام ) ، ولم يكن إبراهيم نصرانيا ، لأن بينه وبين عيسى ألفي سنة ، ولم يلتق بالديانة المسيحية ، لأنها محرفة عما جاء به عيسى ( عليه السلام ) . . وإذا لم يكن إبراهيم مسلما بالمعنى المعروف فإنه في واقعه وإيمانه يلتقي مع الإسلام ، لأنه يؤمن باللَّه المنزه عن الشريك والشبيه ، وهذا الايمان هو الأصل الأساسي لدين الإسلام ، وبهذا يتبين لنا الجواب عن سؤال من يسأل : ان القرآن أنزل بعد إبراهيم فكيف يكون مسلما ؟ وسبق البحث مفصلا في أن جميع الأنبياء كانوا مسلمين عند تفسير الآية 19 من هذه السورة .

والحنيف هو المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، أما قوله تعالى : ( وما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فان فيه تعريضا بالنصارى القائلين : المسيح ابن اللَّه ، وباليهود القائلين : عزير ابن اللَّه ، وبالعرب الذين كانوا يعبدون الأصنام . . وكان إبراهيم موضع إجلال هذه الفرق الثلاث .

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } . أي ان أحق الناس بالانتساب إلى دين إبراهيم الذي يجله الجميع هم الذين استجابوا لدعوته من أمته ، أو يلتقون معه ويلتقي معهم في العقيدة والإيمان ، كمحمد ومن معه . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ان أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به ، ثم تلا الآية ، وقال : ان ولي محمد من أطاع اللَّه ، وان بعدت لحمته ، وان عدو محمد من عصى اللَّه وان قربت قرابته . { واللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } به ، وحده لا شريك له ، ولا يلجئون إلى غيره في كشف الضر ، وطلب النفع .

ولا شيء أدل على عظمة الإمام وإخلاصه للَّه وللحق وتجرده عن الغايات والأهداف الدنيوية من قوله هذا ، وعدم تشبثه بالقرابة ، مع العلم بأنه أقرب الناس لحمة للرسول ( صلى الله عليه واله ) ، وما ذاك الا لأنه يستمد عظمته من نفسه وأعماله لا من الأرومات والقرابات ، ولا من التمويه والتغطيات .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص79-83.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

 كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] ، وبقوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] ، ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33] ، وتعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله: { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ } [آل عمران: 28] ، فهذا في المرحلة البادئة.

ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا، وما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ } [آل عمران: 98] ، وقوله : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 99] ، وتعرضت لحال النصارى وما تدعيه في أمر عيسى (عليه السلام) بقوله : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] ، وتعرضت لأمور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الإسلام والاتحاد والاتقاء من ولاية الكفار واتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة.

قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}، الخطاب لعامة أهل الكتاب، والدعوة في قوله: {تعالوا إلى كلمة} “الخ” بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به، وإنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الإذعان والاعتراف والنشر والإشاعة.

فالمعنى: تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل بما توجبه.

والسواء في الأصل مصدر، ويستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين، وسواء بيننا وبينكم أي مساو من حيث الأخذ والعمل بما توجبه، وعلى هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق وهو الأخذ والعمل، وقد عرفت أن العمل إنما يتعلق بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات: نسبة الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمة بالسواء!.

وربما قيل: إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن والتوراة والإنجيل متفقة في الدعوة إليها، وهي كلمة التوحيد، ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى:{ ألا نعبد إلا الله} “الخ” من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها، والإعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول واتخاذ الابن والتثليث وعبادة الأحبار والقسيسين والأساقفة ويكون محصل المعنى: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} وهي التوحيد، ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.

والذي تختتم به الآية من قوله: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} يؤيد المعنى الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله “الخ” لأنها مقتضى الإسلام لله الذي هو الدين عند الله، وإن كان الإسلام أيضا لازما من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي وهو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة، فافهم ذلك.

قوله تعالى: {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}، تفسير للكلمة السواء، وهي التي يوجبها الإسلام لله.

والمراد بقوله: {ألا نعبد إلا الله}، نفي عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الإشارة إليه في معنى كلمة الإخلاص{ لا إله إلا الله} : أن لازم كون إلا الله، بدلا لا استثناء كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الإله، فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الإله وحقيته مفروغا عنه.

و لما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله:{ ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ} “الخ” فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم يتجرد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لأن العبادة حينئذ إنما تكون عبادة إله له شريك والعبادة التي يعبد بها أحد الشريكين وإن خص باسمه ووجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لأنها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له وحظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير.

وهذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه، وهو الذي يدل عليه قوله: {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}، هو الذي يجمع غرض النبوة في السيرة التي كانت الأنبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الإنساني.

فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [البقرة: 213] أن النبوة انبعاث إلهي ونهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين وأن حقيقة الدين تعديل المجتمع الإنساني في سيره الحيوي، ويتبعه تعديل حيوة الإنسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية وسعادة التكامل الفطري على وجه العدل والقسط، وكذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحيوة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع وقد قيد جميع ذلك بالعبودية والإسلام لله سبحانه، والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته.

وخلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء (عليهم السلام) أن يسير النوع الإنساني فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الأعمال الفردية والاجتماعية على الإسلام لله، وبسط القسط والعدل، أعني بسط التساوي في حقوق الحيوة، والحرية في الإرادة الصالحة والعمل الصالح.

ولا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحق واستخدام القوي واستعباده للضعيف وتحكمه عليه، وتعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا حكم إلا لله سبحانه.

وهذا هو الذي تدل عليه الآية: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] الآية، وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف (عليه السلام): {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 39، 40] ، وقال تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31] ، إلى غير ذلك من الآيات.

وفيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى (عليهما السلام) مما كلموا به أممهم شيء كثير من هذا القبيل كقول نوح: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21] ، وقول هود لقومه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 – 130] ، وقول صالح لقومه: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء: 151] ، وقول إبراهيم لأبيه وقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 52 – 54] ، وقوله تعالى لموسى وأخيه:{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} – إلى أن قال -: { فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 43، 47] ، وقول عيسى لقومه: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف: 63] ، فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي والفساد، وهذه المظالم والسلطات بغير الحق الهادمة لأساس السعادة والمخربة لبنيان الحق والحقيقة، وإلى ذلك يشير قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع : وقد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب، “ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض” وكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الإسلام بينهم.

والكلام أعني قوله تعالى: {ألا نعبد إلا الله} “الخ”، على كونه آخذا بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم وملاكه.

أما قوله: {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا}، فلأن الألوهية هي التي يأله إليه ويتوله فيه كل شيء من كل وجه، وهو أن يكون منشأ لكل كمال في الأشياء على كثرتها وارتباطها واتحادها في الحاجة، وفيه كل كمال يفتاق إليه الأشياء، وهذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير، ومالكا إليه تدبير كل شيء، فمن الواجب أن يعبد الله لأنه إله واحد لا شريك له، ومن الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته، وبعبارة أخرى، هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصح ولا يجوز أن يخضع ويتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد.

و أما قوله تعالى: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} فمن حيث أفاد أن المجتمع الإنساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والإيجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد، وما تفاوت فيه أحوال الأفراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هاهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الإنسانية لكن من حيث تسأله، كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلا من مسائل الإنسانية العامة لكن الذي يعطى الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الأنثى، والولادة يعطاها الإنسان الأنثى والعلاج يعطاه الإنسان المريض.

و بالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله، وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة، وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية، ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ ربا متبع المشية، يحكم مطلق العنان، ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الإنسانية.

و أيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس، اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر.

فقد تبين أن قوله: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى: إحداهما كون الأفراد أبعاضا، والآخر كون الربوبية من خصائص الألوهية.

قوله تعالى:{ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} استشهاد، بأنهم وهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن اتبعه على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام، قال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] ، فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة على الحق وأهله.

وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام.

قوله تعالى:{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} إلى آخر الآية، الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة، وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان ظاهر سياق قوله: بعد آيتين:{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} الآية، أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه.

و محاجتهم في إبراهيم (عليه السلام) بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا بالمحاجة لإظهار المحقية كأن تقول اليهود : إن إبراهيم (عليه السلام) الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى: إن إبراهيم كان على الحق، وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه، ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا، وتدعي النصارى أنه كان نصرانيا، ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والإنجيل وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم (عليه السلام) فكيف يمكن أن يكون (عليه السلام) يهوديا بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى (عليه السلام)، ولا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى (عليه السلام)، فلو قيل في إبراهيم شيء لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه وهذه الآيات في مساق قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140].

قوله تعالى: {ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } الآية، الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم وتنفي علما وتثبته لله تعالى، ولذلك ذكر المفسرون: أن المعنى: أنكم حاججتم: في إبراهيم (عليه السلام) ولكم به علم ما، كالعلم بوجوده ونبوته، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهوديا أو نصرانيا والله يعلم وأنتم لا تعلمون، أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره، والمعنى أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، هذا ما ذكروه.

وأنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية: أما الأول فلأنه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته، وأما الثاني فلأن المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في دعواهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم، وكلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم، وهو ظاهر.

والذي ينبغي أن يقال – والله العالم – أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم، وعمدة ذلك نبوة عيسى (عليه السلام) وما كانت تقوله النصارى في حقه أنه الله، أو ابنه أو التثليث فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه، وكانت اليهود تحاج النصارى، وتبطل ألوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم، وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا.

وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر، ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى: {أفلا تعقلون}” فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه، فهم عالمون بأنه كان سابقا على التوراة والإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهوديا ولا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الإسلام لله.

لكن اليهود مع ذلك قالوا: إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهوديا، وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم، وقد جهلوا في ذلك أمرا وليس بذهول، وهو أن دين الله واحد، وهو الإسلام لله، وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال، واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين، والأنبياء (عليهم السلام) بمنزلة بناة هذا البنيان، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنى عليه من هذا البنيان الرفيع.

وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية، وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا بل يكون مسلما حنيفا متلبسا باسم الإسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما، والأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.

وتسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي وشريعة القرآن ليرد الإشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة والإنجيل فلا ينبغي أن يعد يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن وظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعد مسلما حذو النعل بالنعل.

وذلك أن الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمدي، والإسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالإشكال غير متوجه من أصله.

ولعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل، وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا} “الخ” ويؤيده قوله: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه }الآية، وقوله تعالى في ذيل الآيات: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 84، 85] ، على ما سيجيء من البيان.

قوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا} إلى آخر الآية، قد مر تفسيره فيما مر، وقد قيل : إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم (عليه السلام) منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم (عليه السلام) حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء، ويدعون بالحنيفية الوثنية.

ولما وصف الله سبحانه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: {ولكن كان حنيفا}، وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله: {مسلما وما كان من المشركين}، أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية.

قوله تعالى : {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى – والله العالم – أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الأولوية به والأقربية منه، والأقرب من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في اتباع الحق، والتلبس بالدين الذي جاء به، والأولى بهذا المعنى بإبراهيم (عليه السلام) هذا النبي والذين آمنوا لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل.

وفي قوله : {للذين اتبعوه} تعريض لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكناية أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله.

وفي قوله : {وهذا النبي والذين آمنوا} إفراد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم إجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك – مثل قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام : 90] حيث لم يقل : فبهم اقتده.

وقد تمم التعليل والبيان بقوله : {والله ولي المؤمنين}، فإن ولاية إبراهيم {ولي الله } من ولاية الله، والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 213-221.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)

الدعوة إلى الإتّحاد :

بدأ القرآن في الآيات السابقة بدعوة المسيحيّين إلى الاستدلال المنطقي، وإذ رفضوا، دعاهم إلى المباهلة، فكان لهذا أثره في نفوسهم، فرفضوها ولكنّهم رضخوا لشروط إعتبارهم ذمّيّين. فانتهز القرآن هذه الفرصة من استعدادهم النفسي، وعاد إلى طريقة الاستدلال.

غير أنّ الاستدلال هذه المرّة يختلف عن الاستدلال السابق إختلافاً كبيراً.

في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكلّ تفاصيله). ولكنّ الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب. وبهذا يعلّمنا القرآن درساً، مفاده : أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للإنطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدّسة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً).

هذه الآية تعتبر نداء «الوحدة والإتّحاد» إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم : إنّكم تزعمون ـ بل تعتقدون ـ أنّ التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي التوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث. وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم يتكلّمون بكلام فيه شرك ويعتبرون «العزير» ابن الله.

يقول لهم القرآن : إنّكم جميعاً ترون التوحيد مشتركاً، فتعالوا نضع يداً بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لفّ أو دوران، ونتجنّب كلّ تفسير يؤدّي إلى الشرك والإبتعاد عن التوحيد.

والملفت للنظر أن الآية الشريفة تؤكّد موضوع التوحيد في ثلاث تعابير مختلفة، فأوّلاً ذكرت {ألاَّ نعبد إلاَّ الله) وفي الجملة الثانية {ولا نشرك به شيئاً)وفي المرّة الثالثة قالت {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).

ولعلّ في هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أحد موضوعين :

«الأوّل» : أنّه لا يجوز تأليه المسيح، وهو بشر مثلنا ومن أبناء نوعنا.

«والثاني» : أنّه لا يجوز الاعتراف بالعلماء المنحرفين الذين يستغلّون مكانتهم ويغيّرون حلال الله وحرامه كيفما يحلو لهم، ولا يجوز اتّباع هؤلاء.

ويتّضح ممّا سبق من الآيات القرآنية أنّه كان هناك بين علماء أهل الكتاب جماعات يحرّفون أحكام الله بحسب «مصالحهم» أو «تعصّبهم». إنّ الإسلام يرى أنّ من يتّبع أمثال هؤلاء دون قيد أو شرط وهو يعلم بهم، إنّما هو يعبدهم بالمعنى الواسع لكلمة العبادة.

إنّ سبب هذا الحكم واضح، فإن حقّ وضع القوانين والتشريعات يعود إلى الله، فإذا قرّر أحد هذا الحقّ لغير الله فقد أشرك.

يقول المفسّرون في ذيل تفسير هذه الآية إنّ «عدي بن حاتم» الذي كان نصرانياً ثمّ أسلم، عندما سمع هذه الآية، فهِم من كلمة «أرباب» أنّ القرآن يقول إنّ أهل الكتاب يعبدون بعض علمائهم. فقال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم ؟

فقال : نعم.

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : هو ذاك(2).

في الواقع يعتبر الإسلام الرقّ والاستعمار الفكري نوعاً من العبودية والعبادة لغير الله، وهو كما يحارب الشرك وعبادة الأصنام، يحارب كذلك الاستعمار الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ «أرباب» جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إنّ المقصود هو النهي عن عبادة عيسى وحده. ولعلّ النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء المنحرفين.

{فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون).

لو أنّهم ـ بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة ـ أصرّوا على الإعراض، فلابدّ أن يقال لهم : اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة اُخرى : فاعلموا من يطلب الحق، ومن يتعصّب ويعاند. ثمّ قولوا لهم {اشهدوا بأنّا مسلمون) فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحقّ في أنفسنا، وإنّا ما زلنا على طريقنا ـ طريق الإسلام ـ سائرون، لا نعبد إلاَّ الله، ولا نلتزم إلاَّ شريعة الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}

{يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم…}.

هذه الآية تردّ على مزاعم اليهود النصارى، وتقول : إنّ جدَلكم بشأن إبراهيم النبيّ المجاهد في سبيل الله جدل عقيم، لأنّه كان قبل موسى والمسيح بسنوات كثيرة، والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة {وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلاَّ من بعده} أيعقل أن يدين نبيّ سابق بدين لاحق ؟ {أفلا تعقلون} ؟

{ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم}.

هنا يوبّخهم الله قائلاً إنّكم قد بحثتم فيما يتعلّق بدينكم الذي تعرفونه {وشاهدتم كيف أنّكم حتّى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم بعدتم عن الحقيقة، فقد كان علمكم، في الواقع، جهلاً مركّباً)، فكيف تريدون أن تجادلوا في أمر لا علم لكم به، ثمّ تدّعون ما لا يتّفق مع أيّ تاريخ ؟

وفي نهاية الآية يقول : {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} توكيداً للموضوع السابق، وتمهيداً لبحث الآية التالية.

أجل، إنه يعلم متى بعث إبراهيم (عليه السلام) بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.

{ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً}.

وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيّين، وإنّما كان موحّداً طاهراً مخلصاً أسلم لله ولم يشرك به أبداً.

«الحنيف» من الحنف، وهو الميل من شيء إلى شيء، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الإستقامة.

يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفاً لأنّه شقّ حجب التعصّب والتقليد الأعمى، وفي عصر كان غارقاً في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأطىء لها رأساً.

إلاَّ أنّ العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام في العصر الجاهلي كانوا يعتبرون أنفسهم حنفاء على دين إبراهيم. وقد شاع هذا شيوعاً حدا بأهل الكتاب إلى أن يطلقوا عليهم اسم «الحنفاء». وبهذا اتّخذت لفظة «الحنيف» معنىً معاكساً تماماً لمعناها الأصلي، غدت ترادف عبادة الأصنام. لذلك فإنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان {حنيفاً} أضاف {مسلماً} ثمّ أردف ذلك بقوله {وما كان من المشركين} لإبعاد إحتمال آخر.

كيف كان إبراهيم مسلماً ؟

قد يسأل سائل : إذا لم نكن نعتبر إبراهيم من أتباع موسى ولا من أتباع عيسى فنحن بطريق أولى لا نستطيع أن نعتبره مسلماً أيضاً، لأنّه كان قبل كلّ هذه الأديان. فكيف يصفه القرآن بأنّه كان مسلماً ؟

جواب هذا السؤال هو أنّ «الإسلام» في القرآن لا يعني إتّباع رسول الإسلام فقط، بل الكلمة بالمعنى الأوسع تعني التسليم المطلق لأمر الله للتوحيد الكامل الخالص من كلّ شرك ووثنوية، وكان إبراهيم حامل لواء ذلك الإسلام.

وممّا تقدّم يتّضح أن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن تابعاً لهذه الأديان. ولكن يبقى شيء واحد، وهو من هم الذين يحقّ لهم إدعاء العلاقة والإرتباط بالدين الإبراهيمي وبعبارة اُخرى كيف يمكننا اتباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية ؟

آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول : {إن أولى الناس بإبراهيم لّلذين اتّبعوه…}.

لوضع حدّ لجدل أهل الكتاب حول إبراهيم، نبيّ الله العظيم، الذي كانت كلّ جهة تدّعي أنّه منها، وكانوا يستندون غالباً إلى قرابتهم منه، أو اشتراكهم معه في العنصر، أعاد القرآن مبدأً رئيساً إلى الأذهان وهو أنّ الإرتباط بالأنبياء والولاء لهم إنّما يكون عن طريق الإيمان واتّباعهم فقط. وبناءً على ذلك، فإنّ أقرب الناس لإبراهيم هم الذين يتّبعون مدرسته ويلتزمون أهدافه، سواء بالنسبة للذين عاصروه {لّلذين اتّبعوه} أو الذين بقوا بعده أوفياء لمدرسته وأهدافه، مثل نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه {وهذا النبيّ والذين آمنوا}.

والسبب واضح، فاحترام الأنبياء إنّما هو لمدرستهم، لا لعنصرهم وقبيلتهم ونسبهم. وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ من مبادىء دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون ـ بالإستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع أُصول الإسلام وفروعه ـ من أوفى الأوفياء له، فلابدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا أُولئك.

وفي ختام الآية يبشر الله تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول : {والله ولي المؤمنين}.

ملاحظة :

الإرتباط الديني أوثق الروابط :

ترى هذه الآية أنّ الرابط الوحيد الذي يربط الناس بالأنبياء هو اتّباع مدرستهم وأهدافهم، ليس غير.

لذلك نجد أنّ النصوص المروية عن أئمة الإسلام تؤكّد هذا الموضوع بصراحة تامّة. من ذلك أنّه جاء في تفسير مجمع البيان ونور الثقلين، نقلاً عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال :

«إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به ـ ثمّ تلا الآية المذكورة ثمّ قال : ـ إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته».

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص311-321.

2 ـ مجمع البيان : ذيل الآية المذكورة. تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 352.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى