مقالات

جميلاً رأت..

(

ما رأيتُ إلّا جميلاً)…
هذه العبارة التي أجابت بها السيدة زينب(ع) على سؤال ابن زياد الشامت حينما دخلت السبايا إلى القصر وجيء برأس أخيها(ع) ووضع بين يديه على مرأى من نساء الركب وصبيانه حيث لم يكن ابن زياد يعرفها وهي محتشمة بالخمار، ولما سأل عنها وقيل له إنها (زينب بنت علي)…
أقبل إليها وقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب حدوثتكم.
فقالت(ع): (إنما يفتضح الفاسق ويكذَّب الفاجر وهو غيرنا).
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله في أخيك وأهل بيته؟
فأجابت: (ما رأيت إلا جميلا… هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن يكون الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).
فغضب وكأنه همَّ بها، فقال له عمرو بن حريث: (إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيءٍ من منطقها).
فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيته.
فقالت: (لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلّي فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت).
فقال سجاعة(١) ولعمري لقد كان أبوك شاعرًا سجاعًا.
فقال: (يا ابن زياد ما للمرأة والسجاعة..؟ وإنّ لي عن السجاعة لشغلا وإني لأعجب ممن يستشفي بقتل أئمة ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته).
في هذه الإجابة البليغة التي لم تزد على أربع كلمات تتجلى معان عدة، أولاها: الفصاحة التي غرفت من البلاغة التي ورثتها عن أبيها أمير المؤمنين(ع) صاحب نهج البلاغة وفيلسوف الإسلام. وثانيها: الجسارة الأدبية التي تربت عليها في حضن أمها المعصومة فاطمة الزهراء(ع)، وثالثا: قوة الحجة التي لا جواب لها والتي ضربت لسان ابن زياد بالعيّ وأعمَت منطقهُ فحاول مواجههتها لا بحجة ومنطق، بل بالغلظة والعنف والهجوم عليها بالسوط لولا منعه من بعض الحضور.
بعد هذا الموقف الصعب الذي واجهته العقيلة(ع)، برباطة جأش لا تُحَد نظر إليها ابن زياد نظرة ملؤها التشفي، وكان يبدو لزينب(ع) كصنم بشري وضيع لا تؤثر فيه الإهانة  فقررت أن تجلده بسياط عباراتها البليغة فوجهت له كلامها قائلة: (ثكلتك أمك يا ابن مرجانة…) إن هذه العبارة تعني ما تعني… لأن مرجانة أمه كانت من فصيلة النساء المتهتكات، ورغم معرفته بمستوى أمه الأخلاقي إلا أنه حاول مجددا الاقتراب من زينب(ع) للاعتداء عليها، وما كاد يهم بفعلته حتى تصدّى له عمرو بن حريث وحال بينه وبين مراده، ولما لمس إصراره على أذيتها أخذ يدفعه عنها، فامتثل ممتعضًا وهو يردد: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيته.
نظرت إليه زينب(ع) فرأت فيه وغدًا خسيسًا وأن عليها ترك ملاحاته لأنه راغب في إذلال نساء أهل البيت(ع) بعد أن قتل رجالهم، فانطوت على نفسها حزينة تبكي ما أصابها وتقول: (لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت).
لكن عبارتها المعبرة عن شناعة أفعاله فعلت فعلها مجددا في خساسة نفسه فلم يترك مكانه حيالها، ولم يطل غيظه من كلامها حتى تناهى إلى سمعه ما هو أشد بصوت صبي أنهكته العلة يخاطبه بلا أدنى خوف وبكثير من الندبة والجسارة: (يا ابن زياد، إلى كم تعرّف عمتي لمن لا يعرفها؟). التفت ابن زياد ناحية الصوت ولما تبين صاحبه مضى إليه مخترقا تجمع النساء إلى أن وقف أمامه وهو مكبل محاولا رؤيته بوضوح من بين الستار الذي ضربته حوله النساء والإماء كيلا يراه.
وسأل بغيظ: من أنت؟
قال الصبي: (أنا علي بن الحسين).
فعاود السؤال: أليس الله قد قتل علي ابن الحسين؟
أجاب: (قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس).
وبلغ الغيظ بابن مرجانة من مجادلة هذا الصبي المكبل بالسلاسل، فرد عليه: بل الله هو الذي قتله. فعقب زين العابدين(ع): ‹اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا›(٢). وهنا لم يعد ابن زياد يطيق صبرا على أجوبة الصبي المعلول فصاح به كبومة ناعقة: وبك جرأة لجوابي؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه(٣).
ما أن وعت العقيلة ما أمر به ابن زياد حتى هبت من مكانها واندفعت مسرحية ناحية ابن أخيها وألقت بنفسها فوقه تحيطه بساعديها، وحذت النساء حذوها فتحلقن حولها وهي محتضنة زين العابدين، وحلن بينهما وبين الحراس الأجلاف، في الوقت الذي انطلق فيه صوت زينب محذرًا: (يا ابن زياد، تفجعنا مرة أخرى؟ حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن رأيت قتله فاقتلني معه).
كان الموقف صعبا على العقيلة ومرت لحظات قاسية وهي لا ترخي ساعديها من حول ابن أخيها الذي كان يرتجف من علة بدنه، وكان يبدو على ابن زياد التصميم على قتل الصبي لكنه نظر إليه فرآه منهكًا، وحادث نفسه بأن الصبي موشك على الموت ولا داع لقتله. بل يتركه يموت بعلته. وكانت هذه التوترات النفسية خاتمة لتلك المواقف المشحونة بالغضب والتحدي، والتي أطلقت شرارتها زينب حينما أجابت ابن زياد ردًا على سؤاله الشامت: (ما رأيت إلّا جميلا).
لقد رات الجمال فيما وقع من مصائب وآلام، ورأت جميلا في مشهد ذلك الدم الزكي المراق، كما رأت جميلا في مشهد السبي رغم المهانة حينما كانت الرؤوس الشريفة مرفوعة على أسنة الرماح، ونساء الركب فوق أسنام الجمال بلا وطاء، لا يسترهن ساتر، وزين العابدين مكبلا والاصفرار يكسو وجهه والرجفة تعتري جسده المتهالك.
فكيف رأت العقيلة كل هذا الجمال في هذا الكم الهائل من المصائب والضراوة… هذا الجمال الذي لم يره ابن زياد ولا طغمة يزيد الشامتة، مما أثار غيظه وحنقه من حيث كان يتوقع أن تطنب زينب وهي منهارة في ندب حظها بينما تتهاطل دموعها وتلطم وجهها وتتذلل له أن يكف عنها أو أن تظل منكسرة صامتة لا تحير جوابًا لأن النكبة شلّت مراكز الإحساس لديها، ولكن حفيدة النبي(ص) وابنة علي وفاطمة وشقيقة الحسنين عليهم جميعا أشرف السلام خيبت أمله وبدا عليها الفخار بما حل بهم. وبما احتملوه من ضنك وحزن ومسغبة وعطش وتعب ومهانة… والجمال الذي رأته العقيلة في مصاب آل البيت(ع) وفي فقد أخيها وابنيها وعترة جدها(ص)، كان ذلك الإشعاع المنبثق من تمام المهمة التي أعدّتها لها العناية الإلهية والتي سيّرتها لإنفاذها راضية مرضية جنبا إلى جنب مع حبيبها الحسين(ع) التي كانت له الأم الرؤوم فاستحقت عن جدارة لقب “أم أخيها”.
ولا عجب في هذا المقتضي فقد سبقها لنيل هذا اللقب أمها المعصومة فاطمة الزهراء التي لقبها أبوها النبي(ص) ﺑ(أم أبيها) لما كانت تتمتع به من حنو وحنان تجاهه حيث قدم بتكريمه لها رسالة إلى ذلك المجتمع الذكوري الذي ولدت فيه والذي كان يكن معزة خاصة للذكور دون الإناث…فقرّبها(ص) إليه وكان يهش ويبش في وجهها كلما قدمت إليه ويجلسها إلى جنبه متباهيًا بها معتزًا.
إنه الجمال الذي رأته الهاشمية الحوراء في امتثالها للمشيئة الإلهية التي رددها أخوها الشهيد قبل خروجه من مكة (إن الله أراد أن يرى النساء سبايا) فكان خروجها مع أخيها توطئةً لفعل السبي الذي كان به وبما جرى قبله من أحداث حفظًا للعقيدة من الإنحراف وضمانًا لإعادتها إلى صراطها المستقيم الذي وضعها عليه جدها المصطفى(ص) ومثّل المقتل والسبي ركنا حركة أخيها الباسلة، لذا فقد رأت بهذا الذي جرى جميلًا.
ولأنّ الحسين(ع) كان عالمًا بمقتله وأهل بيته، ولأنّها(ع) كانت عالمة بما ستؤول إليه الأمور بعد مصرع أخيها والعترة الطاهرة وبما سيحيق بها وبحرم آل البيت(ع) بعدها، فإنّ نتيجة ذلك كله لم تكن لترجف أعصابها أو تخرجها عن طور تربيتها في بيت أبي طالب، فلم تغلظ في القول والردود والخطب، بل كانت مثالا وقدوة لما يجب أن تكون عليه سليلة الرسالة من أخلاق عالية، لذا فإن ابن زياد لم يتوقع ردها عليه وهي التي لا تزال تعيش تفاصيل المأساة. وأراد أن يمارس معها ما يمارسه عادة الحكام الطغاة من قسوة ممزوجة بوعود الإرهاب النفسي إذا لم يستكينوا لإيحاءاتهم وتهديداتهم المبدئية، ولكن هيهات أن تثمر هذه الوضاعة مع العقيلة.
لو كان ابن زياد ممن تلفتهم معاني التربية الرسالية. ولو كان لحظة انفجار غيظه أمام زينب قد تنبّه إلى ما تهدف إليه ابنة علي(ع) من رغبة في فضحه وأسياده. لكان توارى خجلا إذا لم يكن خوفا من العارف من تكون ربيبة الإمام علي(ع)، ولو كان لديه ذرة من حصافة أو مخيلة تربط النتائج بالأسباب لما تجاسر على طرح سؤاله الشامت أمام هذه اللبوة، ولكان جنّب نفسه سماع العبارة التي صفعته من حيث كان لا ينتظر (ما رأيت إلّا جميلا) و (ثكلتك أمك يا ابن مرجانة)، هذه العبارة المهينة. ولكن أنّى له أن يتفهم ويعقل وقد نالها من الحوراء قاسية أطاحت بهيبته الزائفة في أعين من كان شاهدًا لهذه المحاججة غير المتكافئة بين غذية بلاغها أبيها علي(ع) وبين ركاكة عقل ولكانة لسان مجسد الغلظة والغباء (ابن زياد) الذي لم يردعه عن محاولة ضرب منازلته بالحجة إلا تدارك عمرو بن حريث محاولا إخماد حمم غضبه بعد رؤيته مهزوما أمام امرأة، وأي امرأة؟ أسيرة لا حول ولا قوة لها حيال بطشه، قائلا: (أصلح الله الأمير، إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل(٤).
وبدا أن هذه العبارة وجد لها الزنيم مخرجًا من مأزقه بعد أن أفصحت زينب(ع) وأبلغت وأخذت من الحجة حاجتها. فقال لها شبه مستسلم: إن تكوني بلغت من الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيبا شاعرًا(٥).
وبهذه اللكانة التي اشتهر بها أراد ابن زياد التخلُّص من ورطته حينما تأكد له عزم سليلة الإباء حماية حرائر آل البيت للمضي في تحدّيه بعظيم جلدها وفيض كبريائها ومكنون رسالتها الإعلامية التي ضحت لأجلها، وها هي مهمتها الرسالية تسير في طريقها المرسوم تحملها بين أضلعها كما تحمل قلبا صنوًا لقلب أبيها في معمعة صولاته، وتوأما لقلب أخيها الحسين(ع) الذي قارع سمر الرماح وبيض الصفاح فما استكان على مرة الضيم وخسر معركة الطف ليربح الإسلام الحرب بقربان جسده المقدس وجسوم آل البيت الطاهرة.

وها هي زينب العقيلة العالمة غير المعلمة غذية فصاحة أبيها أمير المؤمنين(ع) تعلنها مدوية جذلانة وقد عصفت بقلبها نشوة النصر الذي رنت إليه مع أخيها، وبلغت التضحية من أجل عقيدة الجد مرقاتها، وها هي القلوب قد فتحت لموحياتها على مصراعيها وبدأ ضباب الضلالة ينقشع عن الأبصار فتنادى القلوب وتهتف زافرة بالحق، وزينب(ع) ماضية براية ثورة أخيها رافعة إياها فوق رؤوس الخلائق بما علق عليها من الدماء الزكية غير عابئة برياح الكروب تعصف من حولها محاولة إيقاعها قبل بلوغها نهاية الطريق.

ولكن هيهات أن يسقط هذا الطود الشامخ الذي ما زادته المحن والمهانة إلا ثباتا ورسوخا… وازدادت الراية الممتشقة بيد العقيلة خفقا وعلوا كلما زمجرت الأعاصير مهددة بإسقاطها.
ومقولتها الخالدة: (ما رأيت إلا جميلا)… لخصت العقيلة معطيات ملحمة الطف بما خلقته من جمال لعين رسالة بصيرة ما دامت دروب الآلام كلها تفضي إلى صومعة عقيدة يجب أن تصل متلألئة إلى الأعقاب والذراري بعد أن تصلها أصداء تلك الوثبة الشجاعة من سور التسلط التي حطم قضبانها أخوها الحسين(ع) بمؤازرتها المؤثرة، فتلمح من هذه الأصداء تلك الأطياف القدسية تستميت دفاعا عن الحق الإلهي، ويصلها  عبق تلك الأطياب المسفوحة على رمال الطف، طيب الوثبة الشجاعة لسيد الشهداء، ومسك الدم القدسي المراق فوق رمال مصارع آل البيت الكرام(ع)، وشذى عطر ذاك العرق الصبيب من الأجساد الطاهرة في مجالدتها الظلمة إخوان الشياطين وجلاوزة الإفك، وحرارة دموع الحوراء على محنة أخيها المطوّق بوحوش الضلالة وعذابات الظلم وهو يطلق صرخته التي ردّدتها الأزمان والأكوان في فضاءات البشرية (أما من مغيث يغيثنا) لتهفو إليها القلوب خاشعة من رهبة انبعاثها من فوق تلك الأرض الخلاء باعثة في الأنفس مشاعر لا توصف. لتستسلم في النهاية لهذا الفيض الزاخر من الطيوف المقدسة والطيوب الزكية تخلف بعد مرورها صورا تخيلية فائقة المذاق والعذوبة مؤطرة بقوس قزحي من الهالات الروحية للرسالة المظلومة التي تبث النشوة في القلوب والسكينة في الصور الملتاعة.
(ما رأيت إلا جميلا)… هذه العبارة التي يحار الفكر البشري في الإحاطة بمعانيها العميقة، والتي كانت موضوع محاورة بين مجموعة من العلماء والأكاديميين وكنت مشاركا فيها على مدى ساعات طويلة، بحاجة إلى مجلدات لتستوعبها. إذ تعدّت ما يمكن لعلم النفس نت استيعابه، ولمنطق البلاغة من اللحاق به وتفسيره(٦).
وحق للحوراء أن تفرح وتغرّد بجمال ما رأت، ولم لا إذا كان في ذبح أخيها لدين جده، وكيف لا تبتهج وترى المشهد ورديا كلما نظرت إلى رأس أخيها ورؤوس آل البيت الكرام على أسنة الرماح وحولها هالات من نور وإشعاع تعلن في مرتفعها فوق الرؤوس أصالة الموقف الرسالي، وترسل رسالة واضحة لأعداء العقيدة ومن آزرهم. فرحها السماوي الذي أعلنته بعبارتها الشهيرة كان امتنانا وشكرا لجميل العناية الإلهية التي أهّلتها لهذا الدور الجلل في مسيرة دين جدها المصطفى(ص) وأعانتها على إتمامه رغم ضعفها الراهن وهي تعبة وفي حالة يرثى لها من الإرهاق والحزن والألم والثكل، وقد نسيت كل هذه الآلام التي تبثها هذه المواقف المهينة في أعتى الرجال حينما كان يراودها خاطر ارتداد الضمائر وعودتها من جب آثارها إلى حظيرة النبوة وهي ما كان يعوّل عليه أخوها عندما ثار وانتفض، وتسمو بمواقفها وخطابها رافعة رأسها الشامخ بالحكمة والرفعة رغم قيدها مع الأسارى، وترى جميلا في وقفتها الخالدة التي لم يسجل التاريخ شبيها لها حينما واجهت يزيد وقرعته أمام الجمع وشفت نفسها من أفعاله وسجلت ظلمه لآل البيت الكرام في حكم بليغة ستتناقلها لاحقا الأجيال وتصبح دستورا لمحاكمة ذلك الحاكم الغشوم وكل من شابهه، إذ حينما تنيخ العماوة الإيمانية على النفس مما أسهل سقوطها لدى أقل هفوة، وهذا ما رتبته المشيئة العليا لزينب من دور في تسلسل الملحمة التي كانت فيها شاهدة عيان كان لزاما عليها أن تكمل ما بدأته منذ خروجها مع أخيها حتى اللحظات الأخيرة فوق أرض المصارع ورفعها لجسده الطاهر المحزوز الرأس وهتافها ضارعة لربها: (ربّ تقبل منا هذه القربان).
وبنفس راضية مرضية رأت جمالا(٧) لا يُحَدّ في هذا المشهد الختامي الدامي الذي أنهى المجالدة الميدانية، واستعدت لما تبقى من دورها الإعلامي العظيم الذي سوف يفضح أعداء الله ورسوله وأعداء أخيها السبط الشهيد والمتربصين لآل البيت الكرام عند كل عطفة وزاوية.
فرحَت بما احتوته ملحمة خلود العقيدة من مصائب ومحن ودموع تحولت كلها إلى قوس قزح جماليات أما عيني العقيلة بعد أن هدأت حناياها بنجاحها الساحق في دورها الكبير. فحق لها أن تفرح وأن ترى الجمال بما جرى لها ولأخيها وتحسبه مكافأة إلهية لإخلاصها النادر لنداء السماء.
وما رآه ابن زياد(٨) وأشباهه وما يراه كل من فرغ قلبه من نور الإيمان في ملحمة الطف من أنها انتقام إلهي وعقاب سماوي لمن قام بها. كانت زينب ترى عكسه ببصيرتها الرسالية وهي من سمّاها جدها المصطفى(ص) وتعهد أبوها علي(ع) غرس شمائل أهل البيت(ع) في نفسها الغضة وسقاها رؤيتهم الخاصة للمصائب في سبيل العقيدة. أوليس هو القائل بعد ضربة ابن ملجم المسمومة (فزت ورب الكعبة). أفليست هذه رؤى أهل البيت(ع) في مصائبهم؟ فوز بالموت، وجمال في المصارع، فكيف سيكون غير ما كان من نور بصيرتها ورؤاها للأمور والأحداث بعدما رأت؟ وكيف كان وسيكون لو لم يكن ما كان؟
إنها حقا معادلة عسيرة الهضم في عقول البشر العاديين، كينونة الحياة في الموت، والسطوع في الانطفاء، والجميل في القبح، والسعادة في الثكل.
لكن الأمور بخواتيمها وقد تجزى النهايات خيرا عميما بخلاف ما أظهرته البدايات من موحيات العقول، وهكذا كان وتدخلت العناية الإلهية مجددا لتكمل المشهد المرتب من قبلها، فأعمت بصائر الأمويين ودفعتهم لإتيان هذا العهر العقائدي والأخلاقي بتسيير ركب السبي ونساء آل البيت الكرام حاسرات الوجوه فوق أسنام الجمال، ولو أنهم أخفوهم في محامل مغلقة تحجب ما ما بداخلها سدول كثيفة ثم قادوا الأسرى إلى سجون يزيد، لما كان تسامع أحد بما جرى، ولكن الأطماع التي حركت تلك الفئة الباغية فضحت أصحابها(٩) برفع رؤوس عترة آل البيت الكرام(ع) فوق أسنّة الرماح وكشف وجوه النساء المكبلات مع عليل فرأى مسلمو الولايات والدساكر والثغور في ذلك المشهد صور المأساة التي تغني عن الوصف، فكيف إذا صاحبت هذه المشاهد صرخات ابنة الفصاحة وربيبة بلاغة علي(ع) فتزرع في تربة النفوس بذرة الاستنكار والتمرد تمهيدا لثورة لاحقة لا تُبقي ولا تذر؟
إنها حقا تجليات العناية الإلهية التي دفعت بالسيدة زينب(ع) لمرافقة أخيها إلى مطارح مصرعه لتعود ببذور الثورة لتزرعها في كل تربة واعدة بالأزهار والقطوف الدانية، فكان حق لها الفرح والسعادة(١٠) وأن ترى في كل ما جرى عناصر جمال يتعلق بالعقيدة التي كانت مرمى حركة أخيها ومحور صرختها الإعلامية المسندة بدعم إلهي (ما رأيت إلا جميلا).
حقا كان ذلك لأن كل الذي جرى عاد بالوبال والدمار على من تسبب به من بني أمية، وزاد ورسخ عقيدة جدها(ص) في الصدور ولم يذهب بدم أخيها والدماء الزكية التي فدته هباء منثورا فوق رمال الطف، بل أعلت منازلتهم ومراتبهم عند الله والمؤمنين.
______________________________

(١)وردت في بعض الروايات “شجاعة لا سجاعة” والأصح الثانية بحسب المعنى المراد.
(٢)سورة الزمر، الآية:٤٢.
(٣)معالي السبطين.
(٤)الطبري: محمد بن جرير.
(٥)الكامل في التاريخ للمبرد.
(٦)تشرفت بالمشاركة في هذه الندوة التي عقدت في دمشق عام ٢٠٠٦ حيث دارت على مدى أربع ساعات حول معنى كلمة العقيلة (ما رأيت إلا جميلا) وما احتوته كلماتها الأربع من حس رسالي فريد حول المصائب والأهوال التي تعجز عن حملها الجبال إلى شعور بالجمال والرضى يتبعانه.
(٧)بمناسبة عاشوراء عام ٢٠١٠ تشرفت بتقديم ثلاثة حلقات تلفزيونية عن السيدة زينب صورت في حرمها الشريف في سوريا. وقد ركزت في إحداها على عبارتها الخالدة (ما رأين إلا جميلا) وقد عرضت الحلقات في تلفزيون المنار في الأيام الأولى بمنايبة عاشوراء في ذلك العام.
(٨)لم تبن لناظره، ومثله لا يفهمها (فما يعقلها إلا العالمون).
(٩)للألماني ماربين قول ذكر فيه: “بعد وقعة كربلاء انكشفت سرائر الأمويين وظهرت قبائح أعمالهم وانتشرت الخلاف على يزيد وبني أُمية، وما كان يجرؤ إنسان قبل كربلاء أن يجهز بتقديس علي والحسين، وبعدها لم يكن للناس من حديث إلّا في فضل العلويين ومحنهم، حتى في مجلس يزيد كان يذكر الحسين وأبوه بالتقدير والتعظيم.
(١٠)للشاعر هاشم الكعبي أبيات تصور سعادة العقيلة بما كان، يقول فيها:
وثواكل في النوح تسعد مثلها      أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا
ناحت فلم تر مثلهن نوائحا إذ ليس مثل فقيدهن فقيدا
لا العيس تحكيها إذا حنت ولا الورقاء تحسن عندها ترديدا
إن تنع أعطت كل قلب حسرة أو تدع صدعت الجبال الميدا
نادت فقطعت القلوب بشجوها لكنما انتظم البيان فريدا؛ 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى