مقالات

فلسفة الحجّ وأسراره العميقة (الابعاد الاربعة)

إنّ لشعائر الحجّ ـ كما هو الحال بالنسبة للعبادات الاُخرى ـ بركات كثيرة جدّاً في نفسيّة الفرد والمجتمع الإسلامي. ويمكنها ـ إن اُجريت وفق اُسلوب صحيح ـ أن تحدث في المجتمعات الإسلامية تبدّلا جديداً كلّ عام. وتمتاز هذه المناسك بأربعة أبعاد مهمّة :

1- البعد الأخلاقي للحج :

أهمّ جانب في فلسفة الحجّ التغيّر الأخلاقي نحو الأحسن الذي يحصل عند الناس ، فمراسم الإحرام تبعد الإنسان بشكل تامّ عن الاُمور المادية والإمتيازات الظاهرية والألبسة الفاخرة ، ومع تحريم الملذّات ، وبناء الذات الذي يعتبر من واجبات المحرم يبتعد الفرد عن عالم المادّة ، ويدخل إلى عالم النور والصفاء والتسامي الروحي. وترى الإنسان قد إرتاح فجأةً من عبء الإمتيازات الموهومة ، والدرجات والرتب والنياشين.

ثمّ تلي عمليّة الإحرام مراسم الحجّ الاُخرى تباعاً ، وفيها تتوطّد علاقة الإنسان الروحيّة مع خالقه ـ لحظة بعد أُخرى ـ وتتوثّق. فينقطع عن ماضيه الأسود المملوء آثاماً وذنوباً ، ويتّصل بمستقبل واضح كلّه نور وصفاء. خاصّةً أنّ مراسم الحجّ تثير في الإنسان إهتماماً كبيراً ـ في كلّ خطوة يخطوها ـ بإبراهيم (عليه السلام) محطّم الأصنام ، وإسماعيل (عليه السلام) ذبيح الله. واُمّه هاجر(عليها السلام). ويتجلّى للحجّاج جهادهم وتضحياتهم ، إضافةً إلى كون أرض مكّة عامّة ، والمسجد الحرام وبيت الكعبة ومحلّ الطواف حولها خاصّة ، تذكّر الحاجّ بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقادة الإسلام العظام وجهاد المسلمين في صدر الإسلام ، فيتعمّق أثر هذه الثورة الأخلاقية بدرجة يشاهد فيها الحاج في كلّ زاوية من زوايا المسجد الحرام وأرض مكّة المقدّسة وجه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلي (عليه السلام) ، وسائر قادة المسلمين ، ويسمع قعقعة سيوفهم وصهيل خيولهم.

أجل ، إنّ هذه الاُمور كلّها تتّحد وتتضامن لتمهّد لثورة أخلاقية في القلوب المستعدّة. وبشكل لا يمكن وصفه تفتح في حياة الفرد صفحة جديدة. ولهذا نصّت الأحاديث الإسلامية على أنّ الذي يؤدّي الحجّ تامّاً صحيحاً «يخرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته اُمّه»(1)!

فالحجّ ولادة ثانية للمسلم. يستهلّ بها حياة إنسانية جديدة ، ولا حاجة هناك لإعادة القول بأنّ هذه البركات وتأثيرها وما نشير إليه بعد هذا ليست نصيب من إقتنع من مكاسب الحجّ بقشرته ورمي اللب جانباً. كما أنّها ليست نصيب من يعتبر الحجّ سياحة للتنفيس عن الخاطر ، أو للتظاهر والرياء ، أو طريقاً للحصول على متاع شخصي دنيوي ، وهو في الحقيقة لم يتوصّل إلى معنى الحج الحقيقي ، فكان نصيبه ما يستحقّه !

2- البعد السياسي للحجّ :

ذكر أحد كبار فقهاء المسلمين أنّ مراسم الحجّ في الوقت الذي تستبطن أخلص وأعمق العبادات ، هي أكثر الوسائل أثراً في التقدّم نحو الأهداف السياسيّة الإسلامية. فجوهر العبادة التوجّه إلى الله ، وجوهر السياسة التوجّه إلى خلق الله ، وهذان الأمران إمتزجا في الحجّ بدرجة أصبحا كنسيج واحد.

إنّ الحجّ عامل مؤثّر في وحدة صفوف المسلمين.

الحجّ عامل مهمّ في مكافحة التعصّب القومي والعنصري والتقوقع في حدود جغرافية.

والحجّ وسيلة لتحطيم الرقابة التي تفرضها الأنظمة الظالمة ، وتدمير هذه الأنظمة المتسلّطة على رقاب الشعوب الإسلامية.

والحجّ وسيلة لنقل الأنباء السياسية للبلدان الإسلامية من نقطة إلى أُخرى.

وأخيراً الحجّ عامل مؤثّر في تحطيم قيود العبودية والإستعمار وتحرير المسلمين.

ولهذا السبب كان موسم الحجّ زمن الجبابرة كبني اُميّة وبني العبّاس الذين كانوا يسيطرون على الأراضي الإسلامية المقدّسة ، ويراقبون كلّ تحرّك تحرّري إسلامي ليقمعوه بقوّة ، كان الموسم متنفّساً للحرية ولإتّصال فئات المجتمع الإسلامي الكبير بعضها مع بعض ، لطرح القضايا السياسيّة المختلفة التي تهمّ كلّ مسلم.

وعلى هذا الأساس قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في معرض حديثه عن فلسفة الفرائض والعبادات «الحجّ تقوية للدّين»(2).

كما أنّ أحد السياسيين الأجانب المشهورين قال : «الويل للمسلمين إن لم يعرفوا معنى الحجّ ، والويل لأعدائهم إذا أدرك المسلمون معنى الحجّ»!

واعتبرت الأحاديث الإسلامية الحجّ جهاد الضعفاء ، إذ يمكن للشيوخ والنساء الضعيفات المشاركة في الحجّ ليظهروا عظمة الاُمّة الإسلامية. وليدخلوا الرعب في قلوب أعداء الإسلام بمشاركتهم في صفوف المصلّين المتراصّة في دوائر تحيط ببيت الله الحرام. وهي توحّد الله وتكبّره.

3 ـ البعد الثقافي للحجّ :

يمكن أن يؤدّي إلتقاء المسلمين أيّام الحجّ دوراً فعّالا في التبادل الثقافي في المجتمع الإسلامي ، خاصّةً إذا لاحظنا أنّ إجتماع الحجّ العظيم يمثّل بشكل حقيقي فئات المسلمين من أنحاء العالم ، حيث لا تصنّع في المشاركة في حجّ بيت الله الحرام ، فالحجّاج جاؤوا من شتّى المجموعات والعناصر والقوميات ، وقد إجتمعوا رغم إختلاف ألسنتهم.

لهذا ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ من فوائد الحجّ نشر أخبار آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أنحاء العالم الإسلامي. يقول «هشام بن الحكم» أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) المخلصين نقلا عن هذا الإمام العظيم (عليه السلام) أنّه قال حول فلسفة الحجّ والطواف حول الكعبة : «إنّ الله خلق الخلق … وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ، ومصلحتهم من أمر دنياهم ، فجعل فيه الإجتماع من الشرق والغرب ، وليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد … ، ولتعرف آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعرف أخباره ويذكر لا ينسى»(3).

ولهذا السبب كان المسلمون يجدون في الحجّ متنفّساً من جور الخلفاء والسلاطين الظلمة الذين منعوا المسلمين من نشر هذه الأحكام ، لحلّ مشاكلهم بالإجتماع بأئمّة الهدى (عليهم السلام) في المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة ، وبكبار علماء المسلمين ، لينهلوا من مناهل القرآن النقيّة والسنّة النبويّة الشريفة.

ومن جهة ثانية يمكن أن يكون الحجّ مؤتمراً ثقافياً إسلامياً يحضره مفكّروا العالم الإسلامي في أيّام الحجّ في مكّة المكرّمة ، ليتحاوروا فيما بينهم ويعرضوا نظرياتهم وأفكارهم على الآخرين.

وقد أصبحت الحدود بين البلدان الإسلامية ـ الآن ـ سبباً لتشتّت ثقافتهم الأصيلة ، وإقتصار تفكير مسلمي كلّ بلد بأنفسهم فقط ، حتّى تقطّعت أواصر المجتمع الإسلامي الموحّد. بينما يستطيع الحجّ أن يغيّر هذا الوضع.

وما أجمل ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) في ختام الحديث السابق الذي رواه هشام بن الحكم : «ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا ، وخربت البلاد ، وسقطت الجلب والأرباح ، وعميت الأخبار»(4).

4- البعد الإقتصادي للحجّ :

خلافاً لما يراه البعض ، فإنّ مؤتمر الحجّ العظيم يمكن أن يستفاد منه في تقوية أُسس الإقتصاد في البلدان الإسلامية. بل إنّه وفق أحاديث إسلامية معتبرة يشكّل البعد الإقتصادي جزءاً مهمّاً من فلسفة الحجّ.

فما المانع من وضع اُسس سوق مشتركة إسلامية خلال إجتماع الحجّ العظيم ، ليوسّع المسلمون مجال التبادل التجاري فيما بينهم بشكل تعود منافعهم إليهم لا إلى أعدائهم. ومن أجل تحرير إقتصادهم من التبعية الأجنبية ، وهذا العمل عبادة وجهاد في سبيل الله ، ولا يمكن أن يكون حبّاً للدنيا وطمعاً فيها.

ولذا أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في الحديث السابق خلال شرحه فلسفة الحجّ ، إلى هذا الموضوع بصراحة بإعتبار أنّ أحد أهداف الحجّ ، تقوية العلاقات التجارية بين المسلمين.

وجاء في حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير [قوله تعالى] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة : 198]. قال (عليه السلام) : «فإذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبيع في الموسم»(5).

وكما يبدو فإنّ هذا العمل لا إشكال فيه ، بل فيه ثواب وأجر.

وبهذا المعنى جاء في نهاية حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) لبيان فلسفة الحجّ بشكل مسهب : (ليشهدوا منافع لهم) (6) إشارة إلى المنافع المعنوية والماديّة. والأخيرة على رأي بعضهم معنوية أيضاً.

فالحجّ بإختصار عبادة عظيمة لو اُستفيد منها بشكل صحيح في تشكيل مؤتمرات متعدّدة سياسيّة وثقافية وإقتصادية ، لحلّ مشاكل العالم الإسلامي ، ومفتاحاً لحلّ معضلات المسلمين ، وقد يكون هو المراد من حديث الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال : «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»(7).

كما قال الإمام علي (عليه السلام) «الله الله في بيت ربّكم ، لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا»(8) أي لا يمهلكم الله إن تركتم بيت ربّكم خالياً.

ولأهميّة هذا الموضوع الذي خصّص له باب في الأحاديث الإسلامية تحت عنوان «وجوب إجبار الوالي الناس على الحجّ» فإذا أراد المسلمون تعطيل الحجّ في عام من الأعوام ، فعلى الحكومات الإسلامية أن ترسلهم بالقوّة إلى مكّة(9)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ بحار الأنوار ، المجلّد 99 ، الصفحة 26.

2 ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم 252.

3 ـ وسائل الشيعة / 8/ ص 9.

4 ـ المصدر السابق.

5 ـ تفسير العياشي / ج2 / ص86.

6 ـ بحار الأنوار/ ج99/ ص32.

7- وسائل الشيعة/ ج8/ ص14.

8 ـ نهج البلاغة/ الوصيّة : 47.

9 ـ وسائل الشيعة/ ج8/ ص15.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى