مقالات

نفحات عطره من الدرة الثمينة أم البنين(ع)

قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ. النساء: 131.
و بما أن التقوى مأخوذة من الوقاية، ومعنى هذه الوصية أن يجعل الإنسان بما هو إنسان وقاية وحاجزا وسدا بينه وبين ما يؤذيه وما يضره، ويجلب سخط الله عليه، ولا يتم ذلك إلا بطريقين: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.
فعلى هذا كل إنسان في أي مكان ومكانة وفي أي زمان وأي وقت وفي أي لباس وشكل ولون وتكلم بأي لسان وحتى في أي درجة من المقامات الدنيوية والإلهية حتى الأنبياء والأولياء يحتاج في نيله إلى السعادة من الالتزام بالتقوى وأخذ الوقاية والحاجز في مقابل الآفات والأمراض المعنوية والمادية.
وتفويض المقامات الإلهية تتوقف على تحصيل التقوى والارتقاء في المقام أيضا ينحصر بالالتزام بالتقوى وعدم التلوث بالمعاصي والذنوب.
قال الله تعالى بشأن هذا الموضوع:
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ‏ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ (سورة البقرة: 124/2)
بما أن الظلم آفة في حد ذاته ومخالف للتقوى فمن تلبس بظلم لم يعطه الله تعالى مقاما ولو كان من أولاد إبراهيم الخليل!
لأن الأكرم عند الله عز وجل هو المتقي.
فالحاصل كل من كان في الدنيا فلا بد له من الالتزام بهذا العنصر العظيم أعني التقوى، ولأجل ذلك إن النبي الأكرم وأهل بيته (ع) إذا بعثوا شخصا إلى أمر يوصونه بالتقوى ومراقبة النفس.
 
نفحات عطره من الدرة الثمينة أم البنين(ع)
إن الفضل والكمال تابع للإيمان وما كان تابعا للرجولية والأنوثه، فلذلك يمكن للمرأة أن ترتقي درجات سلم الإيمان كما يمكن ذلك للرجل ولا فرق في ذلك بينهما، وفي التاريخ نشاهد كثيرا أنهم من كمل الرجال والنساء.
ولا ريب في أن أم البنين عليها السلام كانت ممن كملت إيمانها ومحاسنها وفضائلها حتى أصبحت أهلا لأن تكون أسوه لمن يريد أن يرتقي درجات الكمال.
وما كان اتصاف هذه السيدة بهذه الكمالات والفضائل إلا بتوفيق من الله وسعي وجهد منها في عبادة الله تعالى.
أما التوفيق من الله لأجل أنه تعالى جعلها في صلب ورحم وأسرة هي من أجلّ الأسر العربية والإيمانية وقد عرفت بالنّجدة والشّهامة.
وأيضا أراد الله أن يكفلها ويقوم برعايتها الإمام المعصوم، فيمكن أن يقال أنها أشبه بمريم ابنة عمران عليها السلام فقد أنبتها الله منبتا حسنا، كما أنبت مريم منبتا حسنا، وقد كفلها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما كفل زكريا مريم بنت عمران، واصطفاها لتنجب أربعة أبطال شاركوا أخاهم الحسين عليه السلام في نصرة دين الله وإحياء شريعته سبحانه، وعلى رأس هؤلاء الأربعة أبو الفضل العباس(ع) كما اصطفى مريم بنت عمران لتنجب نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، الذي أحيا دين الله وشريعته.
إن أم البنین اسمها فاطمة ابنة حرام أو حزام بن خالد بن ربیعة بن الوحید بن کعب بن عامر بن کلاب.
وروي في التاريخ أن حزام بن خالدّ بن ربيعة في سفر له مع جماعة من بني كلاب، نائم في ليلة من الليالي فرأى فيما يرى النّائم كأنه جالسّ في أرض خصبة وقد انعزل في ناحية عن جماعته وبيده درة يقلبها وهو متعجب من حسنها ورونقها وإذ يرى رجلاً قد أقبل إليه من صدر البرية على فرس له فلمّا وصل إليه سلم فرد عليه السّلام, ثمّ قال له الرّجل: بكم تبيع هذه الدّرة؟ وقد رآها في يده، فقال له حزام: إني لم أعرف قيمتها حتى أقول لك, ولكن أنت بكم تشتريها؟
فقال له الرّجل: وأنا كذلك لا أعرف لها قيمة, ولكن اهدها إلى أحد الأمراء وأنا الضّامن لك بشيء هو أغلى من الدّراهم والدّنانير.
قال: ما هو؟ قال: أضمن لك بالحظوة عنده والزّلفى والشّرف والسّؤدد أبد الآبدين.
قال حزام: أتضمن لي بذلك؟! قال: نعم. قال: وتكون أنت الواسطة في ذلك؟ قال: وأكون أنا الواسطة, أعطني إياها. فأعطاه إياها.
فلما انتبه حزام من نومه قص رؤياه على جماعته وطلب تأويلها فقال له أحدهم:
إن صدقت رؤياك فإنك ترزق بنتا ويخطبها منك أحد العظماء وتنال عنده بسببها القربى والشّرف والسّؤدد.
فلما رجع من سفره، وكانت زوجته ثمامة بنت سهيل حاملة بفاطمة أُمّ البنين وصادف عند قدوم زوجها من سفره كانت واضعة بها فبشروه بذلك فتهلل وجهه فرحاً وسُرّ بذلك، وقال في نفسه: قد صدقت الرّؤيا، فقيل له ما نسميها؟
فقال لهم: سموها: (فاطمة) وكنوها: (أم البنين) وهذه كانت عادة العرب يكنون المولود ويلقبونه في الوقت الذّي يسمونه فيه وهو يوم الولادة.
فنشأت أُمّ البنين في حضانة والدين شفيقين حنونين هما حزام بن خالدّ بن ربيعة، وثمامة بنت صهيل بن عامر، فأدبا ابنتهما بآداب الإسلام وعلماها ما ينبغي أن تعلمها من آداب المنزل وتأدية الحقوق الزّوجية وغير ذلك مما تحتاج إليه في الحياة.
حتى كبرت وبلغت مبلغ النّساء كانت مضرب المثل، في الحسن والعفاف والعلم والآداب والأخلاق، ولذلك اختارها عقيل بن أبي طالب لأجل أن تكون قرينة لأخيه أمير المؤمنين عليه السّلام وشريكة حياته بعد الزهراء (س)، وما ذلك إلا أنها كانت موصوفة بهذه الصّفات مضافا على ما هي فيه من النّسب الشّريف.
وإذا كانت هي كذلك فصارت هذه السيدة صاحبة مكانة ومنزلة متميزة عند الله تعالى وعند أهل البيت عليهم السّلام.
وسبب بلوغها إلى هذا الحد من المكانة مضافا إلى التربية والتخلق بالأخلاق الحسنة، إخلاصها وولاءها للإمام الحُسين(ع)، وتضحية أبنائها في سبيله(ع)، وقال العلامة المامقاني في ولاءها وإخلاصها للإمام الحسين(ع): فَإنّ علَقَتها بالحسین(ع) لیس إلا لإمامته. مامقاني، تنقیح المقال، ج3، ص70.
وفي ذلك وبشأن آم البنين(ع) يقول عالم  فقيه كبير من الفقهاء الإمامية الشّهيد الأول:
كانت أُمّ البنين من النّساء الفاضلات، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السّلام، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه، والمحلّ الرّفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة، ….
اسال الله تعالی و اتضرع الیه ان یوفقنا بتحصیل ما یوجب رضاه  بلزوم  تقواه.
كمال إخلاص أم البنين للإمامة والولاية قد تظهر بالتأمل في بداية حضورها في بيت علي وفاطمة(ع) لأنها قامت برعاية سبطي رسول الله صلّى الله عليه وآله وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحُسين عليهما السّلام، حتى أنهما قد وجدا عند آم البنين محبة وأنسا عظيما يمكن أن نقول أن الله قد عوّضهما من الخسارة الأليمة بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين.
إن أم البنين قد قدمت أولاد فاطمة(س) على أولادها طيلة حضورها في بيت علي(ع) وكانت السّيدة أُمّ البنين تكنّ في نفسها من المودة والحبّ لأولاد فاطمة ما لا تكنّه لأولادها، فلذلك لم يعرف التّاريخ نظيراً لأم البنين في المحبة لأولاد الغير وهذه السيرة تحكي لنا ولاءها وإخلاصها.
ونهاية حد إخلاصها وولاءها لأهل البيت وخصوصا للإمام الحسين(ع) تظهر في رجوع أهل البيت من كربلاء إلى المدينة ومواجهتها مع بشير بن حذلم وندائه لأهل المدينة.
فأشار إلى ذلك العلامة المامقاني في كتابه تنقيح المقال وتفصيله في كتب مقاتل منها اللهوف للسيد بن طاووس.
قال الشيخ المامقاني في كتابه (تنقيح المقال): (ويستفاد من قوة إيمانها إن بشرا كلما نعى إليها أحد أولادها الأربعة قالت ما معناه أخبرني عن الحسين فأخذ ينعي لها أولادها واحدا واحدا حتى نعى إليها العباس عليه السلام قالت: يا هذا قطعت نياط قلبي أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، فها هي كما ترى قد هان عليها قتل بنيها الأربعة إن سلم الحسين عليه السلام ويكشف هذا عن أن لها مرتبة في الديانة رفيعة. تنقيح المقال.
وقال السيد ابن طاووس في اللهوف: ثم انفصل الآل من كربلاء طالبين المدينة.
قال بشر بن حذلم: فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين(ع) وضرب رحله وقرب فسطاطه وأنزل نسائه وقال: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شيء منه؟ فقلت: بلى يا ابن رسول الله إني لشاعر فقال(ع): ادخل المدينة وانع أبا عبد الله.
قال بشر: فركبت فرسي و كضت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي(ص) رفعت صوتي بالبكاء، فأنشأت أقول:
يا أهل يثرب لا مُقامَ لكم بها      قُتل  الحسينُ فأدمعي مدرار
الجسمُ  منه بكربلاء مضرَّجٌ      والرأسُ منه على القناة يُدار
قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين(ع) مع عماته وأخواته، قد حلوا بساحتكم، ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم، وأعرِّفكم مكانه، قال: فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة، إلا برزن من خدروهن ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم، ولا يوما أمر على المسلمين منه.
وفي بعض المقاتل:
ومن جملة من خرج من المخدرات زوجة أمير المؤمنين(ع) أم البنين، خرجت وعلى كتفها طفل العباس(ع) حتى دنت من بشر، فأخذت تسأله عن الحسين؟ وهو يجيبها عن أولادها الأربعة، وهو يقول لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر!
قالت: أخبرني عن ولدي الحسين؟ قال: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله.
قالت: أخبرني عن ولدي الحسين؟ قال: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.
قالت: يا بني! أخبرني عن ولدي الحسين؟ قال: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس!
فلما سمعت بذكر أبي الفضل العباس وضعت يدها على قلبها ثم قالت: يا ابن حذلم لقد قطعت نياط قلبي أخبرتني بقتل أولادي الأربعة ولكن يا ابن حذلم إعلم إن أولادي وجميع من تحت السماء فداء لأبي عبد الله الحسين، يا ابن حذلم أخبرني عن الحسين. عند ذلك قال: يا أم البنين عظم الله لك الأجر بالحسين فلقد خلفناه بأرض كربلاء جثة بلا راس فصاحت واولداه واحسيناه، وسقطت إلى الأرض مغشيا عليها، فلما أفاقت قالت: يا ابن خذلم لقد قطعت نياط قلبي.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى