مقالات

تفسير سورة قريش

قال تعالى : {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش : 1 – 4] .

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{لإيلاف قريش} أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف فكأنه قال نعمة إلى نعمة فتكون اللام مؤدية معنى إلى وهو قول الفراء وقيل معناه فعلنا ذلك لتألف قريش بمكة ويمكنهم المقام بها أو لتؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها وهربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة ويألفوا بها ويولد محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيبعث إلى الناس بشيرا ونذيرا وقوله {إيلافهم} ترجمة عن الأول وبدل منهم {رحلة الشتاء والصيف} منصوبة بوقوع إيلافهم عليها وتحقيقه أن قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه وأن يعرض لهم أحد بالسوء إذا خرجت منها لتجارتها والحرم واد جديب إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية ورحلة في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة ولولا هاتان الرحلتان لم يمكنهم به مقام ولولا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم ومقامهم بمكة وقيل إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام ولكن رحلة الشتاء في البحر وأيلة طلب للدفا ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة ولولا هاتين الرحلتين لم يمكنهم مقام ولولا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم ومقامهم بمكة وقيل إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام ولكن رحلة الشتاء في البحر وأيلة طلب للدفا ورحلة الصيف إلى بصري وأذرعات طلبا للهواء وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة فكل من ولده النضر فهو قرشي ومن لم يلده النضر فليس بقرشي واختلف في تسميتهم بهذا الاسم فقيل سموا قريشا للتجارة وطلب المال وجمعه وكانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع ولا زرع والقرش المكسب يقال هو يقرش لعياله أي يكتسب لهم وذكر أنه قيل لابن عباس لم سميت قريش قريشا فقال لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه يقال لها القريش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته قيل أ فتنشد في ذلك شيئا فأنشد قول الجمحي :

وقريش هي التي تسكن البحر *** بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا *** تترك فيه لدى الحناجر ريشا

وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم وكان لا يتعرض لهم أحد بسوء وكانوا يقولون قريش سكان حرم الله وولاة بيته قال الكلبي وكان أول من حمل الميرة من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف ويصدقه قول الشاعر :

تحمل هاشم ما ضاق عنه *** وأعيا أن يقوم به ابن بيض

أتاهم بالغرائر متأقات *** من أرض الشام بالبر النفيض

فوسع أهل مكة من هشيم *** وشاب البر باللحم الغريض (2)

 وقال سعيد بن جبير مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومعه أبوبكر بملأ وهم ينشدون :

يا ذا الذي طلب السماحة والندى *** هلا مررت ب آل عبد الدار

لو أن مررت بهم تريد قراهم *** منعوك من جهد ومن إقتار

 فقال لأبي بكر أ هكذا قال الشاعر فقال لا والذي بعثك بالحق بل قال :

يا ذا الذي طلب السماحة والندى *** هلا مررت ب آل عبد مناف

لو أن مررت بهم تريد قراهم*** منعوك من جهد ومن إيجاف (3)

الرائشين وليس يوجد رائش *** والقائلين هلم للأضياف (4)

والخالطين غنيهم بفقيرهم*** حتى يصير فقيرهم كالكافي

والقائلين بكل وعد صادق *** ورجال مكة مسنتين عجاف (5)

سفرين سنهما له ولقومه *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

 {فليعبدوا رب هذا البيت} هذا أمر من الله سبحانه أي فليوجهوا عبادتهم إلى رب هذه الكعبة ويوحدوه وهو الله سبحانه {الذي أطعمهم من جوع} بما سبب لهم من الأرزاق في رحلة الشتاء والصيف وأعطاهم من الأموال {وآمنهم من خوف} فلا يتعرض لهم أحد في سفرهم إذا قالوا نحن أهل حرم الله وقيل آمنهم من خوف الغارة بالحرم الذي جبلت قلوب الناس على تعظيمه لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية نحن قطان حرم الله فلا يتعرض لهم وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فيقال هو حرمي فيخلي عنه وعن ماله تعظيما للحرم وكان غيرهم إذا خرج أغير عليه وقيل {أطعمهم من جوع} أي من بعد جوع كما يقال كسوتك من بعد عري يعني ما كانوا فيه من الجوع قال ابن عباس كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين فلم يكن بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش .

_______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص451-453 .

2- حكي عن الاصمعي انه قال : ابن البيض : هو رجل كان في الزمن الاول ، عقر ناقته على تثنية فسد بها الطريق ، ومنع الناس من سلوكها . وقال بسامة بن حزن :

((كثوب ابن بيض وقاهم به *** فسد على السالكين السبيلا ))

والغرائر : الجوالق العظام . واناقت الاناء : ملأته . والنفيض : الزائل عنه الغبار ، / والهشيم : الثريد . وشاب الشيء بالشيء : خلطه . والغريض : الطري .

3- الايجاف : سرعة السير .

4- راشه : أعانه وأغناه .

5- كذا في النسخ . ولكن في السيرة وغيره هكذا :

((عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتين عجاف ))

وهو الاصح . والمسنتون : الذين اصابتهم السنة وهي الجوع ، والقحط . والعجاف من العجف : وهو الهزال ، والضعف .

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

اختلفوا : هل هذه السورة مستقلة عن سورة الفيل ، أوهما سورة واحدة ؟

قال الحافظ محمد بن احمد الكلبي في تفسير التسهيل : {ويؤيد القول بأنهما سورة واحدة انهما في مصحف أبي بن كعب كذلك لا فصل بينهما ، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب} . ويتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية ، وقال صاحب الظلال : {هذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوّها} .

{لإِيلافِ قُرَيْشٍ} . الإيلاف هو الإيناس ضد الايحاش ، وقريش اسم لقبائل عربية من ولد النضر بن كنانة ، وفي بعض التفاسير : إن قريشا تصغير قرش ، وهي التجارة ، سمّوا بذلك لأنهم كانوا يتجرون ، ويومئ إلى ذلك قوله تعالى :

{إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ} . كان سكان مكة في القرن السادس للمسيح ثلاث فئات : الأولى قريش ، ولها كل الحقوق . الثانية حلفاء قريش وهم أناس من العرب . الثالثة العبيد الذين لا يملكون شيئا حتى أنفسهم ، وكان لقريش رحلتان للتجارة : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف ، وكانوا يذهبون في تجارتهم آمنين ، ويعودون سالمين لا يمسهم أحد بأذى لأنهم سكان مكة وجيران بيت اللَّه الحرام كما قال المفسرون ، أو كما نظن نحن من أن

العرب لا غنى لهم عن الحج إلى مكة ، فإذا تعرضوا لقوافل قريش اقتصوا منهم حين يحجون إلى بلدهم .

ويقول الرواة : ان محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) ذهب ذات عام مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام ، وكان في الثانية عشرة من عمره الشريف ، وان عمه لم يكد يبلغ مشارف الشام حتى عاد به مسرعا إلى مكة ، لأن راهبا من رهبان النصارى أوصاه بأن يحرزه في مكة من مكر اليهود والنصارى . . وأيضا قال الرواة : ان محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) خرج مع عمه الزبير إلى اليمن في رحلة الشتاء ، وكان قد جاوز العشرين بقليل . .

كان هذا قبل أن يخرج إلى الشام بمال خديجة .

لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ} الضمير يعود إلى قريش ، يأمرهم اللَّه سبحانه بترك الأصنام وعبادة الواحد الأحد {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .

يذكّر سبحانه بهذه الآية طغاة قريش الذين عبدوا الأصنام من دون اللَّه ، وكذبوا نبيه الكريم محمدا ، يذكرهم بحادث الفيل كيف أنجاهم من أبرهة وجيشه ولولا فضله تعالى لكانوا هم العصف المأكول دون أصحاب الفيل . وأيضا يذكرهم تعالى بما أنعم عليهم من الرزق بسبب الرحلتين ولولاهما لهلكوا جوعا لأنهم بواد غير ذي زرع ، وفوق ذلك كله جعلهم آمنين مطمئنين على أموالهم وأرواحهم في حلهم وتر حالهم ، ولولا فضله عز وجلّ لتخطَّفهم الناس من كل مكان . . أبعد هذا كله يعبدون الأصنام ويكفرون بأنعم اللَّه ويتوسلون بسواه ، ويكذبون رسوله العظيم ؟ حقا ان الإنسان لظلوم كفار .

______________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص612-613 .

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

تتضمن السورة امتنانا على قريش بإيلافهم الرحلتين وتعقبه بدعوتهم إلى التوحيد وعبادة رب البيت ، والسورة مكية .

ولمضمون السورة نوع تعلق بمضمون سورة الفيل ولذا ذهب قوم من أهل السنة إلى كون الفيل ولإيلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى وأ لم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة والحق أن شيئا مما استندوا إليه لا يفيد ذلك .

أما القائلون بذلك من أهل السنة فإنهم استندوا فيه إلى ما روي أن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة ، وبما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال : صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرأ في الركعة الأولى والتين وفي الثانية أ لم تر ولإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة .

وأجيب عن الرواية الأولى بمعارضتها بما روي أنه أثبت البسملة بينهما في مصحفه ، وعن الثانية بأن من المحتمل على تقدير صحتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سرا .

على أنها معارض بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله فضل قريشا بسبع خصال وفيها {ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم : لإيلاف قريش} .

الحديث على أن الفصل متواتر .

وأما القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه إلى ما في المجمع ، عن أبي العباس عن أحدهما (عليهما السلام) قال : أ لم تر كيف فعل ربك ولإيلاف قريش سورة واحدة ، وما في التهذيب ، بإسناده عن العلاء عن زيد الشحام قال : صلى بنا أبوعبد الله (عليه السلام) الفجر فقرأ الضحى وأ لم نشرح في ركعة ، وما في المجمع ، عن العياشي عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى وأ لم نشرح وأ لم تر كيف ولإيلاف قريش : ورواه المحقق في المعتبر ، نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبي نصر عن المفضل : مثله .

أما رواية أبي العباس فضعيف لما فيها من الرفع .

وأما رواية الشحام فقد رويت عنه بطريقين آخرين : أحدهما ما في التهذيب ، بإسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحام قال : صلى بنا أبوعبد الله (عليه السلام) فقرأ بنا بالضحى وأ لم نشرح ، وثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحام قال : صلى بنا أبوعبد الله (عليه السلام) فقرأ في الأولى الضحى وفي الثانية أ لم نشرح لك صدرك .

وهذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين ولا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما ، وأما رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع ولا صراحة ، وأما حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها : {صلى بنا} فإنه صريح في الجماعة ولا جماعة في نفل .

وأما رواية المفضل فهي أدل على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل : لا تجمع بين سورتين ثم استثنى من السورتين الضحى وأ لم نشرح وكذا الفيل ولإيلاف .

فالحق أن الروايات إن دلت فإنما تدل على جواز القرآن بين سورتي الضحى وأ لم نشرح وسورتي الفيل ولإيلاف في ركعة واحدة من الفرائض وهو ممنوع في غيرها ، ويؤيده رواية الراوندي في الخرائج ، عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : فلما طلع الفجر قام فأذن وأقام وأقامني عن يمينه وقرأ في أول ركعة الحمد والضحى وفي الثانية بالحمد وقل هو الله أحد ثم قنت ثم سلم ثم جلس .

قوله تعالى : {لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} الألف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب ومنه الألفة ، وقال في الصحاح ، : وفلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه ألفا وآلفه إياه غيره ، ويقال أيضا : آلفت الموضع أو لفه إيلافا ، انتهى .

وقريش عشيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم ولد النضر بن كنانة المسمى قريشا ، والرحلة حال السير على الراحلة وهي الناقة القوية على السير كما في المجمع ، والمراد بالرحلة خروج قريش من مكة للتجارة وذلك أن الحرم واد جديب لا زرع فيه ولا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة ، وكانت لهم في كل سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة بالصيف إلى الشام ، وكانوا يعيشون بذلك وكان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الإغارة على بلدهم الأمن .

وقوله : {لإيلاف قريش} اللام فيه للتعليل ، وفاعل الإيلاف هو الله سبحانه وقريش مفعوله الأول ومفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده ، وقوله : {إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} بدل من إيلاف قريش ، وفاعل إيلافهم هو الله ومفعوله الأول ضمير الجمع ومفعوله الثاني رحلة إلخ ، والتقدير لإيلاف الله قريشا رحلة الشتاء والصيف .

قوله تعالى : {فليعبدوا رب هذا البيت} الفاء في {فليعبدوا} لتوهم معنى الشرط أي أي شيء كان فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافه أيام الرحلتين أو لتوهم التفصيل أي مهما يكن من شيء فليعبدوا رب هذا البيت إلخ ، فهو كقوله تعالى : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر : 7] .

ومحصل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافه إياهم رحلة الشتاء والصيف وهم عائشون بذلك في أمن .

هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عما قبلها ذات سياق مستقل في نفسها ، وأما على تقدير كونها جزء من سورة الفيل متممة لها فذكروا أن اللام في {لإيلاف} تعليلية متعلقة بمقدر يدل عليه المقام والمعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف فكأنه قال : نعمة إلى نعمة ولذا قيل : إن اللام مؤدية معنى إلى وهو قول الفراء .

وقيل : المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكة ويمكنهم المقام بها أولنؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها وهربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة ويألفوا بها ويولد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيبعث إلى الناس بشيرا ونذيرا هذا ، والكلام في استفادة هذه المعاني من السياق .

قوله تعالى : {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منه الواضح ونعمته الظاهرة عليهم وهو الإطعام والأمن فيعيشون في أرض لا خصب فيها ولا أمن لغيرهم فليعبدوا ربا يدبر أمرهم أحسن التدبير وهورب البيت .

___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص337- 339 .

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

ربّ هذا البيت يجب أن يعبد :

في سورة «الفيل» جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السّورة التي تعتبر امتداداً للسورة السابقة تقول : نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول : {لإيلاف قريش} (2) ، أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) .

«إيلاف» مصدر آلف ، و«آلفه» أي جعله يألف ، أي جعله يجتمع اجتماعاً مقروناً بالإنسجام والأنس والإلتيام . وقال بعضهم : «الإيلاف» من المؤالفة ، وهي العهد والميثاق ، ولا تناسب بين هذا المعنى وبين الكلمة وهي مصدر باب الأفعال ، وبين محتوى السّورة .

على كلّ حال ، المقصود إيجاد الألفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكّة والبيت العتيق ، لأنهم وكلّ أهل مكّة اختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها . كثير من أهل الحجاز كانوا يحجّون البيت كلّ سنة ، ويقترن حجّهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين .

كلّ ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن . ولو أنّ هذا الأمن قد انعدم أو أنّ الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد ألفة بهذه الأرض .

كلمة «قريش» في الأصل نوع من الأحياء البحرية الضخمة التي تبتلع كلّ ما يصادفها ، كما يقول المفسّرون واللغويون ، وعن ابن عباس في معنى قريش قال :

«لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه ، يقال لها القريش ، لا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلاّ أكلته» (3) ! واستشهد لذلك بأبيات ممّا قالته العرب .

من هنا فإنّ انتخاب هذا الإسم لهذه القبيلة يعود إلى اقتدار هذه القبيلة وقوتها ، وإلى استغلال هذه القوّة في الإنقضاض على الآخرين .

وقيل إنّ قريش من القرَش ، وهو الإكتساب ، لأنّ قريشاً كانت مشغولة دوماً بالتجارة والكسب .

وقيل : إنّ معنى «القرش» التفتيش والمراجعة ، وسمّيت قريش بذلك لتفقدها أحوال الحجاج والمسارعة لمساعدتهم .

و«القرش» في اللغة ورد بمعنى الإجتماع أيضاً ، وإذا كان هذا المعنى مقصوداً في التسمية فذلك يعود إلى ما كانت تتصف به هذه القبيلة من اجتماع وانسجام .

على أي حال اسم قريش لم يقترن بسمعة طيبة . فهم وإن كانوا عشيرة الرسول ـ إلاّ أنّهم ناصبوا الإسلام أشدّ العداء ، ولم يألوا جهداً في وضع العراقيل أمام الدعوة والوقوف بوجهها وتعذيب الدعاة ، وبعد انتصار الإسلام عليهم ، عمدوا إلى التآمر الخفي على المسلمين ، ثمّ بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقوا أحداثاً مؤلمة لا ينساها لهم تاريخ الإسلام أبداً . ونعلم أنّ بني اُمية وبني العباس الذين أقاموا حكومة الجبابرة والطواغيت كانوا من قريش .

القرائن التاريخية تشير إلى أنّ هذه القبيلة كانت في الجاهلية أيضاً تستثمر النّاس وتستغلهم . ولذلك وجدت في الإسلام خطراً على مصالحها لدعوته إلى تحرير الإنسان ، وشنت عليه حرباً لا هوادة فيها ، إلى أن اندحرت أمام قدرة الإسلام .

{إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} (4) .

مكّة تقع في واد غير ذي زرع ، والرعي فيها قليل ، لذلك كانت عائدات أهل مكّة غالباً من قوافل التجارة ، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل ، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجو لطيف . والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ ، ومكّة والمدينة حلقتا اتصال بينهما .

هذه هي رحلة الشتاء . . . ورحلة الصيف .

والمقصود بـ «إيلافهم» في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدّسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من آمن ، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام ، فيسكنون فيها ويهجرون مكّة .

وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين ، لأنّ النّاس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية خاصّة بعد قصّة اندحار جيش أبرهة .

قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام ، لكن اللّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدّسة .

الآية الاخيرة تقول : إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان .

{فليعبدوا ربّ هذا البيت} .

{الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} (5) . . . الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة ، ودفع عنهم الخوف والضرر ، كلّ ذلك باندحار جيش أبرهة . وبفضل دعاء إبراهيم الخليل (عليه السلام) مؤسس الكعبة . لكنّهم لم يقدّروا هذه النعمة ، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان ، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم .

________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص542-544 .

 2 ـ «اللام» في «لإيلاف» بمعنى العلة ، وجار ومجرور متعلق بـ «جعل» في السّورة السابقة في آية (فجعلهم كعصف مأكول) أو أحد الأفعال التي كانت في السّورة ، بينما يرى البعض أن الجار والمجرور يتعلقان بجملة «فليعبدوا» القادمة ، لكن هذا الإحتمال لا يتفق مع مضمون الآيات ، والمعنى الأوّل أحسن .

3- تفسير مجمع البيان ، ج10 ، ص545 .

4 ـ «إيلافهم» بدل من في الآية السابقة ، و (هم) مفعول أوّل ، و (رحلة الشتاء) مفعول ثان ، وقيل أنّه ظرف ، وقيل منصوب بنزع الخافض ، أي إيلافهم من رحلة الشتاء والصيف (يبدو أن المعنى الثّاني والثّالث أنسب) .

«رحلة» في الاصل من «رحل» ـ على زنة شهر ـ بمعنى الغطاء الذي يغطي به ظهر الدابة لركوبها ، ثمّ اطلقت على الإبل أو السفر بواسطته أو بوسائط اُخرى .

5- ذهب بعض المفسرين الى ان هذه الاية عبارة عن ايتين ، فيكون مجموع آيات هذه السورة خمس آيات . ولكن المعروف انها اية واحدة وعدد آيات هذه السورة اربع آيات .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى