مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 96-97)

قال تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{إن أول بيت وضع للناس} أي: بني للناس، ولم يكن قبله بيت مبني. وإنما دحيت الأرض من تحتها، وهو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الله تعالى السماء والأرض من تحتها، وهو خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، عن مجاهد، وقتادة، والسدي. وروي عن أبي عبد الله ” عليه السلام ” قال: إنها كانت مهاة بيضاء – يعني درة بيضاء -. وروى أبو خديجة عنه ” عليه السلام ” قال: إن الله أنزله لآدم من الجنة، وكان درة بيضاء، فرفعه الله تعالى إلى السماء، وبقي رأسه وهو بحيال هذا البيت، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا. فأمر الله تعالى إبراهيم ” عليه السلام ” وإسماعيل ” عليه السلام ” ببنيان البيت على القواعد. وقيل: معناه إن أول بيت وضع للعبادة، ولم يكن قبله بيت يحج إليه إلا البيت الحرام. وقد كانت قبله بيوت كثيرة، ولكنه أول بيت مبارك وهدى وضع للناس، عن علي ” عليه السلام ” والحسن.

وقيل: أول بيت رغب فيه، وطلب منه البركة، مكة، عن الضحاك. وروى أصحابنا: إن أول شئ خلقه الله من الأرض، موضع الكعبة، ثم دحيت الأرض من تحتها. وروى أبو ذر أنه سئل النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” عن أول مسجد وضع للناس، فقال:

المسجد الحرام، ثم بيت المقدس. {للذي ببكة} قيل: بكة المسجد، ومكة الحرام كله، يدخل في البيوت، عن الزهري، وضمرة بن ربيعة، وهو المروي عن أبي جعفر ” عليه السلام “. وقيل: بكة بطن مكة، عن أبي عبيدة. وقيل: بكة موضع البيت والمطاف، ومكة اسم البلدة، وعليه الأكثر. وقيل: بكة هي مكة والعرب، تبدل الباء ميما مثل: سبد رأسه، وسمده، عن مجاهد، والضحاك {مباركا}: يعني كثير الخير والبركة. وقيل: مباركا لثبوت العبادة فيه دائما، حتى يحكى على أن الطواف به لا ينقطع أبدا. وقيل: لأنه يضاعف فيه ثواب العبادة، عن ابن عباس، ورووا فيه حديثا طويلا. وقيل: لأنه يغفر فيه الذنوب. ويجوز حمله على الجميع، إذ لا تنافي.

{وهدى للعالمين} أي: دلالة لهم على الله تعالى لإهلاكه كل من قصده من الجبابرة، كأصحاب الفيل وغيرهم، وباجتماع الظبي في حرمه مع الكلب والذئب، فلا ينفر عنه مع نفرته عنه في غيره من البلاد، وبانمحاق الجمار على كثرة الرماة، فلولا أنها ترفع لكان يجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال، وباستئناس الطيور فيه بالناس، وباستشفاء المريض بالبيت، وبأن لا يعلوه طير إعظاما له، إلى غير ذلك من الدلالات. وقيل: معناه أنهم يهتدون به إلى جهة صلاتهم، أو يهتدون إلى الجنة بحجه وطوافه {فيه آيات بينات} أي: دلالات واضحات. والهاء في {فيه}: عائد إلى البيت. وروي عن ابن عباس أنه قرأ فيه آية بينة.

{مقام إبراهيم} فجعل مقام إبراهيم وحده هو الآية. وقال: أثر قدميه في المقام آية بينة. والأول عليه القراء. والمفسرون أرادوا مقام إبراهيم، والحجر الأسود، والحطيم، وزمزم، والمشاعر كلها، وأركان البيت، وازدحام الناس عليها، وتعظيمهم لها. وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة. وسئل الصادق ” عليه السلام ” عن الحطيم فقال؟ هو ما بين الحجر الأسود والباب. قيل: ولم سمي الحطيم؟ قال: لأن الناس يحطم بعضهم بعضا، وهو الموضع الذي فيه تاب الله على آدم. وقال ” عليه السلام “: إن تهيأ لك أن تصلي صلاتك كلها الفرائض وغيرها عند الحطيم، فافعل، فإنه أفضل بقعة على وجه الأرض، وبعده الصلاة في الحجر أفضل.

وروي عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لنا علي بن الحسين: أي البقاع أفضل؟ فقلنا: الله تعالى ورسوله وابن رسوله أعلم. فقال لنا: أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يصوم النهار، ويقوم الليل، في ذلك المكان، ثم لقي الله تعالى بغير ولايتنا، لا ينفعه ذلك شيئا. وقال الصادق ” عليه السلام “: الركن اليماني بابنا الذي ندخل منه الجنة.

وروي أنه من روي من ماء زمزم، أحدث له به شفاء، وصرف عنه داء قال المفسرون ومن تلك الآيات مقام إبراهيم ” عليه السلام “، وأمن الداخل فيه، وأمن الوحوش من السباع الضارية، وأنه ما علا عبد على الكعبة إلا عتق، وإذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني، كان الخصب باليمن، وإذا كان من ناحية الركن الشامي، كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان في جميع البلدان، وسائر ما ذكرناه قبل، من الآيات.

وقوله: {ومن دخله كان آمنا} عطف على مقام إبراهيم. وفي مقام إبراهيم دلالة واضحة، لأنه حجر صلد، يرى فيه أثر قدميه، ولا يقدر أحد أن يجعل الحجر كالطين إلا الله. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الحرم كله مقام إبراهيم، ومن دخل مقام إبراهيم يعني الحرم كان آمنا. وقيل: فيه أقوال أحدها: إن الله عطف قلوب العرب في الجاهلية على ترك التعرض لمن لاذ بالحرم، والتجأ إليه، وإن كثرت جريمته، ولم يزده الاسلام إلا شدة، عن الحسن وثانيها: إنه خبر، والمراد به الأمر، ومعناه: إن من وجب عليه حد، فلاذ بالحرم، لا يبايع ولا يشارى ولا يعامل حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد، عن ابن عباس، وابن عمر، وهو المروي عن أبي جعفر ” عليه السلام “، وأبي عبد الله ” عليه السلام “. وعلى هذا يكون تقديره: ومن دخله فأمنوه.

وثالثها: إن معناه من دخله عارفا بجميع ما أوجبه الله عليه، كان آمنا في الآخرة من العذاب الدائم، وهو المروي عن أبي جعفر ” عليه السلام “. وأجمعت الأمة على أن من أصاب فيه ما يوجب الحد، أقيم عليه الحد فيه.

ثم لما بين الله فضيلته بيته الحرام، عقبه بذكر وجوب حجة الاسلام، فقال:

{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ومعناه: ولله على من استطاع إلى حج البيت سبيلا من الناس، حج البيت أي: من وجد إليه طريقا بنفسه وماله.

واختلف في الاستطاعة فقيل: هي الزاد والرحلة، عن ابن عباس وابن عمر.

وقيل: ما يمكنه معه بلوغ مكة بأي وجه يمكن، عن الحسن، ومعناه القدرة على الوصول إليه، والمروي عن أئمتنا أمه وجود الزاد والراحلة، ونفقة من يلزمه نفقته، والرجوع إلى كفاية إما من مال أو ضياع أو حرفة، مع الصحة في النفس، وتخلية السرب من الموانع، وإمكان السير {ومن كفر} معناه: ومن جحد فرض الحج، ولم يره واجبا، عن ابن عباس والحسن.

{فإن الله غني عن العالمين} لم يتعبدهم بالعبادة لحاجته إليها، وإنما تعبدهم بها لما علم فيها من مصالحهم. وقيل: إن المعني به اليهود، فإنه لما نزل قوله {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه} قالوا: نحن مسلمون، فأمروا بالحج فلم يحجوا، وعلى هذا يكون معنى {من كفر}: من ترك الحج من هؤلاء فهو كافر.

و {الله غني عن العالمين}. وقيل: المراد به كفران النعمة، لأن امتثال أمر الله شكر لنعمته. وقد روي عن أبي أمامة، عن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” أنه قال: ” من لم يحبسه حاجة ظاهرة من مرض حابس، أو سلطان جائر، ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا “. وروي عن أبي عبد الله ” عليه السلام ” قال: قال رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” ” الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد “. وفي هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إن الاستطاعة مع الفعل، لأن الله أوجب الحج على المستطيع، ولم يوجب على غير المستطيع، وذلك لا يمكن إلا قبل فعل الحج.

النظم: وجه اتصال الآية بما قبلها أن الله تعالى أمر أهل الكتاب باتباع ملة إبراهيم، ومن ملته تعظيم بيت الله الحرام، فذكر تعالى البيت وفضله وحرمته، وما يتعلق به في قوله {إن أول بيت وضع للناس}.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص346-351.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) :

أول بيت :

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وهُدىً لِلْعالَمِينَ } . سبق الكلام مفصلا في تفسير الآية 142 وما بعدها من سورة البقرة عما قال اليهود حول تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، ولهذه الآية صلة بآيات سورة البقرة ، بخاصة قول السفهاء هناك : { ما ولاهم عن قبلتهم } .

وقوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } لا دلالة فيه انه أول بيت وجد على وجه الأرض ، بل هو ظاهر في انه أول بيت وضع للطاعات والعبادات ، لأن الناس ، كل الناس ، شركاء فيه ، وبديهة ان الناس جميعا لا يشتركون في بيت واحد الا إذا كان موضوعا لجهة عامة ، كالعبادة والطاعة ، أما سائر البيوت فكل بيت منها يختص ببعض الناس دون بعض .

ثم ان بعض أهل التفسير سودوا الصفحات في التحقيق ونقل الأقوال في الكعبة :

هل هي أول بيت بني على وجه الأرض ، أو غيرها أسبق في البناء . . ولا جدوى وراء هذا البحث ، لأنه لا يمت إلى أصول الدين ، أو فروعه بسبب ، ولا يطلب الاعتقاد به إيجابا ولا سلبا .

{ مُبارَكاً وهُدىً لِلْعالَمِينَ } . والمراد بالبركة هنا زيادة الثواب ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : « فضل المسجد الحرام على مسجدي كفضل مسجدي على سائر المساجد . . . صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه . . من حجّ ولم يرفث ، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه . . الحج المبرور ليس له أجر الا الجنة » . إلى غير ذلك كثير . . اما ان المسجد الحرام هدى للعالمين فلأنه يذكر باللَّه سبحانه ، ويوحي بالخشوع والخضوع .

{ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ } . كأنّ سائلا يسأل : ما الدليل على ان الكعبة قديمة ، وانها أول بيت وضع للعبادة ، وليس بيت المقدس ؟ .

وهذه الآية تصلح جوابا عن هذا السؤال ، لأن إبراهيم قديم ، وهو الذي بنى الكعبة ، فتكون قديمة بقدم بانيها ، أما بيت المقدس فقد بناه سليمان ، وهو يسمى معبد سليمان حتى الآن ، وبين إبراهيم وسليمان عدة قرون . . ونقل صاحب تفسير المنار عن كتب اليهود ان سليمان بنى بيت المقدس سنة 1005 قبل الميلاد . .

والدليل على ان إبراهيم هو الذي بنى الكعبة الآثار الواضحة والموجودة حتى الآن ، منها مقام إبراهيم ، فإن العرب ما زالوا يتناقلون بالتواتر أبا عن جد ان هذا الجزء الخاص من المسجد الحرام كان موضع قيام إبراهيم للصلاة والعبادة . فكما دل اسم معبد سليمان على انه هو باني بيت المقدس ، فإن اسم مقام إبراهيم يدل على انه هو باني الكعبة ، وانها قديمة بقدمه .

{ ومَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً } . تقدم تفسيره في الآية 125 من سورة البقرة ، وهي قوله تعالى : { وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً } . والفضل في ذلك لدعوة إبراهيم ( عليه السلام ) : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } . أيضا مر تفسيره في الآية 126 البقرة .

{ ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } الاستطاعة نوعان :

عقلية ، وهي مجرد إمكان الوصول إلى مكة ، وهذه ليست بشرط . وشرعية ، وهي القدرة الصحية والمالية ، والأمن على النفس والمال ، والرجوع إلى كفاءة ، فإذا تم ذلك كان الحج حتما وفرضا . . والتفصيل في كتب الفقه .

{ ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهً غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ } . المراد بالكفر هنا الجحود إذا أرجعناه إلى كون الكعبة هي أول بيت وضع للناس ، أو إلى عدم الاعتقاد بوجوب الحج ، ويكون المراد بالكفر الفسق إذا أرجعناه إلى ترك الحج تهاونا .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص115-118.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

الآيتان جواب عن شبهة أخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ، وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مر في تفسير قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أن تحويل، القبلة كان من الأمور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية ومعنوية في حيوة أهل الكتاب – وخاصة اليهود – مضافا إلى كونه مخالفا لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية – إن أول بيت “الخ” – أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالا باطلا؟.

والجواب: أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} إلى آخر الآية، البيت معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك، والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركا وهدى للعالمين وغير ذلك، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحا إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلوة وغيرهما من العبادات والمناسك، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، وربما قيل إن بكة هي مكة، وأنه من تبديل الميم باء كما في قولهم لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم، وقيل: المسجد، وقيل: المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: {هدى للعالمين} أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيئول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

وكونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصدا للقاصدين ومعبدا للعابدين.

وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه، قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، وقال: خطابا لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] ، والآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودل أيضا على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى (عليه السلام): {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] ، فقد أراد بالحج سنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره.

وكذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معمورا بالعبادة آية في الهداية راجع سورة إبراهيم.

وكان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضا كانوا يعظمونه، وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه وذكره، وأما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح، وقد ملأ ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره، وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شئونهم.

فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين.

على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الأمة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.

ومن هنا يظهر أولا: أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة.

وثانيا: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

قوله تعالى:{ فيه آيات بينات مقام إبراهيم}، الآيات وإن وصفت بالبينات، وأفاد ذلك تخصصا ما في الموصوف إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال، وهذا من الشواهد على كون قوله: {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس} إلى آخر الآية بيانا لقوله: آيات بينات فالآيات هي: مقام إبراهيم، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجة على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يتراءى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلا أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجة لمن استطاع إليه سبيلا، وفي ذلك إرجاع قوله: ومن دخله، سواء كان إنشاء أو إخبارا إلى المفرد بتقدير أن وإرجاع قوله: ولله على الناس، وهي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضا، وكل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة.

و إنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم “الخ”، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أن نتبعه.

قوله تعالى: {مقام إبراهيم} مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد استفاض النقل بأن الحجر مدفون في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم، وقد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية: وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة.

على قدميه حافيا غير ناعل.

وربما يفهم من قوله: {مقام إبراهيم} أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحج ثم وضع قوله: ومن دخله، وقوله: {ولله على الناس}، وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب أسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكاية الكلام في موضع الإخبار كقوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، وكما مر في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] ، وقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] ، وقد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] ، وكما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] ، حيث وضع صاحب البر، مكان البر، وكما في قوله تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ} [البقرة: 171] ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} – إلى قوله – {عن العالمين} في التردد بين الإنشاء والإخبار، وزان قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 41، 44].

وهذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية، وإن كان بدلا ولا بد فالأولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلا وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالتين على بدلين محذوفين.

والتقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحج المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه، وأي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام، وأما كون كل آية أمرا خارقا للعادة ناقضا لسنة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه.

قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] ، وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعا، وقال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } [الشعراء: 128] ، إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحج مذكورين لغير غرض بيان الآية.

و كذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات أمور أخر من خواص الكعبة وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مر.

فالحق أن قوله: {ومن دخله كان آمنا} : مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحق محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

وأما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه، وخاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] ، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } [إبراهيم: 35] ، وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] ، حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقا قلبيا إلى تسليم ذلك وقبوله زمانا بعد زمان.

قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، الحج بالكسر وقرىء بالفتح هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بينه الشرع، وقوله: {سبيلا} تمييز من قوله: {استطاع}.

والآية تتضمن تشريع الحج إمضاء لما شرع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } [الحج: 27] ، ومن هنا يظهر أن وزان قوله: {ولله على الناس} “الخ” وزان قوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} في كونه إخبارا عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الإمضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى.

قوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}، الكفر هاهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة والزكوة فالمراد بالكفر الترك.

والكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أن قوله: {فإن الله غني} “الخ” من قبيل وضع العلة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحج فلا يضر الله شيئا فإن الله غني عن العالمين.

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 301-307.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين  (1)

أول بيت وضع للناس :

لقد أنكرت اليهود على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرين كما أسلفنا. وقد رد القرآن على الأمر الأول في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو : إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على «بيت المقدس» بينما كانوا يفضلونه على الكعبة.

يقول سبحانه : {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} فلا عجب إذن أن تكون الكعبّة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم.

إن المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي «آدم» (عليه السلام) ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي «نوح» ثمّ جدد بناءها النبي العظيم «إبراهيم الخليل» (عليه السلام) فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري(2) .

ولاشكّ أن إختيار أعرق بيت اُسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى وأفضل من إختيار أية نقطة أُخرى وأي مكان آخر.

هذا وممّا يجدر الإنتباه إليه هو أن «الكعبة» والتي تسمى في تسمية أُخرى بـ «بيت الله» وصفت في هذه الآية بأنها «بيت للناس»، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي : أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.

كما تتضح ـ ضمن ما نستفيده من هذه الآية ـ قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير ـ في هذه الآية ـ إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأُخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا، ومن هنا يتضح أيضاً علّة ما للحجر الأسود من الحرمة، ويتبين جواب مايحوم حوله من سؤال مفاده : ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لإستلامه ملايين الناس كلّ عام، ويتسابقون ـ في عناء بالغ ـ إليه حتّى أن إستلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ وبرامجه ؟

إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزة خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي حجر آخر غيره في هذا العالم، وهي أن هذا الحجر أسبق شيء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله، وتقديسه، وتوحيده، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية إنهدام وتجديد، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، واستخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن. ولا شكّ أن لهذه الإستمرارية، وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها.

كلّ هذا مضافاً إلى أن هذه الصخرة ليست إلاَّ تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى إستلام الأنبياء العظام وعباد الله البررة لها، وعبادتهم، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من القرون والأحقاب.

على أن ثمّة أمراً آخر ينبغي الإنتباه إليه وهو : أن الآية المبحوثة هنا تصرح بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول بيت وضع للعبادة إذن، وهو أمر لايمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل الكعبة بيوت للسكن.

وهذا التعبير رد واضح على كلّ أولئك(3) الذين يدعون أن النبي إبراهيم (عليه السلام)هو أول من أسس الكعبة المشرفة، ويعتبرون بناءها على يدي آدم (عليه السلام) من قبيل الأساطير، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم (عليه السلام)كان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح (عليه السلام) فكيف تكون الكعبة التي هي أول بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم (عليه السلام) ؟

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص362-364.

2 ـ للوقوف على معلومات أكثر حول مصادر ونصوص هذا الموضوع من الآيات والأحاديث راجع الجزء الأول من هذا التفسير في ذيل الآية 127 من سورة البقرة.

3 ـ أمثال رشيد رضا موالف المنار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى