مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 79-80)

قال تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 79، 80].

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

لما تقدم ذكر أهل الكتاب، وأنهم أضافوا ما يتدينون به إلى الأنبياء، نزههم الله عن ذلك، فقال: {ما كان لبشر} يعني: ما ينبغي لبشر كقوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا}. و {ما كان لنا أن نتكلم بهذا} أي: لا ينبغي. وقيل:

لا يجوز معناه لبشر، ولا يحل له {أن يؤتيه الله} أن: يعطيه الله {الكتاب والحكمة والنبوة} أي: العلم أو الرسالة إلى الخلق. {ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله} أي: اعبدوني من دونه، أو اعبدوني معه، عن الجبائي. وقيل: معناه ليس من صفة الأنبياء الذين خصهم الله لرسالته، واجتباهم لنبوته، وأنزل عليهم كتبه، وجعلهم حكماء علماء، أن يدعوا الناس إلى عبادتهم. وإنما قال ذلك على جهة التنزيه للنبي ” صلى الله عليه وآله وسلم “، عن مثل هذا القول، لا على وجه النهي.

وقوله: {عبادا} هو من العبادة، قال القاضي: وعبيد بخلافه، لأنه بمعنى العبودية. ولا يمتنع أن يكونوا عبادا لغيره. {ولكن كونوا ربانيين} فيه حذف أي:

لا ينبغي لهذا القول أن يقول للناس اعبدوني، ولكن ينبغي أن يقول لهم كونوا ربانيين. وفيه أقوال أحدها: إن معناه كونوا علماء فقهاء، عن علي وابن عباس والحسن. وثانيها:

كونوا علماء حكماء، عن قتادة والسدي وابن أبي رزين. وثالثها: كونوا حكماء أتقياء، عن سعيد بن جبير ورابعها: كونوا مدبري أمر الناس في الولاية بالإصلاح، عن ابن زيد وخامسها: كونوا معلمين للناس من علمكم، كما يقال: أنفق بمالك أي: أنفق من مالك، عن الزجاج.

وروي عن النبي أنه قال: ” ما من مؤمن، ولا مؤمنة، ولا حر، ولا مملوك، إلا ولله عليه حق واجب أن يتعلم من العلم، ويتفقه فيه “. وقال أبو عبيدة: سمعت رجلا عالما يقول: الرباني العالم بالحلال الحرام، والأمر والنهي، وما كان وما يكون. وقال أبو عبيدة: لم تعرف العرب الرباني. وهذا فاسد، لأن القرآن نزل بلغتهم. وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال يوم مات ابن عباس: مات رباني هذه الأمة. وقد ذكرنا اشتقاقه قبل.

{بما كنتم تعلمون الكتاب} أي: القرآن {وبما كنتم تدرسون} أي: الفقه.

ومن قرأ بالتشديد أراد: تعلمونه لسواكم. فيفيد أنهم يعلمون ويعلمون غيرهم.

والتخفيف لا يفيد أكثر من كونهم عالمين. ودخلت الباء في قوله {بما كنتم تعلمون} لأحد ثلاثة أشياء: إما أن يريد كونوا معلمي الناس بعلمكم، كما يقال: أنفقوهم بما لكم، أو يريد: كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم. ووقعت الباء موقع في. أو يريد كونوا ممن يستحق أن يطلق له صفة عالم بعلمه على جهة المدح، بأن تعملوا بما علمتم، وذلك أن الانسان إنما يستحق الوصف لأنه عالم، إذا عمل بعلمه. ويدل عليه قوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

{ولا يأمركم} أي: ولا يأمركم الله، عن الزجاج. وقيل: ولا يأمركم محمد، عن ابن جريج. وقيل: ولا يأمركم عيسى. ومن نصب الراء عطفه على أن يؤتيه الله فمعناه: ولا كان لهذا النبي أن يأمركم {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا} أي: آلهة، كما فعله الصابئون والنصارى {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} ألف إنكار أصله الاستفهام، وإنما استعمل في الانكار لأنه مما لو أقر به المخاطب، لظهرت فضيحته. فلذلك جاء على السؤال، وإن لم يكن الغرض تعرف الجواب ومعناه: إن الله تعالى إنما يبعث النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” ليدعوا الناس إلى الإيمان، فلا يبعث من يدعو المسلمين إلى الكفر.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص331-332.

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) :

كُونُوا رَبَّانِيِّينَ :

{ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } . ليس من شك ان الذي يختاره اللَّه للكتاب والحكم والنبوة يمتنع عليه أن يدعو الناس لعبادته ، لأن هذا كفر ، واللَّه لا يختار الكافرين ، قال تعالى : { ولَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ } .

والآية الكريمة رد على من يلصق بالأنبياء والأولياء صفة من صفات الربوبية ، كما انها – أي الآية – شهادة منه تعالى بتنزيه الأنبياء ، وتبرئتهم من الرضا بالغلو فيهم . . ان النبي يوقن بأنه عبد من عباد اللَّه ، وان اللَّه وحده هو المعبود ، فكيف يعقل أن يدعو الناس لعبادته ، أو عبادة الملائكة . . وانما يأمرهم أن يكونوا ربانيين ، أي عالمين عاملين معلمين .

وفي الحديث ان رجلا قال لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : أنسجد لك ؟ . فقال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللَّه . وقال له آخر : أتريد أن نعبدك ، ونتخذك إلها ؟ . فقال : معاذ اللَّه ! . ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت . . أما حكاية إحراق الإمام علي في النار من نسب إليه الربوبية فأشهر من أن تذكر . . وكل من دعا الناس إلى عبادته فهو كافر ، وكل من دعاهم إلى تعظيمه بقصد التعاظم والاستعلاء فهو فاسق .

وتسأل : لقد تضمنت الآية ثلاثة ألفاظ : الكتاب والحكم والنبوة ، وكل لفظ منها واضح المعنى لا يحتاج إلى تفسير لو كان بمفرده ، لكنها إذا اجتمعت في كلام واحد ، وعطف بعضها على بعض فإنها تحتاج إلى تفسير ، لأن معانيها متداخلة ، بخاصة إيتاء الكتاب والنبوة ، مع العلم بأن العطف يقتضي التغاير . .

فما وجه الفرق بين هذه الكلمات الثلاث الذي سوغ عطف بعضها على بعض ؟ .

الجواب : المراد بالكتاب الكتاب المنزل من اللَّه ، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن ، والمراد بالحكم العلم والسنة النبوية ، قال تعالى عن يحيى : { وآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا – 11 مريم } ، أما النبوة فمعناها معروف ، وهي وان كانت تستلزم معرفة الكتاب والسنة ، ولكن معرفتهما لا تستلزم النبوة ، فكل نبي عالم بالكتاب

والسنة ، وليس كل عالم بالكتاب والسنة نبيا . ونظير هذه الآية قوله تعالى مشيرا إلى الأنبياء { أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ والْحُكْمَ والنُّبُوَّةَ – 89 الانعام . }

{ ولكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } . أي ان النبي يقول للناس : « كونوا عالمين بكتاب اللَّه ، عاملين به ، معلَّمين إياه لغيركم » . قال الشيخ محمد عبده : « أفادت هذه الآية ان الإنسان يكون ربانيا بعلم الكتاب وتعليمه للناس ونشره ، ومن المقرر ان التقرب إلى اللَّه لا يكون بالعلم وحده ، بل لا بد معه من العمل » .

{ ولا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أَرْباباً } . أي ان النبي لا يأمر ، ولن يأمر أحدا بأن يتخذ معبودا غير اللَّه . . كيف ؟ . { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . هم مسلمون ، لأنهم آمنوا بالنبي ، وأخذوا بأقواله . . وكل من آمن بنبي من أنبياء اللَّه في أي عصر من العصور فهو مسلم باصطلاح القرآن (2).

ومن تتبع آيات القرآن ، والسنة النبوية يجد ان من أبرز المظاهر الأصيلة التي تميز بها الإسلام عن غيره من الأديان هي التأكيد على انه لا يجوز بحال أن تنسب صفة الألوهية إلى مخلوق نبيا كان أو ملكا أو وليا . . والسر في التكرار والتأكيد ان الإنسان ميّال بفطرته إلى الغلو ، كما نشاهد ذلك في بعض أهل الأديان . .

وعلى الرغم من هذا التأكيد فقد وجد غلاة بين المسلمين . . وان كثيرا من مسلمي اليوم – ونحن في القرن العشرين – ينسبون إلى بعض الموتى ما لا تجوز نسبته الا إلى اللَّه وحده لا شريك له .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص95-97.

2- سبق التفصيل عند تفسير الآية 19 من هذه السورة .

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1)  :

وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى (عليه السلام) يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على براءة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى، والكلام بمنزلة قولنا: إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية: أما الأول: فلأنه مخلوق بشري حملته أمه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم (عليه السلام) فمثله عند الله كمثل آدم، وأما الثاني: فلأنه كان نبيا أوتي الكتاب والحكم والنبوة والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني ربا وكونوا عبادا لي من دون الله، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق.

قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، البشر مرادف للإنسان، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر.

وقوله : {ما كان لبشر}، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16] ، وقوله : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161].

وقوله تعالى: {أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة}، اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله: {ثم يقول للناس}، وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهرا يفيد وجها آخر لمعنى قوله ما كان لبشر، فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول للناس، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقا وعتوا، ولكنه إذا قيل: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول: كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية، ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى (عليه السلام) في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].

ومن هنا تظهر النكتة في قوله: {أن يؤتيه الله} “الخ” دون أن يقال: ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول “الخ” فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله:{ أن يؤتيه الله }”الخ” فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي إن التربية الربانية والهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} يعني قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].

فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية وبين دعوة الناس إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] – إلى أن قال -: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 173] ، فإن المستفاد من الآية: أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأنا وأرفع قدرا أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب، وحاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته.

فإن قلت: الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله: {ثم يقول للناس}، ينافي الجمع الذي ذكرته.

قلت: ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى، وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية بين المتحدين زمانا كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.

وأما قوله: {كونوا عبادا لي من دون الله}، فالعباد كالعبيد جمع عبد، والفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه، يقال: عباد الله، ولا يقال: غالبا عباد الناس، بل عبيد الناس وتقييد قوله: {عبادا لي} بقوله: {من دون الله} تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] ، فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع.

على أن حقيقة العبادة لا تتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما، والله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.

قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }الرباني منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية ونحو ذلك، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال بعبوديته وعبادته، والباء في قوله: {بما كنتم}، للسببية وما مصدرية، والكلام بتقدير القول والمعنى، ولكن يقول: كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إياه فيما بينكم.

والدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالبا فيما يتعلم عن الكتاب بقراءته قال الراغب: درس ال  دار بقي أثرها، وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه، فلذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، لما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالحفظ، قال تعالى: {ودرسوا ما فيه}، وقال: بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، وما آتيناهم من كتب يدرسونها انتهى.

و محصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من أصول المعارف الإلهية، والاتصاف والتحقق بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها، والعمل بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم، وتكونوا به علماء ربانيين.

و قوله: {بما كنتم}، حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم: إن عيسى أخبرهم بأنه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوة، وذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافا يصاحب التغيير والتحريف، وما بعث عيسى (عليه السلام) إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا فيه، وليحل بعض الذي حرم عليهم، وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.

والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجه فقد كانت لدعوته أيضا مساس بأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون ويدرسون كتاب الله لكن عيسى (عليه السلام) أسبق انطباقا عليه، وكانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأما سائر الأنبياء العظام من أولي العزم والكتاب: كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا }عطف على قوله يقول: على القراءة المشهورة التي هي نصب يأمركم، وهذا كما كان طائفة من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينية، وكعرب الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، وهم يدعون أنهم على دين إبراهيم (عليه السلام) هذا في اتخاذ الملائكة أربابا.

وأما اتخاذ النبيين أربابا فكقول اليهود: عزير بن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوز لهم موسى (عليه السلام) ذلك، ولا وقع في التوراة إلا توحيد الرب ولو جوز لهم ذلك لكان آمرا به حاشاه من ذلك.

وقد اختلفت الآيتان: أعني قوله: {ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله وقوله: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا} من جهتين في سياقهما: الأولى: أن المأمور في الأولى ثم يقول للناس الناس، وفي الثانية هم المخاطبون بالآية، والثانية: أن المأمور به في الأولى العبودية له وفي الثانية الاتخاذ أربابا.

أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقا للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى، وقولهم بألوهيته صريحا مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال: كونوا عبادا لي بخلاف اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا بالمعنى الذي قيل في غير عيسى فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل: أربابا، ولم يقل: آلهة.

وأما الثانية فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما كونوا عبادا لي – لا يأمركم أن تتخذوا أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول، والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل: ثم يقول للناس، ولم يقل: ثم يقول لكم، وهذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاها بل يتم مع الغيبة فإن الأمر المتعلق بالأسلاف متعلق بالأخلاف مع حفظ الوحدة القومية، وأما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم.

وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع، كما جرى عليه قوله تعالى ولا يأمركم إلى آخر الآية.

قوله تعالى: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}، ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي أوتي الكتاب والحكم والنبوة تكونون مسلمين لله متحلين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلكم عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدل عليه أيضا احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] ، وقوله تعالى من بعد: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] – إلى أن قال -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

و قد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى:{ ما كان لبشر أن يؤتيه الله} إلى آخر الآيتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بناء على ما روي في سبب النزول وحاصله أن أبا رافع القرظي ورجلا من نصارى نجران قالا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تريد أن نعبدك يا محمد؟ فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ثم أيده بقوله في آخرهما بعد إذ أنتم مسلمون فإن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفيه أنه خلط بين الإسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الذي بعث به جميع الأنبياء وبين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول، وقد تقدم الكلام فيه.

1- ما هي قصة عيسى وأمه في القرآن؟

كانت أم المسيح مريم بنت عمران حملت بها أمها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محررا يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلما وضعتها وبان لها أنها أنثى حزنت وتحسرت ثم سمتها مريم أي الخادمة وقد كان توفي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلمها للكهنة وفيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها ثم اصطلحوا على القرعة وساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجابا فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلا زكريا وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد كانت (عليها السلام) صديقة، وكانت معصومة بعصمة الله، طاهرة مصطفاة محدثة حدثها الملائكة: بأن الله اصطفاها وطهرها وكانت من القانتين ومن آيات الله للعالمين سورة آل عمران آية 35 – 44، سورة مريم آية 16، سورة الأنبياء آية 91، سورة التحريم آية 12.

ثم إن الله تعالى أرسل إليها الروح وهي محتجبة فتمثل لها بشرا سويا، وذكر لها أنه رسول من ربها ليهب لها بإذن الله ولدا من غير أب، وبشرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة، وأخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس، ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ورسولا إلى بني إسرائيل ذا الآيات البينات، وأنبأها بشأنه وقصته ثم نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها الآيات من آل عمران: 35 – 44.

ثم انتبذت مريم به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله سورة مريم آية 20 – 27، وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شئون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.

فلما رآها قومها – والحال هذه – ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل، وقالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟ قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا: سورة مريم آية – 27 – 33 فكان هذا الكلام منه (عليه السلام) كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء شريعة موسى (عليه السلام) وتقويمه، وتجديد ما اندرس من معارفه، وبيان ما اختلفوا فيه من آياته.

ثم نشأ عيسى (عليه السلام) وشب وكان هو وأمه على العادة الجارية في الحياة البشرية يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر ما عاشا.

ثم إن عيسى (عليه السلام) أوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين التوحيد، ويقول: إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه.

و كان يدعوهم إلى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى (عليه السلام) إلا أنه نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديدا على اليهود، وكان يقول: قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، وكان يقول: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.

و أنجز (عليه السلام) ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات بإذن الله.

و لم يزل يدعوهم إلى توحيد الله وشريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتو القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة التي آمنت به الحواريين أنصارا له إلى الله.

ثم إن اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله ورفعه إليه، وشبه لليهود: فمن زاعم أنهم قتلوه، ومن زاعم أنهم صلبوه، ولكن شبه لهم آل عمران آية 45 – 58، الزخرف آية 63 – 65، الصف آية 6 و14، المائدة آية 110 و111، النساء آية 157 و158 فهذه جمل ما قصه القرآن في عيسى بن مريم وأمه.

2- منزلة عيسى عند الله وموقفه في نفسه:

كان (عليه السلام) عبدا لله وكان نبيا سورة مريم آية 30 وكان رسولا إلى بني إسرائيل آل عمران آية 49 وكان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل الأحزاب آية 7، الشورى آية 13، المائدة آية 46 وكان سماه الله بالمسيح عيسى آل عمران آية 45 وكان كلمة لله وروحا منه النساء آية 171 وكان إماما الأحزاب آية 7 وكان من شهداء الأعمال النساء آية 159، المائدة آية 117 وكان مبشرا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصف آية 6 وكان وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين آل عمران آية 45 وكان من المصطفين آل عمران آية 33 وكان من المجتبين، وكان من الصالحين الأنعام آية 85 – 87 وكان مباركا أينما كان وكان زكيا وكان آية للناس ورحمة من الله وبرا بوالدته وكان مسلما عليه مريم آية 19 33 وكان ممن علمه الله الكتاب والحكمة آل عمران آية 48، فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به هذا النبي المكرم ورفع بها قدره، وهي على قسمين: اكتسابية كالعبودية والقرب والصلاح، واختصاصية، وقد شرحنا كلا منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانها منه.

3 – ما الذي قاله عيسى (عليه السلام) ؟ وما الذي قيل فيه؟

ذكر القرآن أن عيسى كان عبدا رسولا، وأنه لم يدع لنفسه ما نسبوه إليه، ولا تكلم معهم إلا بالرسالة، كما قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 116 – 119].

وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها، ويتضمن من بارع الأدب على مجامعة يفصح عما كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام) من موقفه نفسه تلقاء ربوبية ربه، وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر، ولا يصدر إلا عن أمر، ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلا ما أمر به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.

و لم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب، وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك، غفر أو عذب.

فإن قلت: فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى (عليه السلام) من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع؟.

قلت: القرآن صريح أو كالصريح في ذلك، قال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 86] ، وقد قال تعالى فيه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] ، وقال تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110] ، وقد تقدم إشباع الكلام في معنى الشفاعة، وهذا غير التفدية التي يقول بها النصارى، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجيء من بيانه، والآية إنما تنفي ذلك، وأما الشفاعة فالآية غير متعرضة لأمرها لا إثباتا ولا نفيا فإنها لو كانت بصدد إثباتها – على منافاته للمقام – لكان حق الكلام أن يقال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه، وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إن شاء الله تعالى.

وأما ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام) فإنهم وإن تشتتوا في مذاهبهم بعده، واختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه، وجزئيات المذاهب والآراء كثيرة جدا.

لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه وأمه لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطري القويم، وأما بعض الجزئيات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتم به ذاك الاهتمام.

والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبه إليهم ما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ، وما في معناه، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [الأنبياء: 26] ، وما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] ، وما في قوله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] ، وما في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171].

وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة، ولذلك ربما حملت(2) على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين بالبنوة الحقيقية، والنسطورية القائلين بأن النزول والبنوة من قبيل إشراق النور على جسم شفاف كالبلور، واليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب، وقد انقلب الإله سبحانه لحما ودما.

لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة، وإنما يهتم بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعا وهو البنوة، وأن المسيح من سنخ الإله سبحانه، وما يتفرع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافا كثيرا، وتعرقوا في المشاجرة والنزاع، والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لسانا.

بيان ذلك: أن التوراة والأناجيل الحاضرة جميعا تصرح بتوحيد الإله تعالى، من جانب والإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر، وصرح بأن الابن هو الأب لا غير.

ولم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله: “وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم، وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أبغضكم، وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أ ليس العشارون يفعلون كذلك؟ وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم؟ أ ليس كذلك يفعل الوثنيون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل” آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متى وقوله أيضا: فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” إنجيل متى (3)- الإصحاح الخامس.

وقوله أيضا: “لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات”.

وقوله أيضا في الصلوة: “وهكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السماوات يتقدس اسمك “الخ”.

وقوله: أيضا “فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السمائي خطاياكم” كل ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متى.

و قوله: “وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم” إنجيل لوقا – الإصحاح السادس.

وقوله لمريم المجدلية: “امضي إلى إخوتي وقولي لهم: إني صاعد إلى أبي الذي هو أبوكم وإلهي الذي هو إلهكم” إنجيل يوحنا – الإصحاح العشرون.

فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدس بالنسبة إلى عيسى وغيره جميعا كما ترى بعناية التشريف ونحوه.

وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوة والأبوة نوع من الاستكمال المؤدي إلى الاتحاد كقوله: “تكلم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال: يا أبة قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك ثم ذكر دعاءه لرسله من تلامذته ثم قال: “و لست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحدا كما أنك يا أبة ثابت في وأنا أيضا فيك ليكونوا أيضا فينا واحدا ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن واحد أنا فيهم وأنت في ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني وأنني أحببتهم كما أحببتني” إنجيل يوحنا – الإصحاح السابع عشر.

لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله: “قال له توما: يا سيد ما نعلم أين تذهب؟ وكيف نقدر أن نعرف الطريق؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضا ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضا، قال له فيلبس: يا سيد أرنا الأب وحسبنا، قال له يسوع: أنا معكم كل هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس؟ من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت : أرنا الأب؟ أ ما تؤمن أني في أبي وأبي في وهذا الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي، أنا في أبي وأبي في” إنجيل يوحنا – الإصحاح الرابع عشر.

وقوله : “لكني خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني” إنجيل – يوحنا الإصحاح الثامن.

وقوله : أنا وأبي واحد نحن” إنجيل يوحنا – الإصحاح العاشر.

وقوله لتلامذته: “اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس” إنجيل متى – الإصحاح الثامن والعشرون.

وقوله: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، والله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كل به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان به كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس” إنجيل يوحنا – الإصحاح الأول.

فهذه الكلمات وما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة.

و المراد به حفظ “أن المسيح بن الله” مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه المسيح في تعليمه كما في قوله: “إن أول كل الوصايا: اسمع يا إسرائيل الرب إلهك إله واحد هو” إنجيل مرقس – الإصحاح الثاني عشر.

و محصل ما قالوا به وإن كان لا يرجع إلى محصل معقول: أن الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث، والمراد بالأقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشيء وبروزه وتجليه لغيره وليست الصفة غير الموصوف،: والأقانيم الثلاث هي: أقنوم الوجود وأقنوم العلم، وهو الكلمة، وأقنوم الحياة وهو الروح.

وهذه الأقانيم الثلاث هي: الأب والابن والروح القدس: والأول أقنوم الوجود، والثاني أقنوم العلم والكلمة، والثالث أقنوم الحياة، فالابن وهو الكلمة وأقنوم العلم نزل من عند أبيه وهو أقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو أقنوم الحيوة التي بها يستنير الأشياء.

ثم اختلفوا في تفسير هذا الإجمال اختلافا عظيما أوجب تشتتهم وانشعابهم شعبا ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين، وسيأتيك نبؤها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.

إذا تأملت ما قدمناه عرفت: أن ما يحكيه القرآن عنهم، أو ينسبه إليهم بقوله: {و قالت النصارى المسيح بن الله،} الآية، وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم،} الآية، وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة،} الآية، وقوله: {ولا تقولوا ثلثة انتهوا،} الآية، كل ذلك يرجع إلى معنى واحد وهو تثليث الوحدة هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية، وهو الذي قدمناه في معنى تثليث الوحدة.

وإنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأن الذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح (عليه السلام) على كثرتها وتشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتضح.

4 – احتجاج القرآن على مذهب التثليث

يرد القرآن في الاحتجاج، ويرد قول المثلثة من طريقين، أحدهما: الطريق العام، وهو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره، الثاني: الطريق الخاص وهو بيان أن عيسى بن مريم ليس ابنا إلها بل عبد مخلوق.

أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة والتولد هو أن يجزىء واحد من هذه الموجودات الحية المادية كالإنسان والحيوان بل النبات أيضا شيئا من مادة نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتب على المجزأ منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة، والنبات يفصل من نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته تدريجا حتى يصيره حيوانا أو نباتا آخر مماثلا لنفسه، ومن المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك: أما أولا فلاستلزامه الجسمية المادية، والله سبحانه منزه من المادة ولوازمها الافتقارية كالحركة والزمان والمكان وغير ذلك، وأما ثانيا فلأن الله سبحانه لإطلاق ألوهيته وربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل شيء سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شيء غيره يماثله في النوعية يستقل عنه بنفسه، ويكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له من غير افتقار إليه، وأما ثالثا فلأن جواز الإيلاد والاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه تعالى، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة والحركة وهو خلف بل ما يقع بإرادته ومشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة وتدريج.

وهذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116، 117] ، وعلى ما قربناه فقوله: {سبحانه} برهان، وقوله: {له ما في السموات والأرض كل له قانتون} برهان آخر وقوله: {بديع السموات والأرض إذا قضى} “الخ” برهان ثالث.

ويمكن أن يجعل قوله: {بديع السموات والأرض} من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها، ويستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنه خلق على مثال نفسه لأن مفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهانا آخر.

ولو فرض قولهم: {اتخذ الله ولدا} كلاما ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شيء عن شيء يماثله في الحقيقة من غير تجز مادي أو تدريج زماني وهذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم: المسيح بن الله بعد تنقيحه ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية والمادية والتدريج بقي إشكال المماثلة.

توضيحه أن إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة، وهو إثبات للكثرة الحقيقية وإن فرضت الوحدة النوعية بين الأب والابن كالأب والابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانية، وكثير من حيث إنهما فردان من الإنسان، وعلى هذا فلو فرض وحدة الإله كان كل ما سواه ومن جملتها الابن غيرا له مملوكا مفتقرا إليه فلا يكون الابن المفروض إلها مثله، ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقل مثله بطل التوحيد في الإله عز اسمه.

وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].

وأما الطريق الثاني وهو بيان أن شخص عيسى بن مريم (عليهما السلام) ليس ابنا لله مشاركا له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية ولوازمها.

وتوضيحه أن المسيح (عليه السلام) حملت به مريم، وربته جنينا في رحمها، ثم وضعته وضع المرأة ولدها، ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة أمه، ثم أخذ في النشوء وقطع مراحل الحيوة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة، وفي جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حيوته، يعرضه من العوارض والحالات ما يعرض الإنسان: من جوع وشبع، وسرور ومساءة، ولذة وألم، وأكل وشرب، ونوم ويقظة، وتعب وراحة، وغير ذلك.

فهذا ما شوهد من حال المسيح (عليه السلام) حين مكثه بين الناس، ولا يرتاب ذو عقل أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسي من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه، وأما صدور الخوارق وتحقق المعجزات بيده كإحياء الأموات وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص، وكذا تحقق الخوارق من الآيات في وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي أمور خارقة للعادة المألوفة والسنة الجارية في الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه خلق من تراب ولا أب له، وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى (عليهما السلام) جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم ألوهية، ولا خروجا عن طور الإنسانية.

وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73] – إلى أن قال {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] ، وقد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادية واستلزاما للحاجة والفاقة المنافية للألوهية، فمن المعلوم أن من يجوع ويظمأ بطبعه ثم يشبع بأكلة أو يرتوي بشربة ليس عنده غير الحاجة والفاقة التي لا يرفعها إلا غيره، وما معنى ألوهية من هذا شأنه؟ فإن الذي قد أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبر بغيره، وليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية من ينتهي إليه تدبيره.

وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17].

وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقا آية 75 خطابا للنصارى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76].

فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح أنه كان يعيش على الناموس الجاري في حيوة الإنسان متصفا بجميع صفاته وأفعاله وأحواله النوعية كالأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانية، والخواص البشرية ولم يكن هذا التلبس والاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة وكان المسيح (عليه السلام) إنسانا ذا هذه الأوصاف والأحوال والأفعال، والأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنسانا وابن الإنسان، مملوءة بالقصص الناطقة بأكله وشربه ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شيء منها صرفا ولا تأويلا، ومع تسليم هذه الأمور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئا كغيره، ويمكن أن يهلك كغيره.

وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما للتقرب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض أخر تشابه ذلك.

وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يومىء قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] ، فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله، وأن الألوهية لغيره لا نصيب له فيها، فأي معنى لنصب الشيء نفسه في مقام العبودية والمملوكية لنفسه؟ وكون الشيء قائما بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه والأمر ظاهر وكذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه ولا أن روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 – 28].

على أن الأناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله ورسله مؤتمر للأمر محكوم بالحكم ولا معنى لأمر الشيء نفسه ولا لطاعته لذاته، ولا لانقياده وائتماره لمخلوق نفسه.

ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى :{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ، وسبيل الآية واحتجاجها ظاهر.

والأناجيل أيضا مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه، وهي وإن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع اعبدوا الله ربي وربكم لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله، وعلى اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره، وعلى اعترافه بأنه رب الناس، ولا تتضمن دعوته إلى عبادة نفسه صريحا ولا مرة مع ما فيها من قوله: أنا وأبي واحد نحن” إنجيل يوحنا – الإصحاح العاشر، فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته على أن المراد: أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

5 – المسيح من الشفعاء عند الله وليس بفاد:

زعمت النصارى: أن المسيح فداهم بدمه الكريم، ولذلك لقبوه بالفادي، قالوا: إن آدم لما عصى الله بالأكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة، وكذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا وتناسلوا، وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة والهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه، وقد كان الله سبحانه رحيما عادلا.

فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له، وهو أنه لو عاقب آدم وذريته بخطيئتهم كان ذلك منافيا لرحمته التي لها خلقهم، ولو غفر لهم كان ذلك منافيا لعدله فإن مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطىء بجرمه وخطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه وإساءته(4).

ولم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح، وذلك بأن حل المسيح وهو ابن الله، وهو الله نفسه رحم واحدة من ذرية آدم وهو مريم البتول وتولد منها كما يتولد إنسان فكان بذلك إنسانا كاملا لأنه ابن إنسان، وإلها كاملا لأنه ابن الله، وابن الله هو الله تعالى معصوما عن جميع الذنوب والخطايا.

وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم، ويأكل ويشرب معهم، ويكلمهم ويستأنس بهم، ويمشي فيهم تسخر لأعدائه ليقتلوه شر قتلة، وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن والصلب بما فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة وهلاك السرمد وهو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم(5) هذا ما قالوه.

وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم فلا يبدءون إلا بها، ولا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة الإسلامية هو التوحيد كما قال الله مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] ، مع أن المسيح على ما يصرح به الأناجيل، وقد تقدم نقله.

كان يجعل أول الوصايا هو التوحيد ومحبة الله سبحانه.

وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد والبطلان، وألفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل، ومناقضتها لكتب العهدين.

والذي يهمنا ويوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لأصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.

على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس ويكلمهم ببيان ما يقرب من أفق عقولهم، ويمكن بياناته من فقههم وفهمهم، وهو الأمر الذي به يميز الإنسان الحق من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك، ويفرق بين الخير والشر والنافع والضار فيأخذ بهذا ويترك ذاك، والذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.

فأما ما ذكروه ففيه أولا: أنهم ذكروا معصية آدم (عليه السلام) بالأكل من الشجرة المنهية، والقرآن يدفع ذلك من جهتين: الأولى: أن النهي هناك كان نهيا إرشاديا يقصد به صلاح المنهي ووجه الرشد في أمره لا إعمال المولوية والأمر الذي هو من هذا القبيل لا يترتب على امتثاله ولا تركه ثواب ولا عقاب مولوي كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره، وأوامر الطبيب ونواهيه للمريض بل إنما يترتب على امتثال التكليف الإرشادي الرشد المنظور لمصلحة المكلف، وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنه فعل، وبالجملة لم يلحق بآدم (عليه السلام) إلا أنه أخرج من الجنة وفاته راحة القرب وسرور الرضا، وأما العقاب الأخروي فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقابا، راجع تفسير الآيات 35 – 39، من سورة البقرة.

والثانية: أنه (عليه السلام) كان نبيا والقرآن ينزه ساحة الأنبياء (عليهم السلام) ويبرىء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي والفسق عن أمر الله سبحانه، والبرهان العقلي أيضا يؤيد ذلك، راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية 213 من سورة البقرة.

وثانيا: قولهم: إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ، وقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 37].

والاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة وتبعة الذنب إنما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة والتمرد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلو لا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولوية ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أن من شئون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنه نوع تصرف وحكومة كما أن له أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة، وحسن العفو والمغفرة عن الموالي وأولي القوة والسطوة في الجملة مما لا ريب فيه، والعقلاء من الإنسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون كل خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان مما لا وجه له البتة وإلا لم يكن لأصل العفو والمغفرة تحقق لأن المغفرة والعفو إنما يكون لإمحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب، ومع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة، مع أن الوحي الإلهي مملو بحديث العفو والمغفرة، وكتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام المنقول منهم لا يخلو عنه، وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والإمحاء حتى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم مما لا يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.

و ثالثا: أن قولهم: إن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضا ممن لم يذنب في المعاصي المولوية.

و بعبارة أخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعم عصيانه وتبعته غير فاعله كما يشمل فاعله، وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يرد ذلك كما في قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: 38، 39] ، والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه.

راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية 216 – 218 من سورة البقرة.

و رابعا: أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبدي من غير فرق بينها، ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات، والذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا والمعاصي مختلفة فمنها كبائر، ومنها صغائر، ومنها ما تناله المغفرة، ومنها ما لا تناله إلا بالتوبة كالشرك، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48] ، فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها وهي الخطايا والذنوب ما هي كبائر، وما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة، وجعل تعالى من الذنوب ما لا يقبل المغفرة، ومنها ما يقبلها فالذنوب على أي حال مختلفة، وليس كل ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبدي.

على أن العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب ونظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل والنظر المريب غير الزنا، وهكذا، والعقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كل ذنب وخطإ موضع غيره، ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤاخذات مختلفة فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحدا مع هذا الاختلاف الفاحش بينها، وإذا فرض اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله، كما يقول القرآن الكريم.

و من المعلوم أن مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحل محل الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبد راجع بحث الأفعال السابق الذكر.

و خامسا: ما ذكروه من وقوع الإشكال، وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة وصفة العدل ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الذي ذكروه.

و المتأمل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنهم يرون أن الله تعالى وتقدس موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه إنما يفعل بإرادة وعلم في نفسه، وإرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما أن الإنسان إنما يريد شيئا إذا رجحه بعلمه، فهناك مصالح ومفاسد يطبق الله أفعاله عليها فيفعلها، وربما أخطأ في التطبيق فندم(6) على الفعل، وربما فكر في أمر ولم يهتد إلى طريق صلاحه، وربما جهل أمرا، وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالإنسان إنما يفعل ما يفعل بالتفكر والتروي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح ومقهور بعملها فيه من الخارج، ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال والاشتباه والغفلة فربما يعلم وربما يجهل، وربما يغلب وربما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه، وإذا جاز عليه هذا الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك، والذي هذا شأنه يكون موجودا ماديا جسمانيا واقعا تحت ناموس الحركة والتغير والاستكمال، والذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع، وليس بالواجب تعالى، الخالق لكل شيء.

و أنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميته واتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات وخاصة الإنسان.

والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافية، كما يقول تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] ، والبراهين العقلية القاطعة قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم، والقدرة المطلقة من غير عجز، والعلم المطلق من غير طروّ جهل، والحيوة المطلقة من غير إمكان موت وفناء، وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغير حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حياته.

و إذا كان كذلك لم يكن جسما ولا جسمانيا لأن الأجسام والجسمانيات محاط التغيرات والتحولات، ومحال الإمكانات والافتقارات والاحتياجات، وإذا لم يكن جسما ولا جسمانيا لم يطرأ عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوعة: من غفلة وسهو وغلط وندم وتحير وتأثر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبية ونحوها، وقد استوفينا البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها، يجدها المراجع إذا راجع.

وعلى الناقد المتبصر والمتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين: ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال، وينزهه عن كل صفة نقص، وبالأخرة يعده أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد والتقدير، وبين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير يونان، وخرافات هند القديم والصين، وأمور كان الإنسان الأولي يتوهمها فيتأثر مما قدمه إليه وهمه.

وسادسا: قولهم إن الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحل رحما من الأرحام ليتولد إنسانا وهو إله، وهذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلانه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.

ومن المعلوم أن العقل أيضا لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي، وعدم التغير، وعدم تحدد الوجود، والإحاطة بكل شيء، والتنزه عن الزمان والمكان وما يتبعهما، وتأملت في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنينا في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين، أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسمية وجميع أوصاف الجسمية وآثارها وبين ما ليس فيه جسمية ولا شيء مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل الاتحاد بينهما بوجه.

وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره بولس وغيره من رؤسائهم القديسين من تقبيح الفلسفة والإزراء بالأحكام العقلية، يقول بولس: “قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء ولأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمق؟ أ وليس قد حمق الله حكمة هذا العالم – إلى أن قال -: وإذ اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة نكرز نحن بالمسيح مصلوب” رسالة بولس – الإصحاح الأول، ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره وليست إلا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة، يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل والكتب وتعمق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.

ومن ما مر يظهر ما في قولهم: إنه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإن الإله الذي صوروه غير مصون عن الخطإ أصلا بمعنى الغلط في الإدراك والغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.

وأما الذنب والمعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة والانقياد فهو غير متصور في حقه تعالى فالعصمة أيضا غير متصورة في حقه سبحانه.

وسابعا: قولهم: إنه بعد أن صار إنسانا عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حق تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون إلها وإنسانا في عرض واحد، فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئا من مخلوقاته أي يتصف بحقيقة كل نوع من هذه الأنواع الخارجية، فتارة يكون إنسانا من الأناسي، وتارة فرسا، وتارة طائرا، وتارة حشرة، وتارة غير ذلك، وتارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان والفرس والحشرة معا.

وهكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختص به، وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معا كالعدل والظلم، وأن يتصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل، والقدرة والعجز، والحياة والموت والغنى والفقر، تعالى الملك الحق، وهذا غير المحذور المتقدم في الأمر السادس.

و ثامنا: قولهم: إنه تحمل الصلب واللعن أيضا لأن المصلوب ملعون، ما ذا يريدون بقولهم: إنه تحمل اللعن؟ وما ذا يراد بهذا اللعن؟ أ هو هذا اللعن الذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك؟ فإن كان هو الذي نعرفه، وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إياه من الرحمة؟ فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما، وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدس بأي وجه تصوروه؟ مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل شيء.

والتعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15] ، والقرآن يسميه تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذل وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.

فإن قيل: إن اتصافه بالهوان، وحمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان، وإلا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك.

قيل لهم: هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن واتصافه بهذه الأمور الشاقة حقيقة ومن غير مجاز أو لا؟ فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه، وإن كان الثاني عاد الإشكال، أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل، فإن تحمل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتم أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان، وهو ظاهر.

و تاسعا: قولهم: إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم، يدل ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفية استتباعها للعقاب الأخروي وكيف يتحقق هذا العقاب، ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع، وما هو موقف التشريع من ذلك؟ على ما يتكفله البيان القرآني وتعليمه.

فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } [البقرة: 26] ، وفي ذيل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [البقرة: 213] ، أن الأحكام والقوانين التي يقع فيها المخالفة والتمرد ثم الذنب والخطيئة إنما هي أمور وضعية اعتبارية أريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنساني بالعمل بها والرقوب لها، وأن العقاب المترتب على المعصية والمخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفا للإنسان المكلف عن اقتراف المعصية والتمرد عن الطاعة، هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنساني.

لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقى من ذلك وأرق ويؤيده البحث العقلي على ما مر وهو أن الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله وعدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة، وهذه هي التي تهيىء للإنسان نعمة أخروية أو نقمة أخروية اللتين ممثلهما الجنة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتكي وتنتهي إلى أمور حقيقية لها نظام حقيقي غير اعتباري.

و من البين أيضا أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة، وإنهاء الهداية التكوينية إلى غايتها وهدفها من الخلقة، وبعبارة أخرى، شأنه تعالى إيصال كل نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الإنسان النظام النوعي الصالح في الدنيا، والحيوة الناعمة السعيدة في الآخرة، والطريق إلى ذلك الدين الذي يتكفل قوانين صالحة لإصلاح الاجتماع وجهات من التقرب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه ويتهيأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة، كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه والطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الأمر.

فللإنسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين ولصلاح اجتماعه المدني في الدنيا، والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد، وجميع ذلك أمور حقيقية غير مبتنية على اللغو والجزاف.

وإذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهية من آدم أوجب له الهلاك الدائم ولا له فحسب بل ولجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء ويفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح؟ وما فائدة تشريعه معه؟ وما فائدة تشريعه بعده؟!.

وذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم والعقاب الأخروي محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه، ولم يزل الوعد والوعيد والإنذار والتبشير خالية عن وجه الصحة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد.

وإذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع السابقة وكم من الأنبياء والربانيين من الأمم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم وموسى (عليهما السلام) وغيرهما وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى أ ترى أنهم ختموا الحيوة على الشقاء أو السعادة؟ وما الذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة؟ استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحيوة السعيدة؟.

مع أن المسيح يصرح بأنه إنما أرسل لتخليص المذنبين والمخطئين وأما الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك؟ وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية وجعل النواميس الدينية قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغوية، ولا لهذا الفعل العجيب من الله تعالى وتقدس – محمل حق إلا أن يقال، إنه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شيء من هذه التشريعات قط، وإنما شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوما لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك، ويبلغ غايته ويظفر بأمنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس، وإخفاء أن هاهنا محذورا لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافة، وذهبت الشرائع سدى، وإظهار أن التشريع والدعوة على الجد والحقيقة.

فغر الناس وغر نفسه: أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم، وأما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود لغوا لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له فهذا، حال تشريع الدين قبل وصول أوان الفداء وتحققه!.

وأما في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينية والهداية الإلهية لغوا أوضح وأبين، فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة، واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة، وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لو لا الفداء.

فإن قيل: إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به المسيح في بشارته.

قيل: مضافا إلى أنه مناقض لما تقدمت الإشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته، أنه هدم لجميع الأصول الماضية إذ لا يبقى من الناس – آدم فمن دونه – في حظيرة النجاة والخلاص إلا شرذمة منهم وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الأصول وأما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم، فليت شعري إلى ما يئول أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من أممهم؟ وبما ذا يتصف الدعوة التي جاءوا بها من كتاب وحكم، أ بالصدق أم بالكذب؟ والأناجيل تصدق التوراة ودعوتها، وليس فيها دعوة إلى قصة الروح والفداء! وهل هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب.

فإن قيل: إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح، وهذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح وإن لم تفصل القول في كيفية نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشر أنبياءه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفسا بما سيصنعه.

قيل: أولا: إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب، على أن البشارة لو كانت فإنما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتدين به.

وثانيا: إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتى من المسيح نفسه، والأناجيل مملوءة بذلك.

وثالثا: إن محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى إنما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة على كافتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم.

فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل، ويؤيده ويجري عليه القرآن الكريم، قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] ، فبين أن كل شيء مهدي إلى غايته وما يبتغيه بوجوده، والهداية تعم التكوينية والتشريعية فالسنة الإلهية جارية على بسط الهداية، ومنها هداية الإنسان هداية دينية.

ثم قال تعالى وهو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38، 39] ، وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردد وارتياب، وقد قال تعالى: { وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] ، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ } [ق: 29] ، فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه، هو الذي يمضيه، وإنما يفعل ما قاله، فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد عليه لا من جهة نفسه بأن يريد شيئا ثم يتردد في فعله، أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله ولا جهة غيره بأن يريد شيئا ويقطع به ويعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر، وغلبة المانع الخارجي قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [الطلاق: 3] ، وقال تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر: 17].

تدل هذه الآيات وما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره، ولم يجهل شيئا مما سيظهر منه ولم يندم على ما فعله، ثم شرع لهم الشرائع تشريعا جديا فاصلا من غير هزل ولا خوف ولا رجاء، ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب، أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه.

وعاشرا: ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق به من نفس أو مال أثر سيىء من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شيء كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالأموال ويسمى البدل فدية وفداء، فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حق صاحب الحق وسلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن يلحق به الشر.

ومن هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة الإلهية – على خلاف السلطنة الوضعية الاعتبارية الإنسانية – سلطنة حقيقية واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف، فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحق وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها وأمثالها أمور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا، نحن المجتمعين نبطلها مرة، ونبدلها أخرى على حسب تغير مصالحنا في الحيوة والمعاش راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26].

وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ} [الحديد: 15] ، وقد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [المائدة: 116] – إلى أن قال – {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117، 118] فإن قوله: وكنت عليهم “الخ” في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته علي وعينته وهو تبليغ الرسالة والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم، وأما هلاكهم ونجاتهم وعذابهم ومغفرتهم فإنما ذلك إليك من غير أن يرتبط بي شيء من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئا منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك عليهم، وفي ذلك نفي الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معا إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلا.

وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48] ، وكذا قوله تعالى: {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254] ، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33] ، فإن العدل في الآية الأولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.

نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أن الشفاعة كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي} [البقرة: 48] ، نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئا أو يسلب عنه ملك أو سلطنة، أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع عنده وهو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه، وهذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.

فالشفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر معاملة يتبدل به سلطنة من شيء إلى شيء آخر هو الفداء ويخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.

و يدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، فإنه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى، والمسيح (عليه السلام) ممن كانوا يدعونهم من دون الله، وقد نص القرآن بأن الله علمه الكتاب والحكمة، وبأنه من الشهداء يوم القيامة، قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [آل عمران: 48] ، وقال تعالى حكاية عنه: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء: 159] ، فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح (عليه السلام) من الشفعاء، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48].

6 – من أين نشأ هذه الآراء؟

القرآن ينفي أن يكون المسيح (عليه السلام) هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروج لها فيما بينهم بل إنهم تعبدوا لرؤسائهم في الدين وسلموا الأمر إليهم وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 30، 31].

وهؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله: يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، ليسوا هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله فإن قولهم بأن لله ابنا أقدم تاريخا من تماسهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصة قول اليهود بذلك مع أن ظاهر قوله: من قبل، أنهم سابقون فيه على اليهود والنصارى، على أن اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك.

على أن الوثنية من الروم ويونان ومصر وسورية والهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه، وانتقال العقائد والمزاعم الدينية إليهم منهم أسهل، والأسباب بذلك أوفق.

فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء وثنية الهند والصين ووثنية الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقا كما أن التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوة والأبوة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك، وهذا من الحقائق التاريخية التي ينبه عليها القرآن الشريف.

و نظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] ، فإن الآية تبين أن غلوهم في الدين بغير الحق إنما طرأ عليهم بالتقليد واتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم.

وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم، فإن الكلام مطلق غير مقيد ولم يقل: قوم منكم، وأضلوا كثيرا منكم، وليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم، على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيرا أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين بصيغة المفعول فيهما ولم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين أميين ليس عندهم من العلم والحضارة والتقدم ما يتبعهم به وفيه غيرهم من الأمم كفارس والروم والهند وغيرهم.

فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين والهند والغرب كما تقدم.

7 – ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو؟

الرواية وإن عدت المجوس من أهل الكتاب، ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاص أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب، نوح وصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود، لكن القرآن لا يذكر شأنهم، ولا يذكر كتابا لهم، والذي عندهم من “أوستا” لا ذكر منه فيه، وليس عندهم من سائر الكتب اسم.

وإنما يطلق القرآن “أهل الكتاب” فيما يطلق، ويريد بهم اليهود والنصارى لكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم.

والذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة وثلاثون كتابا منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار، ومنها كتب المؤرخين اثنا عشر كتابا، ومنها كتاب أيوب، ومنها زبور داود، ومنها ثلاثة كتب لسليمان، ومنها كتب النبوات سبعة عشر كتابا.

ولم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى وزبور داود (عليه السلام).

والذي عند النصارى من مقدسات الكتب، الأناجيل الأربعة: وهي إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، ومنها كتاب أعمال الرسل، ومنها عدة من الرسائل،.

ومنها رؤيا يوحنا.

ولم يذكر القرآن شيئا من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر أن هناك كتابا سماويا أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل، وهو إنجيل واحد ليس بالأناجيل، والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلا أن في كلمات رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل.

والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضا من التوراة الحقة موجود فيما عند اليهود، وكذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى، قال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] ، وقال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14] ، والدلالة ظاهرة.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 238-267.

2. كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل .

3. النسخة العربية المطبوعة سنة 1811 م وعنها ننقل جميع ما نقله في هذا البحث عن كتب العهد العربية .

4.هذا ما عليه معظمهم ويظهر من بعضهم كالقسيس (مار اسحاق) أن التخلف في مجازاة الجريمة والخطيئة وبعبارة اخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد .
5. في الرسالة الاولى ليوحنا – الفصل الاول ( يااولادي هذه الالفاظ اكتبها اليكم لئلا تخطئوا وان يخطئ احدكم فلنا لدى الرب معزى عدل يسوع المسيح وذلك هو اغتفار من اجل خطايانا فقط بل من اجل العالم كله ).

6.في الاصحاح السادس من سفر التكوين من التوراة وكره الله خلقة ولد آدم على الارض (التوراة العربية سنة 1811م).

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1)

الدعوة إلى عبادة غير الله مس تحيلة :

سبق أن قلنا إنّ واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة ـ اليهود والنصارى ـ كانت تزييف الحقائق. من ذلك قولهم باُلوهية عيسى، زاعمين أنّه هو الذي أمرهم بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحقّقه بشأن رسول الإسلام أيضاً، للأسباب التي ذكرناها في نزول الآية.

إنّ الآية ردّ حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء. تقول الآية : ليس لكم أن تعبدوا نبيّ الإسلام ولا أيّ نبيّ آخر ولا الملائكة. ويخطىء من يقول إنّ عيسى قد دعاهم إلى عبادته.

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ }.

الآية تنفي نفياً مطلقاً هذا الأمر. أي أنّ الذين أرسلهم الله وأتاهم العلم والحكمة لا يمكن ـ في أيّة مرحلة من المراحل ـ أن يتعدّوا حدود العبودية لله. بل إنّ رسل الله هم أسرع خضوعاً له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا عن طريق العبودية والتوحيد ويجرّوا الناس إلى هوة الشرك.

{ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }.

«الربّاني» هو الذي أحكم إرتباطه بالله. ولمّا كانت الكلمة مشتقّة من «ربّ» فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير أُمورهم وإصلاحهم.

وعلى هذا يكون المراد من هذه الآية : إنّ هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم) لا يليق بهم، إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيّين فى ضوء تعليم آيات الله وتدريس حقائق الدين، ويصيّروا منهم أفراداً لا يعبدون غير الله ولا يدعون إلاَّ إلى العلم والمعرفة.

يتّضح من ذلك أنّ هدف الأنبياء لم يكن تربية الناس فحسب، بل استهدفوا أكثر من ذلك تربية المعلّمين والمربّين وقادة الجماعة، أي تربية أفراد يستطيع كلّ منهم أن يضيء بعلمه وإيمانه ومعرفته محيطاً واسعاً من حوله.

تبدأ الآية بذكر «التعليم» أوّلاً ثمّ «التدريس». تختلف الكلمتان من حيث اتّساع المعنى، فالتعليم أوسع ويشمل كلّ أنواع التعليم، بالقول وبالعمل، للمتعلّمين وللأُمّيّين. أمّا التدريس فيكون من خلال الكتابة والنظر إلى الكتاب، فهو أخصّ والتعليم أعمّ.

{ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا }.

هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء. وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات الله، وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الاُلوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم. كذلك هو جواب للص «عزيراً»

ابن الله، أو النصارى الذين قالوا إن «المسيح» ابن الله، وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى عبادة غير الله.

وفي الختام تقول الآية {أيأمُركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}. أيمكن أن يدعوكم النبيّ إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً ؟

واضح أنّ «الإسلام» هنا يقصد به معناه الأوسع، كما هي الحال في مواضع كثيرة من القرآن، وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد. أي كيف يمكن لنبيّ أن يدعو الناس أوّلاً إلى الإيمان والتوحيد، ثمّ يدلّهم على طريق الشرك ؟ أو كيف يمكن لنبيّ أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام. فيدعوهم إلى الكفر والشرك ؟

تنوّه الآية ضمنيّاً بعصمة الأنبياء وعدم إنحرافهم عن مسير إطاعة الله(2).

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص337-339.

2 ـ في القراءة المعروفة التي اعتمدتها طبعة القرآن السائدة، تأتي «ولا يأمركم» في حالة نصب ـ بفتح الراء ـ وهي معطوفة على «أي يؤتيه الله» في الآية السابقة. و «لا» توكيد لـ «ما» النافية في الآية السابقة. وعليه تكون الآية بهذا المعنى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا }.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى