أحكام الأعمال من حيث الجزاء
من أحكام الأعمال :
أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا و الآخرة كالارتداد.
قال تعالى : {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 217] الآية، و كالكفر بآيات الله و العناد فيه.
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:} آل عمران 21- 22، و كذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا و الآخرة كالإسلام و التوبة، قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ:}الزمر 53- 55، و قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124):} طه 123- 124.
و أيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] ، و قد ورد هذا المعنى في الغيبة و البهتان و غيرهما في الروايات المأثورة عن النبي و أئمة أهل البيت، و كذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجيء.
و أيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل: 25] ، و قال: “و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم”: العنكبوت – 13، و كذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: “و نكتب ما قدموا و آثارهم:” يس – 12.
و أيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: “إذا لأذقناك ضعف الحيوة و ضعف الممات:” الإسراء – 75، و قال تعالى: “يضاعف لها العذاب ضعفين:” الأحزاب – 30، و كذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة:” البقرة – 261، و مثله ما في قوله تعالى: “أولئك يؤتون أجرهم مرتين:” القصص – 54، و ما في قوله تعالى: “يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم:” الحديد – 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها:” الأنعام – 160.
و أيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: “إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات:” الفرقان – 70.
و أيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ:” الطور – 21، و يمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم قال تعالى: “و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:” النساء – 9.
و أيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، و يجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، و يجذب سيئاته إليه، و هذا من عجيب الأمر في باب الجزاء و الاستحقاق، سيجيء البحث عنه في قوله تعالى: “ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم:” الأنفال – 37.
و في موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إن شاء الله العزيز.
و بالتأمل في الآيات السابقة و التدبر فيها يظهر: أن في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة و الشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، و ذلك أن فعل الأكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية فعلية و انفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا و لا يتخطاه إلى غيره، و لا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، و كذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، و لا يتعداه إلى غيره، و لا يتبدل بغيره، و لا ينقلب عن هويته و ذاته، و كذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لا غير و كان زيد ضاربا لا غير، و كان عمرو مضروبا لا غير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة و الشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى: “و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون:” البقرة – 57، و قال تعالى: “وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ:” الفاطر – 43، و قال تعالى: “انظر كيف كذبوا على أنفسهم:” الأنعام – 24، و قال تعالى: “ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين:” المؤمن 73- 74.
و بالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، و ربما نقل الفعل و أسنده إلى غير فاعله، و ربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
و لا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال و آثارها و يفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء، و ذلك أنا نرى أن الله سبحانه و تعالى فيما حكاه في كتابه يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين في حال الموت و البرزخ، و كذا في القيامة و النار و الجنة بحجج عقلية تعرفها العقول قال تعالى: “وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70):” الزمر 68- 70، و قد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، و كفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: “و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم:” إبراهيم – 22.
و من هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال و دار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة و نشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
و الذي يحل به هذه العقدة: أن الله تكلم مع الناس في دعوتهم و إرشادهم بلسان أنفسهم و جرى في مخاطباته إياهم و بياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، و تمسك بالأصول و القوانين الدائرة في عالم العبودية، و المولوية فعد نفسه مولى و الناس عبيدا و الأنبياء رسلا إليهم، و واصلهم بالأمر و النهي و البعث و الزجر، و التبشير و الإنذار، و الوعد و الوعيد، و سائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب و مغفرة و غير ذلك.
و هذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الأمر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير أنه شيء لا تسعه حواصلهم و حقائق لا تحيط بها أفهامهم و لذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: “و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم:” الزخرف 2- 4.
فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء و ما يرتبط بها على الأحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح و المفاسد، و من لطيف الأمر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العادية قابلة التطبيق على الأحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا: التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار و المفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، و في المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها أفعال للتابعين فيها، فهي أفعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
و كذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيرا أو شرا، و إسناد الفعل إلى غير فاعله، و جعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، و يوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع و في سطح الأفهام العامة، و إن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، و كانت الأحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، و سينكشف على الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: “و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق:” الأعراف 52- 53، و قال تعالى: “و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين إلى أن قال بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله:” يونس – 37.
و بهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائي بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة و بين أمثال قوله تعالى: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره:” الزلزال 7- 8، و قوله تعالى: “لا تزر وازرة وزر أخرى:” الأنعام – 164، و قوله تعالى: “كل امرئ بما كسب رهين:” الطور – 21، و قوله تعالى: “و أن ليس للإنسان إلا ما سعى:” النجم – 39، و قوله تعالى: “إن الله لا يظلم الناس شيئا:” يونس – 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و ذلك أن الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، و كذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو و فعله المتبوع، فالمعصية معصيتان، و كذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، و فاعل كمثله، فهؤلاء و أمثالهم من مصاديق قوله تعالى: “لا تزر وازرة وزر أخرى” الآية و نظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.
و إلى ذلك يشير قوله تعالى: “و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون:” الزمر 69- 70، فقوله: و هو أعلم بما يفعلون، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه و يحاسبه من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم و لا عقل، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير “لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير:” الملك – 10، و في الآخرة أيضا حيث قال “و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا:” الإسراء – 72، و قال تعالى: “نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة:” الهمزة 6- 7، و قال تعالى في تصديق هذا السلب: “قالت أخريهم لأوليهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون:” الأعراف – 38، فأثبت لكل من المتبوعين و تابعيهم الضعف من العذاب، أما المتبوعين فلضلالهم و إضلالهم، و أما التابعين فلضلالهم و إقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر أنهم جميعا لا يعلمون.
فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا و الآخرة ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: “كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون:” فصلت – 3، و كالآيات التي تحتج عليهم و لا معنى للاحتجاج على من لا علم له و لا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة و لا مناص من إثبات العقل و الإدراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم و اليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:” ق – 22، و قوله تعالى: “و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا موقنون:” السجدة – 12.
قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، و معنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث و عدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى: “و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا:” الإسراء – 13، و قوله تعالى: “قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين:” الزخرف – 38، إلى غير ذلك من الآيات، و سيجيء استيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: “يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون:” البقرة – 242.
و قد أجاب الإمام الغزالي عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: أن نقل الحسنات و السيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره، و لم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: “لمن الملك اليوم لله الواحد القهار”، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة و هو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، و ما لا يعلمه الإنسان فليس بموجود له و إن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الآن في حقه.
فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل و العرض كيف ينقل؟.
فنقول: المنقول ثواب الطاعة، لا نفس الطاعة و لكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها، و أثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الإنسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، و نقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، و إن كان جوهرا فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير و للمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة و الظلمة، و بأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور و المعرفة و المشاهدة، و بالظلم و القسوة يستعد القلب للحجاب و البعد، و بين آثار الطاعات و المعاصي تعاقب و تضاد كما قال تعالى: “إن الحسنات يذهبن السيئات” و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “أتبع السيئة الحسنة تمحقها” و الآثام تمحيصات للذنوب، و لذلك قال (عليه السلام): إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، و قال (عليه السلام): الحدود كفارات.
فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه و قسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها و المظلوم يتألم فينكسر شهوته و يمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، و ما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم و هذا معنى نقل الحسنات و السيئات.
فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم و حدوث نور آخر في قلب المظلوم، و بطلان الظلمة من قلب المظلوم و حدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم و ليس هذا نقلا حقيقة.
قلنا اسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظل من موضع إلى موضع آخر، و انتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كني بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب، و سمي إثبات الوصف في محل و إبطال مثله في محل آخر بالنقل، و كل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخصا.
أقول: محصل ما أفاده أن إطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق أي القاتل و المقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب و استعارة اسم النقل لإمحاء شيء و إثبات شيء آخر في محل آخر، و إذا اطرد هذا الوجه في سائر أحكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، و قد عرفت أنه سبحانه قرر هذه الأحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، و يبني عليه أحكامه من المصالح و المفاسد، و لا ريب أن هذه الأحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل و ما يشبه ذلك باعتقاد أن الجرم عين الجرم و الحسنة عين الحسنة و هكذا.
هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن أحكام العقل العملي، و أما بالنسبة إلى غير هذا الظرف و هو ظرف الحقائق فالجميع مجازات إلا بحسب التحليل بمعنى أن نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى و التشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.
و من أحكام الأعمال: أنها محفوظة مكتوبة متجسمة
كما قال تعالى: “يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا:” آل عمران – 30، و قال تعالى: “و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا:” الإسراء – 13، و قال تعالى: “و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في إمام مبين:” يس – 12، و قال تعالى: “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:” ق – 22، و قد مر البحث عن تجسم الأعمال.
و من أحكام الأعمال: أن بينها و بين الحوادث الخارجية ارتباطا،
و نعني بالأعمال الحسنات و السيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية، دون الحركات و السكنات التي هي آثار الأجسام الطبيعية فقد قال تعالى: “و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير:” الشورى – 30، و قال تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له:” الرعد – 11، و قال تعالى: “ذلك بأن الله لم يَكُ مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:” الأنفال – 53، و الآيات ظاهرة في أن بين الأعمال و الحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا.
و يجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى و هما قوله تعالى: “و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون:” الأعراف – 96، و قوله تعالى: “ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون:” الروم – 41.
فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الإنساني على طاعة الله سبحانه و سلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، و انفتاح أبواب البركات، و انحراف هذا النوع عن صراط العبودية، و تماديه في الغي و الضلالة، و فساد النيات، و شناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر و البحر و هلاك الأمم بفشو الظلم و ارتفاع الأمن و بروز الحروب و سائر الشرور الراجعة إلى الإنسان و أعماله، و كذا ظهور المصائب و الحوادث المبيدة الكونية كالسيل و الزلزلة و الصاعقة و الطوفان و غير ذلك، و قد عد الله سبحانه سيل العرم و طوفان نوح و صاعقة ثمود و صرصر عاد من هذا القبيل.
فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل و السيئات أذاقها الله وبال أمرها و آل ذلك إلى إهلاكها و إبادتها، قال تعالى: {أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة و آثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم و ما كان لهم من الله من واق:}غافر – 21، و قال تعالى: {و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:} الإسراء – 16، و قال تعالى: ” ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ:” المؤمنون – 44، هذا كله في الأمة الطالحة، و الأمة الصالحة على خلاف ذلك.
و الفرد كالأمة يؤخذ بالحسنة و السيئة و النقم و المثلات غير أن الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما أنه يؤخذ بمظالم غيره كآبائه و أجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): قال “أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين:” يوسف – 90، و المراد به ما أنعم الله عليه من الملك و العزة و غيرهما، و قال تعالى: “فخسفنا به و بداره الأرض:” القصص – 81، و قال تعالى: “و جعلنا له لسان صدق عليا:” مريم – 50، و كأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: “جعلنا كلمة باقية في عقبه:” الزخرف – 28، و قال تعالى: “و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما:” الكهف – 82، و قال تعالى: “فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:” النساء – 9، و المراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه.
و بالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من أفراد الإنسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة أنعمها عليه و امتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول: “قال هذا من فضل ربي ليبلوني ء أشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم:” النمل – 40، و قال تعالى: “لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد:” إبراهيم – 7، و الآية كسابقتها تدل على أن نفس الشكر من الأعمال الصالحة التي تستتبع النعم.
و إن كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه و استدراجا و إملاء يملى عليه كما قال تعالى: “و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين:” الأنفال – 30، و قال تعالى: “سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين:” القلم 44- 45، و قال تعالى: “و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون:” الدخان – 17.
و إذا أنزلت النوازل و كرت المصائب و البلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة و محنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، و كان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة و المحك، قال تعالى: “أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون:” العنكبوت 2- 4 و قال تعالى: “و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء:” آل عمران – 140.
فإن قيل: الحوادث العامة و الخاصة كالسيول و الزلازل و الأمراض المسرية و الحروب و الأجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، و عليه فلا محل للتعليل بالأعمال الحسنة و السيئة بل هو فرضية دينية، و تقدير لا يطابق الواقع.
قلت: هذا إشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى و سنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى: “و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء:” الأعراف – 64.
و جملة القول فيه: أن الشبهة ناشئة عن سوء الفهم و عدم التنبه لمقاصد القرآن و أهله، فهم لا يريدون بقولهم: “إن الأعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا” إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها، و لا تشريك الأعمال مع العوامل المادية، كما أن الإلهيين لا يريدون بإثبات الصانع إبطال قانون العلية و المعلولية العام و إثبات الاتفاق و المجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية و استناد بعض الأمور إليه و البعض الآخر إليها، بل مرادهم إثبات علة في طول علة، و عامل معنوي فوق العوامل المادية، و إسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب: أولا و ثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الإنسان و إلى يده.
و مغزى الكلام: هو أن سائق التكوين يسوق الإنسان إلى سعادته الوجودية و كماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، و من المعلوم أن من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو إشراف سائره إلى الهلاك و البوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفق له أصلح المحل و إن عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به.
و قد دلت المشاهدة و التجربة على أن الصنع و التكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات و الفسادات المتوجه إليه، و لا معنى لاستثناء الإنسان في نوعه و فرده عن هذه الكلية! و دلتا أيضا على أن التكوين يعارض كل موجود نوعي بأمور غير ملائمة تدعوه إلى إعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده و يوصله غايته و سعادته التي هيأها له فما بال الإنسان لا يعتني في شأنه بذلك؟.
و هذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى “و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون:” الدخان 38- 39، و قوله تعالى: “و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا:” ص – 27، فكما أن صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا و من غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه و بين مصنوعه بمجرد إيجاده، و لم يبال: إلى ما يؤول أمره؟ و ما ذا يصادفه من الفساد و الآفة؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لأمره شاهدا على رأسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لأجلها و ركب أجزاءه للوصول إليها أصلح حاله و تعرض لشأنه بزيادة و نقيصة أو بإبطاله من رأس و تحليل تركيبه و العود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السموات و الأرض و ما بينهما و من جملتها الإنسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا، و لم يوجده هباء، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: “أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون:” المؤمنون – 115، و قال تعالى: “و أن إلى ربك المنتهى:” النجم – 42، و من الضروري حينئذ أن تتعلق العناية الربانية إلى إيصال الإنسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة و الإرشاد، ثم بالامتحان و الابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة و سقطت عنه الهداية، فإن في ذلك إتقانا للصنع في الفرد و النوع و ختما للأمر في أمة و إراحة الآخرين، قال تعالى: “و ربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين:” الأنعام – 133، انظر إلى موضع قوله تعالى: (و ربك الغني ذو الرحمة).
و هذه السنة الربانية أعني سنة الابتلاء و الانتقام هي التي أخبر الله عنها أنها سنة غير مغلوبة و لا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: “و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير:” الشورى 30- 31، و قال تعالى: “و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:” الصافات 171- 173.
و من أحكام الأعمال من حيث السعادة و الشقاء: أن قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، و من خواص قبيل السعادة كل صفة و خاصة جميلة كالفتح و الظفر و الثبات و الاستقرار و الأمن و التأصل و البقاء، كما أن مقابلاتها من الزهاق و البطلان و التزلزل و الخوف و الزوال و المغلوبية و ما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء.
و الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، و يكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا: {كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء:} إبراهيم 24- 27، و قوله تعالى: {ليحق الحق و يبطل الباطل:” الأنفال – 8، و قوله تعالى: “و العاقبة للتقوى:” طه – 132، و قوله تعالى: “و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:} الصافات 171- 173، و قوله تعالى: “و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون:” يوسف – 21، إلى غير ذلك من الآيات.
و تذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: و لكن أكثر الناس لا يعلمون، مشعر بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، و لو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل أحد لم يجهلها الأكثرون، و إنما جهلها من جهلها، و أنكرها من أنكرها من جهتين :
الأولى: أن الإنسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده و لا يغيب عنه، يتكلم عن الحال و يغفل عن المستقبل، و يحسب دولة يوم دولة، و يعد غلبة ساعة غلبة، و يأخذ عمره القصير و متاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه و هو المحيط بالزمان و المكان، و الحاكم على الدنيا و الآخرة و القيوم على كل شيء إذا حكم حكم فصلا، و إذا قضى قضى حقا، و الأولى، و العقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، و لا يعجل في أمر، فمن الممكن بل الواقع ذلك أن يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمة، فيظن الجاهل أن الأمر أعجزه تعالى و أن الله سبحانه مسبوق مغلوب ساء ما يحكمون لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، و يحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن و لا يئوده حفظهما و هو العلي العظيم، قال تعالى: “لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم و بئس المهاد:” آل عمران 196-197.
و الثانية: أن غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات و قهرها أن تتسلط على الأفعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، و بسط الكره و الإجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقا، و يأسرون آخرين، و يفعلون ما يشاءون بالتحكم و التهكم، و قد دل التجارب و حكم البرهان على أن الكره و القسر لا يدوم، و أن سلطة الأجانب لا يستقر على الأمم الحية استقرارا مؤبدا، و إنما هي رهينة أيام قلائل.
و أما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، و بأن تربي أفرادا تعتقدها و تؤمن بها، فليس فوق الإيمان التام درجة و لا كإحكامه حصن، فإذا استقر الإيمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا و إن استخفى يوما أو برهة، و لذلك نجد أن الدول المعظمة و المجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ أكثر مما تعتني بشأن العدة و القوة فسلاح المعنى أشد بأسا.
هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شئونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال و الوهم، و أما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره أوضح و أبين.
فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال و الباطل، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال، و من المعلوم أن الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل.
و الحق من حيث تأثيره و إيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف و لا متخلف، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، و إن غلب عليه عدو الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره و الاضطرار، و وافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: “إلا أن تتقوا منهم تقية:” آل عمران – 28، و إن قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: “و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون:” البقرة – 154.
فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، إما ظاهرا و باطنا، و إما باطنا فقط، قال تعالى: “قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين:” التوبة – 52.
و من هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا و باطنا معا، أما ظاهرا: فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الإنساني هداية تكوينية إلى الحق و السعادة، و سوف يبلغ غايته، فإن الظهور المتراءى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، و إنما هو مقدمة لظهور الحق و لما ينقض سلسلة الزمان و لما يفن الدهر، و النظام الكوني غير مغلوب البتة، و أما باطنا: فلما عرفت أن الغلبة لحجة الحق.
و أما إن لحق القول و الفعل كل صفة جميلة كالثبات و البقاء و الحسن، و لباطل القول و الفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل و الزوال و القبح و السوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الأبحاث: أن المستفاد من قوله تعالى: “ذلكم الله ربكم خالق كل شيء:” غافر- 62، و قوله تعالى: “الذي أحسن كل شيء خلقه:” السجدة – 7، و قوله تعالى: “ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك:” النساء – 79، أن السيئات أعدام و بطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض للوجود بخلاف الحسنات، و لذلك كان القول الحسن و الفعل الحسن منشأ كل جمال و حسن، و منبع كل خير و سعادة كالثبات و البقاء، و البركة و النفع دون السيئ من القول و الفعل، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ:} الرعد – 17.
و من أحكام الأعمال:
أن الحسنات من الأقوال و الأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الأفعال و الأقوال، و قد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل و نعني بالعقل ما يدرك به الإنسان الحق و الباطل، و يميز به الحسن من السيئ.
و لذلك أوصى باتباعه و نهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر و القمار و اللهو و الغش و الغرر في المعاملات، و كذا نهى عن الكذب و الافتراء و البهتان و الخيانة و الفتك و جميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الأفعال و الأعمال توجب خبط العقل الإنساني في عمله و قد ابتنيت الحياة الإنسانية على سلامة الإدراك و الفكر في جميع شئون الحياة الفردية و الاجتماعي
و أنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية و الفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت أن الأساس فيها هي الأعمال التي يبطل بها حكومة العقل، و أن بقية المفاسد و إن كثرت و عظمت مبنية عليها
تفسير الميزان ج2