مقالات

تفسير سورة الإخلاص

قال تعالى : {قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص : 1 – 4] .

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{قل هو الله أحد} هذا أمر من الله عز اسمه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يقول لجميع المكلفين هو الله الذي تحق له العبادة قال الزجاج : هو كناية عن ذكر الله عز وجل ومعناه الذي سألتم تبيين نسبته هو الله أحد أي واحد ويجوز أن يكون المعنى الأمر الله أحد لا شريك له ولا نظير وقيل معناه واحد ليس كمثله شيء عن ابن عباس وقيل واحد في الإلهية والقدم وقيل واحد في صفة ذاته لا يشركه في وجوب صفاته أحد فإنه يجب أن يكون موجودا عالما قادرا حيا ولا يكون ذلك واجبا لغيره وقيل واحد في أفعاله لأن أفعاله كلها إحسان لم يفعلها لجر نفع ولا لدفع ضرر فاختص بالوحدة من هذا الوجه إذ لا يشركه فيه سواه واحد في أنه لا يستحق العبادة سواه لأنه القادر على أصول النعم من الحياة والقدرة والشهوة وغير ذلك مما لا تكون النعمة نعمة إلا به ولا يقدر على شيء من ذلك غيره فهو أحد من هذه الوجوه الثلاثة وقيل إنما قال أحد ولم يقل واحد لأن الواحد يدخل في الحساب ويضم إليه آخر وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ولا في معنى صفاته ويجوز أن يجعل للواحد ثانيا ولا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا لأن الأحد يستوعب جنسه بخلاف الواحد أ لا ترى أنك لوقلت فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقاومه اثنان ولما قلت لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان ولا أكثر فهو أبلغ وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) في معنى {قل هو الله أحد} أي قل أظهر ما أوحينا إليك وما نبأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها عليك ليهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد وهو اسم مكنى مشار إلى غائب فالهاء تنبيه عن معنى ثابت والواو إشارة إلى الغائب عن الحواس كما أن قولك هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواس وذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك فقالوا هذه آلهتنا المحسوسة بالأبصار فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا ناله فيه فأنزل الله سبحانه {قل هو الله أحد} فالهاء تثبيت للثابت والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس وأنه يتعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواس .

 وحدثني أبي عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة فقلت له علمني شيئا أنتصر به على الأعداء فقال قل يا هويا من لا هو إلا هو فلما أصبحت قصصت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا علي علمت الاسم الأعظم فكان على لساني يوم بدر قال وقرأ (عليه السلام) يوم بدر {قل هو الله أحد} فلما فرغ قال يا هويا من لا هو إلا هو اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين وكان يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد فقال له عمار بن ياسر يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات قال اسم الله الأعظم وعماد التوحيد لله لا إله إلا هو ثم قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وآخر الحشر ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال .

 قال : وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه الله المستور عن إدراك الأبصار المحجوب عن الأوهام والخطرات وقال الباقر (عليه السلام) الله معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته والإحاطة بكيفيته وتقول العرب أله الرجل إذا تحير في الشيء فلم يحط به علما ووله إذا فزع إلى شيء قال والأحد الفرد المتفرد والأحد والواحد بمعنى واحد وهو المتفرد الذي لا نظير له والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد والواحد المباين الذي لا ينبعث من شيء ولا يتحد بشيء ومن ثم قالوا إن بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد لأن العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين فمعنى قوله {الله أحد} أي المعبود الذي يسأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيته فرد بإلهيته متعال عن صفات خلقه .

{الله الصمد} قال الباقر (عليه السلام) حدثني أبي زين العابدين (عليه السلام) عن أبيه الحسين بن علي (عليهما السلام) أنه قال الصمد الذي قد انتهى سؤدده والصمد الدائم الذي لم يزل ولا يزال والصمد الذي لا جوف له والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب والصمد الذي لا ينام وأقول أن المعنى في هذه الثلاثة أنه سبحانه الحي الذي لا يحتاج إلى الطعام والشراب والنوم قال الباقر (عليه السلام) والصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه قال وكان محمد بن الحنفية يقول الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره وقال غيره الصمد المتعالي عن الكون والفساد والصمد الذي لا يوصف بالنظائر قال وسئل علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) عن الصمد فقال الصمد الذي لا شريك له ولا يؤوده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء وقال أبو البختري وهب بن وهب القرشي قال زيد بن علي (عليه السلام) الصمد الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأصنافا وأشكالا وأزواجا وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند .

 قال وهب بن وهب وحدثني الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن أبيه الباقر (عليه السلام) إن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (عليهما السلام) يسألونه عن الصمد فكتب إليهم بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار وإن الله قد فسر سبحانه الصمد فقال {لم يلد ولم يولد ولم يكن كفوا أحد} .

 {لم يلد} لم يخرج منه شيء كثيف كالولد ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ولا شيء لطيف كالنفس ولا ينبعث منه البدوات كالسنة والنوم والخطرة والغم والحزن والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسامة والجوع والشبع تعالى أن يخرج منه شيء وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف .

 {ولم يولد} أي ولم يتولد من شيء ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة والنبات من الأرض والماء من الينابيع والثمار من الأشجار ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين والسمع من الأذن والشم من الأنف والذوق من الفم والكلام من اللسان والمعرفة والتمييز من القلب والنار من الحجر لا بل هو الله الصمد الذي لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء مبدع الأشياء وخالقها ومنشىء الأشياء بقدرته يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال .

 {ولم يكن له كفوا أحد} قال وهب بن وهب سمعت الصادق (عليه السلام) يقول قدم وفد من فلسطين على الباقر (عليه السلام) فسألوه عن مسائل فأجابهم عنها ثم سألوه عن الصمد فقال تفسيره فيه الصمد خمسة أحرف (فالألف) دليل على أنيته وهو قوله عز وجل {شهد الله أنه لا إله إلا هو} وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواس (واللام) دليل على إلاهيته بأنه هو الله والألف واللام مدغمان لا يظهران على اللسان ولا يقعان في السمع ويظهران في الكتابة دليلان على أن إلاهيته بلطفه خافية لا يدرك بالحواس ولا يقع في لسان واصف ولا أذن سامع لأن تفسير الإله هو الله الذي أله الخلق عن درك ماهيته وكيفيته بحس أوبوهم لا بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواس وإنما يظهر ذلك عند الكتابة فهو دليل على أن الله سبحانه أظهر ربوبيته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة وإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه كما أن لام الصمد لا يتبين ولا يدخل في حاسة من حواسه الخمس فلما نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي ولطف فمتى تفكر العبد في ماهية البارىء وكيفيته أله وتحير ولم تحط فكرته بشيء يتصور له لأنه تعالى خالق الصور وإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنه عز وجل خالقهم ومركب أرواحهم في أجسادهم .

 وأما (الصاد) فدليل على أنه سبحانه صادق وقوله صدق وكلامه صدق ودعا عباده إلى اتباع الصدق بالصدق ووعدنا بالصدق وأراد الصدق وأما (الميم) فدليل على ملكه وأنه الملك الحق المبين لم يزل ولا يزال ولا يزول ملكه وأما (الدال) فدليل على دوام ملكه وأنه دائم تعالى عن الكون والزوال بل هو الله عز وجل مكون الكائنات الذي كان بتكوينه كل كائن ثم قال (عليه السلام) لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة لنشرت التوحيد والإسلام والدين والشرائع من الصمد وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) حملة لعلمه حتى كان يتنفس على الصعداء أو يقول على المنبر سلوني قبل أن تفقدوني فإن بين الجوانح مني علما جما هاه هاه ألا لا أجد من يحمله ألا وأن عليكم من الله الحجة البالغة فلا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور .

 وعن عبد خير قال سأل رجل عليا (عليه السلام) عن تفسير هذه السورة فقال قل هو الله أحد بلا تأويل عدد الصمد بلا تبعيض بدد لم يلد فيكون موروثا هالكا ولم يولد فيكون إلها مشاركا ولم يكن له من خلقه كفوا أحد وقال ابن عباس لم يلد فيكون والدا ولم يولد فيكون ولدا وقيل لم يلد ولدا فيرث عنه ملكه ولم يولد فيكون قد ورث الملك عن غيره وقيل لم يلد فيدل على حاجته فإن الإنسان يشتهي الولد لحاجته إليه ولم يولد فيدل على حدوثه وذلك من صفة الأجسام وفي هذا رد على القائلين أن عزيرا والمسيح ابن الله وإن الملائكة بنات الله ولم يكن له كفوا أحد أي لم يكن له أحد كفوا أي عديلا ونظيرا يماثله وفي هذا رد على من أثبت له مثلا في القدم وغيره من الصفات وقيل معناه ولم تكن له صاحبة وزوجة فتلد منه لأن الولد يكون من الزوجة فكني عنها بالكفوء لأن الزوجة تكون كفوا لزوجها .

 وقيل إنه سبحانه بين التوحيد بقوله {الله أحد} وبين العدل بقوله {الله الصمد} وبين ما يستحيل عليه من الوالد والولد بقوله {لم يلد ولم يولد} وبين ما لا يجوز عليه من الصفات بقوله {ولم يكن له كفوا أحد} وفيه دلالة على أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا هو في مكان ولا جهة وقال بعض أرباب اللسان وجدنا أنواع الشرك ثمانية النقص والتقلب والكثرة والعدد وكونه علة أو معلولا والأشكال والأضداد .

 فنفى الله سبحانه عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله {قل هو الله أحد} ونفي التقلب والنقص بقوله {الله الصمد} ونفي العلة والمعلول بقوله {لم يلد ولم يولد} ونفي الأشكال والأضداد بقوله {ولم يكن له كفوا أحد} فحصلت الوحدانية البحث وروى عمران بن الحصين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعث سرية واستعمل عليها عليا (عليه السلام) فلما رجعوا سألهم عن علي (عليه السلام) فقالوا كل خير غير أنه كان يقرأ في أثناء كل صلاة بقل هو الله أحد فقال لم فعلت يا علي هذا فقال لحبي قل هو الله أحد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أحببتها حتى أحبك الله عز وجل ويروى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يقف عند آخر كل آية من هذه السورة وروى الفضيل بن يسار قال أمرني أبو جعفر أن أقرأ قل هو الله أحد وأقول إذا فرغت منها كذلك الله ربي ثلاثا .

___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص485-490 .

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

أصول الإسلام ثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، ويتفرع عن الأول صفاته تعالى ، وعن الثاني القرآن والشريعة ، وعن الثالث الحساب والجزاء .

وهذه السورة الشريفة تقرر الأصل الأول .

{قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ} في ذاته وصفاته وأفعاله ، لا شريك له في شيء ، ولا فعل شيئا لجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه . وتكلمنا مفصلا عن التوحيد ونفي الشريك عند تفسير الآية 48 من سورة النساء ج 2 ص 344 بعنوان (دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة) .

{اللَّهُ الصَّمَدُ} . ومعناه في اللغة السيد الذي يلجأ إليه في الحاجات والمهمات ، والمراد به هنا الغني عن كل شيء ، ويفتقر إليه كل شيء لأنه خالق الأشياء ومصدرها .

{لَمْ يَلِدْ} . هذا رد على من زعم ان اللَّه ابنا أو بنات . قال علماء الكلام :

لوكان للَّه ولد لكان مركبا ، ولكل مركب نهاية بانحلال أجزائه ، وأصح من هذا وأوضح أن يقال : لوكان للَّه ولد لكان له شبيه ووارث لأن الولد يشبه والده ويرثه ، ولا شبيه للَّه ولا وارث . قال الإمام علي (عليه السلام) (لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا وهالكا) .

{ولَمْ يُولَدْ} . هذا رد على من زعم ان في الوجود آلهة مولودين . ولوكان الإله مولودا لكان حادثا يبتدئ وجوده بتاريخ ولادته . قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : (لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا) أي تكون بداية وجوده من يوم ولادته .

{ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} لا في وجوده وذاته ، ولا في صفاته وأفعاله . .

وقد راجعت عشرات المصادر ، وأنا أفسر هذه السورة ، من كتاب الأسفار للملا صدرا والمواقف للإيجي إلى أبسط التفاسير كالبيضاوي ، ودققت فيها طويلا لاختار أفضلها ، فما وجدت أخصر وأصدق وأوضح من قول الإمام الحسين (عليه السلام) فقد سأله أهل البصرة عن معنى الصمد ؟ فقال : ان اللَّه سبحانه قد فسر الصمد بقوله : {لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وعلى هذا التفسير المختصر المفيد يسوغ لنا أن نقول : معنى اللَّه أحد : انه الصمد ، ومعنى الصمد انه لم يلد ولم يولد ، ومعنى لم يلد ولم يولد : انه لم يكن له كفوا أحد .

___________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص623-624 .

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

السورة تصفه تعالى بأحدية الذات ورجوع ما سواه إليه في جميع حوائجه الوجودية من دون أن يشاركه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وهو التوحيد القرآني الذي يختص به القرآن الكريم ويبني عليه جميع المعارف الإسلامية .

وقد تكاثرت الأخبار في فضل السورة حتى ورد من طرق الفريقين أنها تعدل ثلث القرآن كما سيجيء إن شاء الله .

والسورة تحتمل المكية والمدنية ، والظاهر من بعض ما ورد في سبب نزولها أنها مكية .

قوله تعالى : {قل هو الله أحد} هو ضمير الشأن والقصة يفيد الاهتمام بمضمون الجملة التالية له ، والحق أن لفظ الجلالة علم بالغلبة له تعالى بالعربية كما أن له في غيرها من اللغات اسما خاصا به ، وقد تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة .

وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد غير أن الأحد إنما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجا ولا ذهنا ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإن كل واحد له ثانيا وثالثا إما خارجا وإما ذهنا بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيرا ، وأما الأحد فكل ما فرض له ثانيا كان هو هو لم يزد عليه شيء .

واعتبر ذلك في قولك : ما جاءني من القوم أحد فإنك تنفي به مجيء اثنين منهم وأكثر كما تنفي مجيء واحد منهم بخلاف ما لوقلت : ما جاءني واحد منهم فإنك إنما تنفي به مجيء واحد منهم بالعدد ولا ينافيه مجيء اثنين منهم أو أكثر ، ولإفادته هذا المعنى لا يستعمل في الإيجاب مطلقا إلا فيه تعالى ومن لطيف البيان في هذا الباب قول علي عليه أفضل السلام في بعض خطبه في توحيده تعالى : كل مسمى بالوحدة غيره قليل ، وقد أوردنا طرفا من كلامه (عليه السلام) في التوحيد في ذيل البحث عن توحيد القرآن في الجزء السادس من الكتاب .

قوله تعالى : {الله الصمد} الأصل في معنى الصمد القصد أو القصد مع الاعتماد يقال : صمده يصمده صمدا من باب نصر أي قصده أو قصده معتمدا عليه ، وقد فسروا الصمد – وهو صفة – بمعاني متعددة مرجع أكثرها إلى أنه السيد المصمود إليه أي المقصود في الحوائج ، وإذا أطلق في الآية ولم يقيد بقيد فهو المقصود في الحوائج على الإطلاق .

وإذا كان الله تعالى هو الموجد لكل ذي وجود مما سواه يحتاج إليه فيقصده كل ما صدق عليه أنه شيء غيره ، في ذاته وصفاته وآثاره قال تعالى : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف : 54] وقال وأطلق : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم : 42] فهو الصمد في كل حاجة في الوجود لا يقصد شيئا إلا وهو الذي ينتهي إليه قصده وينجح به طلبته ويقضي به حاجته .

ومن هنا يظهر وجه دخول اللام في الصمد وأنه لإفادة الحصر فهو تعالى وحده الصمد على الإطلاق ، وهذا بخلاف أحد في قوله {الله أحد} فإن أحدا بما يفيده من معنى الوحدة الخاصة لا يطلق في الإثبات على غيره تعالى فلا حاجة فيه إلى عهد أو حصر .

وأما إظهار اسم الجلالة ثانيا حيث قيل : {الله الصمد} ولم يقل : هو الصمد ، ولم يقل : الله أحد صمد فالظاهر أن ذلك للإشارة إلى كون كل من الجملتين وحدها كافية في تعريفه تعالى حيث إن المقام مقام تعريفه تعالى بصفة تختص به فقيل : الله أحد الله الصمد إشارة إلى أن المعرفة به حاصلة سواء قيل كذا أو قيل كذا .

والآيتان مع ذلك تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعا فقوله : {الله أحد} يصفه بالأحدية التي هي عين الذات ، وقوله : {الله الصمد} يصفه بانتهاء كل شيء إليه وهومن صفات الفعل .

وقيل : الصمد بمعنى المصمت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد وعلى هذا يكون قوله : {لم يلد ولم يولد} تفسيرا للصمد .

قوله تعالى : {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} الآيتان الكريمتان تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه فينفصل عنه شيء سنخه بأي معنى أريد من الانفصال والاشتقاق كما يقول به النصارى في المسيح (عليه السلام) إنه ابن الله وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم أنهم أبناء الله سبحانه .

وتنفيان عنه أن يكون متولدا من شيء آخر ومشتقا منه بأي معنى أريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية ففي آلهتهم من هو إله أبو إله ومن هو آلهة أم إله ومن هو إله ابن إله .

وتنفيان أن يكون له كفؤ يعدله في ذاته أوفي فعله وهو الإيجاد والتدبير ولم يقل أحد من المليين وغيرهم بالكفؤ الذاتي بأن يقول بتعدد واجب الوجود عز اسمه ، وأما الكفؤ في فعله وهو التدبير فقد قيل به كآلهة الوثنية من البشر كفرعون ونمرود من المدعين للألوهية وملاك الكفاءة عندهم استقلال من يرون ألوهيته في تدبير ما فوض إليه تدبيره كما أنه تعالى مستقل في تدبير من يدبره وهم الأرباب والآلهة وهورب الأرباب وإله الآلهة .

وفي معنى كفاءة هذا النوع من الإله ما يفرض من استقلال الفعل في شيء من الممكنات فإنه كفاءة مرجعها استغناؤه عنه تعالى وهو محتاج من كل جهة والآية تنفيها .

وهذه الصفات الثلاث المنفية وإن أمكن تفريع نفيها على صفة أحديته تعالى بوجه لكن الأسبق إلى الذهن تفرعها على صفة صمديته .

أما كونه لم يلد فإن الولادة التي هي نوع من التجزي والتبعض بأي معنى فسرت لا تخلو من تركيب فيمن يلد ، وحاجة المركب إلى أجزائه ضرورية والله سبحانه صمد ينتهي إليه كل محتاج في حاجته ولا حاجة له ، وأما كونه لم يولد فإن تولد شيء من شيء لا يتم إلا مع حاجة من المتولد إلى ما ولد منه في وجوده وهو سبحانه صمد لا حاجة له ، وأما أنه لا كفؤ له فلأن الكفؤ سواء فرض كفوا له في ذاته أوفي فعله لا تتحقق كفاءته إلا مع استقلاله واستغنائه عنه تعالى فيما فيه الكفاءة والله سبحانه صمد على الإطلاق يحتاج إليه كل من سواه من كل جهة مفروضة .

فقد تبين أن ما في الآيتين من النفي متفرع على صمديته تعالى ومآل ما ذكر من صمديته تعالى وما يتفرع عليه إلى إثبات توحده تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله بمعنى أنه واحد لا يناظره شيء ولا يشبهه فذاته تعالى بذاته ولذاته من غير استناد إلى غيره واحتياج إلى من سواه وكذا صفاته وأفعاله ، وذوات من سواه وصفاتهم وأفعالهم بإفاضة منه على ما يليق بساحة كبريائه وعظمته فمحصل السورة وصفه تعالى بأنه أحد واحد .

ومما قيل في الآية إن المراد بالكفؤ الزوجة فإن زوجة الرجل كفؤه فيكون في معنى قوله : {تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة} وهوكما ترى .

______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص361-363 .

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

أحدٌ ـ صَمدٌ :

جواباً عن الأسئلة المكررة التي طرحت من قبل الأفراد والجماعات بشأن أوصاف الله سبحانه تقول الآية :

{قل هو الله أحد} .(2)

الضمير (هو) في الآية للمفرد الغائب ويحكي عن مفهوم مبهم ، وهو في الواقع يرمز إلى أن ذاته المقدّسة في نهاية الخفاء ، ولا تنالها أفكار الإنسان المحدودة وإن كانت آثاره أظهر من أي شيء آخر ، كما ورد في قوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت : 53]

ثمّ بعد الضمير تكشف الآية عن هذه الحقيقة الغامضة وتقول : {الله أحد} .

و(قل) في الآية تعني أَنْ أَظهر هذه الحقيقة وبيّنها .

عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال بعد بيان معنى «قل» في الآية (وهو الذي ذكرناه) : {إن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك . فقالوا : هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار . فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه . فانزل الله تبارك وتعالى : {قل هو الله أحد} ، فالهاء تثبيت للثابت ، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس» . (3)

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال : «رأيت الخضر(عليه السلام) في المنام قبل بدر بليلة ، فقلت له : علمني شيئاً أُنصر به على الأعداء . فقال : قل : يا هو ، يا من لا هو إلاّ هو . فلمّا أصبحت قصصتها على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي : يا علي عُلمت الاسم الأعظم» . (4)

وكان علي(عليه السلام) يذكر الله تعالى بهذا الذكر يوم صفين . فقال له عمار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال : «اسم الله الأعظم وعماد التوحيد . . .» . (5)

«الله» اسم علم للباري سبحانه وتعالى . ومفهوم كلام الإمام علي (عليه السلام) أن جميع صفات الجلال والجمال الإِلهية أُشير إليها بهذه الكلمة . ومن هنا سميت باسم الله الأعظم .

هذا الاسم لا يطلق على غير الله ، بينما أسماء الله الأُخرى تشير عادة إلى واحدة من صفات جماله وجلاله مثل : العالم والخالق والرازق ، وتطلق غالباً على غيره أيضاً مثل : (رحيم ، وكريم ، وعالم ، وقادر . . .) .

ولفظ الجلالة مشتق من معنى وصفي . قيل من «وله» أي تحيّر ، لأنّ العقول تحير في ذاته المقدّسة . وفي ذلك ورد عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال : «الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ، ويؤله إليه ، والله هو المستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات» . (6)

وقيل : إن لفظ الجلالة مشتق من «آله» بمعنى عبد ، والإِله : هو المعبود . حذفت همزته وادخل عليه الألف واللام فُخص بالباري تعالى .

ومهما يكن الأصل المشتق منه لفظ الجلالة ، فهو اسم يختص به سبحانه ويعني الذات الجامعة لكل الأوصاف الكمالية ، والخالية من كل عيب ونقص .

هذا الاسم المقدّس تكرر ما يقارب من «ألف مرّة» في القرآن الكريم ، ولم يبلغه أي اسم من الأسماء المقدّسة في مقدار تكراره . وهو اسم ينير القلب ، ويبعث في الإِنسان الطاقة والطمأنينة ، ويغمر وجوده صفاء ونور .

«أحد» : من الواحدة ، ولذلك قال بعضهم : أحد وواحد بمعنى واحد ، وهو المتفرد الذي لا نظير له في العلم والقدرة والرحمانية والرحيمية ، وفي كل الجهات .

وقيل : إنّ بين «أحد» و«واحد» فرق هو إن «أحد» تطلق على الذات التي لا تقبل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن . ولذلك لا تقبل العدّ ولا تدخل في زمرة الأعداد ، خلافاً للواحد الذي له ثان وثالث ، في الخارج أوفي الذهن . ولذلك نقول : لم يأت أحد . للدلالة على عدم مجيء أي إنسان . وإذا قلنا : لم يأت واحد فمن الممكن أن يكون قد جاء اثنان أو أكثر . (7)

ولكن هذا الإِختلاف لا ينسجم كثيراً مع ما جاء في القرآن الكريم والرّوايات .

وقيل : في «أحد» إشارة إلى بساطة ذات الله مقابل الأجزاء التركيبية الخارجية أو العقلية (الجنس ، الفصل ، والماهية ، والوجود) . بينما الواحد إشارة إلى وحدة ذاته مقابل أنواع الكثرة الخارجية .

وفي رواية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) قال : «الأحد المتفرد ، والأحد والواحد بمعنى واحد ، وهو المتفرد الذي لا نظير له ، والتوحيد الإِقرار بالوحدة وهو الإِنفراد» .

وفي ذيل الرّواية هذه جاء «إن بناء العدد من الواحد ، وليس الواحد من العدد . لأن العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين . فمعنى قوله : الله أحد . أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإِحاطة بكيفيته ، فرد بإلهيته ، متعال عن صفات خلقه» . (8)

وفي القرآن الكريم «واحد» و«أحد» تطلقان معاً على ذات الله سبحانه .

ومن الرائع في هذا المجال ما جاء في كتاب التوحيد للصدوق : أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين ، أتقول : إن الله واحد؟ فحمل النّاس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب (أي تشتت الخاطر) ؟ فقال : أمير المؤمنين (عليه السلام) : «دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم . ثمّ قال : يا أعرابي ، إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام . فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّوجلّ ، ووجهان يثبتان فيه . فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد . أمّا ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة؟ وقول القائل : هو واحد من النّاس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز (قوله على اللّه) لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك .

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا . وقول القائل : إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّوجلّ» (9) .

وباختصار : اللّه أحد وواحد لا بمعنى الواحد العددي أو النوعي أو الجنسي بل بمعنى الوحدة الذاتية . بعبارة أوضح : وحدانيته تعني عدم وجود المثل والشبيه والنظير .

الدليل على ذلك واضح : فهو ذات غير متناهية من كلّ جهة ، ومن المسلم أنّه لا يمكن تصور ذاتين غير متناهيتين من كلّ جهة . إذ لوكان ثمّة ذاتان ، لكانت كلتاهما محدودتين ، ولما كان لكل واحدة منهما كمالات الأخرى . (تأمل بدقّة) .

{اللّهُ الصّمد}

وهو وصف اخر لذاته المقدّسة . وذكر المفسّرون واللغويون معاني كثيرة لكلمة «صمد» .

الراغب في المفردات يقول : الصمد ، هو السيد الذي يُصمد إليه في الأمر ، أي يقصد إليه . وقيل : الصمد الذي ليس بأجوف .

وفي معجم مقاييس اللغة ، الصمد له أصلان : أحدهما القصد ، والآخر : الصلابة في الشيء . . . واللّه جلّ ثناؤه الصمد; لأنّه يَصمِدُ إليه عباده بالدعاء والطلب (10) .

وقد يكون هذان الأصلان اللغويان هما أساس ما ذكر من معاني لصمد مثل : الكبير الذي هو في منتهى العظمة ، ومن يقصد إليه النّاس بحوائجهم ، ومن لا يوجد أسمى منه ، ومن هو باق بعد فناء الخلق .

وعن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) أنّه ذكر لكلمة «صمد» خمسة معان هي :

الصمد : الذي لا جوف له .

الصمد : الذي قد انتهى سؤدده (أي في غاية السؤدد)

الصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب .

الصمد : الذي لا ينام .

الصمد : الذي لم يزل ولا يزال .

وعن محمّد بن الحنفية (رض) قال : الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره . وقال غيره : الصمد ، المتعالي عن الكون والفساد (11) .

وعن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) قال : «الصمد الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء . (أي لا يثقل عليه حفظ شيء ولا يخفى عنه شيء)» (12) .

وذهب بعضهم إلى أنّ «الصمد» هو الذي يقول للشيء كن فيكون .

وفي الرّواية أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (عليه السلام) يسألونه عن الصمد . فكتب إليهم : «بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم . فقد سمعت جدي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار; وأنّه سبحانه قد فسّر الصمد فقال : اللّه أحد ، اللّه الصمد ، ثمّ فسّره فقال : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . . .» (13) .

وعن ابن الحنفية قال : قال علي(عليه السلام) تأويل الصمد : «لا اسم ولا جسم ، ولا مثل ولا شبه ، ولا صورة ولا تمثال ، ولا حدّ ولا حدود ، ولا موضع ولا مكان ، ولا كيف ولا أين ، ولا هنا ولا ثمّة ، ولا ملأ ولا خلأ ، ولا قيام ولا قعود ، ولا سكون ولا حركة ، ولا ظلماني ولا نوراني ، ولا روحاني ولا نفساني ، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ، ولا على لون ، ولا على خطر قلب ، ولا على شمّ رائحة ، منفي عنه هذه الأشياء» . (14)

هذه الرّواية توضح أنّ «الصمد» له مفهوم واسع ينفي كلّ صفات المخلوقين عن ساحته المقدّسة ، لأنّ الأسماء المشخصة والمحدودة وكذلك الجسمية واللون والرائحة والمكان والسكون والحركة والكيفية والحد والحدود وأمثالها كلها من صفات الممكنات والمخلوقات ، بل من أوصاف عالم المادة ، واللّه سبحانه منزّه منها جميعاً .

في العلوم الحديثة اتضح أنّ كلّ مادة في العالم تتكون من ذرات . وكلّ ذرة تتكون من نواة تدور حولها الإلكترونات . وبين النواة والإلكترونات مسافة كبيرة نسبياً . ولو اُزيلت هذه الفواصل لصغر حجم الأجسام إلى حدّ كبير مدهش .

ولو اُزيلت الفواصل الذرية في مواد جسم الإنسان مثلاً ، وكثفت هذه المواد ، لصَغَر جسم الإنسان إلى درجة عدم إمكان رؤيته بالعين المجرّدة ، مع احتفاظه بالوزن الأصلي !! .

وبعضهم استفاد من هذه الحقائق العلمية ليستنتج أنّ الآية تنفي عن اللّه كلّ ألوان الجسمانية ، لأنّ واحداً من معاني «الصمد» هو الذي لا جوف له ، ولما كانت كل الأجسام تتكون من ذرات ، والذرات جوفاء ، فالصمد نفي الجسمية عن ربّ العالمين . وبذلك تكون الآية من المعاجز العلمية في القرآن .

ولكن ، يجب أن لا ننسى المعنى الأصلي لكلمة «صمد» وهو السيد الذي يقصده النّاس بحوائجهم ، وهو كامل ومملوء من كلّ الجهات ، وبقية المعاني والتفاسير الاُخرى المذكورة للكلمة قد تعدو إلى نفس هذا المعنى .

الآية التالية تردّ على معتقدات اليهود والنصارى ومشركي العرب وتقول : {لم يلد ولم يولد} .

إنّها ترد على المؤمنين بالتثليث (الربّ الأب ، والربّ الابن ، وروح القدس) .

النصارى تعتقد أنّ المسيح ابن اللّه ، واليهود ذهبت إلى أنّ العزير ابن اللّه : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة : 30] .

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللّه : {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام : 100] .

ويستفاد من بعض الرّوايات أن الولادة في قوله : (لم يلد ولم يولد) لها معنى واسع يشمل كلّ أنواع خروج الأشياء المادية واللطيفة منه ، أو خروج ذاته المقدّسة من أشياء مادية أو لطيفة .

وفي نفس الرسالة التي كتبها الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) إلى أهل البصرة يجيبهم عن تساؤلهم بشأن معنى الصمد قال في تفسير : (لم يلد ولم يولد) : « (لم يلد) لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعب منه البداوات (الحالات المختلفة) كالسنة والنوم ، والخطرة والهم ، والحزن والبهجة ، والضحك والبكاء ، والخوف والرجاء ، والرغبة والسأمة ، والجوع والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف ، (ولم يولد) لم يتولد من شيء ، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة ، والنبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والثمار من الأشجار ، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها ، كالبصر من العين ، والسمع من الاُذن ، والشم من الأنف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان ، والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنّار من الحجر . . .» (15) .

بناء على هذه الرّواية ، للتولد معنى واسع يشمل خروج وتفرع كلّ شيء من شيء ، وهذا في الحقيقة المعنى الثّاني للآية . ومعناها الأوّل هو المعنى الظاهر الذي ينفي أن يكون الباري سبحانه من أب أوأن يكون له ابن أضف إلى ذلك ، المعنى الثّاني قابل للفهم عند تحليل المعنى الأوّل . لأنّ اللّه سبحانه إنّما لم يكن له ولد لأنّه منزّه عن عوارض المادة ، وهذا المعنى يصدق بشأن سائر عوارض المادة الاُخرى .

ثمّ تبلغ الآية الأخيرة غاية الكمال في أوصاف اللّه تعالى .

{ولم يكن له كفواً أحد} (16) أي ليس له شبيه ومثل اطلاقاً .

«الكفو» : هو الكفء في المقام والمنزلة والقدر . ثمّ اطلقت الكلمة على كلّ شبيه ومثيل .

استناداً إلى هذه الآية ، اللّه سبحانه منزّه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكلّ نقص ومحدودية . وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي ، مقابل التوحيد العددي والنوعي الذي جاء في بداية تفسير هذه السّورة .

من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته ، ولا نظير له في صفاته ، ولا مثيل له في أفعاله ، وهو متفرد لا نظير له من كلّ الجهات .

أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يقول في إحدى خطب نهج البلاغة : «لم يلد فيكون مولوداً ، ولم يولد فيصير محدوداً . . . ولا كفء له فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه» (17) .

هذا التّفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقّها .

سلام اللّه عليك يا أمير المؤمنين .

______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص601-607 .

2 ـ قيل «هو» في الآية ضمير الشأن ، والله مبتدأ . والأفضل أن نعتبر «هو» إشارة إلى ذاته المقدّسة ، وقد كانت مجهولة لدى السائل ، وتكون بذلك «هو» مبتدأ و«الله» خبراً و«أحد» خبر بعد الخبر .

3 ـ بحار الأنوار ، ج3 ، ص221 ، الحديث 12 . بتلخيص .

4 ـ المصدر السابق .

5 ـ المصدر السابق .

6 ـ المصدر السابق .

7 ـ الميزان ، ج20 ، ص543 .

8 ـ بحار الأنوار ، ج3 ، ص222 .

9 ـ بحار الأنوار ، ج3 ، ص206 ، الحديث 1 .

10 ـ معجم مقاييس اللغة ، ابن فارس ، ج3 ، ص 39 .

11 ـ بحار الأنوار ، ج3 ، ص223 .

12 ـ المصدر السابق .

13 ـ مجمع البيان ، ج10 ، ص565 .

14 ـ بحار الأنوار ، ج3 ، ص230 . ، الحديث21 .

15 ـ بحار الأنوار ، ج3 ، ص224 .

16 ـ «أحد» اسم كان و «كفواً» خبرها .

17 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 186 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى