إقرار القرآن والإسلام لظاهرة الرِّقِّ تمهيدًا لإلغائها
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[1]،قسَّمت الآية الناس إلى عبيدٍ وأحرارٍ وإناث، وذكرت بأنَّ مَن يُقتل له أنثى فالجزاء يكون بقتل أنثى، ومَن يُقتل له حرٌّ فالجزاءُ يكون بقتل حرّ وإذا قُتل العبد فلا يُقتل مكانه إلا عبد، أليس في ذلك شيءٌ من العنصريَّة بأنْ تكون حياة الإنسان العبد أو الأنثى أقلَّ أهمية من الأحرار؟.
فالمراد من الآية أنَّ الحرَّ إذا قتل حرًّا يُقتل به قصاصًا، والعبدُ إذا قتل عبدًا يُقتل به قصاصًا، والأنثى إذا قَتلت أنثى تُقتل بها قصاصًا، فلا يُقتل بالمقتول غير قاتله. فالآيةُ بصدد الإلغاء لما كان سائدًا بين بعض قبائل العرب في الجاهليَّة، فكان السائدُ بينهم أنَّ القتيل إذا كان شريفًا ووجيهًا وكان قاتلُه وضيعًا لم يرضَ أولياءُ القتيل بقتله وحده حتى وإن كان القاتل حرًّا كالقتيل بل إنَّهم يُطالبون بقتل عددٍ من الرجال مكان قتيلهم، لأنَّهم يرون أنَّ القاتل لا يُكافئ وحده قتيلهم، فالمكافؤ لقتيلهم عددٌ من أقرباء القاتل، فإنْ قبِلوا بتسليمهم لعددٍ من أقرباء القاتل لقتلهم مكان قتيلهم وإلا فهي الحرب والثارات، وهكذا لو كان المقتولُ من قبيلةٍ ذات قوة ونفوذٍ ومنعة وكان القاتل من قبيلةٍ أُخرى وضيعة فإنَّ قبيلة المقتول لا ترضى بقتل القاتل وحده لأنَّ الواحد من أفراد قبيلتهم لا يكافؤه -بنظرهم- إلا جمعٌ من أفراد القبيلة الأخرى، فعلى قبيلة القاتل أن تُسلِّم لقبيلة المقتول عددًا يتمُّ تحديده من أفراد القبيلة التي ينتمي إليها القاتل ليقتلوهم بقتيلهم وإلا فهي الحرب والثارات.
وكذلك لو قتلت امرأةٌ من قبيلةٍ وضيعة امرأةً من قبيلة ذاتِ حسبٍ ونسب فإنَّ قبيلة القتيلة لا ترضى بقتل القاتلة لأنَّ المرأة منهم تُكافؤ رجلًا أو رجالًا من القبيلة الأخرى، فعلى قبيلة القاتلة أنْ تمكِّن قبيلة المقتولة من قتل رجلٍ أو عددٍ من الرجال أو النساء مكان قتيلتهم وإلا فهي الحرب. وهكذا لو كان المقتول من القبيلة الشريفة عبدًا من عبيدها فإنَّهم لا يرضون بقتل العبد الذي قتله بل يُطالبون بقتل سيِّده مكانه أو بقتل واحدٍ أو أكثر من أفراد قبيلة القاتل الوضيعة.
فالآية جاءت لإلغاء هذه الظاهرة المقيتة والمستبشَعة فأفادت أنَّه لا يُقتل بالمقتول إلا قاتله، فالآية تطبيقٌ لقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾[2] أي إنَّ النفس القاتلة تُقتل بالنفس المقتولة، فلا يُقتل بالنفس المقتولة غير النفس القاتلة، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾[3] أي ليس لوليِّ المقتول أنْ يتجاوز الحدَّ فيقتل غير القاتل لقتيله أو يقتل عددًا من أقرباء القاتل مقابل قتيله، فإنَّ ذلك من الإسراف في القتل.
فمعنى قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ هو أنَّ الحرَّ القاتل يُقتل بالحرِّ المقتول، ولا يُقتل بالحرِّ المقتول غير القاتل حتى لو كان المقتول أشرفَ من القاتل فإنَّ حقَّه أنْ يُقتل قاتله لا غيره فلا يُقتل اكثر من القاتل بزعم أنَّ المقتول عظيم الشأن فيستحقُّ أنْ يُقتل جمعٌ من الرجال قصاصًا لقتله أو يُنتخب رجلٌ من أقرباء القاتل يساوي المقتول في الشرف فيُقتل به.
ومعنى قوله تعالى: ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ هو أنَّ العبد إذا قتل عبدًا فإنَّه يُقتل به فلا يُقتل بالعبد المقتول غير قاتله حتى وإنْ كان العبد المقتول منتميًا لقبيلة ذاتِ شرفٍ وكان العبدُ القاتل من قبيلةٍ وضيعة أو كان العبدُ المقتول عالمًا أو مُجيدًا للعديد من الحِرَف وكان القاتل أُميًّا لا يُحسنُ شيئًا فإنَّ التفاوت بين القاتل والقتيل في الصفات والملكات لا يُصحِّح المطالبة بأكثر من قتل القاتل.
ومعنى قوله تعالى: ﴿وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ﴾ هو أنَّ الأنثى إذا قتلت أنثى فإنَّها تُقتل بها دون ملاحظةٍ للتفاوت في الشرف والوجاهة فلا يصحُّ لأولياء القتيلة المطالبة بأكثر من قتل القاتلة حتى وإن كانت القاتلة أدنى من القتيلة شرفًا أو علمًا أو غير ذلك من الامتيازات الاعتبارية أو الواقعيَّة.
ما قيل في سبب النزول:ولتأكيد ما ذكرناه رغم وضوحه ننقل لكم بعض ما رُوي في سبب نزول الآية المباركة، فمن ذلك ما رُوي – كما في زبدة التفاسير ” أنّه كان في الجاهليّة بين حيّين من أحياء العرب دماء، وكان لأحدهما طَول وفضل على الآخر، فأقسموا: لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منكم، وبالمرأة منّا الرجل منكم، وبالرجل منّا الرجلين منكم، بجراحة منّا جراحتين منكم، ونتزوّج بنسائكم بغير مهور، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله )، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، وأمر فيها أن يتقابلوا على طريق المساواة”[4].
ومنه: ما أورده الطبري في تفسيره قال: “نزلت هذه الآية في قومٍ كانوا إذا قتل الرجلَ منهم عبدُ قوم آخرين لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل أنَّه عبد حتى يقتلوا به سيِّده، وإذا قتلت المرأةُ من غيرهم رجلًا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلًا من رهط المرأة وعشيرتها، فأنزل اللهُ هذه الآية، فأعلمهم أنَّ الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار، فنهاهم أنْ يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص”[5].
ومنه: ما أورده الطبري كذلك بسنده عن قتادة قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ قال:” كان أهلُ الجاهليَّة فيهم بغيٌّ وطاعةٌ للشيطان، فكان الحيُّ إذا كان فيهم عدَّة ومَنَعة، فقتل عبدُ قومٍ آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا تعزُّزًا لفضلِهم على غيرِهم في أنفسِهم، وإذا قُتلت لهم امرأةٌ قتلتْها امرأةُ قومٍ آخرين، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلًا. فأنزل اللهُ هذه الآية يخبرهم أنَّ العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي” [6].
وثم إنَّ هنا أمرًا يحسُن التنبيه عليه وهو أنَّ الآية تصدَّت لبيان حكم القصاص لفروضٍ ثلاثة، وهي ما إذا قتل الحرُّ حرًّا، وما إذا قتل العبدُ عبدًا، وما إذا قتلتِ الأنثى أُنثى، وهذا لا يعني أنَّ القصاص بقتل القاتل لا يكون إلا في هذه الفروض، فالآية إنَّما تصدَّت لبيان حكم هذه الفروض لمناسبتها لسبب النزول أولًا ولأنَّها الفروض التي يتمُّ التجاوز فيها، وأمَّا الفروض الأخرى فالآية ساكتة عن بيان حكمها ويُمكن الوقوف على حكم الفروض الأخرى من إطلاق قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ فمقتضاه أنَّ القاتل يُقتل إذا لم يعفُ أولياء القتيل أويقبلوا بالدية، وذلك مثل ما إذا قتل العبد حرًّا فإنَّه يُقتل به دون إشكال، وكذلك لو قتلت الأنثى رجلًا فإنَّها تُقتل به، وهكذا لو قتل الرجلُ أنثى فإنَّها تُقتل به دون ريب، نعم هناك تفصيل يرتبط بالدية إلا أنَّه لا خلاف عندنا في أنَّ أولياء المرأة المقتولة لو اختاروا القصاص فإنَّ لهم ذلك، فلهم أنْ يطالبوا بقتل الرجل القاتل مقابل دم قتيلتهم، وعلى السلطان الاستجابة لذلك وتمكينهم من حقِّهم في القصاص، فالآية لا تنفي استحقاق القاتل للقتل مع الاختلاف في الذكورة والأنوثة والحريَّة والعبودية فهي إنَّما كانت بصدد بيان حكم الفروض الثلاثة المذكورة، وأما حكم الفروض الأخرى فمستفادٌ من الأدلة الأخرى مثل قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ نعم استثنت الروايات الواردة عن الرسول الكريم (صلى الله عليه واله) وأهل بيته (عليه السلام) من إطلاق الآية ما إذا قتل الحرُّ عبدًا فأفادت أنَّ الحرَّ لا يُقتل بالعبد بل يُضربُ ضربًا شديدًا ويُحبس ويُضمَّن ثمنه لسيده، فمن ذلك صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام)، قال: “قال: لا يُقتل الحرُّ بالعبد، وإذا قتل الحرُّ العبدَ غُرِّم ثمنه وضُرب ضربًا شديدًا”[7]، ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام)، قال: قال: “يُقتل العبدُ بالحرِّ، ولا يُقتل الحرُّ بالعبد، ولكن يُغرَّم ثمنه، ويُضرب ضربًا شديدًا حتّى لا يعود”[8]، ومنها: رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام): في رجلٍ قتل مملوكه أو مملوكته؟ قال: ” إنْ كان المملوك له أُدّب وحُبس، إلّا أن يكون معروفًا بقتل المماليك فيُقتل به”[9].
الإشكال وجوابه: وما قد يقال إنَّه كيف لا يُقتل الحرُّ إذا قتل عبدًا أليس في ذلك انتقاص من إنسانيَّة العبد؟.
فالجواب إنَّ ظاهرة الرقِّ والاستعباد كانت سائدة في مختلف المجتمعات دون استثناء العربيَّة وغيرها، وقد اختار الإسلام الإقرار بهذه الظاهرة ومعالجتها بالتدريج نظرًا لاستحكامها وتجذُّرها في المكوِّن المجتمعي بنحوٍ يترتَّب على الحكم بإلغائها دفعةً واحدة مفاسد كثيرة، لذلك اختار الإسلام معالجة هذه الظاهرة الإجتماعيَّة بشيءٍ من التأنِّي، فكان ما أسَّس له من أحكامٍ عامَّة والأحكام الخاصَّة المتَّصلة بظاهرة الرق تُفضي في المآل إلى غياب هذه الظاهرة الإجتماية تلقائيًا ودون مفاسد، وحيث إنَّه قد اختار الإقرار بهذه الظاهرة ومعالجتها بالتدريج فذلك معناه الإقرار بمقتضاياتها، ومن المعلوم أنَّ من مقتضيات الإقرار بظاهرة الرقِّ هو القبول بأنَّ المرقوق المستعبَد مالٌ يُباع ويُورَث ويُوهَب، ومن مقتضيات ذلك أنْ لا تكون حقوقُه مساوية لحقوق الحرِّ، فذلك هو منشأ التفاوت في الحكم بين ما يستحقُّه الحرُّ المقتول وما يستحقُّه العبدُ المقتول، فالحرُّ المقتول حقُّه القصاص من قاتله إنْ لم يعفُ أولياء القتيل، وأمَّا حقُّ العبد المقتول فهو أنْ يُضرَب قاتله الحرُّ ضربًا شديدًا ويُحبس ويُغرَّم حتى لا يعود، فالتفاوت بين حقِّ الحرِّ وحقِّ العبد هو من مقتضيات القبول بهذا التصنيف.
فالإسلام قد اتَّخذ في سبيل معالجة ظاهرة الرقِّ مسارين في عرضٍ واحد، ففي الوقت الذي أقرَّ بظاهرة الرقِّ وتعاطى مع هذه الظاهرة على أساس أنَّها واقعٌ يحتاج إلى تهذيب في الوقت ذاته اتَّخذ مسارًا آخر يُنهي به ظاهرة الرقِّ تدريجًا وبذلك تنتفي الأحكام المجعولة للإنسان بصفته عبدًا مرقوقًا لأنَّه سيُبصبح حرًّا فتجري عليه أحكام الأحرار.
فالإسلام في المسار الأول وإنْ كان قد تعاطى مع ظاهرة الرقِّ وشرَّع أحكامًا مبتنية على الإقرار بهذه الظاهرة إلا أنَّ هذه الأحكام التي شرَّعها كانت إحدى أهم غاياته منها التهذيب للأحكام والأعراف التي كانت سائدة والتقليص من الفوارق بين حقوق الأحرار وحقوق العبيد بحيثُ أصبحت الفوارق محدودة بما يُمهِّد لإلغاء هذه الظاهرة، ومثال ذلك ما ذكرناه من العقوبة التي فرضها الشارع على الحرِّ إذا قتل عبدًا فإنَّه يُضربُ ضربًا شديدًا ويُحبس ويُغرَّم بل أفادت الروايات أنَّه إذا عاود الحرُّ وتعارف عنه مقارفة هذه الجريمة فإنَّه يُقتل، فهذه العقوبة وإنْ لم تكن ترقى للعقوبة الموضوعة على الحرِّ لو قتل حرًّا ولكنَّها تقتربُ منها، فهي تحفظ حياة العبد فلا يجرأ الأحرارُ على التفريط بحقِّه في الحياة، وهي في ذات الوقت تُعطي للعبد قيمةً كانت مضيَّعة في الأعراف السائدة بل إنَّ الإسلام فرض في العديد من الموارد أحكامًا مخفَّفة على العبيد رعايةً لوضعهم الإجتماعيِّ المنقوص، فلأنَّ الأعراف الإجتماعية فرضت عليهم وضعًا هو دون وضع الأحرار، ولأنَّه لم يكن من الممكن الإلغاء الدفعي لهذه الأعراف لذلك اعتمد الإسلام أحكامًا هي دون الأحكام المفروضة على الأحرار وذلك رعايةً للوضع الإجتماعي المنقوص للعبيد، فلم يفرض مثلًا عليهم الجهاد، ولم يفرض عليهم الزكاة، وإذا زنى أحدُهم فإنَّه لا يُرجم وإنْ كان مُحصنًا بل ولا يُجلد الحدَّ الكامل كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾[10].
وأمَّا المسار الثاني فقد وضع الإسلام عددًا من الأحكام والتشريعات تُفضي في المآل إلى التقليص من ظاهرة الرقِّ أولًا ثم إلى إلغاء وجودها انتهاءً، فهو من جهةٍ جفَّف منابعَ الشيوع لهذه الظاهرة وذلك بإلغاء التشريع لمعظم أسبابها وحصر تشريع الاستعباد بأُسارى الحرب، ومن جهةٍ أخرى وضع أحكامًا وتشريعاتٍ فرضَ فيها على المؤمنين الإعتاق للعبيد، فمَن قتل مؤمنًا فعليه أن يُعتق رقبة، ومَن ظاهرَ من زوجته فعليه أن يُعتق رقبة، ومن أفطر متعمِّدًا فعليه أنْ يُعتق رقبة، ومن حنث في يمينٍ أو نذرٍ او عهدٍ فعليه أنْ يُعتق رقبة، ومن تزوَّج أمةً فأولدها انعتقت بموته، ولو ورث الرجل الحرُّ أحد أبويه أو بعض محارمه العبيد من ذوي نسبه فإنَّهم ينعتقون بذلك قهرًا وكذلك لو كانوا من محارمه بالرضاع كأخواته وأمه من الرضاعة، ثم إنَّ الإسلام فتح باب المكاتبة للعبيد بمعنى أنَّ للعبد أن يتَّفق مع سيِّده على أنْ يدفع له مالًا مقدَّرًا على مراحل، فإذا أتمَ سداده ينعتقُ ويُصبح حرًّا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ﴾[11] وقد جعل الإسلام عتق العبيد أحد مصارف الزكاة بمعنى أنَّه أنَّ للمكلَّف الذي وجبت عليه الزكاة أن يشتري بأموال الزكاة عبيدًا ويُعتقهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾[12] إلى قوله تعالى ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾.
كلُّ ذلك مضافًا إلى الكثير من الخطابات الشرعية التي تحثُّ على الإعتاق وتعتبره من أفضل القرُبات عند الله تعالى: كقوله جلَّ وعلا: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ﴾[13]، وصحيحة زرارة عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): “مَن أعتق مسلمًا أعتق اللهُ العزيزُ الجبار بكلِّ عضوٍ منه عضوًا من النار”[14] وغير ذلك من الروايات التي تفوق حدَّ التواتر.
ولقد حرص أهلُ البيت (عليهم السلام) ما وسِعهم على شراء العبيد وإعتاقهم، ففي صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) – في حديثٍ طويل – قال: “ولقد أعتقَ عليٌّ (عليه السلام) ألفَ مملوكٍ لوجهِ الله عزَّ وجلَّ دبرتْ فيهم يداه”، “دبرت فيهم يداه”[15] يعني من كدِّ يده، وفي صحيحة زيد الشحَّام عن أبي عبد الله (عليه السلام): “أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أعتق ألفَ مملوكٍ من كدِّ يده”[16].
وخلاصةُ القول: إنَّ القرآن والإسلام وإنْ اختار الإقرار بظاهرة الرقِّ درءًا لمفاسد كبرى نظرًا لتغلغل هذه الظاهرة في المكوِّن الاجتماعي إلا أنَّه ورغم ذلك حرص على تقليص هذه الظاهرة تمهيدًا لإلغائها، وكان المقدَّر لهذه الظاهرة أنْ تزول في وقتٍ قريبٍ من ظهور الإسلام لا يتجاوز العقود من الزمن لولا جشع الحكام الذين تعاقبوا على إدارة شؤون العالم الإسلامي.
الهوامش
[1] البقرة/178. [2] المائدة/45. [3] الإسراء/33. [4] زبدة التفاسير – الملا فتح الله الكاشاني – ج١ / ص٣١٣. [5] جامع البيان عن تأويل آي القرآن – محمد بن جرير الطبري – ج ٢/ ص 140. [6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن – محمد بن جرير الطبري – ج ٢/ ص141. [7] الاستبصار – الشيخ الطوسي – ج٤ / ص٢٧٢. [8] الكافي – الشيخ الكليني – ج7 / ص303. [9] الكافي – الشيخ الكليني – ج7 / ص303. [10] النساء/25. [11] النور/33 [12] التوبة/60. [13] البلد/11-13. [14] تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج8 / ص216. [15] وسائل الشيعة- الحر العاملي – ج 23/ 10. [16] وسائل الشيعة- الحر العاملي – ج 23 / 11.