مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (69-71)

قال تعالى : {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [آل عمران : 69 ، 71] .

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

بين سبحانه أن هؤلاء كما ضلوا ، دعوا إلى الضلال ، فقال :

{ودت} أي تمنت . وقيل : أرادت {طائفة} أي جماعة {من أهل الكتاب} أي : من اليهود والنصارى . وقيل : من اليهود خاصة {لو يضلوكم} أي : يهلكونكم بإدخالكم في الضلال ، ودعائكم إليه . ويستعمل الضلال بمعنى الهلاك نحو قوله : {أإذا أضللنا في الأرض} ومعناه : هلكنا وبطلت صورنا .

{وما يضلون إلا أنفسهم} معناه : لا يرجع وبال إضلالهم إلا على أنفسهم ، ولا يلحق ضررهم إلا بهم ، فإن المسلمين لا يجيبونهم إلى ما يدعونهم إليه من ترك الاسلام إلى غيره من الأديان ، فيبقى عليهم إثم الكفر ، ووبال الدعاء إلى الكفر .

وقيل : معناه وما يهلكون إلا أنفسهم أي : لا يعتد بما يحصل لغيرهم من الهلاك ، في جنب ما يحصل لهم {وما يشعرون} أي : وما يعلمون أن وبال ذلك يعود إليهم .

وقيل : وما يشعرون أن الله تعالى يدل المؤمنين على ضلالهم وإضلالهم . وقيل : وما يشعرون أنهم ضلال لجهلهم ، عن أبي الجبائي .

خاطب الله الفريقين ، فقال : {يا أهل الكتاب لم تكفرون} (ب‍) ما يتلى عليكم من {آيات الله} يعني : القرآن {وأنتم تشهدون} أي : تعلمون وتشاهدون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل ، إذ فيهما ذكر النبي ، والإخبار يصدق نبوته ، وبيان صفته . وقيل : يعني بآيات الله ما في كتبهم من البشارة بنبوته ، وأنتم تشهدون الحجج الدالة على نبوته . وقيل : يعني بالآيات ما في كتبهم أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وأن الدين هو الاسلام ، وأنتم تشاهدون ذلك ، وقيل : يعني بها ما يتلى عليهم من غرائب أخبارهم التي علموا أنها في كتبهم ، عن أبي مسلم . وقيل : يعني بالآيات الحجج الدالة على نبوة محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم ” ، وأنتم تشهدون أن الأول لمعجزة يدل على صدق الرسالة ، وثبوت النبوة وقيل : وأنتم تشهدون إذا خلوتم بصحة دين الاسلام {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل} معناه : لم تخلطون الحق بالباطل ، وفيه أقوال أحدها : إن المراد به تحريفهم التوراة والإنجيل ، عن الحسن وابن زيد وثانيها : إن المراد به إظهارهم الاسلام ، وابطانهم النفاق ، وفي قلوبهم من اليهودية والنصرانية ، لأنهم تداعوا إلى إظهار الاسلام في صدر النهار ، والرجوع عنه في آخره تشكيكا للناس ، عن ابن عباس وقتادة .

وثالثها : إن المراد به الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بمحمد ورابعها : إن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من أن محمدا أحق بما يظهرونه من تكذيبه ، عن الجبائي ، وأبي مسلم {وتكتمون الحق} أي : نبوة محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم ” وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به {وأنتم تعلمون} أنه حق . وإنما نزلت هذه في طائفة من علمائهم ، لأن الكتمان إنما يجوز على الطائفة القليلة دون الكثيرة . وقيل : معناه وأنتم تعلمون الأمور التي تصح بها التكليف . والأول أصح لما في الآية من الذم على الكتمان .

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص319-320 .

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

الإسلام قوة للأديان السماوية :

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ } . المراد بطائفة من أهل الكتاب جماعة من رؤساء أديانهم . . وتنطبق هذه الآية كل الانطباق على المبشرين المسيحيين . . انهم يحاولون جهد المستطيع أن ينصّروا المسلم ، فإن استعصى عليهم حاولوا تضليله وتشكيكه في الإسلام ، مكتفين أن يكون لا دينيا . . ولكنهم بهذا يسيئون إلى أنفسهم ، من حيث لا يشعرون ، لأن ضعف الإسلام كدين يوجه الناس إلى الايمان بوجود مدبر حكيم وراء هذا الكون – يعني انهزام جميع الأديان ورؤوسها الذين يسيرون في هذا الاتجاه ، ومنهم القائمون على الديانة المسيحية . . وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : { وما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يَشْعُرُونَ } .

ولا أدري لما ذا لم يتنبه المفسرون إلى هذا المعنى مع وضوحه ، حيث قالوا :

ان المراد بإضلال أهل الكتاب لأنفسهم هو عقابهم غدا على محاولتهم إضلال المسلمين . أما الشيخ محمد عبده والرازي فقد فسرا ضلالهم لأنفسهم بأن محاولة إضلال المؤمنين لم تجدهم نفعا ، بل تعود عليهم بالخيبة والفشل ، إذ ما من مسلم

يستجيب لهم ، وينخدع بأضاليلهم . . والصحيح ما ذكرناه من ان ضعف الإسلام هو ضعف للأديان السماوية وأهلها .

وعلى أية حال ، فإن الإسلام بأصوله ومبادئه أقوى من أن تهزمه الديانة المسيحية وغيرها من الديانات ، فلقد دخل في دين الإسلام أفواج من الوثنيين وأهل الكتاب عن رضى واقتناع ، وفيهم العلماء والمتنورون ، وما عرفنا واعيا واحدا ترك الإسلام بعد أن اعتنقه وعرف حقيقته .

قال الكونت الفرنسي هنري دي كاستري في كتاب « الإسلام سوانح وخواطر » فصل « الإسلام في الجزائر » ، قال ما نصه بالحرف : « لقد شاهدنا الإسلام يبرهن على قوته وحياته باكتساب الوثنيين في إفريقيا ، وتجنيدهم تحت راية القرآن . . وليس من أهل الإسلام من يمرق عنه إلى غيره . . ومن الصعب على أحد المسيحيين أن ينصّر مسلما ، والسبب هو إعجاب المسلم كل الاعجاب بكونه من الموحدين » .

وبالمناسبة أشير إلى هذه النادرة الطريفة : في العشرة الثالثة من هذا القرن ، أعني القرن العشرين ذهب جماعة من المبشرين المسيحيين إلى مدينة العمارة بالعراق وجميع أهلها شيعة مسلمون ، ذهبوا إلى هذه المدينة بقصد تحويل أهلها أو البعض منهم إلى النصرانية ، وأنشأوا لهذه الغاية مدرسة ومستوصفا في المدينة ، وبثوا الدعايات ، وأقاموا الحفلات ، وبذلوا الأموال الطائلة . . وكان خطيبهم يعتلي المنبر ، ويعدد ، ويردد معجزات السيد المسيح ( عليه السلام ) . . ولكن كلما ذكر معجزة صاح المسلمون بأعلى أصواتهم : صلوات اللَّه على محمد وآل بيت محمد . . ولما تكرر ذلك مرات ومرات ، ولم تجدهم الأموال والمدرسة والمستوصف نفعا يئسوا وعادوا من حيث أتوا خائبين خاسرين .

{ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } . المراد بآيات اللَّه هنا الدلائل على نبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) وصدق القرآن ، وسمو تعاليم الإسلام : { يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . المراد بالحق هنا ما استبان لأهل الكتاب من صدق الإسلام ونبيه . . وقد كان بعض أهل الكتاب ، وما زالوا يدسون ويكيدون للمسلمين ودينهم ، وينسبون إلى نبيهم وإليهم والى قرآنهم الأكاذيب والافتراء . . من ذلك على سبيل المثال : « ان محمدا كان يدعو الناس إلى عبادته في صورة وثن من ذهب ، وانه كان يضرب بالطبل والزمر ، وانه مختل الأعصاب مضطرب العقل » إلى غير هذه الألفاظ التي تدل على الحقد والضعة والخساسة ( 2 ) .

وقال الدكتور زكي نجيب محمود في كتاب « أيام في أمريكا » : انه حضر في الولايات المتحدة تمثيلية كلها سخرية من القرآن ، وازدراء للإسلام ، واستخفاف وتحقير لمحمد ( صلى الله عليه واله ) . . هذه هي بلاد النور والحضارة ، والتي تزعم انها تحمل شعار الدين ، وتلقي قنابلها على المستضعفين باسم محاربة الإلحاد .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص83-86 .

2- هذه البذاءات وما إليها جاءت في مقدمة كتاب الإسلام سوانح وخواطر للفرنسي دي كاستري ، نقلها المؤلف من كتب كثيرة ، وضعها الغربيون للشتم والطعن بالإسلام ونبي الإسلام ، ثم فندها ، ورد عليها بالحجة ومنطق الحق . . وصدق اللَّه حيث يقول : {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران : 75] .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى : {ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون} ، الطائفة الجماعة من الناس ، وكان الأصل فيه أن الناس وخاصة العرب كانوا أولا يعيشون شعوبا وقبائل بدويين يطوفون صيفا وشتاء بماشيتهم في طلب الماء والكلإ ، وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذرا من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة ، ثم اقتصر على ذكر الوصف الطائفة للدلالة على الجماعة .

وأما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الإنسانية الميل إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية – وبئست الرذيلة – وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لإضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون .

وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت : 46] ، وأما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي وشامة إرادته بإذن من الله ، قال تعالى : {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم : 44] ، وقال تعالى : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى : 30 ، 31] ، وقد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى : {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة : 217] ، في الجزء الثاني من الكتاب .

وهذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الأفعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية والملك ، وبه يوجه ما يفيده قوله تعالى : {وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون} ، من الحصر .

و أما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلا ولذلك أغمضنا عن نقله .

قوله تعالى : {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون} ، قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى ، وأن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحا كالوثنية والدهرية ، والكفر بآيات الله إنكار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان ووضوح الحق ، وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها واحدا ، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم كنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه ، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني ، وأن يد الله مبسوطة ، وأن الله غني ، إلى غير ذلك ، فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله ، ولا ينافيه قوله تعالى : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة : 29] ، حيث نفى الإيمان عنهم صريحا ، وليس إلا الكفر وذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام وعدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الإيمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الإيمان بالله واليوم الآخر وإن لم يشعروا به ، وليس بالكفر الصريح .

وفي قوله تعالى : {وأنتم تشهدون} – والشهادة هو الحضور والعلم عن حس – دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه .

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات ولا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة والوجه في فساده ظاهر .

قوله تعالى : {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل} إلى آخر الآية ، اللبس بفتح اللام إلقاء الشبهة والتمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل .

وفي قوله : {وأنتم تعلمون} دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها .

وهاتان الآيتان أعني قوله {يا أهل الكتاب لم تكفرون} – إلى قوله : {وأنتم تعلمون} – تتمة لقوله تعالى : {ودت طائفة} الآية ، وعلى هذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر والنسل والصفة ، ورضاء البعض بفعال البعض وهو كثير الورود في القرآن .

___________________
1 . تفسير الميزان ، ج3 ، ص221-223 .

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)

{ودّت طائفة (1) من أهل الكتاب لو يُضلّونكم}

سعى أعداء الإسلام ، وعلى الأخصّ اليهود ، كما جاء في سبب النزول أن يباعدوا بين المسلمين والإسلام ، ولم يتوانوا في سبيل ذلك في بذل كلّ جهد ، حتّى أنّهم طمعوا في إغراء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المقرّبين لعلّهم يستطيعون صرفهم عن الإسلام . ولاشكّ أنّهم لو نجحوا في التأثير على عدد منهم ، أو حتّى على فرد واحد منهم ، لكان ذلك ضربة شديدة على الإسلام تمهّد الطريق لتضليل الآخرين أيضاً .

هذه الآية تكشف خطّة الأعداء ، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة إستناداً إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث لا يمكن أن يكون هناك أيّ إحتمال لارتدادهم . إنّ هؤلاء قد إعتنقوا الإسلام بكلّ وجودهم ، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها . وبناءً على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم ، بل أنّهم إنّما يضلّون أنفسهم .

{وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يشعرون} وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم ، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن . وبعبارة أوضح : إن العيّاب الذي يتصيّد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط القوّة ، أو بسبب تعصّبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطاً مظلمة سلبية ، وكلّما ازداد إصراراً على هذا ، إزداد بُعداً عن الحقّ .

ولعلّ تعبير {وما يشعُرون} إشارة إلى هذه الحالة النفسية ، وهي أنّ الإنسان يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضاً ، وفي الوقت الذي يحاول فيه بالسفسطة والكذب والإفتراء أن يضلّ الآخرين ، لا يكون هو نفسه بمنأى عن التأثير بأكاذيبه ، فتروح هذه الإختلافات تؤثّر بالتدريج في روحه وتتمكّن فيه بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة ، فيصدّقها ويضلّ نفسه بها .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .

كتمان الحقّ لماذا ؟

تعقيباً للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة ، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها . فتقول :

{يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون}(4) .

السؤال هنا أيضاً موجه إلى أهل الكتاب عمّا يدعوهم إلى العناد واللجاجة

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص322-324 .

2 ـ «طائفة» من مادة الطواف . بمعنى الحركة حول الشيء . وبما أن الناس كانوا في السابق يسافرون بشكل جماعات لاحراز الأمان اطلقت هذه الكلمة عليها ، ثمّ استعملت في كل فئة وجماعة .

3 ـ «لو» في جملة {لو يضلّونكم} بمعنى (أن) المصدرية ، وبما أن (لو) تعطي معنى التمني جاءت في هذه الجملة بدل (أن) ليكون التعبير أبلغ .

4 ـ جملة «تشهدون» تعني العلم والمعرفة وفقاً للتفسير أعلاه ، كما ورد في مجمع البيان وغيره ـ وهذا العلم ناشىء من اطلاعهم على أوصاف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)الواردة في التوراة والإنجيل ، ولكن البعض يرى أن المراد بالعلم هنا هو كفاية المعجزات لإثبات نبوة نبي الإسلام . وذهب آخرون إلى أن المراد تنكرون بها في الظاهر ، ولكن في جلساتكم الخاصّة تشهدون بصدق دعوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وحقانيته .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى