مقالات

تفسير سورة عبس (1-16)

قال تعالى : {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُو يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 1 – 16].
تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{عبس} أي بسر وقبض وجهه {وتولى} أي أعرض بوجهه {أن جاءه الأعمى} أي لأن جاءه الأعمى {وما يدريك لعله} أي لعل هذا الأعمى {يزكى} يتطهر بالعمل الصالح وما يتعلمه منك {أو يذكر} أي يتذكر فيتعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن {فتنفعه الذكرى} في دينه قالوا وفي هذا لطف من الله عظيم لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ لم يخاطبه في باب العبوس فلم يقل عبست فلما جاوز العبوس عاد إلى الخطاب فقال وما يدريك .

ثم قال {أما من استغنى} أي من كان عظيما في قومه واستغنى بالمال {فأنت له تصدى} أي تتعرض له وتقبل عليه بوجهك {وما عليك ألا يزكى} أي أي شيء يلزمك إن لم يسلم ولم يتطهر من الكفر فإنه ليس عليك إلا البلاغ {وأما من جاءك يسعى} أي يعمل في الخير يعني ابن أم مكتوم {وهو يخشى} الله عز وجل {فأنت عنه تلهى} أي تتغافل وتشتغل عنه بغيره {كلا} أي لا تعد لذلك وانزجر عنه {إنها تذكرة} أي إن آيات القرآن تذكير وموعظة للخلق {فمن شاء ذكره} أي ذكر التنزيل أو القرآن أو الوعظ والمعنى فمن شاء أن يذكره ذكره وفي هذا دلالة على أن العبد قادر على الفعل مخير فيه وقوله {كلا} فيه دلالة على أنه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل وأما الماضي فلم يتقدم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية.

 ثم أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال {في صحف مكرمة} أي هذا القرآن أو هذه التذكرة في كتب معظمة عند الله وهي اللوح المحفوظ عن ابن عباس وقيل يعني كتب الأنبياء المنزلة عليهم كقوله إن هذا لفي الصحف الأولى {مرفوعة} في السماء السابعة وقيل مرفوعة قد رفعها الله عن دنس الأنجاس {مطهرة} لا يمسها إلا المطهرون وقيل مصونة عن أن تنالها أيدي الكفرة لأنها في أيدي الملائكة في أعز مكان عن الجبائي وقيل مطهرة من كل دنس عن الحسن وقيل مطهرة من الشك والشبهة والتناقض {بأيدي سفرة} يعني الكتبة من الملائكة عن ابن عباس ومجاهد وقيل يعني السفراء بالوحي بين الله تعالى وبين رسله من السفارة وقال قتادة هم القراء يكتبونها ويقرءونها وروى فضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) قال الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة.

 ثم أثنى عليهم فقال {كرام} على ربهم {بررة} مطيعين وقيل كرام عن المعاصي يرفعون أنفسهم عنها بررة أي صالحين متقين وقال مقاتل كان القرآن ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة ثم ينزل به جبريل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) .

____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص266-268.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{عَبَسَ وتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الأَعْمى} وهوابن أم مكتوم ، قصد الرسول الأعظم {ص} ليسأله عن أحكام دينه ، فأعرض عنه لاشتغاله بما هوأهم كما ذكرنا . . وكان هذا الأعمى من المهاجرين الأولين ، والمؤذن الثاني لرسول اللَّه {ص} واستخلفه على المدينة يصلي في الناس أكثر من مرة . وقيل : انه ولد أعمى وان اسمه عبد اللَّه ، ووصفه سبحانه بالأعمى للإشارة إلى عذره في الإلحاح بالمسألة {وما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَويَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى} . أي شيء جعلك داريا وعارفا بحقيقة هذا الأعمى ؟ . ولواستجبت لرغبته وألقيت بعض أحكام الدين لانتفع وعمل بما تلقيه عليه .

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} . أعرضت عمن يشعر بالحاجة إلى ما عندك من علم اللَّه ، وأقبلت على من يرى نفسه في غنى عن اللَّه وعنك بما يملك من جاه ومال ، ترجوهدايته ورجوعه عن الضلال . وهل ترجى الهداية ممن أعماه الهوى والجهل : {فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ولَو كانُوا لا يُبْصِرُونَ} – 43 يونس .

{وما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} . لا شيء عليك ولا على الإسلام من كفر الكافر وضلاله ، ومثله : {وإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} – 42 المائدة .

{وأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وهُو يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} . تشاغلت بالمشركين طمعا بإسلامهم وهدايتهم ، وتعافلت عن المؤمن الذي قصدك للاستفادة من عملك اتكالا على إيمانه ، وان في وقت التعليم سعة وفسحة . . فدع الطغاة للَّه وحده فهولهم بالمرصاد ، وأقبل على من تفتح قلبه للهدى والخير .

{كَلَّا} ان اللَّه لا ينصر دينه بمن يرى نفسه في غنى عن اللَّه وعنك بما عنده من جاه ومال ، وانما ينصر الحق بالطيبين أمثال هذا الأعمى ، وان كانوا من الفقراء والمساكين {إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} . ضمير انها يعود إلى آيات القرآن أو إلى الهداية التي فيه ، وضمير ذكره يعود إلى اللَّه أو إلى القرآن ، والمعنى ان هذا القرآن كاف واف في الهداية لمن طلبها ، وما عليك يا محمد إلا البلاغ والتذكير ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ثم وصف سبحانه هداية القرآن وتعاليمه وأحكامه بقوله : {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} لها شأنها وكرامتها عند اللَّه {مرفوعة} عالية بتعاليمها النافعة ، وحكمها البالغة {مُطَهَّرَةٍ} من العبث والضلال {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ} . ان تلك الصحف الإلهية في حصن حصين ينقلها الملائكة المقربون عن العلي الأعلى إلى أنبيائه المعصومين ، وهم يبلغونها بدورهم إلى الناس بدقة وأمانة .

__________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص517-518.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

وردت الروايات من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في قصة ابن أم مكتوم الأعمى دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبي عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات وفي بعض الأخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك.

وفي بعض روايات الشيعة أن العابس المتولي رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل عليه ابن أم مكتوم فعبس الرجل وقبض وجهه فنزلت الآيات: وسيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان الأمر فغرض السورة عتاب من يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة ثم ينجر الكلام إلى الإشارة إلى هوان أمر الإنسان في خلقه وتناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره وكفره مع ذلك بنعم ربه وتدبيره العظيم لأمره وتتخلص إلى ذكر بعثه وجزائه إنذارا والسورة مكية بلا كلام.

قوله تعالى: {عبس وتولى} أي بسر وقبض وجهه وأعرض.

قوله تعالى: {أن جاءه الأعمى} تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.

قوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} حال من فاعل {عبس وتولى} والمراد بالتزكي التطهر بعمل صالح بعد التذكر الذي هو الاتعاظ والانتباه للاعتقاد الحق، ونفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكي بالإيمان والعمل الصالح.

ومحصل المعنى: بسر وأعرض عن الأعمى لما جاءه والحال أنه ليس يدري لعل الأعمى الذي جاءه يتطهر بصالح العمل بعد الإيمان بسبب مجيئه وتعلمه وقد تذكر قبل أو يتذكر بسبب مجيئه واتعاظه بما يتعلم فتنفعه الذكرى فيتطهر.

وفي الآيات الأربع عتاب شديد ويزيد شدة بإتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة لما فيه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الإنكار وإتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقريع من غير واسطة.

وفي التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يرحم ويخص بمزيد الإقبال والتعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه.

وقيل – بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -: أن في التعبير عنه أولا بضمير الغيبة إجلالا له لإيهام أن من صدر عنه العبوس والتولي غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لا يصدر مثله عن مثله، وثانيا بضمير الخطاب إجلالا له أيضا لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض.

وفيه أنه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد: {أما من استغنى فأنت له تصدى} إلخ والعتاب والتوبيخ فيه أشد مما في قوله: {عبس وتولى} إلخ ولا إيناس فيه قطعا.

قوله تعالى: {أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى} الغنى والاستغناء والتغني والتغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبس بالغنى ولازمه التقدم والرئاسة والعظمة في أعين الناس والاستكبار عن اتباع الحق قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] والتصدي التعرض للشيء بالإقبال عليه والاهتمام بأمره.

وفي الآية إلى تمام ست آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس والتولي فعوتب عليه ومحصله أنك تعتني وتقبل على من استغنى واستكبر عن اتباع الحق وما عليك ألا يزكى وتتلهى وتعرض عمن يجتهد في التزكي وهو يخشى.

وقوله: {وما عليك ألا يزكى} قيل: {ما} نافية والمعنى وليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض والتلهي عمن أسلم والإقبال عليه.

وقيل: {ما} للاستفهام الإنكاري والمعنى وأي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ.

وقيل: المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله.

قوله تعالى: {وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى} السعي الإسراع في المشي فمعنى قوله: {وأما من جاءك يسعى} بحسب ما يفيده المقام: وأما من جاءك مسرعا ليتذكر ويتزكى بما يتعلم من معارف الدين.

وقوله: {وهو يخشى} أي يخشى الله والخشية آية التذكر بالقرآن قال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 2، 3] وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10].

وقوله: {فأنت عنه تلهى} أي تتلهى وتتشاغل بغيره وتقديم ضمير أنت في قوله: {فأنت له تصدى} وقوله: {فأنت عنه تلهى} وكذا الضميرين {له} و{عنه} في الآيتين لتسجيل العتاب وتثبيته.

قوله تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره} {كلا} ردع عما عوتب عليه من العبوس والتولي والتصدي لمن استغنى والتلهي عمن يخشى.

والضمير في {أنها تذكرة} للآيات القرآنية أو للقرآن وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر والمعنى أن الآيات القرآنية أو القرآن تذكرة أي موعظة يتعظ بها من اتعظ أو مذكر يذكر حق الاعتقاد والعمل.

وقوله: {فمن شاء ذكره} جملة معترضة والضمير للقرآن أو ما يذكر به القرآن من المعارف، والمعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكر به القرآن وهو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة مما تحفظه في لوحها من حق الاعتقاد والعمل.

وفي التعبير بهذا التعبير: {فمن شاء ذكره} تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي وإنما المنتفع بها المتذكر فليختر ما يختاره.

قوله تعالى: {في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة} قال في المجمع،: الصحف جمع صحيفة، والعرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره انتهى.

و{في صحف} خبر بعد خبر لأن وظاهره أنه مكتوب في صحف متعددة بأيدي ملائكة الوحي، وهذا يضعف القول بأن المراد بالصحف اللوح المحفوظ ولم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف ولا الكتب ولا الألواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، ونظيره في الضعف القول بأن المراد بالصحف كتب الأنبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله: {بأيدي سفرة} إلخ في أنه صفة لصحف.

وقوله: {مكرمة} أي معظمة، وقوله: {مرفوعة} أي قدرا عند الله، وقوله: {مطهرة} أي من قذارة الباطل ولغو القول والشك والتناقض قال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] ، وقال: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14] وقال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] ، وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .

قوله تعالى: {بأيدي سفرة كرام بررة} صفة بعد صفة لصحف، والسفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و{كرام} صفة لهم باعتبار ذواتهم و{بررة} صفة لهم باعتبار عملهم وهو الإحسان في الفعل.

ومعنى الآيات أن القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعددة معظمة مرفوعة قدرا مطهرا من كل دنس وقذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم.

ويظهر من الآيات أن للوحي ملائكة يتصدون لحمل الصحف وإيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل وتحت أمره ونسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194] وقد قال تعالى في صفته: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير: 19 – 21] فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره ويأتي بما يريده والإيحاء الذي هو فعل أعوانه فعله كما أن فعله وفعلهم جميعا فعل الله وذلك نظير كون التوفي الذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، وفعله وفعلهم جميعا فعل الله تعالى، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا البحث مرارا.

وقيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة، والذي تقدم من المعنى أجلى وقيل: المراد بهم القراء يكتبونها ويقرءونها وهوكما ترى.

____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص176-179.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:

يقول القرآن أولاً: {عبس وتولّى}.

لماذا؟: {أن جاءه الأعمى}.

{وما يدريك لعله يزّكّى}، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

{أو يذكر فتنفعه الذكرى}، فإن لم يحصل على التقوى، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فتنفعه ذلك(2).

ويستمر العتاب…: {أمّا من استغنى}، مَنْ اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

(فأنت له تصدّى)، تتوجّه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر، كما أشارت لهذا الآيتان (6 و7) من سورة العلق: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}(3) [العلق: 6، 7] .

{وما عليك ألاّ تزّكّى}، أي في حين لولم يسلك سبيل التقوى والإيمان، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ اُولئك الأغنياء المتحجرين.

وتأتي العتاب مرّة اُخرى تأكيداً: {وأمّا مَنْ جاءك يسعى}، في طلب الهداية…

{وهو يخشى}(4)، فخشيته من اللّه هي التي دفعته للوصول إليك، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها، ويعمل على مقتضاها.

{فأنت عنه تلهى}(5).

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة، ومهما كان يسيراً، فهو ليس من شأن من مثلك، وإنّ كان هدفك هداية الآخرين، فبلحاظ الأولويات، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال: فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى غيره، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ اللّه لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل: السند المخلص للإسلام دائماً… الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الأشتر: «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(6).

وقوله تعالى : {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11) فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ(12) فِى صُحُف مُّكَرَمَة(13) مِّرْفُوعَة مُّطَهَّرَة(14)بِأَيْدِى سَفَرَة(15) كِرَام بَرَرَة}.

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق)،، فتقول (كلاّ) فلا ينبغي لك أنْ تعيد الكرّة ثانية.

(إنّها تذكرة)، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين، اُولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضاً، كون الآيات، {كلاّ إنّها تذكرة} جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

وفتقول الآية: إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة، لا يمتلك من الصحة شيئاً، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان، ودليلها فيها، وكلّ مَنْ اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه {ما عدا المعاندين}.

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر: {فَمَنْ شاء ذكره}(7).

نعم، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان، وما على الإنسان إلاّ أن يستفيد منها أولا يستفيد.

ثمّ يضيف: أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق): (في صحف مكرمة).

«الصحف»: جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة، أو أيُّ شيء يُكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كُتب على ألواح من قبل أن يُنزّل على النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها: لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ»، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع، كما جاء في الآية: «صحف».

وهذه الصحف المكرمة: (مرفوعة مطهرة).

فهي مرفوعة القدر عند اللّه، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرِّفين، ولكونها خالية من قذارة الباطل، فهي أطهر من أن تجد فيها أثراً لأيّ تناقض أو تضاد أوشك أو شبهة.

وهي كذلك: (بأيدي سفرة)، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء: (كِرام بررة).

«سفرة»: جمع (سَافِرْ) من (سَفَر) على وزن (قمر)، ولغةً: بمعنى كشف الغطاء عن الشيء، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم، ويطلق على الكاتب اسم (السافر)، وعلى الكتاب (سِفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه… فالسفره هنا، بمعنى: الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي، أو الكاتبين لآياته.

وقيل: هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيداً، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، في وقوله: «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(8). بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم: بأنّ مَنْ يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسةً، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام»: جمع (كريم)، بمعنى العزيز المحترم، وتشير كلمة «كِرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند اللّه وعلو منزلتهم.

وقيل: «كرام»: إشارة إلى طهارتهم من كلِّ ذنب، بدلالة الآيتين (26 و27) من سورة الأنبياء: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27] .

«بررة»: جمع (بار)، من (البَرِّ)، بمعنى التوسع، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البَرْ)، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و«البررة»: في الآية، بمعنى: إطاعة الأمر الإلهي، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاُولى: إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية: إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثاّلثة: طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص88-92.

2 ـ والفرق بين الآية والتي قبلها، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة.

وقيل: إنّ الفرق بين الآيتين، هو أنّ الاُولى تشير إلى التطهير من المعاصي، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر اللّه عزّوجلّ.

والأوّل يبدو أقرب للصحة.

3 ـ يقول الراغب في مفرداته: (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد، ويقول في (تصدّى): إنّها من (الصدى)، أي الصوت الراجع من الجبل.

4 ـ يراد بالخشية هنا: الخوف من اللّه تعالى، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولاً لمعرفته جلّ اسمه، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ… وجوب معرفة اللّه بدليل دفع الضرر المحتمل.

واحتمل الفخر الرازي: يقصد بالخشية، الخوف من الكفّار، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّاً.

5 ـ «التلهي»: من (اللهو)، ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والإستغفال بغيره، ليقف في قبال «التصّدي».

6 ـ نهج البلاغة، الرسالة 53.

7 ـ يعود ضمير: «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها»، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية، و«ذكره» إلى القرآن، فجاء الأوّل مؤنثاً والثّاني مذكراً.

8 ـ مجمع البيان، ج10، ص438.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى