مقالات

زينب «عليها السلام» صرخة مجلجلة أكملت مسيرة أخيها الحسين «عليه السلام» المظفرة

الحلقة الأولى: معجزات الشهادة في ضمير الإسلام:
شعلة الإباء والكرامة ورفض الضيم والغيرة على العقيدة التي أوقدها الحسين بن علي(ع) بملحمته الخالدة وأوضحها بحبر جديد من دم الشهادة المحررة المنقذة فوق ثرى الطف.. كانت يتيمة الدهور، ولم يسجل التاريخ شبيهًا لها لا في المعنى ولا في المبنى وارتقت بعنفوانها درجات فوق الملاحم التي تجاد بها الأنفس وتسترخص لها الأرواح، فكان  شمعة الإسلام أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وسيدًا للشهداء لم تشهد له الأديان مثيلاً، وفسيلاً في تربة النبوة وغصنًا مزهرًا في الشجرة القدسية لآل البيت(ع).
وقد كان انطفاؤه فوق ثرى الطف توهجًا لاشتعال أبدي، وخلدت ملحمته كعنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ ولعظمة المثالية في تمثل العقيدة، لذا غدا حبه كثائر واجبًا علينا كبشر، وحبه كسبط نبوي جزءًا من نفثات ضمائرنا، وإنزاله في القلوب المنزلة العليا كسيد للشهداء فيه رضى للحنايا وإثلاج للصدور، وتكريس للنصر الحقيقي المنسجم مع التوجه الينبوعي الطاهر.
ليت أشياخي ببـدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهـلـُّـوا واستهلـُّــوا فرحــًا
ثـم قالوا يــا يــزيد لا تشـل
قد قتلنـــا القـرم مـن ســاداتهـم
وعـدلنـاه ببــدر فــاعتـــدل
لـعبت هـاشــم بالملك فــــــلا
خبــرٌ جـاء ولا وحي نـزل(1)
هذه قولة يزيد أمام ركب السبي في دمشق، وهي قولة تدل على سدرته في غروره الذي عرف به، وكان يتمنى لو أن أشياخه الذين قضوا ببدر شهدوا انتصاره هذا، ويتنبأ بأنهم سيهلُّون ويستهلون فرحًا ويباركون يمينه ويدعون لها بألا تُشل على تعديل ميزان بدر بكربلاء.
وكانت قولة فيها من غفلة المتغافل الشيء الكثير، يقابلها في الوعي المستشف للغد، خطبة العقيلة زينب(ع) المستلهَمة عن لسان أبيها أمير المؤمنين(ع):
«الحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على رسوله وآله أجمعين صدق اللَّه سبحانه حيث يقول: ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات اللَّه وكانوا بها يستهزئون..أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أن بنا على اللَّه هوانًا وبك عليه كرامة.. وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورًا حين رأيت الدنيا لك مُستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا.. فمهلاً مهلاً، أنسيت قول اللَّه تعالى: «ولا يحسبنَّ الذين كفروا إنما نملي لهم خيرًا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين».
وكأن زينب(ع) في ردها المفحم على يزيد كانت تصور له مستقبل الأيام وما يخبئه الغد لبني أمية من مآل ونهايات، وتعرض أمام الحضور الجانب الواعي المستشرف لموقف يزيد المتغافل المتعامي عن رؤية الحقائق كما ستكون في القريب العاجل.
ولم تطل فرحة يزيد.. إذ لم تنقض سوى ساعات معدودة على ذيوع الخبر في بيته قبل أن ينتشر في عاصمة مُلكه وباقي الأنحاء الإسلامية..حتى كانت نساؤه تنُحن مشفقات من هول ما بلغهن، وابن الحكم ينعي فعلة ابن زياد ويقول: «حُجبتم عن محمد يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبدًا»، وابنه معاوية يبكي بحرقة وألم وإذا سُئل عن بكائه كان يجيـب بندم ظاهر: «نبكي على بني أمية لا على الماضين من بني هاشم».
وكانت أول صرخة لوم وتأنيب بعد الشهادة تلك التي أطلقتها زينب  في الكوفة، فاهتزت لها الضمائر واستيقظت، وما قالته ابنة علي للجموع الملتفة حول ركب السبي له وقع الفجيعة ولائمة التقصير:
«الحمد للَّه والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، وإنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصَّلَفُ النَّطف، والعُجْبُ والكذب والشنف وملق الأماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كقصة على ملحودة، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم إن سخط اللَّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون».
وما إن سمع الجمع هذا القول حتى أخذتهم العَبرة ونشجوا في بكاء شديد وقد لمس كلام العقيلة زينب(ع) شغاف ضمائرهم، بينما أردفت(ع) مكملة وسط هنهناتهم ولومهم لأنفسهم فقالت(ع):
«أتبكون وتنتحبون؟ أي واللَّه فابكوا كثيرًا واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدًا، وأنَّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة ومدرة حجتكم ومنا محجتكم وملا خيرتكم ومفزع نازلتكم وسيد شباب أهل الجنة؟ ألا ساء ما تزرون، فتعسًا ونكسًا وبعدًا لكم وسحقًا، فلقد خاب السعي وتبَّت الأيدي وخسرت الصفقة وبُؤتم بغضبٍ من اللَّه ورسوله وضُربت عليكم الذلَّة والمسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول اللَّه فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئًا إدَّا، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدَّا.
ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض وملء السماء، أفعجبتم إن مطرت السماء دمًا؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر، وإن ربكم لبالمرصاد».
وكان لخطاب العقيلة المؤنب رد فعل عنيف بين الحشد المعمى بصيرته بالخداع والمطامع فحركت مكامن الخير في ضميره فما حار جوابًا، وأمام هذه البلاغة والتي تتالت لتوقظ الضمائر في مواقف شتى.. تتبدى حكمة اللَّه تعالى الذي أوحى للشهيد الحسين  بإشراك نساء آل البيت(ع) في ثورته، إذ ما إن توجهن إلى دمشق حتى بدأن حربهن النفسية بالكلمة البليغة والبيان المؤثر، مكملات وثبة أسد كربلاء ومواصلات إيصال صرخته في فلاتها:
«أما من مغيث يغيثنا أما من ناصر يعيننا»، لتتواصل بعدها بلا توان استجابات الضمائر النائمة كما استجاب ضمير الأنصاريْيْن سعد بن الحارث وأخيه أبي الحتوف لصرخة الحسين، فاستنصراه مستجيبيْن لها حتى قُتلا.
فإذا قيل في الإسلام: «بدؤه محمدي وبقاؤه حسيني».. فالأجدر أن يقال أيضًا: «ثورة الحسين بدؤها حسيني واستمرارها زينبي(2)».
إذ ما كادت هذه الثورة المباركة تضع أوزارها عسكريًا بتساقط رؤوس آل البيت(ع) وسبي الحرائر والعقيلات والأطفال إلى دمشق.. حتى هبت عقيلة بني هاشم  التي قيل فيها:
العالمة غير المعلمة، والفاضلة والكاملة، وعابدة آل علي، هبت إلى استلام راية الثورة الحمراء من يد أخيها الحسين ورفعتها فوق رؤوس الخلق بما علق عليها من دماء آل بيت النبي(ص) وهتفت من تحتها ترثي أخاها الذبيح في فلاة كربلاء الموحشة:
على الطَّف السلام وساكنيه
وروح الله في تلك القباب
نفوس قدّست في الأرض قدسا
وقد خلقت من النطف العذاب
مضاجع فتية عبدوا فناموا
هجودا في الفدافد والروابي
علتهم في مضاجعهم كعاب
بأردان منعمة رطاب
وصيرت القبور لهم قصورا
مناخا ذات أفنية رحاب
وزينب الكبرى  سليلة أشرف نسب في الإسلام، فأمها فاطمة الزهراء(ع) بنت رسول اللَّه(ص) وأبوها أمير المؤمنين علي(ع)، وقد ولدتها أمها بعد ولادة أشرف شهيدين، سيدا شباب أهل الجنة الحسنين(ع)، فنشأت في بيت الوحي بعد أن رضعت القدسية من ثدي العصمة، ونهلت العلم والحلم ومكارم الأخلاق وكل الخصال الحميدة التي اشتهرت عن آل البيت(ع) وهي لما تزل صغيرة.
وقد أثبتت حوادث ما بعد الشهادة ومواقفها خلال فترة السبي على رجاحة عقلها وقوة حجتها وحضور وحيها في أشد لحظات الخطر وأصعبها، إذ قادت بنفسها مسيرة ما تبقى من الموكب ودافعت عنه دفاع اللبوة عن أشبالها، فغدت مواقفها على كر الأيام وتعاقب القرون.. مثالاً يحتذى به وفخرًا لثورة أخيها التي أكملتها بجهادها المستميت.
وقد ذُكر أنها(ع) كانت شديدة الحب لأخيها الحسين منذ نعومة أظفارها، وكأن السر الإلهي كان يعدهما لهدف واحد يتقاسمان أعباءه، وهذا ما أكده تواتر الأيام، إذ شاركته مسيرته وكانت إلى جانبه في معمعان محنته، ولما سقط.. خرجت من فسطاطها ووقفت عند جسده ثم رفعت رأسه وهتفت: «اللَّهم تقبل منا هذا القربان»، وقيل إنها كانت قد وطنت نفسها عند إحراق الخيم أن تقرَّ في الخيمة مع النسوة إن كان اللَّه شاء إحراقهن كما شاء قتل رجالهن، وقد سألت الإمام زين العابدين(ع) عند اضطرام النار: «يا ابن أخي ما نصنع؟» مستفهمة منه مشيئة اللَّه فيهن.
إنها الروح المؤمنة ذاتها التي رفعت هتافها فوق جسد الحسين الطاهر، وتضرعت للَّه أن يقبله كقربان.. صرخت في وجه يزيد:
«أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول اللَّه سبايا قد هُتكت ستورهن، وأبديت وجوههن وصحلت أصواتهن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والشريف والدني، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي، وكيف ترتجى مراقبة من نبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم داعيًا بأشياخك ليت أشياخي ببدر شهدوا منحنيًا على ثنايا أبي عبد اللَّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية(3) محمد(ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب.. أتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم؟ فلتردنَّ وشيكًا موردهم، ولتودنَّ أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، اللَّهم خُذ لنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حُماتنا.
فواللَّه يا يزيد ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك، ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك.. إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك، فإلى اللَّه المشتكى وعليه المعول، فكد كيدك واسْعَ سعيك وناصب جهدك فواللَّه لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بَدَد.. يوم ينادي المنادي ألا لعنة اللَّه على الظالمين؟ فالحمد للَّه رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة.
هذه البلاغة والفصاحة لا يأتي بمثلها إلا من تربى في بيت الطالبيين، وهذه الشجاعة الفائقة لا يجسر عليها بشر حيال يزيد، وقد جسرت عليها الحوراء(ع) فبلبلت مجلسه وأحدثت في أركانه هزة، فلم يزد إلا أن قال:
يا صيحة(4) تحمد من صوائح
ما أهون النوح على النوائح
ثم أمر بإخراج الحرم من المجلس إلى خربة، حيث أقاموا فيها ثلاثة أيام يندبون وينوحون على الحسين(ع).
وإنها لحكمة إلهية أيضًا أن يُسار بالسبي إلى الكوفة ودمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال.. فيرى الناس في السبايا من الفجيعة أكثر مما رأوا أو سمعوا(5) في قتل الحسين(ع)، وهذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء والأطفال والرضع ليكونوا شهودًا وألسنة تنطق بمظلمته.
وقد قامت العقيلة زينب(ع) بالدور الأكبر في ثورة أخيها الحسين(ع) بحملها لواء الحرب النفسية التي تممت حربه العسكرية وشكلت معها الوجه الآخر لهدف واحد.. ألا وهو إحقاق الحق، وحماية السُّنة من الانتهاك، والعقيدة من الانحراف، والحكم من الفساد في كل زمان ومكان.
ولو لم تقم زينب(ع) بدورها الصعب الذي قامت به.. لما زادت الواقعة ونتائجها عن واقعة ونتائج أية معركة تدار فيها الأيدي والسيوف وتصهل فيها الخيل، والرأي الأمثل في هذه الحكمة.. حكمة خروج الحسين(ع) بحرمه وما تلاه من استلام زينب لراية الكفاح.. إنما كان هو الهدف الذي سيتحقق بعده كل أهداف الثورة، إذ لولا خروج زينب وحرائر وعقيلات آل البيت(ع) هذا الخروج الدرامي المفجع.. لما كان للهزة الضميرية هذا التوجع المؤلم، ولم يكن ليتسنى لها الدخول على ابن زياد في قصر الأمارة لتعلن أمام الحشد صرختها التي هي في مضمونها صرخة مشتركة مع صرخة أخيها الحسين(ع) فتقول:
«الحمد للَّه الذي أكرمنا بنبيه محمد، وطهَّرنا من الرجس تطهيرًا.. إنما يفتح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا».
ولا كان بإمكانها الوقوف أمام يزيد وهو فوق متكأ سلطانه وجبروته وإلقاء خطبتها البليغة التي تحمل عبق الصدق، فتتآلف معها النفوس وتتألَّب لها الضمائر وتتوغر بها الصدور على يزيد وطغمته، فتكون بذلك قد بذرت بذرة الثورة في الحنايا إلى أن يحين موعد قطافها.
وسيد الشهداء(ع) كان ينظر إلى المستقبل نظرته إلى كتاب مفتوح، وكان عالمًا بأن خذلان شيعته لن يدوم أبد الدهر، وكان في خروجه وإخراج الحرم معه إنما يراهن على حيوية الضمائر الإسلامية التي لن تجد مندوحة ولا أعذارًا في لوم نفسها على التقصير، سواء لسكوتها على مباغي الأمويين أم في عدم نصرتها لثائر قام يحطم الوثنية الجاهلية الجديدة التي امتطت الإسلام لتحقيق مآربها، ومحقت ذرية الرسول صاحب هذه الرسالة باسم خلافة مزيفة.
وهذه معجزة أخرى من معجزات شهادة الحسين(ع) معجزة تتصل بالضمائر بمنفصم وثيق العرى، فتمسها مسًا مباشرًا، فتتكهرب وتستيقظ على أمر جلل قد وقع ولا مناص لها من التبصر في كيفية وقوعه.
وعلى أنوار الشهادة السنيَّة، يتكشف لهذه الضمائر ظروف تقصيرها، وبأنها كانت غافلة نائمة مخدرة بأطماع وقتية، وعلى صوت الحق المجلجل الذي رفعته السبايا.. تصحو العيون والقلوب والأسماع، فترى ما تعامت عنه وما تغافلته زمنًا وما امتنعت عن سماعه ردحًا.
وهذه المعجزة وما تلاها بدأت بخطبة زينب الأولى في الكوفة وكهربتها للجموع التي أطلقت لعبراتها العنان، وقد بانت عظمة هذه المعجزة التي حملتها وستكمل حملها الكلمات القدسية المحاجة التي اختص اللَّه بها أهل بيت النبوة، والتي بدأت في الميدان وعلى لسان الشهيد نفسه حينما دوَّى صرخته التي استمرت حتى وقتنا هذا تتردد في الضمائر:
«أما من مغيث يغيثنا.. أما من ناصر يعيننا؟».
وقد لبى استجابة الصرخة الحسينية.. الحر بن يزيد الرياحي الذي توجه نحو الشهيد رافعًا صوته نادمًا على خروجه لقتاله:
«اللَّهم إليك أنيب فتُب عليَّ، فلقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك، يا أبا عبداللَّه إني تائب فهل لي من توبة؟».
فهذه اللحظات التي تمثل رجعة الضمير من جُبِّ آثامه، كان الحسين(ع) يعوِّل عليها في إيصال مبادئ ثورته، وقد حملت زينب(ع) مهمة إيقاظ الضمائر تأهبًا لرجعتها ساعدها في ذلك مشهد السبي المحزن الذي كان يفتت أشد القلوب قساوة.
فعن كتاب «المنتخب»، أن عبداللَّه بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج، وضم إليهم ألف فارس وأمرهم بإيصال السبايا والرؤوس إلى الشام.
وقال أبو مخنف: مر الركب في طريقه بمدينة تكريت، وكان فيها عدد من النصارى، ولما حاولوا دخولها.. اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزنًا على الحسين(ع)، وقالوا:
«إنَّا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم»
فلم يجرؤوا على دخول المدينة وباتوا ليلتهم في البرية، وكانوا يقابلون بالإعراض والكراهية كلما مروا بدير من الأديرة أو بلد من بلدان النصارى.
ولما وصل الركب إلى «لينا» وكانت مدينة كبيرة.. تظاهر أهلها رجالاً ونساء وشيبًا وشبانًا، وهتفوا بالصلاة على الحسين وجده وأبيه، ولعنوا الأمويين وأشياعهم وأتباعهم، وصرخوا في وجوه قوَّاد الركب:
«يا قتلة أولاد الأنبياء أخرجوا من مدينتنا».
ولما حاذوا «جهينة» بلغهم أن أهلها تجمعوا وتحالفوا على قتالهم إذا وطئوا أرضهم.. فتراجعوا عن دخولها.
وأتوا حصن «كفرطاب» فأغلق أهلها الأبواب في وجوههم، ولما طلبوا منهم ماء ليستقوا.. رد عليهم أهل الحصن:
«واللَّه لا نسقيكم قطرة وأنتم منعتم الحسين وأصحابه من الماء».
ولما دخلوا حمص كانت واقعة كبرى، إذ تظاهر أهلها وصاروا يرددون:
«أكفرًا بعد إيمان وضلالاً بعد هدى»
وهجموا عليهم فقتلوا 36 فارسًا رشقًا بالحجارة.
وكأن عقيلة بني هاشم(ع) كانت تستقرئ المستقبل وهي واثقة من ارتداد الضمائر، إذ قالت وهي مسبية:
«المستقبل لذكرنا، والعظمة لرجالنا والحياة لآثارنا والعلو لأعتابنا والولاء لنا وحدنا».

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأبيات لابن الزبعري، وقد ذكر بعض المؤرخين القدامى كالخوارزمي وابن أبي الحديد في شرح النهج ص 383 وابن هشام في واقعة أحد، أن عدد الأبيات ستة عشر بيتًا وليس فيها ما ذكره ابن طاووس إلا الأول والثالث، وكان عجز الثالث في روايتهم «وعدلنا ميل بدر فاعتدل»، وفي روايات أبي علي القالي في الأمالي ص142 والبكري في شرحه ص387: «وأقمنا ميل بدر فاعتدل»، أما البيت الأخير:
لست من خندف إن لم أنتقم
من بني أحمد ما كان فعل
فلم يرد على لسان يزيد، وورد في روايات أخرى.
2- هذا التعبير من وضعنا، وقد قصدنا به التركيز بإيجاز على دور العقيلة زينب  الذي لا يقل عن دور أخيها(ع).
3- أوردت شخصية إسلامية غير شيعية أنها التقت بروزفلت الصغير، ودار الحديث بينهما على الحرب وويلاتها، وراح الرجل المسلم يشرح له آداب الحرب في الإسلام، ويقارنها بوحشية الحروب بين الدول الغربية، فقال له روزفلت: مهما بلغ المحاربون من الوحشية والاعتداء.. فلم يسمع عنا أننا قتلنا ابن نبي ننتسب إليه، ولا جردنا بنات النبي وآله من ثيابهم وأخذناهم سبايا غير مكرمين.. قال: فوجمت ولم أتكلم..
4- أثبتت السنوات التي أعقبت المجزرة والسبي أن صيحة العقيلة زينب(ع) ليست كما صوَّرها يزيد.. بل كانت صيحة مجلجلة في أودية الصدور تَردَّد صداها حتى تحول إلى زلزال وجداني.
5- لقد عمد يزيد إلى إيهام القوم بأن الذين قُتلوا في المعارك هم من الخوارج، ولترسيخ هذا الخداع عقد مجلسًا لتقبل التبريكات بهذا النصر العظيم الذي حققه للعقيدة.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى