مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 92)

قال تعالى : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآية (1) :

{لن تنالوا البر} أي: لن تدركوا بر الله تعالى بأهل طاعته. واختلف في البر هنا فقيل: هو الجنة، عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: هو الطاعة والتقوى، عن مقاتل وعطاء. وقيل: معناه لن تكونوا أبرارا أي: صالحين أتقياء، عن الحسن {حتى تنفقوا مما تحبون} أي: حتى تنفقوا المال. وإنما كني بهذا اللفظ عن المال، لأن جميع الناس يحبون المال. وقيل: معناه ما تحبون من نفائس أموالكم، دون أرذالها. كقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وقيل: هو الزكاة الواجبة، وما فرضه الله في الأموال، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات، عن مجاهد وجماعة.

وقد روي عن أبي الطفيل قال: اشترى علي ” عليه السلام ” ثوبا فأعجبه، فتصدق به، وقال: سمعت رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” يقول: ” من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة (2)، ومن أحب شيئا فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافؤون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أكافيك اليوم بالجنة “. وروي أن أبا طلحة قسم حائطا له في أقاربه عند نزول هذه الآية، وكان أحب أمواله إليه، فقال له رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم “: ” بخ بخ ذلك مال رابح لك “. وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” أسامة بن زيد، فكأن زيدا وجد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به! فقال رسول الله: أما إن الله قد قبلها منك. وأعتق ابن عمر جارية كان يحبها، وتلا هذه الآية، وقال: لولا أني لا أعود في شئ جعلته لله تعالى لنكحتها.

وأضاف أبو ذر الغفاري ضيفا، فقال للضيف: إني مشغول، وإن لي إبلا، فاخرج وأتني بخيرها. فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال له أبو ذر: خنتني بهذه.

فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه. فقال أبو ذر: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.

وقال أبو ذر: في المال ثلاثة شركاء: القدر لا يستأمرك (3) أن يذهب بخيرها أو شرها من هلك أو موت. والوارث ينتظرك أن تضع رأسك، ثم يستاقها، وأنت ذميم. وأنت الثالث: فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن، إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. وإن هذا الجمل كان مما أحب من مالي، فأحببت أن أقدمه لنفسي.

وقال بعضهم: دلهم بهذه الآية على الفتوة فقال: {لن تنالوا البر} أي: بري بكم، إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من مالكم وجاهكم وما تحبون، فإذا فعلتم ذلك، نالكم بري وعطفي. {وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم} جاء بالفاء على جواب الشرط، وإن كان الله يعلم ذلك على كل حال. وفيه وجهان أحدها:

إن تقديره: وما تنفقوا من شئ فإن الله يجازيكم به، قل أو كثر، لأنه عليم لا يخفى عليه شئ منه. والآخر: إن تقديره: فإنه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها.

فإن قيل: كيف قال سبحانه {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} والفقير ينال الجنة، وإن لم ينفق؟ قيل: الكلام خرج مخرج الحث على الانفاق، وهو مقيد بالإمكان. وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب. والأولى أن يكون المراد:

لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه، حتى تنفقوا مما تحبون. وروي عن ابن عمر أن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” سئل عن هذه الآية فقال: ” هو أن ينفق العبد المال وهو شحيح يأمل الدنيا، ويخاف الفقر “.

النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما ذكر في الآية الأولى {لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا} وصل ذلك بقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا} لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص342-343.

2- [وقيل: هو الثواب في الجنة].

3- أي: لا يستشيرك.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآية (1) :

المال هو المحك :

 المراد بالبر هنا إكرام اللَّه ، وتفضله على عبده . . وقد سبق تفسير العديد من الآيات التي حثت على الإنفاق ، ولكن لهذه الآية ميزة على كل آية وردت في هذا الباب . لأنها لم تأمر بالإنفاق وكفى ، كغيرها من الآيات ، بل ربطت بين نيل الإنسان الدرجات العلى عند اللَّه سبحانه ، وبين إقدامه على التضحية بما يحب ، فالعبادة المجردة عن التضحية لا تقرّب من اللَّه بموجب دلالة هذه الآية ، وكذا سائر الأعمال إلا ان ينطبق عليها نوع من الفداء والتضحية في سبيل اللَّه .

وعلى هذا يكون قوله تعالى : { لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } بيانا وتفسيرا لكل آية ورواية حثت على العمل من أجل مرضاة اللَّه ، والقرب منه ، بيانا وتفسيرا بأن القرب منه تعالى لا يحصل ، ولن يحصل لأحد الا إذا بذل من نفسه وماله ما يحب . . وكأنّ الإمام علي ( عليه السلام ) أخذ من هذه الآية قوله : لا حاجة للَّه فيمن ليس للَّه في ماله ونفسه نصيب .

ان البذل مما تشح به النفس ، وتحرص عليه ، بخاصة المال هو المحك المميز بين الايمان الدخيل والأصيل . . فلقد كان المال ، ولا زال معبود الملايين ، وان كثيرا من الناس يخيل الشيطان إليهم انهم يعبدون اللَّه سبحانه ، وهم في حقيقتهم وواقعهم يعبدون الدرهم والدينار ، ولكنهم لا يشعرون .

جاء في بعض الروايات ان إبليس كان قبل ضرب الدرهم والدينار في شغل شاغل ، لإغواء الناس ، وصرفهم عن عبادة الرحمن إلى عبادة الأوثان ، ولا يجد فترة من راحة في ليل ولا نهار . . وبعد ان دارت الأيام ، وضرب الدرهم والدينار تنفس إبليس الصعداء ، وفرح فرحا لم يفرح مثله من قبل ، وأقام حفلات الأنس والطرب ، وكان يرقص ، وهو يضع الدرهم على إحدى عينيه ، والدينار على الثانية ، ويقول : لقد أرحتماني . . ولست أبالي بعد اليوم أعبد كما الناس ، أم عبدوا الأوثان . .

وسواء أكانت هذه الرواية قضية في واقعة ، أم كانت أسطورة من الأساطير فإنها تصوير صادق ورائع لعدم الفرق بين المال ، وعبادة الأوثان ، فكل منهما يصرف عن اللَّه والحق ، بل ان عبادة المال أسوأ أثرا ، وأكثر ضررا ، لأن المال مادة الشهوات ، ومصدر الفساد في كثير من الأحيان . . فالذين خانوا أوطانهم انما خانوها من أجل المال ، والذين حاربوا الأنبياء والمصلحين ، وحرّفوا الدين ، وشريعة سيد المرسلين انما فعلوا ذلك بعد أن قبضوا الثمن . . ومهما شككت فإني لا أشك ان الملحدين وعبدة الأوثان الذين لم يخونوا بلادهم ، ولم يتآمروا على الأبرار والمخلصين لهم خير ألف مرة من الصائم المصلي ، والحاج المزكي الذي تآمر مع أعداء اللَّه على بيع البلاد ، وأقوات العباد .

اذن ، فلا عجب إذا أناط سبحانه نيل الدرجات عنده بالبذل والتضحية بالمال ، وبالعزيز الغالي ، حيث يكشف هذا البذل عن إيثار الحق على الباطل ، والآجل على العاجل .

ولك أن تسأل : ان قوله تعالى : { لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } يدل بظاهره ان الجنة محرمة الا على من بذل الطيّب من ماله ، مع العلم ان كثيرا من الناس ، أو أكثر الناس لا يملكون شيئا .

الجواب : ان الخطاب في الآية الكريمة يختص بالمالك القادر ، أما العاجز الذي لا يملك شيئا فيجب أن يأخذ ، لا أن يعطي ، بل هو أحد موارد البذل والعطاء . . هذا ، إلى ان الذين يجاهدون بأنفسهم أعظم درجة عند اللَّه من الذين يجاهدون بأموالهم ، لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود ، كما قال الشاعر .

وكما دلت الآية على ان القرب من اللَّه سبحانه منوط بالبذل والتضحية فقد

دلت أيضا على ان المال يكون مصدرا للخيرات ، ووسيلة لطاعة الرحمن ، كما يكون مادة للشهوات ، ومرضاة الشيطان ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : « من طلب الدنيا مكاثرا مفاخرا لقي اللَّه ، وهو عليه غضبان ، ومن طلبها استعفافا ، وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ، ووجهه كالقمر ليلة البدر » . وقال الإمام ( عليه السلام ) :

ما أعطي أحد من الدنيا شيئا إلا نقص حظه من الآخرة . فقال له بعض من حضر : واللَّه انّا لنطلب الدنيا . فقال له الإمام : تصنع بها ما ذا ؟ قال :

أعود بها على نفسي وعلى عيالي ، وأتصدق منها ، وأحج . قال الإمام : ليس هذا من طلب الدنيا ، هذا من طلب الآخرة .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص107-109.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآية (1)  :

ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الإشكال في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] ، من حيث تاريخ النزول.

وربما يقال: إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجها إليهم، ومحصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم ولومهم على حب الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنكم كاذبون في دعواكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنكم أهل البر والتقوى، فإنكم تحبون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها ولا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله وفقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه، هذا محصل ما قيل: وفيه تمحل ظاهر!.

وأما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، النيل هو الوصول، والبر هو التوسع في فعل الخير، قال الراغب: البر خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير، انتهى.

ومراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق والنية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى، وقد اشتمل على القسمين جميعا قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177].

ومن انضمام الآية إلى قوله: {لن تنالوا البر} الآية، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال، وعده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال التي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون، وكان هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل، ونحو ذلك، لكنه محجوج بما مر من الآية.

ويتبين من آية البقرة المذكورة أيضا أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية والعملية، ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالبر هو إحسان الله وإنعامه، وما في قول آخرين: إن المراد به الجنة.

قوله تعالى : {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم}، تطييب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدورا من غير أجر فإن الله الذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 296-297.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآية  (1)

من علائم الايمان :

{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }.

ولفظة «البر» في أصلها اللغوي تعني «السعة» ولهذا يقال للصحراء «البَر» بفتح الباء، ولهذه الجهة أيضاً يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم «البِر» بكسر الباء، والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك، بينما يطلق الخير على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتّى لو وقع عن سهو غير قصد.

ماذا يعني «البر» في الآية ؟

لقد ذهب المفسّرون في تفسير «البر» في هذه الآية إلى مذاهب شتى.

فمنهم من قال : إن المراد به هو «الجنة»، ومنهم من قال أن المراد هو «الطاعة  والتقوى» ومنهم من فسّره بأن معناه «الأجر الجميل».

غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه هو : أن لكلمة «البر» معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالاً صالحة، كما أن المستفاد من الآية 177 من سورة البقرة هو إعتبار «الإيمان بالله واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصلاة، والصيام، والوفاء، والإستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه.

وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة، منها : لإنفاق ممّا يحبه الإنسان من الأموال، لأن الحبّ الواقعي لله، والتعلّق بالقيم الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين، وواجه خيارين لا ثالث لهما، ويقع في أحد الجانبين الثروة، أو المنصب، والمكانة المحببة لديه، وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير، ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر، ويتغاضى عنه.

فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته، وبرهن على حبه، وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه.

وإذا اقتصر ـ في هذا السبيل ـ على إنفاق الحقير القليل، وبذل ما لايحبه ويهواه، فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة، والتعلّق المعنوي عن تلك المرتبة السامية، وأنه ليس إلاّ بنفس الدرجة التي أظهرها في سلوكه وعطائه لا أكثر، وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية، ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان، ومدى تجذره في ضميره.

تأثير القرآن في قلوب المسلمين :

لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين  الأوائل، فما إن سمعوا آيات جديدة النزول، إلاّ وظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي ممّا ورد في مجال هذه الآية بالذات.

1 ـ كان «أبو طلحة» أكثر أنصاري المدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت {لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون} قام أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن الله يقول : لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون وأن أحب أموالي إلي بيرحاء، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة : افعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه(2).

2 ـ أضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً، فقال للضيف : إني مشغول، وأن لي إبلاً فاخرج وآتني بخيرها، فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال أبو ذر : خنتني بهذه، فقال : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر : إن يوم حاجتي إليه ليوم اوضع في حفرتي، مع أن الله يقول :

{لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون}(3).

3 ـ كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّاً، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة وكانت تحبه حباً شديداً وتعتز به أكبر إعتزاز، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم وإذا بها مرت على قوله

تعالى : {لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون} فتأملت فيه، وغاصت في معناه وتأثرت بندائه فقالت في نفسها : «إنه ليس هناك ما هو أحب إلي من هذا المصحف المزين الثمين فلأنفقه في سبيل الله»، فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره وأحجاره الكريمة عليهم ثمّ هيأت بثمنها آباراً وقنوات من الماء في صحراء الحجاز ليشرب منه سكان الصحراء وينتفع به المسافرون، ويقال أن بقايا هذه الآبار لا تزال باقية وتدعى(4) باسمها عند الناس.

وحتّى يطمئن المنفقون إلى أن أي شيء ممّا ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه ولن يضيع، عقب الله على حثه للناس على الإنفاق ممّا يحبون بقوله : {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} إنه يعلم بما تنفقونه صغيراً أم كبيراً، تحبونه أو لا تحبونه.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص356-358.

2 ـ مجمع البيان وصحيح مسلم والبخاري كتاب التفسير باب ما جاء في سورة آل عمران، ويرحاء موضع كان لأبي طلحة بالمدينة.

3 ـ مجمع البيان : ج 2 ص 474.

4 ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ج 3 ص 157 في تفسير الآية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى