مقالات

تفسير سورة البروج

قال تعالى : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُو يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُو الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُو قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 1 – 22].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

إن الله سبحانه أقسم بالسماء فقال {والسماء ذات البروج فالبروج المنازل العالية والمراد هنا منازل الشمس والقمر والكواكب وهي اثنا عشر برجا يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاث وتسير الشمس في كل برج شهرا {واليوم الموعود} يعني يوم القيامة في قول جميع المفسرين وهو اليوم الذي يجازى فيه الخلائق ويفصل فيه القضاء {وشاهد ومشهود} فيه أقوال (أحدها) إن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة عن ابن عباس وقتادة وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسمي يوم الجمعة شاهدا لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه وفي الحديث ((ما طلعت الشمس على يوم ولا غربت على يوم أفضل منه وفيه ساعة لا يوافقها من يدعو فيها الله بخير إلا استحباب له ولا استعاذ من شر إلا أعاذه منه)) ويوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحج وتشهده الملائكة (وثانيها) أن الشاهد يوم النحر والمشهود يوم عرفة عن إبراهيم (وثالثها) أن الشاهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمشهود يوم القيامة عن ابن عباس في رواية أخرى وسعيد بن المسيب وهو المروي عن الحسن بن علي وروي أن رجلا دخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإذا رجل يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال فسألته عن الشاهد ومشهود فقال نعم الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسألته عن ذلك فقال أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر فجزتهما إلى غلام كان وجهه الدينار وهو يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقلت أخبرني عن شاهد ومشهود فقال أما الشاهد فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأما المشهود فيوم القيامة أ ما سمعته سبحانه يقول {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقال {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} فسألت عن الأول فقالوا ابن عباس وسألت عن الثاني فقالوا ابن عمر وسألت عن الثالث فقالوا الحسن بن علي (عليهما السلام) (ورابعها) أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة وعن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها قال فقلت وبعد الموت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق (وخامسها) إن الشاهد الملك يشهد على بني آدم والمشهود يوم القيامة عن عكرمة وتلا هاتين الآيتين وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد وذلك يوم مشهود وقد قيل في ذلك أقوال أخر كقول الجبائي الشاهد الذين يشهدون على الناس والمشهود هم الذين يشهد عليهم وقول الحسين بن الفضل الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله {لتكونوا شهداء على الناس} وقيل الشاهد أعضاء بني آدم والمشهود هم لقوله {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} الآية وقيل الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحاج وقيل الشاهد الأيام والليالي والمشهود بنو آدم وينشد للحسين بن علي (عليهما السلام) :

مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا *** وخلفت في يوم عليك شهيد

فإن أنت بالأمس اقترفت إساءة *** فقيد بإحسان وأنت حميد

ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد *** لعل غدا يأتي وأنت فقيد .

وقيل الشاهد الأنبياء والمشهود محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بيانه {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} إلى قوله {فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} وقيل الشاهد الله والمشهود لا إله إلا الله بيانه قوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو} الآية وقيل الشاهد الخلق والمشهود الحق وإليه أشار الشاعر بقوله :

أيا عجبا كيف يعصي الإله *** أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة *** وفي كل تسكينة شاهد

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

 فهذه ثمانية أقوال أخر {قتل أصحاب الأخدود} أي لعنوا بتحريقهم الناس في الدنيا قبل الآخرة والمراد به الكافرون الذين حفروا الأخدود وعذبوا المؤمنين بالنار ويحتمل أن يكون إخبارا عن المسلمين الذين عذبوا بالنار في الأخدود والمعنى أنهم قتلوا بالإحراق في النار ذكرهم الله سبحانه وأثنى عليهم بحسن بصيرتهم وصبرهم على دينهم حتى أحرقوا بالنار لا يعطون التقية بالرجوع عن الإيمان {النار ذات الوقود} أي أصحاب النار الذين أوقدوها بإحراق المؤمنين وقوله {ذات الوقود} إشارة إلى كثرة حطب هذه النار وتعظيم لأمرها فإن النار لا تخلو عن وقود.

 {إذ هم عليها قعود} يعني الكفار إذ هم على أطراف هذه النار جلوس يعذبون المؤمنون عن ابن عباس وقيل يعني هم عندها قعود يعرضونهم على الكفر عن مقاتل قال مجاهد كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود وهو قوله {وهم} يعني الملك وأصحابه الذين خدوا الأخدود {على ما يفعلون بالمؤمنين} من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم {شهود} أي حضور قال الزجاج أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله وقال الربيع بن أنس لما ألقوا في النار نجى الله المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم وقيل أنهم كانوا فرقتين فرقة تعذب المؤمنين وفرقة تشاهد الحال لم يتولوا تعذيبهم لكنهم قعود رضوا بفعل أولئك وكانت الفرقة القاعدة مؤمنة لكنهم لم ينكروا على الكفار صنيعهم فلعنهم الله جميعا عن أبي مسلم والقعود جمع القاعد وكذلك الشهود جمع الشاهد وهم كل حاضر على ما شاهدوه إما بسمع أو بصر.

 {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله} أي ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا عن ابن عباس وقيل ما أنكروا عليهم دينا وما عابوا منهم شيئا إلا إيمانهم وهذا كقوله {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} عن الزجاج ومقاتل وقال الجبائي ما فعلوا بهم ذلك العذاب إلا بإيمانهم {العزيز} القادر الذي لا يمتنع عليه شيء القاهر الذي لا يقهر {الحميد} المحمود في جميع أفعاله {الذي له ملك السماوات والأرض} أي له التصرف في السماوات والأرض لا اعتراض لأحد عليه {والله على كل شيء شهيد} أي شاهد عليهم لم يخف عليه فعلهم بالمؤمنين فإنه يجازيهم وينتصف للمؤمنين منهم {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي الذين أحرقوهم وعذبوهم بالنار عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومثله يوم هم على النار يفتنون {ثم لم يتوبوا} من فعلهم ذلك ومن الشرك الذي كانوا عليه وإنما شرط عدم التوبة لأنهم لو تابوا لما توجه إليهم الوعيد {فلهم عذاب جهنم} بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} بما أحرقوا المؤمنين يسأل فيقال كيف فصل بين عذاب جهنم وعذاب الحريف وهما واحد . أجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإحراق مثل الزقوم والغسلين والمقامع ولهم مع ذلك الإحراق بالنار وقيل لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود فأحرقتهم عن الربيع بن أنس وهو قول الكلبي وقال الفراء ارتفعت النار عليهم فأحرقتهم فوق الأخاديد ونجا المؤمنون.

 ثم ذكر سبحانه ما أعده للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال {إن الذين آمنوا} أي صدقوا بتوحيد الله {وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} النجاة العظيم والنفع الخالص وإنما وصفه بالكبير لأن نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنة لما في ذلك من الإجلال والإكرام والتبجيل والإعظام ثم قال سبحانه متوعدا للكفار والعصاة {إن بطش ربك} يا محمد {لشديد} يعني أن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة والجبابرة أليم شديد وإذا وصف البطش وهو الأخذ عنفا بالشدة فقد تضاعف مكروهه وتزايد إيلامه {إنه هو يبديء} الخلق يخلقهم أولا في الدنيا {ويعيد} هم أحياء بعد الموت للحساب والجزاء فليس إمهاله لمن يعصيه لإهماله إياه وقيل أنه يبديء بالعذاب في الدنيا ويعيده في الآخرة عن ابن عباس وذلك لأن ما قبله يقتضيه.

 {وهو الغفور} لذنوب المؤمنين من أهل طاعته ومعناه كثير الغفران عادته مغفرة الذنوب {الودود} يود أولياءه ويحبهم عن مجاهد قال الأزهري في تفسير أسماء الله يجوز أن يكون ودود فعولا بمعنى مفعول كركوب وحلوب ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لما عرفوا من فضله وكرمه ولما أسبغ من آلائه ونعمه قال وكلتا الصفتين مدح لأنه سبحانه أن أحب عباده المطيعين فهو فضل منه وأن أحبوه فلما عرفوه من فضله وإحسانه {ذو العرش المجيد} أكثر القراءة في المجيد الرفع لأن الله سبحانه هو الموصوف بالمجد ولأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله تعالى وإن سمع الماجد ومن كسر المجيد جعله من صفة العرش وروي عن ابن عباس أنه قال يريد العرش وحسنه ويؤيده أن العرش وصف بالكرم في قوله {رب العرش الكريم} فجاز أيضا أن يوصف بالمجد لأن معناه الكمال والعلو والرفعة والعرش أكمل كل شيء وأعلاه وأجمعه لصفات الحسن {فعال لما يريد} لا يعجزه شيء طلبه ولا يمتنع منه شيء أراده عن عطاء وقيل لما يريد من الإبداء والإعادة.

 ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال {هل أتيك حديث الجنود} الذين تجندوا على أنبياء الله أي هل بلغك أخبارهم وقيل أراد قد أتاك ثم بين سبحانه أصحاب الجنود فقال {فرعون وثمود} والمعنى تذكر يا محمد حديثهم تذكر معتبر كيف كذبوا أنبياء الله وكيف نزل بهم العذاب وكيف صبر الأنبياء وكيف نصروا فاصبر كما صبر أولئك ليأتيك النصر كما أتاهم وهذا من الإيجاز البديع والتلويح الفصيح الذي لا يقوم مقامه التصريح {بل الذين كفروا} يعني مشركي قريش {في تكذيب} لك والقرآن قد أعرضوا عما يوجبه الاعتبار وأقبلوا على ما يوجبه الكفر والطغيان.

 {والله من ورائهم محيط} معناه أنهم في قبضة الله وسلطانه لا يفوتونه كالمحاصر المحاط به من جوانبه لا يمكنه الفوات والهرب وهذا من بلاغة القرآن {بل هو قرآن مجيد} أي كريم لأنه كلام الرب عن ابن عباس أي ليس هو كما يقولون من أنه شعر أو كهانة وسحر بل هو قرآن كريم عظيم الكرم فيما يعطي من الخير جليل الخطر والقدر وقيل هو قرآن كريم لما يعطي من المعاني الجليلة والدلائل النفيسة ولأن جميعه حكم والحكم على ثلاثة أوجه لا رابع لها معنى يعمل عليه فيما يخشى أو يتقي وموعظة تلين القلب للعمل بالحق وحجة تؤدي إلى تميز الحق من الباطل في علم دين أو دنيا وعلم الدين أشرفهما وجميع ذلك موجود في القرآن.

 {في لوح محفوظ} من التغيير والتبديل والنقصان والزيادة وهذا على قراءة من رفعه فجعله من صفة قرآن ومن جره فجعله صفة للوح فالمعنى أنه محفوظ لا يطلع عليه غير فجعله من صفة قرآن ومن جره فجعله صفة للوح فالمعنى أنه محفوظ لا يطلع عليه غير الملائكة وقيل محفوظ عند الله وهو أم الكتاب ومنه نسخ القرآن والكتب وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ وهومن درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب عن ابن عباس ومجاهد وقيل إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل عن أنس وقيل اللوح المحفوظ عن يمين العرش عن مقاتل .

__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص315-319.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ} . كل ما علاك فهو سماء ، أما البروج فقيل : هي الكواكب العظيمة ، لأن كل كوكب منها يبدو للعيان كالبرج العظيم ، وقيل :

هي المنازل الاثنا عشر التي تعرفها العرب ، وتقطعها الشمس في سنة بظاهر الرؤية وهي برج الحمل والثور والجوزاء ، والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت . . وسواء أريد المعنى الأول أم الثاني أم هما معا فان الغرض هو التنبيه إلى ما في الكواكب من دقة الصنع وبالغ الحكمة لنستدل بذلك على وجود الخالق وعظمته {والْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} هو يوم القيامة .

{وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ} . تعددت الأقوال وتضاربت في معنى الشاهد والمشهود هنا ، وقد أنهى بعض المفسرين الأقوال إلى 48 قولا ، منها 16 في معنى الشاهد ، و32 في معنى المشهود ! . . وقال الشيخ محمد عبده : المراد بالشاهد هنا كل ما له حس يشاهد به ، والمراد بالمشهود الشيء المحسوس الذي وقعت عليه المشاهدة ، واستدل على صحة هذا التفسير بأمرين : الأول انه الحقيقة الظاهرة من دلالة اللفظ . الثاني ان اللَّه سبحانه أقسم أول ما أقسم بكواكب السماء ، وفي هذه الكواكب غيب وشهادة ، أما الشهادة فلأن نورها وحركاتها وطلوعها ومغيبها كل ذلك يرى بالحس والمشاهدة ، وأما الغيب فلأن حقيقتها وما فيها من قوى لا يدرك بالمشاهدة والحواس . . ثم أقسم سبحانه باليوم الآخر ، وهو غيب صرف لا يتصل بالمشاهدة من قريب أو بعيد ، ثم أقسم بالشاهد والمشهود أي بما هو شهادة صرف ، وعلى هذا يكون سبحانه قد أقسم بجميع العوالم ، سواء منها ما كان من عالم الغيب فقط ، أم من عالم الشهادة فقط ، أم منهما معا ، والغرض من ذلك هوان يلفت الناظرين إلى الكائنات بشتى أنواعها ، ويعتبروا بما ظهر منها من الإحكام والنظام ، ويبذلوا الجهد لمعرفة ما غاب واستتر .

{قُتِلَ أَصْحابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} . الأخدود شق في الأرض يحفر مستطيلا ، وأصحابه قوم كافرون لهم بأس وسلطان ، وقيل : المراد بهم ذو نواس وقومه ، وهو أحد ملوك اليمن . وأيا كان أصحاب الأخدود فإن هذه الآيات تشير إلى أناس طغاة قد حفروا خندقا وأضرموه بنار تسطع باللهب ، ثم جاؤوا بالمؤمنين المخلصين وعرضوهم على النار ، فمن رجع عن دينه و وافقهم على الكفر والبغي تركوه ، ومن أصر على الايمان والإخلاص أحرقوه ، وهم قاعدون على جوانب الخندق حول النار يتلذذون ويتمتعون بمشاهدة الأجسام تحترق حية طرية {وما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . هذا هو ذنبهم الأول والأخير هو الايمان باللَّه مالك الملك القادر القاهر العالم بكل شيء والمستحق وحده للحمد . ووصف سبحانه نفسه بهذه الصفات للإشارة إلى انه لا مفر للطغاة من سلطان اللَّه وعذابه . ومثله {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} – 28 غافر .

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ولَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ} . بعد أن أشار سبحانه إلى أهل الأخدود الجبابرة عرّض بعتاة قريش الذين آذوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم كفارا بعد ايمانهم ، وقد هددهم سبحانه إذا لم يرتدعوا ، هددهم وتوعدهم بأليم العذاب . . وعطف عذاب الحريق على عذاب جهنم من باب عطف التفسير والتوضيح ، والغرض منه تأكيد الوعيد والتهديد ، وزيادة التخويف والتهويل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} . تقدم مثله في العديد من الآيات ، وجاء ذكره هنا على طريقة القرآن الكريم حيث يقرن هلاك المجرمين بفوز المتقين ، ونعيم هؤلاء بجحيم أولئك {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . البطش الأخذ بعنف ، فكيف إذا كان شديدا ، ومن جبار السماوات والأرض ؟ . والخطاب هنا لرسول اللَّه {ص} والغرض منه تهديد الذين يؤذون الرسول ومن آمن معه {إِنَّهُ هُو يُبْدِئُ ويُعِيدُ} . ومن كان قادرا على بدء الخلق وإعادته فهو على البطش بالطغاة أقدر {وهُو الْغَفُورُ الْوَدُودُ} . لمّا ذكر سبحانه شدة العذاب قرنها بمغفرته ولطفه ليرجع إليه العاصون بالتوبة ولا ييأسوا من رحمته ، فإن غضبه تعالى على المذنبين لا يمنعه من الرحمة بهم {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} صاحب الملك والسيطرة .

{فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} . ومراده تعالى يتحقق بمجرد إرادته من غير حاجة لشيء آخر ، قال الإمام علي (عليه السلام) : {فاعل لا باضطراب آلة مقدر لا بجولة فكر . .

يريد ولا يضمر . . يقول لمن أراد كونه : كن فيكون لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وانما كلامه سبحانه فعل منه} . وقد أراد ، جلت حكمته ، هلاك الأمم السابقة الذين كذبوا رسلهم فكان ما أراد {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وثَمُودَ} . وهم من الذين أهلكهم اللَّه بتكذيب رسلهم ، وهل هنا بمعنى قد مثل {هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ} . والمعنى قد سمعت يا محمد وسمع قومك ما حل بثمود قوم صالح وبفرعون وملئه ، وكيف انتقم اللَّه منهم لمّا كذبوا الرسل ، فكذلك ينتقم سبحانه من الذين كذبوك متى أراد .

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} . ان فئة من الذين كفروا ، ومنهم عتاة قريش يجحدون الحق لا لشيء إلا لأنهم مولعون بتكذيبه ومعاندته أينما كان ويكون ، وإلا فأي عذر لهم في إنكاره وقد قامت عليه الدلائل والبينات ، وظهرت كوضح النهار ؟ . {واللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ} . انهم في قبضة اللَّه يقلبهم كيف يشاء ، ويهلكهم متى أراد . . وفيه إيماء إلى انهم لا يرتدعون عن التكذيب بالحق حتى يروا العذاب {بَلْ هُو قُرْآنٌ مَجِيدٌ} عظيم الشأن ، لأن كل ما فيه حق وعدل مع قيام الحجة ووضوح البرهان ، وما كذّب به إلا المجرمون {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} من التحريف مصون من التغيير والتبديل . . وللمفسرين كلام طويل وعريض حول اللوح المحفوظ ، ونحن غير مسؤولين عن تحديده ومعرفة حقيقته . . والراسخون في العلم يؤمنون بالغيب المحجوب ، ويحجمون عن الشروح والتفاصيل .

___________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص545-547.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

سورة إنذار وتبشير فيها وعيد شديد للذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات لإيمانهم بالله كما كان المشركون من أهل مكة يفعلون ذلك بالذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعذبونهم ليرجعوا إلى شركهم السابق فمنهم من كان يصبر ولا يرجع بلغ الأمر ما بلغ، ومنهم من رجع وارتد وهم ضعفاء الإيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج: 11].

وقد قدم سبحانه على ذلك الإشارة إلى قصة أصحاب الأخدود، وفيه تحريض المؤمنين على الصبر في جنب الله تعالى، وأتبعها بالإشارة إلى حديث الجنود فرعون وثمود وفيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوعد النصر وتهديد للمشركين.

والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: {والسماء ذات البروج} البروج جمع برج وهو الأمر الظاهر ويغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ويسمى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجا وهو المراد في الآية لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [الحجر: 16، 17] ، فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء.

وبذلك يظهر أن تفسير البروج بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد وفي الآية إقسام بالسماء المحفوظة بالبروج، ولا يخفى مناسبته لما سيشار إليه من القصة ثم الوعيد والوعد وسنشير إليه.

قوله تعالى: {واليوم الموعود} عطف على السماء وإقسام باليوم الموعود وهو يوم القيامة الذي وعد الله القضاء فيه بين عباده.

قوله تعالى: {وشاهد ومشهود} معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم على ما أريد بيانه في السورة وهو- كما تقدمت الإشارة إليه – الوعيد الشديد لمن يفتن المؤمنين والمؤمنات لإيمانهم والوعد الجميل لمن آمن وعمل صالحا.

فكأنه قيل: أقسم بالسماء ذات البروج التي يدفع الله بها عنها الشياطين أن الله يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين، وأقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيه الناس بأعمالهم، وأقسم بشاهد يشهد ويعاين أعمال أولئك الكفار وما يفعلونه بالمؤمنين لإيمانهم بالله وأقسم بمشهود سيشهده الكل ويعاينونه إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، إلى آخر الآيتين.

ومن هنا يظهر أن الشهادة في {شاهد} و{مشهود} بمعنى واحد وهو المعاينة بالحضور، على أنها لو كانت بمعنى تأدية الشهادة لكان حق التعبير {ومشهود عليه} لأنها بهذا المعنى إنما تتعدى بعلى.

وعلى هذا يقبل {شاهد} الانطباق على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لشهادته أعمال أمته ثم يشهد عليها يوم القيامة، ويقبل {مشهود} الانطباق على تعذيب الكفار لهؤلاء المؤمنين وما فعلوا بهم من الفتنة وإن شئت فقل: على جزائه وإن شئت فقل على ما يقع يوم القيامة من العقاب والثواب لهؤلاء الظالمين والمظلومين، وتنكير {مشهود} و{وشاهد} على أي حال للتفخيم.

ولهم في تفسير شاهد ومشهود أقاويل كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كقول بعضهم إن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، والقول بأن الشاهد يوم النحر والمشهود يوم عرفة، والقول بأن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد الملك يشهد على بني آدم والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد الذين يشهدون على الناس والمشهود الذين يشهد عليهم.

والقول بأن الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم، والقول بأن الشاهد أعضاء بني آدم والمشهود أنفسهم والقول بأن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحاج والقول بأن الشاهد الأيام والليالي والمشهود بنو آدم، والقول بأن الشاهد الأنبياء والمشهود محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقول بأن الشاهد هو الله والمشهود لا إله إلا الله.

والقول بأن الشاهد الخلق والمشهود الحق، والقول بأن الشاهد هو الله والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد آدم وذريته والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة، والقول بأنها يوم الإثنين ويوم الجمعة، والقول بأن الشاهد: المقربون والمشهود عليون، والقول بأن الشاهد هو الطفل الذي قال لأمه في قصة الأخدود: اصبري فإنك على الحق والمشهود الواقعة، والقول بأن الشاهد الملائكة المتعاقبون لكتابة الأعمال والمشهود قرآن الفجر إلى غير ذلك من أقوالهم.

وأكثر هذه الأقوال – كما ترى – مبني على أخذ الشهادة بمعنى أداء ما حمل من الشهادة وبعضها على تفريق بين الشاهد والمشهود في معنى الشهادة وقد عرفت ضعفه، وأن الأنسب للسياق أخذها بمعنى المعاينة وإن استلزم الشهادة بمعنى الأداء يوم القيامة، وأن الشاهد يقبل الانطباق على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

كيف لا؟ وقد سماه الله تعالى شاهدا إذ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } [الأحزاب: 45] ، وسماه شهيدا إذ قال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ } [الحج: 78] ، وقد عرفت معنى شهادة الأعمال من شهدائها فيما مر.

ثم إن جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} إلى تمام آيتين، ويشعر به أيضا قوله: {قتل أصحاب الأخدود} إلخ وهو وعيد الفاتنين ووعد المؤمنين الصالحين وأن الله يوفقهم على الصبر ويؤيدهم على حفظ إيمانهم من كيد الكائدين أن أخلصوا كما فعل بالمؤمنين في قصة الأخدود.

قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} إشارة إلى قصة الأخدود لتكون توطئة وتمهيدا لما سيجيء من قوله: {إن الذين فتنوا} إلخ وليس جوابا للقسم البتة.

والأخدود الشق العظيم في الأرض، وأصحاب الأخدود هم الجبابرة الذين خدوا أخدودا وأضرموا فيها النار وأمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم نقما منهم لإيمانهم فقوله: {قتل} إلخ دعاء عليهم والمراد بالقتل اللعن والطرد.

وقيل: المراد بأصحاب الأخدود المؤمنون والمؤمنات الذين أحرقوا فيه، وقوله: {قتل} إخبار عن قتلهم بالإحراق وليس من الدعاء في شيء.

ويضعفه ظهور رجوع الضمائر في قوله: {إذ هم عليها} و{هم على ما يفعلون} و{ما نقموا} إلى أصحاب الأخدود، والمراد بها وخاصة بالثاني والثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذبين.

قوله تعالى: {النار ذات الوقود} بدل من الأخدود، والوقود ما يشعل به النار من حطب وغيره، وفي توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار وشدة اشتعالها وأجيجها.

قوله تعالى: {إذ هم عليها قعود} أي في حال أولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها.

قوله تعالى: {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} أي حضور ينظرون ويشاهدون إحراقهم واحتراقهم.

قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله} النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله فأحرقوهم لأجل إيمانهم.

قوله تعالى: {العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد} أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجة على أن أولئك المؤمنين كانوا على الحق في إيمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله وسيجزيهم خير الجزاء، وعلى أن أولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا وسيذوقون وبال أمرهم وذلك أنه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الإطلاق والجميل في فعله على الإطلاق فله وحده كل الجلال والجمال فمن الواجب أن يخضع له وأن لا يتعرض لجانبه، وإذ كان له ملك السماوات والأرض فهو المليك على الإطلاق له الأمر وله الحكم فهورب العالمين فمن الواجب أن يتخذ إلها معبودا ولا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحق والكافرون في ضلال.

ثم إن الله – وهو الموجد لكل شيء – على كل شيء شهيد لا يخفى عليه شيء من خلقه ولا عمل من أعمال خلقه ولا يحتجب عنه إحسان محسن ولا إساءة مسيء فسيجزي كلا بما عمل.

وبالجملة إذ كان تعالى هو الله المتصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به ولم يكن لأولئك الجبابرة أن يتعرضوا لحالهم ولا أن يمسوهم بسوء.

وقال بعض المفسرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: إن القوم إن كانوا مشركين فالذي كانوا ينقمونه من المؤمنين وينكرونه عليهم لم يكن هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود الحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما عبر بإجراء الصفات عليه تعالى.

وفيه غفلة عن أن المشركين وهم الوثنية ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى إلا الصنع والإيجاد.

وأما الربوبية التي تستتبع التدبير والألوهية التي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم وآلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم إلا أنه رب الأرباب وإله الآلهة لا غير.

قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} الفتنة المحنة والتعذيب، والذين فتنوا (إلخ) عام يشمل أصحاب الأخدود ومشركي قريش الذين كانوا يفتنون من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين والمؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم.

قال في المجمع،: يسأل فيقال: كيف فصل بين عذاب جهنم وعذاب الحريق وهما واحد؟ أجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإحراق مثل الزقوم والغسلين والمقامع ولهم مع ذلك الإحراق بالنار انتهى.

قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} وعد جميل للمؤمنين يطيب به نفوسهم كما أن ما قبله وعيد شديد للكفار الفاتنين المعذبين.

قوله تعالى: {إن بطش ربك لشديد} الآية إلى تمام سبع آيات تحقيق وتأكيد لما تقدم من الوعيد والوعد، والبطش – كما ذكره الراغب – تناول الشيء بصولة.

وفي إضافة البطش إلى الرب وإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتأييد والنصر، وإشارة إلى أن لجبابرة أمته نصيبا من الوعيد المتقدم.

قوله تعالى: {إنه هو يبدىء ويعيد} المقابلة بين المبدىء والمعيد يعطي أن المراد بالإبداء البدء، والافتتاح بالشيء، قالوا: ولم يسمع من العرب الإبداء لكن القراءة ذلك وفي بعض القراءات الشاذة يبدأ بفتح الياء والدال.

وعلى أي حال فالآية تعليل لشدة بطشه تعالى وذلك أنه تعالى مبدىء يوجد ما يريده من شيء إيجادا ابتدائيا من غير أن يستمد على ذلك من شيء غير نفسه، وهو تعالى يعيد كل ما كان إلى ما كان وكل حال فاتته إلى ما كانت عليه قبل الفوت فهو تعالى لا يمتنع عليه ما أراد ولا يفوته فائت زائل وإذ كان كذلك فهو القادر على أن يحمل على العبد المتعدي حده، من العذاب ما هو فوق حده ووراء طاقته ويحفظه على ما هو عليه ليذوق العذاب قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36].

وهو القادر على أن يعيد ما أفسده العذاب إلى حالته الأولى ليذوق المجرم بذلك العذاب من غير انقطاع قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].

وبهذا البيان يتضح: أولا: أن سياق قوله: {إنه هو} إلخ يفيد القصر أي إن إبداع الوجود وإعادته لله سبحانه وحده إذ الصنع والإيجاد ينتهي إليه تعالى وحده.

وثانيا: أن حدود الأشياء إليه تعالى ولوشاء أن لا يحد لم يحدا وبدل حدا من آخر فهو الذي حد العذاب والفتنة في الدنيا بالموت والزوال ولولم يشأ لم يحد كما في عذاب الآخرة.

وثالثا: أن المراد من شدة البطش – وهو الأخذ بعنف – أن لا دافع لأخذه ولا راد لحكمه كيفما حكم إلا أن يحول بين حكمه ومتعلقه حكم آخر منه يقيد الأول.

قوله تعالى: {وهو الغفور الودود} أي كثير المغفرة والمودة ناظر إلى وعد المؤمنين كما أن قوله: {إن بطش ربك} إلخ ناظر إلى وعيد الكافرين.

قوله تعالى: {ذو العرش المجيد فعال لما يريد} العرش عرش الملك، وذو العرش كناية عن الملك أي هو ملك له أن يتصرف في مملكته كيفما تصرف ويحكم بما شاء والمجيد صفة من المجد وهو العظمة المعنوية وهي كمال الذات والصفات، وقوله: {فعال لما يريد} أي لا يصرفه عما أراده صارف لا من داخل لضجر وكسل وملل وتغير إرادة وغيرها ولا من خارج لمانع يحول بينه وبين ما أراد.

فله تعالى أن يوعد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ويعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة لأنه ذو العرش المجيد ولن يخلف وعده لأنه فعال لما يريد.

قوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود} تقرير لما تقدم من شدة بطشه تعالى وكونه ملكا مجيدا فعالا لما يريد، وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب لنفسه الشريفة بالإشارة إلى حديثهم، ومعنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: {بل الذين كفروا في تكذيب} لا يبعد أن يستفاد من السياق كون المراد بالذين كفروا هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الآية إضراب عما تقدم من الموعظة والحجة من حيث الأثر، والمعنى لا ينبغي أن يرجى منهم الإيمان بهذه الآيات البينات فإن الذين كفروا مصرون على تكذيبهم لا ينتفعون بموعظة أو حجة.

ومن هنا ظهر أن المراد بكون الذين كفروا في تكذيب أي بظرفية التكذيب لهم إصرارهم عليه.

قوله تعالى: {والله من ورائهم محيط} وراء الشيء الجهات الخارجة منه المحيطة به.

إشارة إلى أنهم غير معجزين لله سبحانه فهو محيط بهم قادر عليهم من كل جهة، وفيه أيضا تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعن بعضهم أن في قوله: {من ورائهم} تلويحا إلى أنهم اتخذوا الله وراءهم ظهريا، وهو مبني على أخذ وراء بمعنى خلف.

قوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} إضراب عن إصرارهم على تكذيب القرآن، والمعنى ليس الأمر كما يدعون بل القرآن كتاب مقر وعظيم في معناه غزير في معارفه في لوح محفوظ عن الكذب والباطل مصون من مس الشياطين.

______________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ،ص 223-229.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

الإيمان الراسخ أقوى من حُفر النيران!

كما نعلم جميعاً، بأنّ المسلمين في صدر الإسلام الأوّل، كانوا يعيشون في مكّة تحت ظروف قاسية، بعد أن كشّر أعدائهم بقباحة تلك الأنياب القذرة، فانهالوا على المؤمنين بأصناف العذاب وألوانه..

ولمّا كان الهدف من نزول السّورة، وبما عرضته من صور الأولين هو انذار  هؤلاء الظالمين المغرورين بأنّ مصيرهم سيكون مثل مصير الاقوام السالفة من جهة، ومن جهة اُخرى لتثبيت المؤمنين، وتقوية عزائمهم في صراعهم أمام أذى واضطهاد أهل مكّة.

ابتدأت السّورة بـ : {والسماء ذات البروج}.

«البروج»: جمع (برج) وهو القصر، وقيل: هو الشيء الظاهر، وتسمية القصور والأبنية العالية بالبروج لظهورها ووضوحها، وقيل للمحلات الخاصة من السور المحيط بالبلد والتي يجتمع فيها الحراس والجنود (البروج) لظهورها الخاص، ويقال للمرأة التي تظهر زينتها (تبرجت).

والأبراج السماوية: إمّا أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شيء معروف في الأرض، وتسمى بـ «الصور الفلكية»، وهي اثنا عشر برجاً، وفي كلّ شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج، (طبيعي أن الشمس لا تتحرك تلك الحركة، وإنّما الأرض تدور حول الشمس فيبدو لنا تغيّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج).(2)

والقسم بهذه البروج يشير إلى عظمة أمرها، التي لم تكن معلومة للعرب الجاهليين وقت نزول الآية بينما أصبحت معلومة تماماً في هذا الزمان والأقوى أنّ المراد منها هو النجوم المتلألئة ليلاً في القبة السماوية.

ولذا نقرأ فيما روي عن النّبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه حينما سئل عن تفسير الآية قال: «الكواكب»(3).

وتقول الآية الثّانية: {واليوم الموعود} اليوم الذي وعد به جميع الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام)، والذي تحدثت عنه مئات الآيات القرآنية المباركة، اليوم الذي يلتقي فيه جميع الخلق من الأولين والآخرين للحساب، إنّه يوم القيامة الحق.

وفي القسم الثّالث والرّابع يقول: {وشاهد ومشهود).

وقد تعرض المفسّرون للآية بمعان متباينة، وصلت إلى ثلاثين معنى، وأدناه أهم ما ذُكر منها:

1 ـ «الشاهد»: هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بدلالة الآية (45) من سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } [الأحزاب: 45].

و«المشهود»: هو يوم القيامة، بدلالة الآية (103) من سورة هود: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103].

2 ـ «الشاهد»: هوما سيشهد على أعمال النّاس، كأعضاء بدنه، بدلالة الآية (24) من سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]. و«المشهود»: هم النّاس وأعمالهم.

3 ـ «الشاهد»: هو يوم «الجمعة»، الذي يشهد اجتماع في صلاة مهمّة، و«المشهود»: هو يوم «عرفة»، الذي يشهده زوّار بيت اللّه الحرام، وهوما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق(عليه السلام)(4).

4 ـ «الشاهد»: عيد الأضحى.

و«المشهود»: يوم عرفة.

وروي أنّ رجلاً دخل مسجد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا رجل يحدث عن رسول اللّه، قال: فسألته عن الشاهد والمشهود، فقال: (نعم، الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة)، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول اللّه، فسألته عن ذلك فقال: (أمّا الشاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود فيوم النحر)، فجزتهما إلى غلام كأنه وجه الدينار، وهو يحدّث عن رسول اللّه، فقلت أخبرني عن «وشاهد ومشهود» فقال: «نعم، أمّا الشاهد فمحمّد، وأمّا المشهود فيوم القيامة، أمَا سمعت اللّه سبحانه يقول: {يا أيّها النّبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)، وقال {ذلك يوم مجموع له النّاس وذلك يوم مشهود).. فسألت عن الأول، فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثّاني، فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثّالث: فقالوا: الحسن بن علي(عليهما السلام)(5)

5 ـ «الشاهد»: الليالي والأيّام.. و«المشهود»: بنو آدم، حيث تشهد على أعمالهم، بدلالة ما جاء في دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) الذي يقرأ كلّ صباح ومساء: «هذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذنب».(6)

6 ـ «الشاهد»: الملائكة.. و«المشهود»: القرآن.

7 ـ «الشاهد»: الحجر الأسود.. و«المشهود»: الحجاج الذين يأتون ويلمسونه.

8 ـ «الشاهد»: الخلق.. و«المشهود»: الحق.

9 ـ «الشاهد»: الاُمّة الإسلامية.. و«المشهود»: الاُمم الاُخرى، بدلالة الآية (143) من سورة البقرة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].

10 ـ «الشاهد»: النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).. و«المشهود»: سائر الأنبياء(عليهم السلام)، بدلالة الآية (41) من سورة النساء: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [النساء: 41].

11 ـ «الشاهد»: النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).. و«المشهود»: أمير المؤمنين(عليه السلام).

وإذا ما أدخلنا الآية في سياق الآيات السابقة لها، فسنصل إلى أنّ «الشاهد» هو كلّ من سيقوم بالشهادة يوم القيامة، كشهادة: النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلّ نبيّ على اُمّته، الملائكة، بالإضافة إلى شهادة: أعضاء بدن الإنسان، الليل والنهار.. إلخ.. و«المشهود»: النّاس أو أعمالهم.

وبهذا، يدُغم الكثير من التّفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوماً واسعاً للآية المباركة.

ويخرج عن هذا الإدغام تلك التّفاسير التي تشير إلى: يوم الجمعة، يوم عرفة ويوم الأضحى.

وإن كانت الأيّام المذكورة ستشهد على أعمال الإنسان يوم الحشر، بل وكلّ يوم يجتمع فيه المسلمون يكاد يكون صورة مصغرة للحشر على رقعة الحياة الدنيا.

ومع كلّ ما ذُكر تتّضح صلة التآلف ما بين التّفاسير المذكورة أعلاه، حيث من الممكن جمعها تحت مظلة شمول مفهوم الآية، وهذا بحد ذاته يعكس لنا عظمة القرآن الكريم باحتوائه على هكذا مفاهيم واصطلاحات.. فـ «الشاهد» ينطبق على كلّ مَن وما يشهد، وكذا «المشهود» ينطبق على كّل مَن وما يشهد عليه، وما ورودهما بصيغة النكرة إلاّ لتعظيمهما، وهوما ينعكس على كلّ التّفاسير.

وثمّة علاقة خاصة بين الأقسام الأربع وبين ما اُقسم به.. فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق، و«اليوم الموعود» يوم حساب وكتاب دقيق أيضاً، و«شاهد ومشهود» أيضاً وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان، وكّل ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذّبون المؤمنين، عسى أن يكّفوا عن فعلتهم السيئة، ولإعلامهم بأن كلّ ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدّاً وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي، فسيشهد على أعمال النّاس الملائكة الموكلون لهذا الأمر وأعضاء بدن ذات الإنسان وكذا الليل والنهار و.. و.. و..، وستكون الشهادة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنين إلاّ مَن أتّى اللّه بقلب سليم!(7).

وبعد هذه الأقسام الأربع، تقول الآية التالية: {قتل أصحاب الاُخدود}. والمقصود هم الظالمين لا من القي في النّار، فالجملة انشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم.

والاُخدود مليء بالنّار الملتهبة: {النّار ذات الوقود}.

وكان الظالمون جالسون على حافة الاُخدود يشاهدون المعذبين فيها: {إذ هم عليها قعود}.

{وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود}.

«الاُخدود»: ـ على قول الراغب في مفرداته ـ : شقّ في الأرض مستطيل غائص، والجمع أخاديد، وأصل ذلك من «خدّ» الإنسان، وهو تقعر بسيط يكتنف الأنف من اليمين والشمال (وعند البكاء تسيل الدموع من خلاله) ثمّ اطلق مجازاً على الخنادق والحفر في الأرض، ثمّ صار معنى حقيقياً لها.

أمّا مَن هم الذين عذّبوا المؤمنين؟ ومتى؟ فللمفسّرين وأرباب التواريخ آراء مختلفة، سنستعرضها إنشاء اللّه في بحوث قادمة.

ولكنّ القدر المسلم به، إنّهم حفروا خندقاً عظيماً و وجّروه بالنيران، وأوقفوا المؤمنين على حافة الخندق وطلبوا منهم واحداً واحداً بترك إيمانهم والرجوع إلى الكفر، ومَن رفض اُلقي بين ألسنة النيران حياً ليذهب إلى ربّه صابراً محتسباً!

«الوقود»: ما يجعل للإشتعال، و«ذات الوقود»: إشارة الى كثرة ما فيها من الوقود، وشدّة اشتعالها، فالنّار لا تخلو من وقود، ولعل ما قيل من أن «ذات الوقود» بمعنى ذات اللهب الشديد، يعود للسبب المذكور، وليس كما ذهب به البعض من كون «الوقود» يطلق على معنيين: «الحطب» وعلى «شعلة النّار» أيضاً وتأسفوا لعدم إلتفات المفسّرين لهذه النكتة!

والآيتان: {إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود}، تشيران إلى ذلك الجمع من النّاس الذين حضروا الواقعة، وهم ينظرون إلى ما يحدث بكل تلذذ وبرود وفي منتهى قساوة القلب (سادية)!

وقيل: الإشارة إلى المأمورين بتنفيذ التهديد، وإجبار المؤمنين على ترك إيمانهم.

وقيل أيضاً: إنّهم كانوا فريقين، فريق يباشر التعذيب، وآخر حضر للمشاهدة، وقد اُشرك الجميع في هذا العمل لرضايتهم به.

وهذه صورة طبيعية الوقوع، حيث هناك مَن يأمر (الرؤساء)، ومَن ينفذ (المرؤسون)، وثمّة المشاهدون من غير الآمر والمأمور.

وقيل أيضاً: ثمّة فريق منهم كان مكلفاً بمراقبة عملية التنفيذ لرفع تقاريرهم إلى السلطان عن كيفية أداء المأمورين لواجباتهم السلطانية.

ولا يبعد وجود كلّ ما ذُكر من أصناف في ذلك المشهد المروع، كما وبالإمكان الجمع بين كلَّ الآراء المطروحة.

ومجيء فعل جملة «يفعلون» بصيغة المضارع، للإشارة إلى أنّ ذلك العمل قد استغرق وقتاً طويلاً، وما كان بالحدث السريع العابر.

وتقول الآية التالية: (وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد).

نعم، فجرمهم الوحيد إنّهم آمنوا باللّه الواحد الأحد دون تلك الأصنام الفاقدة للعقل والإحساس.

«نقموا»: من (النقم) ـ على زنة قلم ـ وهو الإنكار باللسان أو بالعقوبة، ومنه (الإنتقام).

هكذا عقوبة لا تجري إلاّ على ذنب عظيم، وأين الإيمان باللّه العزيز الحميد من الذنب؟! إنّه الإنحطاط الكبير الذي وصل إليه اُولئك القوم، قد صوَّر لهم أعزّ وأفضل ما ينبغي للإنسان أن يفتخر به (الإيمان باللّه) على أنّه جرم كبير وذنب لا يغتفر!…

وينقل لنا القرآن في الآية (59) من سورة المائدة شبيه هذه الحادثة، حينما قال السحرة الذين آمنوا بموسى(عليه السلام) لفرعون عندما توعدهم بالعقاب المؤلم، فقالوا له: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأعراف: 126].

وذكر «العزيز الحميد» جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة، واحتجاج على اُولئك الكفرة، إذ كيف يكون الإيمان باللّه جرم وذنب؟! وهو أيضاً، تهديد لهم، بأن يأخذهم اللّه العزيز الحميد جراء ما فعلوا، أخذ عزيز مقتدر.

وتأتي الآية الاُخرى لتبيّن صفتين اُخرتين للعزيز الحميد: {الذي له ملك السماوات والأرض واللّه على كلّ شيء شهيد}.

فالصفات الأربعة المذكورة، تمثل رمز معبوديته جلّ وعلا، فالعزيز والحميد.. ذو الكمال المطلق، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كلّ شيء.. أحقُّ أن يُعبد وحده دون غيره، لا شريك له.

إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين، بحضور اللّه سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان، فيدفع فيهم الحيوية والنشاط والقوّة.

ومن جهة اُخرى تهديد للكفار، وإفهامهم بأن عدم منع ارتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة، ليس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه، وإنّما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم، امتحاناً لهم، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا، وما للظالمين إلاّ العذاب المهين.

وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنِاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّاَلِحَاتِ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) إِنَّهُ هُو يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ(13) وَهُو الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14) ذُو الْعَرشِ الْمجِيدُ(15) فَعَّالٌ لَمَّا يُرِيدُ}

العذاب الالهي للمجرمين:

بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الاُخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر اُولئك الجناة من عذاب إلهي شديد، ويشير أيضاً إلى ما اُعدّ للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم باللّه.

فتقول الآية الاُولى: (إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).

«فتنوا»: من مادة (فتن)، ـ على زنة متن ـ وهو إدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته، وقد استعملت (الفتنة) بمعنى (الاختبار)، وبمعنى (العذاب والبلاء)، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضاً.

وهي في الآية بمعنى (العذاب)، على غرار ما جاء في الآيتين (13 و14) من سورة الذاريات: {يوم هم على النّار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون}.

{ثمّ لم يتوبوا}: تدلّ على أنّ باب التوبة مفتوح حتى لأولئك الجناة المجرمين، وتدلّ أيضاً على مدى لطف الباري جلّو علا على الإنسان حتى وإن كان مذنباً، وفي الجملة تنبيه لأهل مكّة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى اللّه توبة نصوح.

فباب التوبة لا يغلق بوجه أحد، وذكر العقاب الإلهي الشديد الأليم إنّما جاء لتخويف الفاسدين والمنحرفين عسى أن يرعووا ويعودوا إلى الحق مولاهم.

وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي، (عذاب جهنم) و(عذاب الحريق)، للإشارة إلى أن لعذاب جهنم ألوان عديدة، منها (عذاب النّار)، وتعيين «عذاب الحريق»، للإشارة أيضاً إلى أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنّار، سوف يجازون بذات أساليبهم، ولكن، أين هذه النّار من تلك؟!

فنار جهنم قد سجّرت بغضب اللّه، وهي نار خالدة ويصاحب داخليها الذلّ والهوان، أمّا نار الدنيا، فقد أوقدها الإنسان الضعيف، ودخلها المؤمنون بعزّة وإباء وشرف ملتحقين بصفوف شهداء رسالة السماء الحقة.

وقيل: إنّ (عذاب جهنم) جزاء كفرهم، و(عذاب الحريق) جزاء ما اقترفوا بحق المؤمنين الأخيار من جريمة بشعة.

وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير}.

وأيّ فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى جوار اللّه، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو(الإيمان والعمل الصالح)، وما عداه فروع لهذا الأصل.

(عملوا الصالحات): إشارة إلى أنّ العمل الصالح لا يختص بشيء محدد، بل ينبغي أن يكون محور حياة الإنسان هو: «العمل الصالح».

«ذلك»: إشارة للبعيد، واستعملت هنا لتبيان عظمة وأهمية المشار إليه، أيّ: إنّ فوزهم الكبير من عظمة الشأن، بقدر لا يخطر على بال أحد.

ويعود القرآن مرّة اُخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين، فيقول: {إنّ بطش ربّك لشديد}.

ولا تظنوا بأن القيامة أمر خيالي، أو إنّ المعاد من الاُمور التي يشك في صحة تحققها، بل: {إنّه هو يُبديء ويعيد}.

«البطش»: تناول الشيء بصولة وقهر، وباعتباره مقدّمة للعقاب، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة.

«ربّك»: تسلية للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأكيد دعم اللّه اللامحدود له.

والجدير بالملاحظة، إنّ الآية تضمّنت جملة تأكيدات، لتبيان صرامة التهديد الإلهي بجدّية وقطع.

فـ «البطش» يحمل معنى الشدّة المؤكّدة، والجملة الإسمية عادةً ما تأتي للتأكيد، ووصف البطش بأنّه «شديد»، وكذا وجود «إن»، ووجود لام التأكيد في «لشديد»، هذا بالإضافة إلى التأكيد المتضمّن في قوله تعالى: {إنّه يبديء ويعيد} كدليل إجمالي على المعاد(8).

ثمّ يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف الباري جلّ شأنه: {وهو الغفور الودود} الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين.

{ذو العرش المجيد} صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة.

(فعال لما يريد).

«الغفور» و«الودود»: كلاهما صيغة مبالغة، ويشيران إلى منتهى الغفران والود الإلهي، «الغفور» لعبادة المذنبين، و«الودود» المحب لعباده الصالحين.

فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمّنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد، يبيّن أنّ طريق العودة إلى اللّه سالك وأنّ باب التوبة مفتوح لكلّ مَن ولغ في الذنوب، فالباري جلّت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضاً.

وعلى هذا الضوء فـ «الودود» جاء بصيغة اسم الفاعل، وليس كما قيل من أنّه اسم مفعول، ليكون المعنى: بأنّ اللّه له محبّون كثيرون، فهذا المعنى لا ينسجم مع الصفة السابقة «الغفور» ولا يتناسب مع سياق الكلام.

وصفة: «ذو العرش»: كناية عن قدرته وحاكميته ومالكيته سبحانه وتعالى، ويتبيّن بهذا الوصف أنّ حكم عالم الوجود بيده جلّ وعلا، فما شاء كان، وقوله تعالى: (فعال لما يريد) من لوازم هذه الحاكمية المطلقة.

فـ «ذو العرش» تشير إلى قدرته تعالى على: المعاد، إحياء الموتى ومعاقبة الجبابرة والمجرمين والذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات.

«المجيد»: من (المجد)، وهو السعة في الكرم والجلال، وهي من الصفات المختصة باللّه سبحانه، وقلّما تستعمل لغيره.(9)

وبنظرة بسيطة إلى هذه الصفات المذكورة سيتراءى أمامنا ذلك الإنسجام والترابط فيما بينها فالغفور والودود لمن له القدرة وسعة الكرم كي يفعل ما يريد، لا يمنعه شيء ولا يصد إرادته أمر، لأنّ إرادته في مطلق القوّة والدوام ولا يصيبها تردد أو فسخ، سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى : {هَلْ أَتكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ(17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ(18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيب(19) وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌ(20) بَلْ هُو قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ(21) فِى لِوْح مَّحْفُوظ}

ألم تَرَ ما حلّ بجيش فرعون وثمود؟!

فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة اللّه المطلقة وحاكميته، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين.. تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكّد هذا التهديد…

فتخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: {هل أتاك حديث الجنود}.

تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء اللّه(عليهم السلام) بتصورها الساذج بأنّها ستقف أمام قدرة اللّه عزّوجلّ.

وتشير إلى نموذجين واضحين، أحدهما من غابر الزمان، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الاسلام: (فرعون وثمود).

فأحدهما ملك الشرق والغرب، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف بوجههم، ولكنّ العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء، مع ما لهاتين المادتين من لطافة وليونة، وما يمثلانه باعتبارهما من الوسائل المهمّة المستلزمة لأساسيات حياة الإنسان، فقد أغرقت أمواج وتيارات نهر النيل ذلك الطاغي (فرعون) وجنوده، فيما سلّط اللّه الهواء القارص بأعاصير مدمرة اجتاحت قوم ثمود حتى قطعت دابرهم، فأهلكوا جميعهم.

القرآن الكريم يذكّر مشركي مكّة بذلك النموذجين ليعرفوا أنفسهم أمام اللّه تعالى، فإنّ كان اللّه قد أهلك تلك الجيوش العظيمة وبما تملك من عناصر القوّة بماء وهواء، فهل سيبقى لزمام أُمورهم من شيء، وهم أضعف من اُولئك! علماً بأنّ البشر أمام اللّه بكلّ ما يحملون من قوّة فهم سواء، فلا فرق بين ضعيف وقوي.. فأين الخالق من المخلوق!

وإنّما اختير قوم «فرعون» و«ثمود» دون بقية الأقوام السالفة كنموذجين للعصاة والضالين، باعتبارهما كانا يمتلكان قدرة وقوّة مميزة على بقية الأقوام، وأهل مكّة على معرفة بتاريخهما إجمالاً.

وتقول الآية التالية: {بل الذين كفروا في تكذيب}.

فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان.

وكأن «بل» تشير إلى أنّ عناد وتكذيب أهل مكّة أشدّ وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائماً بتكذيب الحق وانكاره ويستخدمون كلّ وسيلة في هذا الطريق، (بلحاظ أن «بل» تستعمل عادة للأضراب: أي للعدول من شيء إلى شيء آخر).

وعليهم أن يعلموا بقدرة اللّه: {واللّه من ورائهم محيط}.

فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنّهم قد خرجوا عن قدرته جلّ شأنه.

وما مجيء (من ورائهم) إلاّ للتعبير عن كونهم في قبضة القدرة الإلهية من جميع الجهات، وهو محيط بهم، وليس لهم من مخلص عن العذاب بحكم العدل الإلهي.

وثمّة من يذهب بإرادة الإحاطة العلميّة في الآية، أي.. إنّ اللّه تعالى محيط بأعمالهم من كلّ جهة، فلا يغيب عنه سبحانه أي قول أو عمل أو نيّة.

وتقول الآية التالية: (بل هو قرآن مجيد) ذو مكانة سامية ومقام عظيم.

(في لوح محفوظ)، لا تصل إليه يد العبث، والشيطنة، ولا يصيبه أيَّ تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقصان.

فلا تبتأس يا محمّد بما ينسبونه إليك افتراءً، كأن يتهموك بالشعر، السحر، الكهانة والجنون.. فاُصولك ثابتة، وطريقك نيّر، والقادر المتعال معك.

«مجيد»: ـ كما قلنا ـ من (المجد)، وهو السعة في الكرم والجلال، وهوما يصدق على القرآن تماماً، فمحتواه واسع العظمة، ومعانيه سامية على كافة الأصعدة العلميّة، العقائدية، الأخلاقية الوعظ والإرشاد، وكذا في الأحكام والسنن.

«لوح» ـ بفتح اللام ـ : هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها، و(اللوح) ـ بضم اللام ـ : العطش، والهواء بين السماء والارض.

الفعل الذي يشتق من الأوّل يأتي بمعنى الظهور والانكشاف.

ويراد باللوح هنا: الصفحة التي كتب فيها القرآن، لكنّها ليست كالألواح المتعارفة عندنا، بل (وعلى قول ابن عباس): إنّ اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب!

ويبدو أنّ اللوح المحفوظ، هو «علم اللّه» الذي يملاء الشرق والغرب، ومصان من أيّ اختلاق أو تحريف.

نعم، فالقرآن من علم المطلق، وما فيه يشهد على أنّه ليس نتيجة إشراقة عقلية في عقل بشر، ولا هو بنتاج الشياطين.

ويحتمل أن يكون هو المقصود به «اُم الكتاب» و«كتاب مبين» الواردان في الآية (39) من سورة الرعد: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد: 39] ، والآية (59) من سورة الأنعام: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

علماً بأنّ تعبير (لوح محفوظ) لم يرد في القرآن إلاّ في هذا الموضع فقط.

_________________

1- الامثل، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص215-231.

2 ـ والأبراج الاثنا عشر هي: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو والحوت.

3 ـ الدر المنثور، ج6، ص331.

4 ـ مجمع البيان، ج10، ص466.

5 ـ نور الثقلين، ج5 ،ص543، وذكر مضمونه كل من (أبو الفتوح الرازي) و(الطبرسي) في تفسيرهما.

6 ـ الصحيفة السجادية: الدعاء السادس.

7 ـ وعليه، فجواب القسم محذوف ويدل عليه قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود) أو: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات). والتقدير: (اُقسم بهذه الاُمور إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات معذبون ملعونون كما لعن أصحاب الاُخدود).

8 ـ وهذا يشبه دليل الآية (79) من سورة «يس»: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة وهو بكل خلق عليم)، يقال: إنّ الفارابي تمنى لوكان أرسطو «الفيلسوف اليوناني المعروف» حيّاً ليرى جمال هذا الدليل المحكم في القرآن الكريم.

9 ـ جاءت كلمة «المجيد» في الآية مرفوعة (طبق القراءة المشهورة)، تكون صفة للّه تعالى وليس صفة للعرش، وإلاّ لكانت مجرورة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى