مقالات

دَوْر السيدة أمّ البنين في واقعة عاشوراء بين الحقيقة والأسطورة

سنتناول سيرة السيدة أمّ البنين، زوج أمير المؤمنين×، وأمّ أولاده الأربعة الذين استشهدوا في واقعة عاشوراء، من خلال ما تقدَّم من قواعد وأصول؛ لنعرف الصحيح من الأسطورة في هذا المجال. ومن الله التوفيق.

وسيكون ذلك من خلال مباحث:

المبحث الأوّل: اسم أمّ البنين

جاء في موقع العتبة الحسينية ما يلي: «الاسم: فاطمة… اللقب: أمّ البنين. وقد غلبت كنيتها÷ على اسمها؛ ولعلّ ذلك يعود إلى… التماسها أن يقتصر أميرُ المؤمنين× في ندائِه عليها على الكنية؛ لئلاّ يتذكَّر الحسنانِ’ أمَّهما فاطمة صلوات الله عليها يوم كان يناديها في الدار، إذْ إنّ اسم أمّ البنين كما مرَّ هو فاطمة بنت حزام»([3]).

أقول: وهذا غير صحيحٍ من وجوه:

الأوّل: لم يذكر هذه القصّة أحدٌ من العلماء أو المؤرِّخين في كتبهم، بل هي من المختلقات التي لا أساس لها من الصحّة.

الثاني: لم يذكر الزبيري والبلاذري والطبري والمفيد لها اسماً، بل أجمعوا على أنّ أُمّ البنين اسمها.

قال الزبيري(256هـ): «أُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة»([4]).

قال البلاذري(279هـ): «أُمّ البنين بنت حزام بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة الشاعر»([5]).

وقال الطبري(310هـ): «أُمّ البنين بنت حزام أبي المجل بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب»([6]).

وقال الشيخ المفيد(413هـ): «أُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم»([7]).

المبحث الثاني: رابطة أمّ البنين وأبناء الزهراء÷

جاء في موقع العتبة الحسينية ما يلي: «كان أيتام الزهراء÷ لهم في كلّ زاوية من زوايا البيت ذكرى تشدّهم إلى أمّهم الشهيدة، وحيثما يلتفتون يرَوْن أثراً من آثارها، فهنا كانت تمشط شعر الحسنين، وهي تقرأ لهم القرآن بصوتها الحزين الخاشع، وهناك تروي لبناتها بعض أحاديث النبيّ|، وتعلِّمهم بعض الأحكام، وهناك كانت تصلي وتدعو وتسبح وتبكي، وهنا كانت تطبخ وتدير الرحى.

وهنالك مكانٌ بقي عالقاً بجميع تفاصيله في أذهان أولاد الزهراء÷، هذا المكان الذي كلّما نظر إليه أبناء السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء دمعت عيونهم وخنقتهم العبرة، هذا المكان هو باب الدار، وبالتحديد خلف باب الدار، فجميعُهم كان شاهداً حين كان أفراد هذا البيت الطاهر^ في سكينةٍ من أمرهم، وإذا بالناس يجتمعون حول بابهم، ثم يعلو اللغط والصياح شيئاً فشيئاً، ثم تبدأ طرقاتٌ مجنونة تقع على الباب، ويعلو من بينها صياحُ رجلٍ يهدِّد بإخراج أمير المؤمنين× أو الدخول عنوةً إلى الدار وإحراق البيت على مَنْ فيه، والأطفال يلوذون تارةً خلف أبيهم؛ وأخرى خلف أمّهم، وإذا بالباب تدفع دفعاً قويّاً، والنار والدخان يتصاعدان منها، وإذا بهم ينظرون إلى أمِّهم الزهراء÷ تنبري مسرعةً خلف الباب؛ عسى أن تمنع القوم من دخول واقتحام الدار بهذه الطريقة البربرية.

فبينما هي تكلِّمهم، وتدفع الباب بيدها وكتفها؛ لتحول دون دفعها وكسرها، فلمّا أحسّ القوم بوجودها حشدوا كلّ ما عندهم من قوّةٍ، فدفعوا الباب دفعةً كسروها. ويا ليتهم اقتصروا على كسر تلك الباب، التي كان يقف عليها رسول الله| مسلِّماً مستأذناً قبل الدخول، غير أنهم كسروا مع تلك الباب أضلاع البتول÷، وأطفال الزهراء^ يستمعون كيف صارت أمّهم تستغيث ولا تغاث، وتسترحم ولا من راحمٍ، وتستغيث بفضّة خادمتها، قائلة: يا فضّة، أدركيني، فقد والله أسقطوا جنيني.

ولم تقف ذكريات أولاد الزهراء÷ عند هذا الحدّ، فقد استمرّت ليرَوْا أباهم واضعاً أمّهم الزهراء وهي في ريعان الشباب ومقتبل العمر على مغتسلها يقلِّبها، وهم ينظرون وينتظرون في وَجَلٍ وخوف تلك اللحظات التي ستحمل أمّهم من أمام أعينهم لتودع في حفرتها وملحودة قبرها، وتغيب عن نواظرهم، والأوجع لقلوبهم أن الأطفال كلّ الأطفال إذا ما ماتت أمّهم فإن باستطاعتهم زيارة قبرها متى ما أرادوا وأحبّوا، إلا أن أولاد البتول÷ محرومون من هذه الخصلة، فلم يكن باستطاعتهم زيارة قبر أمّهم إلاّ في السرّ، وتحت طوقٍ شديد من السرّية والتكتُّم.

في ظلّ هذه الأحزان والذكريات دخلت السيدة أمّ البنين÷ دار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×، فكانت المرأة المواسية والمخفِّفة لآلام وأوجاع قلوب أيتام الزهراء÷، فلم يشعروا معها بشعور زوجة الأب، ولا فضَّلت أولادها عليهم، فكانت تشعرهم بأنها خادمةٌ لهم، راعيةٌ لشؤونهم. وعلى هذه الروحية ربَّتْ أولادها الأربعة، ومواقفهم وأقوالهم وأفعالهم يوم عاشوراء توضِّح هذه الحقيقة بشكلٍ جليّ»([8]).

وهذا الكلام غير صحيحٍ من وجهين:

أوّلاً: إن هذا الكلام لم يذكره أحد من المؤلِّفين المتقدِّمين والمتأخِّرين أصلاً، لا بسندٍ ولا بغير سند.

ثانياً: إن أصغر أبناء فاطمة÷ كان عمره 21 عاماً عند زواج أبيهم بأمّ البنين، فكيف يكونون صغاراً وتمشط لهم وتقرأ لهم القرآن؟!

فقد وُلد الحسن بن عليّ’ في شهر رمضان في سنة بدر، أي سنة اثنتين بعد الهجرة. ورُوي أنه ولد في سنة ثلاث([9]).

ووُلد الحسين بن عليّ’ في سنة ثلاث([10]).

ووُلدت زينب الكبرى بعد الحسين×، في الخامس من شهر جمادى الأولى، في السنة الخامسة من الهجرة([11]).

وولدت أُمّ البنين العبّاس أول أبنائها في الرابع من شعبان، سنة ستّ وعشرين من الهجرة([12]).

المبحث الثالث: قصة ابن حذلم وخروج أُمّ البنين

جاء في موقع العتبة الحسينية ما يلي: «في المدينة كانت تنتظر أمّ البنين عودة قافلة الحسين وعياله من كربلاء، كانت تحمل صغير العباس× على كتفها، وتنظر إلى الطريق من حيث مكان قدوم القافلة، تترقَّب لحظة وصول ولقاء الأبناء الأربع.. هكذا يبدو المشهد لمَنْ يراها عن قربٍ.

لكنْ بعد وصول العائلة المنكوبة هرولت مسرعةً نحو القافلة، لا لكي تعرف مصير أبنائها، وإنما كانت تبحث عن معرفة مصير الغاية التي لأجلها أفنَتْ سنوات عمرها، وهو الحسين×: يا ابن حذلم، أخبرني عن الحسين؟!

وتشير مصادر تاريخية إلى أنها دنَتْ من «بشر بن حذلم»، أحد أصحاب الإمام السجّاد×، الولد الوحيد المتبقّي من أولاد الحسين بعد معركة الطفّ في كربلاء، وأخذت تسأله عن الحسين، وهو يجيبها عن أولادها الأربعة، وهو يقول لها: «عظَّم الله لك الأجر بولدك جعفر»، غير أنها عاودَتْ سؤالها مرّةً ثانية، وقالت: أخبرني عن ولدي الحسين، قال: عظَّم الله لك الأجر بولدك عبد الله. مرة ثالثة…: أخبرني عن ولدي الحسين، قال: عظّم الله لك الأجر بولدك عثمان. وأخرى رابعة… قالت: يا بنيّ، أخبرني عن ولدي الحسين، قال: عظّم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العبّاس. فبادرته متسائلةً للمرّة الأخيرة، بعد أن وضعت يدها على قلبها: يا بن حذلم، لقد قطّعت نياط قلبي، أخبرتني بقتل أولادي الأربعة، ولكن يا بن حذلم اعلم أن أولادي وجميع مَنْ تحت السماء فداءٌ لأبي عبد الله الحسين، يا بن حذلم أخبرني عن الحسين؟ فأجابها: «يا أمّ البنين، عظّم الله لك الأجر بالحسين، فلقد خلَّفناه بأرض كربلاء جثّة بلا رأس»، فصاحت: واولداه، واحسيناه، وسقطت إلى الأرض مغشيّاً عليها»([13]).

وهذا غير صحيحٍ من وجوه:

الأوّل: إن أوّل مَنْ روى هذا الأمر هو ابن نما الحلّي(645هـ)؛ والسيد ابن طاووس(664هـ)، قال: «قال بشير بن حذلم: فلمّا قربنا منها نزل عليّ بن الحسين’، فحطّ رحله، وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه وقال: يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيءٍ منه؟ قلتُ: بلى، يا بن رسول الله، إني لشاعرٌ، قال: فادخل المدينة وانْعَ أبا عبد الله، قال بشير: فركبتُ فرسي، وركضتُ حتّى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبيّ| رفعتُ صوتي بالبكاء، وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها *** قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرَّجٌ *** والرأس منه على القناة يُدارُ

قال: ثمّ قلتُ: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم، ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرِّفكم مكانه، فما بقيَتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزْنَ من خدورهنّ، مكشوفةً شعورهنّ، مخمّشةً وجوههنّ، ضاربات خدودهنّ، يدعين بالوَيْل والثبور، فلم أَرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه، وسمعتُ جاريةً تنوح على الحسين، فتقول:

نعى سيّدي ناعٍ نعاه فأوجعا *** وأمرضني ناعٍ نعاه فأفجعا

فعينيَّ جودا بالدموع واسكبا *** وجُودا بدمعٍ بعد دمعكما معاً

على مَنْ دهى عرش الجليل فزعزعا *** فأصبح هذا المجدُ والدين أجدعا

على ابن نبيّ الله وابن وصيّه *** وإنْ كان عنّا شاحطَ الدار أشسعا

ثم قالت: أيها الناعي، جدَّدت حزننا بأبي عبد الله، وخدشتَ منا قروحاً لما تندمل، فمَنْ أنت، رحمك الله؟ فقلت: أنا بشير بن حذلم، وجَّهني مولاي عليّ بن الحسين عليهما الصلاة والسلام وهو نازلٌ في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه، قال: فتركوني مكاني، وبادروا، فضربتُ فرسي حتّى رجعت إليهم، فوجدتُ الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلتُ عن فرسي وتخطّيتُ رقاب الناس حتّى قربتُ من باب الفسطاط، وكان عليّ بن الحسين’ داخلاً ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادمٌ معه كرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وحنين الجواري والنساء، والناس من كلّ ناحيةٍ يعزّونه، فضجّت تلك البقعة ضجّةً شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال×: الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقَرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاجعة، الكاظّة الفادحة الجائحة. أيها الناس، إن الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة. أيها الناس، فأي رجالاتٍ منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّة عينٍ منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون. أيها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام؟! أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، من غير جرمٍ اجترمناه، ولا مكروهٍ ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنْ هذا إلاّ اختلاقٌ. واللهِ، لو أن النبيّ تقدَّم إليهم في قتالنا كما تقدَّم إليهم في الوصاءة بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا. فإنا الله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها وأفجعها، وأكظّها، وأفظّها، وأمرّها، وأفدحها. فعند الله نحتسب في ما أصابنا وما بلغ بنا، إنه عزيزٌ ذو انتقام. قال: فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان، وكان زَمِناً، فاعتذر إليه صلوات الله عليه بما عنده من زمانة رجلَيْه، فأجابه بقبول معذرته، وحسن الظنّ فيه، وشكر له، وترحَّم على أبيه»([14]).

وهنا تَرِدُ عدّة تساؤلات حول هذه الواقعة:

1ـ إنه شخصيةٌ خرافية؛ وذلك لعدّة أسباب:

أـ لم يذكره أحدٌ من أهل التراجم والرجال، بل خرج فجأة واختفى فجأة([15]).

ب ـ لا يوجد سببٌ لوجوده في موكب عودة الإمام زين العابدين× إلى المدينة.

ج ـ لم يثبت إقامة العزاء خارج المدينة من مصدرٍ آخر متقدِّم على القرن السابع الهجري.

د ـ الأبيات لا تلائم الموقف؛ فتلك الأبيات لا تليق أن تصدر من مبعوث زين العابدين. فالرسول يدلّ على المرسِل، وقد خاطب أهل المدينة (بأهل يثرب) كأنّه يعود بهم إلى الجاهلية. أضِفْ إلى ذلك أن صدر البيت بدأ بخطاب: يا أهل يثرب، وهي ذاتها الكلمات التي قالها المنافقون للأنصار في معركة الأحزاب، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾ (الأحزاب: 13).

5ـ عندما يقول: لا مقام لكم بها، فأين يطالبهم بالرحيل؟!

6ـ إن أهل المدينة لم يكن قتل الحسين عندهم مجهولاً؛ فقد وصل خبر مقتل الإمام الحسين× قبل وصول الإمام زين العابدين× إلى المدينة بفترةٍ ليست بالقصيرة، كما سيأتي.

7ـ انتظار الإمام السجّاد× على مشارف المدينة، وخروج الناس إليه، من الأحداث التاريخية المُبْهمة؛ فأئمة أهل البيت^ لم نقرأ عنهم حبَّهم للاستعراض أو الفرجة.

8ـ إن حكومة يزيد ما كانت تسمح لعليّ بن الحسين× أن يهيِّج الناس بتلك الصورة.

9ـ لم يثبت أن الإمام زين العابدين× خطب بأهل المدينة قبل دخوله إلى المدينة، فتلك الخطبة لا تجدها إلاّ في مثير الأحزان، لابن نما؛ واللهوف، للسيد ابن طاووس، أي ظهرت بعد ستّة قرون على وقوع الحادثة، مع اهتمام مَنْ سجَّل مقتل الحسين× بذكر شتّى الخطب، حتّى خطب النساء، فكيف يُغفل ذكر خطبة الإمام بأهل المدينة؟!

10ـ إن صوحان بن صعصعة واردٌ في قصّة بشير، فيثار عليها عدّة أسئلة:

أـ لا يوجد له ذكرٌ في تراجم الرجال.

ب ـ إن بقاء أبناء صعصعة بن صوحان في المدينة فيه شكٌّ.

ج ـ إذا كان مصاباً بالزمانة فمَنْ نقله إلى خارج المدينة.

د ـ لا توجد قيمةٌ لاعتذاره؛ لأنه من القعدة أولي الضَّرَر.

هـ ـ لماذا لا تذكر شهاداتٌ لشخصيات أهمّ كانت في المدينة في تلك الحادثة.

ختاماً: رُبَما يكون هو حذيم بن بشير أو حذلم بن ستير، كما في (الأمالي) للشيخ المفيد([16])؛ أو حذلم بن بشير، كما في (الغيبة) للشيخ الطوسي([17])؛ أو حذيم بن شريك الأسدي، كما في (الاحتجاج) للطبرسي([18])؛ أو حذام الأسدي، كما في (بلاغات النساء) لابن طيفور([19])؛ أو خديم الأسدي، كما في (مثير الأحزان) لابن نما([20])؛ أو بشير بن خزيم، كما في (اللهوف) للسيد ابن طاووس([21])، وهو الذي ينقل خطبة ابنة أمير المؤمنين في الكوفة. وقد جعل القصّاصون منه شاعراً ورسولاً للإمام زين العابدين× لأهل المدينة.

فهذا هو أقدم النصوص الذي تناول هذه الواقعة. وكما ترى هو من ناحية السند والمضمون فيه ما فيه من إشكالات تسقطه عن الاعتبار.

ولكنْ إنْ سلَّمنا بصحته لا نجد ذكراً في هذا الخبر للقاء أمّ البنين مع رسول الإمام زين العابدين×، الذي جاء ناعياً الإمام الحسين×، ولا سؤالها عن مصير الحسين×.

ومع ذلك نجد أن المامقاني(1351هـ) رتَّب آثاراً على هذه الواقعة، التي لا أساس لها كما هو واضحٌ، فقال: «ويستفاد من قوّة إيمانها أن بشراً كلّما نعى إليها أحداً من أولادها الأربعة قالت (ما معناه): أخبرني عن الحسين، فلما نعى إليها الحسين قالت: قد قطعت أنياط قلبي، أولادي كلّهم فداء لأبي عبد الله الحسين×، ومَنْ تحت الخضراء»([22]).

ومن أجل هذا وغيره نجد أن صاحب الذريعة يهاجم هذا الكتاب، فيقول: «ولكن استعجاله بهذا النحو في هذا التأليف المنيف، الذي يحتاج إلى تكرار المراجعات والبحث والفحص في الكتب والمكتبات، وإلى إكثار المذاكرات مع مشايخ الفنّ خلال السنوات، ثم إسراعه في طبع ما رتَّبه وألَّفه عاجلاً؛ مخافة فوت الوقت وغير ذلك من الأمور، كلّ ذلك قد سبَّب له وقوع جملةٍ من زلاّت القلم في مواضع كثيرة، تحتاج إلى التنقيح؛ لدفع ما يتوجَّه إليه فيها من الاعتراض والنقد»([23]).

الثاني: لم يذكر ذلك المفيد في الإرشاد، ولا الفتال النيسابوري في روضة الواعظين، ولا الطبري في تاريخه، ولا ابن الأثير في الكامل في التاريخ، ولا ابن حاتم العاملي في الدرّ النظيم، ولا الشيخ الطبرسي في إعلام الورى بأعلام الهدى، كلُّهم لم يذكروا هذا الخبر الذي نقله ابن نما والسيد ابن طاووس.

الثالث: إن وصول خبر مقتل الإمام الحسين× إلى المدينة كان قبل وصول الإمام زين العابدين بفترةٍ ليست بالقصيرة. قال الشيخ المفيد: «فصل: ولما أنفذ ابن زياد برأس الحسين× إلى يزيد تقدَّم إلى عبد الملك بن أبي الحديث السلمي فقال: انطلق حتّى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة، فبشِّره بقتل الحسين، فقال عبد الملك: فركبتُ راحلتي وسرتُ نحو المدينة، فلقيني رجلٌ من قريش، فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير تسمعه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قُتل ـ والله ـ الحسين. ولما دخلت على عمرو بن سعيد قال: ما وراءك؟ فقلتُ: ما سرّ الأمير، قتل الحسين بن عليّ، فقال: اخرُجْ فنادِ بقتله، فناديتُ، فلم أسمَعْ واللهِ واعيةً قطّ مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليّ’ حين سمعوا النداء بقتله، فدخلتُ على عمرو بن سعيد، فلمّا رآني تبسَّم إليَّ ضاحكاً، ثم أنشأ متمثِّلاً بقول عمرو بن معدي كرب:

عجّت نساء بني زياد عجّة *** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثم قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعية عثمان. ثم صعد المنبر، فأعلم الناس قتل الحسين بن عليّ’، ودعا ليزيد بن معاوية، ونزل. ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب×، فنعى إليه ابنَيْه، فاسترجع، فقال أبو السلاسل، مولى عبد الله: هذا ما لقينا من الحسين بن عليّ، فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟! واللهِ لو شهدتُه لأحببتُ أن لا أفارقه حتّى أقتل معه، والله، إنه لممّا يسخي بنفسي عنهما ويعزّيني عن المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له، صابرين معه. ثم أقبل على جلسائه، فقال: الحمد لله، عزَّ عليَّ مصرع الحسين، إنْ لا أكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولدي.

وخرجت أمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعَتْ نعي الحسين× حاسرةً، ومعها أخواتها: أمّ هانئ، وأسماء، ورملة، وزينب، بنات عقيل بن أبي طالب، رحمة الله عليهنّ، تبكي قتلاها بالطفّ، وهي تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم: *** ماذا فعلتُم وأنتم آخر الأممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي *** منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدمِ

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم *** أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي»([24])

فكيف لم تعرف أمّ البنين أن الحسين× حيٌّ أم لا؟!

المبحث الرابع: حياة أمّ البنين إلى ما بعد واقعة الطفّ

ويحتجّ على بقاء أمّ البنين إلى ما بعد واقعة الطفّ بقولين:

الأوّل: رواية أبي الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين، وهي: «وكانت أمّ البنين أمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى تخرج إلى البقيع، فتندب بنيها أشجى ندبة، وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء في مَنْ يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها يبكي. ذكر ذلك عليّ بن محمد بن حمزة، عن النوفلي، عن حمّاد بن عيسى الجهني، عن معاوية بن عمّار، عن جعفر بن محمد»([25]).

وقد رُدَّ هذا الخبر لعدّة أسباب:

1ـ إن سنده ضعيفٌ؛ إذ فيه:

أـ عليّ بن محمد بن حمزة: ولم يذكروه.

ب ـ النوفلي: وهو عليّ بن محمد بن سليمان. وقد قال عنه الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: «لأن علي بن محمد كان يقول بالإمامة، فيحمله التعصُّب لمذهبه على الحَيْف في ما يرويه. ونسبه مَنْ روى خبره من أهل هذا المذهب إلى قبيح الأفعال. وأكثر حكاياته في ذلك، بل سائرها، عن أبيه، موقوفاً عليه لا يتجاوزه. وأبوه حينئذٍ مقيمٌ بالبصرة لا يعلم بشيءٍ من أخبار القوم، إلاّ ما يسمعه من السنّة العامة، على سبيل الأراجيف والأباطيل، فيسطره في كتابه عن غير علمٍ؛ طلباً منه لما شان القوم، وقدح فيهم»([26]).

وحُكي عن أحمد أن عنده مناكير. وعند أبي زرعة ضعيف الحديث، وعامّة ما يرويه غير محفوظ. وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدّاً. وقال النسّائي: متروك الحديث.

ومعاوية بن عمار بن أبي معاوية: قال أبو حاتم: لا يحتجّ بحديثه. وإنْ أُريد غير هذا فمجهولٌ.

2ـ إن الأصفهاني في مقاتل الطالبيين يشير إلى وفاة أمّ البنين حين يذكر حكاية الصراع على ميراث أخوة العبّاس بين حفيد العبّاس وعمر بن عليّ بن أبي طالب([27]).

3ـ إن القاضي النعمان المغربي(363هـ)، في شرح الأخبار، يذهب إلى وفاة أمّ البنين([28]).

4ـ إن خروج أمّ البنين إلى البقيع وندبتها، واستماع الناس إلى عزائها وبكائهم، ومنهم: مروان بن الحكم، هو فعلٌ ضدّ مطالب الشريعة الإسلامية، ولا يليق بامرأةٍ كانت زوجةً لعليّ بن أبي طالب×، وتستهجنه الأعراف. وإنْ أرادت الندب كان حريّاً بها النزول إلى قبور أبنائها في كربلاء.

وأيضاً غايته التعريف بأن مروان بن الحكم رقيق القلب.

5ـ إن ما أنشده من شعر لأمّ البنين كانت تنشده في البقيع حين تندب أبنائها:

يا مَنْ رأى العباس كرّ *** على جماهير النقد

ووراه من أبناء حيدر *** كلّ ليث ذي لبد

أنبئتُ أن ابني أصيب *** برأسه مقطوع اليد

ويلي على شبلي أمال *** برأسه ضربُ العمد

لو كان سيفه في يديه *** لما دنا منه أحد

وقولها في رثاء أولادها الأربعة:

لا تدعوني ويك أمّ البنين *** تذكّريني بليوث العرين

كانت بنون لي أُدْعى بهم *** واليوم أصبحتُ ولا من بنين

أربعةٌ مثل نسور الرُّبى *** قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الحرصات أشلاءهم *** فكلّهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا *** بأن عباساً قطيع اليمين

فتلك الأبيات لم تنقل إلاّ في شرح المبرّد، لأبي الحسن الأخفش (لم أعثر عليها في الكامل، للمبرّد). ومع تنقيب علماء الشيعة عن كلّ ما يمتّ صلةً بأهل البيت فإنهم لم يعثروا على ما عثر عليه الأخفش.

وفي معرض الإجابة عمّا جاء في هذا الرأي نقول:

1ـ النقاش في رجال السند: أوّل ما هو مذكورٌ في رواية أبي الفرج (عليّ بن محمد بن حمزة). وهذا الشخص لا ذكر له في كتب الرجال أصلاً. ويظهر أن في اسمه تقديماً وتأخيراً، والصحيح هو (محمد بن عليّ بن حمزة، المعروف بالعلوي)، وهو ابن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن أمير المؤمنين×، والذي نقل عنه أبو الفرج كثيراً، واعتمد عليه؛ فقد ورد ذكره في أكثر من عشرين موضعاً من كتاب المقاتل. وروى عنه النوفلي عليّ بن محمد أيضاً في المقاتل. وهذا الرجل يظهر أنه كان محيطاً بأخبار حركات أبناء الأئمّة، وتاريخ نهضاتهم ضد الحاكمين، فكان المصدر الأساس الذي اعتمد عليه أبو الفرج في كتابه. وهو كما يقول النجاشي: «ثقةٌ عين في الحديث، صحيح الاعتقاد. له رواية عن أبي الحسن وأبي محمد’، وله مكاتبةٌ، وفي داره حصلت أمّ صاحب الأمر بعد وفاة الحسن×»([29]).

ويذكر السيد الخوئي أن له كتاباً باسم مقاتل الطالبيين([30]).

وأما النوفلي فإنه لقب رجالٍ كثيرين، منهم: الحسن بن محمد بن سهل؛ وعبد الله بن الفضل بن عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، وهو من أصحاب الصادق×، وثقة؛ والحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك النوفلي، وهو من أصحاب الرضا×؛ وعليّ بن محمد بن سليمان النوفلي، وهو من أصحاب الأئمّة الجواد والهادي والعسكري^.

والمكثر للروايات في الفقه هو الحسين بن يزيد، الذي يروي عن السكوني عادةً، وله في أبواب الفقه، ولا سيَّما في المعاملات، رواياتٌ كثيرة.

ولكنّ الذي يروي عنه أبو الفرج في المقاتل ليس هذا، وليس كما ذكر السيد المقرّم أنه يزيد بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم…، وإنما هو عليّ بن محمد بن سليمان النوفلي. ومع التتبُّع لكتاب المقاتل يظهر أنه يعتمد عليه اعتماداً كبيراً في ما ينقل من أمورٍ ترتبط بأبناء عليّ× في أكثر من 23 موضعاً. وهذا بدَوْره ينقل عن أبيه كثيراً، فترى صاحب المقاتل ينقل عنه في قضية يحيى بن زيد؛ ويعتمد على روايته بشكلٍ أساسي في نقل أحداث حركة عيسى بن زيد؛ وفي ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن. وهذا النوفلي قد يذكر في الرجال تارةً بعنوان عليّ بن محمد؛ وأخرى عليّ بن محمد بن سليمان.

ومع أن له روايةً عن الإمام الجواد×، ومكاتبة للإمام العسكري×، وقد ذكره الصدوق في مشيخته، وطريقه إليه صحيحٌ([31])، إلاّ أنه لا توثيق له بخصوصه، وإنْ كان إمامياً. لكنْ يمكن استفادة ذلك من التوثيق العامّ بالنسبة إلى مَنْ لم يستثْنَ من كتاب نوادر الحكمة، بناءً على أن عدم الاستثناء لهم لا يختصّ بتصحيح الروايات في الكتاب المذكور، وإنما هو إضافة إلى ذلك توثيقٌ للرواة، كما هو مسلك كثيرين…، فإنه قد ذكر عليّ بن محمد النوفلي في مَنْ لم يستثْنَ من رواة كتاب النوادر.

والنوفلي روى في أصول العقائد، كما هو في الكافي في أكثر من موضعٍ، وفي الفروع أيضاً. لكن يبدو أنه كان متخصِّصاً أكثر في مجال التاريخ وضبط أحداث معارضة أهل البيت وأبنائهم للحاكمين؛ ولذلك اعتمده أبو الفرج في مقاتله، وروى عنه الطبري أيضاً أحداث الثورات التي تقدَّم ذكرها.

وأما حمّاد بن عيسى الجهني، وهو من أصحاب الصادق والكاظم’، فقد كان ثقةً في حديثه صدوقاً، وممَّنْ أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، وأقرّوا لهم بالفقه([32]).

وأما معاوية بن عمّار بن أبي معاوية فهو العجلي الدهني، من أصحاب الإمام الصادق×، وقد نصّ على توثيقه وجلالة شأنه مَنْ تعرَّض لذكره في الرجال؛ فقد قال العلاّمة الحلّي: «معاوية بن عمّار بن أبي معاوية خباب بن عبد الله الدهني ـ بضمّ الدال المهملة، وإسكان الهاء وفتحها، والنون قبل الياء ـ، مولاهم، كوفيّ، ودهن من بجيلة، وهو دهن بن معاوية بن أسلم بن خمس بن الغوث بن أنمار. كان وجهاً في أصحابنا ومقدّماً، كبير الشأن، عظيم المحلّ، ثقة، وكان أبوه عمّار ثقة في العامّة وجهاً، يكنّى أبا معاوية. وروى معاوية عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى’. ومات سنة خمس وسبعين ومائة»([33]).

ولذا فمن العجيب أن ينقل قول أبي حاتم فيه: أن معاوية بن عمّار بن أبي معاوية لا يحتجّ بحديثه، وإنْ أريد غير هذا فمجهولٌ؛ إذ تضعيفه عندهم ـ كما هو جارٍ في غيره ـ إنما هو على أساس مذهبه وتشيُّعه، فإنهم يسارعون إلى الطعن في مَنْ عُرف عنه تشيُّعه لعليٍّ×، ويكفي عندهم لعدم الاحتجاج بحديثه كونه رافضيّاً ـ كما يقولون ـ، فكيف إذا كان وجهاً عندنا وعظيم الشأن؟!

ويشهد لهذه الدعوى مراجعة ما كتبه السيد العلاّمة محمد بن أبي عقيل (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل)، فإنه ذكر جملةً من أتباع أهل البيت طعنوا فيهم بلا سببٍ، إلاّ موالاة أمير المؤمنين وولده^.

2ـ مناقشة المتن: وأما خروج أمّ البنين لندب أبنائها فإنه يمكن أن يكون ذلك من إظهار البكاء، واصطناع حالة البكاء الكاذب. وليس هذا بعيداً من شخصية مروان المنافقة، حيث إنه قد يعمل الشيء وضدّه، والأمر وخلافه، إذا رأى في ذلك مصلحةً دنيوية عاجلة… فهو على عدائه المعروف لأهل البيت لا يعدم وسيلة لكي يحوز بها على بغلةٍ للحسن المجتبى×، فيدفع أحدهم لمدح الإمام مدحاً عظيماً…، إلى آخر ما ذكروه في أحواله. فمثل هذا الأمر ـ حضوره في الجبانة ـ وإظهار شخصه أمام السذَّج بمظهر المتعاطف ليس شيئاً مستنكراً. فكم وجدنا من السياسيين والزعماء الدنيويين مَنْ يقتل القتيل ويمشي في جنازته باكياً؟!

والرأي عندي أنها كانت على قيد الحياة، وكانت تندب أبناءها، وهو ما وثَّقه أبو مخنف(157هـ) في كتابه (مقتل الحسين)، وهو من أقدم المؤرِّخين؛ فكلامه مقدَّم على غيره([34]).

مفترياتٌ متفرّقة

1ـ ذكر بعض مَنْ ارتقى المنبر أنه لما ضُربت الزهراء÷، وركلها الثاني على بطنها، وقعت على الأرض، وقبل أن تصل إلى الأرض أحسَّتْ بيدٍ ناعمة لامرأةٍ متوسطة العمر والطول أمسكت بها، وأحاطتها بيدَيْها، فلمّا التفتَتْ الزهراء÷ وجدَتْها السيدة أمّ البنين÷، فقالت لها: جزاكِ الله خيراً، يا أمّ البنين.

قلنا: وهذا النقل لا يصحّ لعدّة أمور:

أوّلاً: إن عمر أمّ البنين كان يومها ما يقرب من 5 سنوات؛ إذ إنها ولدت سنة 5هـ، والنقل يقول: إنها كانت امرأةً متوسطة العمر، وبالتالي هو وصفٌ غير صحيح للسيدة أمّ البنين.

ثانياً: لا يوجد روايةٌ أو نصٌّ تاريخي واحد يقول: إن الزهراء÷ نادَتْ: يا أمّ البنين سنِّديني، مع إجلالنا لمقام السيدة أمّ البنين العالي والكبير.

ثالثاً: ما الذي أتى بالسيدة أمّ البنين من البادية إلى المدينة؟! وكيف علمت بأن القوم هجموا على سيدة النساء÷؛ كي تأتي إليها وتعينها؟!

2ـ ذكر بعض مَنْ ارتقى المنبر أن أمّ البنين لمّا تزوّجت الإمام عليّاً× دخلَتْ في ليلة عرسها وهي تمرِّض الحسن والحسين؛ لأنهما كانا صغيرين، واشتدّ بهما المرض، فلم تزَلْ تمرِّضهما حتّى امتثلا للشفاء.

أقول: وهذا النقل لا يصحّ؛ لأن السيدة أمّ البنين تزوّجت من الإمام عليّ× سنة 25هـ، وإنها رُزقت بأكبر أبنائها، وهو العبّاس×، سنة 26هـ، كما تقدَّم بيانه.

المبحث الخامس: أمّ البنين هي باب الحوائج

وعليه تذبح الذبائح وتنذر النذور على هذا الأساس.

وهذا أيضاً شيءٌ لم يذكر في أحاديث الأئمة^، ولم يشيروا إليه لا من قريب ولا من بعيد. وأما لقب باب الحوائج فهو لقبٌ يطلقه عامّة الناس على الإمام الكاظم×، ولم تَرِدْ فيه روايةٌ. وأوّل مَنْ اطلقه هو ابن شهرآشوب، قال: «ودفن ببغداد بالجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش من باب التين، فصارت باب الحوائج»([35]).

نعم، الأئمة الأطهار^ هم أبواب الحوائج إلى الله بلا إشكال، وهو ما جاء عن الإمام الهادي× في الزيارة الجامعة الكبيرة، حيث قال: (اللهمّ إني لو وجدتُ شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار، الأئمّة الأبرار، لجعلتهم شفعائي، فبحقِّهم الذي أوجبت لهم عليك، أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقِّهم، وفي زمرة المرحومين بشفاعتهم، إنك أرحم الراحمين)([36]).

لكنّ تخصيصه بإمامٍ معين، دون الأئمّة الآخرين، لم يَرِدْ، فضلاً عن أن يكون من ألقاب أمّ البنين.

النتيجة

تبين من خلال هذا البحث أن أمّ البنين، أم العبّاس وإخوته، كان دَوْرها منحصراً في ندب أبنائها بعد عاشوراء. وأما بقية الأمور التي نُسبت إليها فلا صحّة لها، بل هي من الأساطير التي تُحاك.

وأخيراً نذكر دعاء الإمام السجاد× حين يقول: (اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، ووَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا ولَيْلَتِنَا هَذِه وفِي جَمِيعِ أَيَّامِنَا لاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ، وهِجْرَانِ الشَّرِّ، وشُكْرِ النِّعَمِ، واتِّبَاعِ السُّنَنِ، ومُجَانَبَةِ الْبِدَعِ، والأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وحِيَاطَةِ الإِسْلاَمِ، وانْتِقَاصِ الْبَاطِلِ وإِذْلاَلِه، ونُصْرَةِ الْحَقِّ وإِعْزَازِه، وإِرْشَادِ الضَّالِّ، ومُعَاوَنَةِ الضَّعِيفِ، وإِدْرَاكِ اللَّهِيفِ)([37]).

الهوامش

(*) أستاذ التاريخ في مجمع الإمام الخمينيّ للدراسات العليا في قم. من العراق.

([1]) عبد الله بن محمد (إمامي ثقة)، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب (إمامي ثقة)، عن محمد بن عبد الله، عن يونس (إمامي ثقة)، عن عمر بن يزيد.

([2])الصفّار، بصائر الدرجات: 244، تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، 1404هـ ـ 1362هـ.ش، منشورات الأعلمي، طهران.

وتمام الآية هو: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة: 61).

([3]) http://imamhussain ـ lib.com/arabic/pages/f127.php

([4]) الزبير بن بكّار، جمهرة نسب قريش وأخبارها: 43، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار الفكر العربي.

([5]) أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)، أنساب الأشراف 2: 192، تحقيق: الشيخ محمد باقر محمودي، ط1، 1394هـ ـ 1974م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

([6]) تاريخ الطبري 4: 118، تحقيق ومراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

([7]) الشيخ المفيد، الإرشاد 1: 354، تحقيق: مؤسّسة آل البيت^ لتحقيق التراث، ط2، 1414هـ ـ 1993م، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت؛ الشيخ المفيد، الاختصاص: 82، تحقيق: علي أكبر الغفاري والسيد محمود الزرندي، ط2، 1414هـ ـ 1993م، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

([8]) http://imamhussain ـ lib.com/arabic/pages/f127.php

([9]) الكافي 1 : 461.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) أدب الطف 1: 35.

([12]) علي النمازي الشاهرودي، مستدركات علم رجال الحديث: 350.

([13]) https://imamhussain.org/arabic/foreignnews ـ 37/15697/

([14]) ابن نما الحلّي، مثير الأحزان: 90 ـ 92، 1369هـ ـ 1950م، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف؛ السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 117 ـ 118، ط1، 1417هـ، أنوار الهدى، قم.

([15]) النمازي، مستدركات علم رجال الحديث 2: 37، ط1، 1412هـ، شفق، طهران.

([16]) الشيخ المفيد، الأمالي: 321، تحقيق: حسين الأستاد ولي وعلي أكبر الغفاري، ط2، 1414هـ ـ 1993م، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

([17]) الشيخ الطوسي، الغيبة: 443، تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، ط1، 1411هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدّسة.

([18]) الشيخ الطبرسي، الاحتجاج 2: 29، تعليق وملاحظات: السيد محمد باقر الخرسان، 1386هـ ـ 1966م، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف.

([19]) ابن طيفور، بلاغات النساء: 23، مكتبة بصيرتي، قم المقدّسة.

([20]) ابن نما الحلّي، مثير الأحزان: 66.

([21]) السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 86.

([22]) عبد الله المامقاني، تنقيح المقال 3: 70، طبع النجف، 1352هـ.

([23]) آقا بزرگ الطهراني، الذريعة 4: 466، دار الأضواء، بيروت.

([24]) الشيخ المفيد، الإرشاد 2: 124.

([25]) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: 56، تحقيق وتقديم وإشراف: كاظم المظفَّر، ط2، 1385هـ ـ 1965م، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف.

([26]) المصدر السابق: 344.

([27]) المصدر السابق: 55.

([28]) القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار 3: 185، تحقيق: السيد محمد الحسيني الجلالي، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في قم المشرّفة.

([29]) فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة (رجال النجاشي): 347، ط5، 1416هـ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

([30]) السيد الخوئي، معجم رجال الحديث 17: 351، ط5، 1413هـ ـ 1992م.

([31]) الشيخ الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 491، ط2، 1404هـ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

([32]) رجال الطوسي: 334، تحقيق: جواد القيومي الإصفهاني، ط1، 1415هـ، مؤسّسة النشر الإسلامي.

([33]) العلاّمة الحلّي، خلاصة الأقوال: 273، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، ط1، 1417هـ، مؤسّسة نشر الفقاهة.

([34]) أبو مخنف الأزدي، مقتل الحسين×: 181، تعليق: حسين الغفاري، المطبعة العلمية، قم.

([35]) مناقب آل أبي طالب 3: 438.

([36]) مَنْ لا يحضره الفقيه 2: 617.

([37]) الصحيفة السجادية، الدعاء 6، المقطع 18.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى