استبصار الشيخ سليم البشري
ولد عام ۱۲۴۸ هـ الموافق لسنة ۱۸۳۲ م في محلة “بشر” بمحافظة “البحيرة” في مصر ليكون علماً من أعلام جيلها المستقبل، نشأ على المذهب المالكي، ثم ترعرع في مهد العلم، جامعة الأزهر حتى توصّل إلى مرتبة من العلم والفقاهة والدراية، إذ تمكن تولية مشيختها مرتين: الأولى عام (۱۳۱۷هـ / ۱۹۰۰ م) إلى سنة (۱۳۲۰هـ / ۱۹۰۴م)، والمرة الثانية من سنة (۱۳۲۷هـ / ۱۹۰۹) حتى سنة وفاته عام (۱۳۳۵ هـ / ۱۹۱۶م).
تميزت فتره توليته لمشيخة الازهر بالحزم وحسن الادارة حيث طبق في عهده نظام امتحان الراغبين في التدريس بالأزهر… كما أنه رغم تقبله مشيخه الأزهر وتحمله اعباء مسؤوليتها لم يترك مهمة المشيخة من إلقاء الدروس على الطلاب.
التقاؤه بالعلامة شرف الدين:
قام العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمة الله ـ والذي كان من علماء الشيعة الكبار وزعيمهم في بلاد الشام ـ عام ۱۳۲۹هـ بزيارة دولة مصر، اذ كانت هي من أمنياته الكامنة في نفسه ليقف على أعلام مصر، فكانت من جملة زياراته للعلماء أن التقى عدّة مرات بالشيخ سليم البشري رحمة الله، فكان حصيلة ذلك مناقشات دارت بينهما في المسائل الجديرة بالبحث والمذاكرة، كموضوع الإمامة وأهم أسباب الاختلاف الواقع بين أهل السنة والشيعة.
فكانت تلك المناقشات سبباً في اتصال المودة بينهما وسبيلاً إلى الاحترام المتبادل وباعثاً لاطراد مراسلات خطّية جرت بينهما بعد عودة السيد رحمة الله إلى وطنه عام ۱۳۳۰ هـ.
بداية الحوار بينه وبين العلامة شرف الدين:
عن طريق الرسائل غاص هذان العلمان في حوار أخوي وموضوعي، لا نكاد نألفه إلاّ في منهج الإسلامي، لأنه كان حواراً علمياً أصيلاً متصفاً بالنزاهة والموضوعية والإخلاص والاجتهاد للوصول إلى الحقيقة، إذ توفرت فيه النية الحسنة والرغبة في بناء قاعدة متينة من التعاون الصادق والمشترك وحصر نقاط الاختلاف، كما نشاهده في كتاب (المراجعات) لمؤلفه العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، والذي يعكس لنا فيه تلك المناظرات والأبحاث التي جرت بينهما والتي استغرقت مائة واثني عشر (۱۱۲) حلقة ـ كان ذلك في أوائل القرن الرابع عشر للهجرة ـ.
تأليف كتاب المراجعات:
بادر السيد شرف الدين رحمه الله بعد ربع قرن ـ على ما يقارب ـ من حوار مع الشيخ سليم البشري إلى نشر هذه المناظرات، وكان سبب التأخير في نشرها عائداً ـ كما ذكره العلامة في مقدمة الكتاب ـ للحوادث والكوارث التي كانت حاجزاً قوياً لنشرها في تلك الفترة كالحرب العالمية الأولى (عام ۱۳۳۲) وعدم تهئية الظروف المناسبة، ولكنه نشرها هذه المناظرات بعون الله عام ۱۳۵۵ هـ، وإن سببت الأقدار نهب النسخة الأصلية للمراسلات فيما بينهما مع سائر مؤلفات السيد في احتلال الفرنسيين لبلده واقتحام داره وإحراق مكتبته في حوادث عام ۱۳۳۸هـ، لكنه ما إن فرّج الله تعالى عنه استأنف مضامينها بجميع مباحثها التي دارت بينهما ـ تغمدّهما الله برحمته الواسعة ـ وهي التي دوّنها بين دفّتي الكتاب وإن كانت مع زيادات لا تخل بما كان بينهما من المحاكمات.
فنشرت لتكون نوراً ساطعاً ومؤثراً في القلوب المستعدة للهداية والرشاد ولتقود الباحث إلى حيث يجد ضالته ويقف على بغيته.
أثر كتاب المراجعات في الساحة الاسلامية:
قد ذكر الكثير من الذين نوّر الله بصيرتهم فاعتنقوا مذهب أهل البيت صلوات الله عليهم عن الأهمية البالغة لهذا الكتاب، اذ اعتبروه من أهم الأسباب في استبصارهم، وقد بقى هذا الأثر الخالد جهداً مقدّراً وكتاباً مقروءاً وسعياً مشكوراً حتى طبع عشرات المرات وترجم إلى عدة لغات وأقبلت عليه الجماهير من جميع الجهات.
استبصار الشيخ سليم البشري:
يمتلك الشيخ سليم البشري رحمه الله روحاً سامية من أجل الوصول إلى الغاية النبيلة، والبعيدة عن الأغراض والهوى والتعصب والعناد، طالباً لدرر الحقيقة ولؤلؤ الحق من بحر العلم المتموّج، ولهذا يذكر في رسالته المدونة في المراجعة الأولى: “… فإن تبيّن الحق فإنّ الحق أحق أن يتبع…”.
فكانت النتيجة بعد الغربلة والتمحيص في الأدلة، والحوار الطويل، اعترافه بالحقيقه كما نلاحظ ذلك في رسالته الأخيرة الواردة في المراجعة رقم ۱۱۱ والتي يذكر فيها:
“أشهد أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول، وقد أوضحت هذا الأمر، فجعلته جلّياً، وأظهرت من مكنونه ما كان خفياً، فالشك فيه خبال، والتشكيك تضليل، وقد استشففته فراقني إلى الغاية، وتمّخرت ريحه الطيبة فانعشني قدسي مهبها بشذاه الفياح، وكنت قبل أن اتصل بسببك على لبس فيكم، لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين، وإجحاف المجحفين، فلما تيسّر الله اجتماعنا أويت منك إلى علم الهدى ومصباح الدجى وانصرفت عنك مفلحاً منجحا، فما أعظم نعمة الله بك عليّ، وما أحسن عائدتك لدى والحمد لله رب العالمين”.
فكانت تلك العاقبة الحسنى التي وفقه الله لها، وكانت تمهيداً ليرد إلى ربه بنفس مطمئنة، راضية، مرضية عام ۱۳۳۵ الموافق سنة ۱۹۱۶م.
مؤلفاته:
كان الشيخ سليم البشري جاداً في بث المعارف والعلوم عبر جميع السبل المتاحه من قبيل التدريس أو الخطابة أو التأليف، فكانت له جملة مؤلفات معظمها من الحواشي والتقارير على كتب السلف، منها:
● حاشية تحفة الطلاب لشرح رسالة الآداب.
● حاشية على رسالة الشيخ علي في التوحيد.
● شرح نهج البردة… في الأدب.
● الأستئناس في بيان الأعلام وأسماء الأجناس… وهو بحث في النحو عوّل عليه كثيراً في التدريس بالأزهر.
كتاب المراجعات:
يتضمن هذا الكتاب مائة واثني عشر مراجعة وهي مجموعة المناظرات التي دارت بين السيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ سليم البشري حول أمهات المسائل العقائدية المختلف فيها بين الشيعة والسنة منها:
● دواعي عدم أخذ الشيعة بمذاهب الجمهور.
● الأدلة التي تفرض مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
● ثبوت الاحتجاج بثقات الشيعة في الصحيحين وغيرهما.
● المناظرة حول دلالة حديث الدار، المنزلة، الغدير.
● الاستدلال ببعض الآيات القرآنية على ولاية الإمام عليّ (عليه السلام) .
● رزية يوم الخميس والوصية لعليّ (عليه السلام) .
● موقف النبي(صلى الله عليه وآله) من مستقبل الأمة بعد وفاته.
● موقف الامام علي (عليه السلام) بعد وقوع الخلافة بيد غيره.
وبالتالي أدّت هذه المناظرات بين هذين العَلمين إلى استبصار الشيخ سليم البشري واذعانه بأحقية مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
وقفة مع كتاب: “المراجعات”
تعريف الكتاب وأهمية الحوار:
ورد في مقدمة الكتاب التي كتبها الاستاذ المصري الدكتور حامد حفني داود وهو يعرف به: “وبعد فهذا سفر عظيم كتبه علمان من أعلام الاسلام في صورة حوار علمي أصيل اتصف بالنزاهة والموضوعية والبعد عن سفاسف القول وهجره، واتصف بالاخلاص الجم من الوصول إلى الحقيقة مبرأة من كل غرض سواها، والحقيقة هي الحكمة الخالدة والحكمة والعلم قرنان يطلبهما المؤمن أنى وجدهما.
كان هذا الحوار يجري بين عالمين جليلين يمثلان شطري أمة محمد(صلى الله عليه وآله)السنة والشيعة. وكان لكل منهما خطره ومكانته في مذهبه علماً وخلقاً وأدباً وبكل ما تتضمنه هذه الكلمات من معنى.
الأول منهما العالم الجليل الشيخ سليم البشري شيخ الاسلام وعمدة المحدثين في مصر.
والثاني: السيد الشريف صاحب السماحة العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين شيخ علماء الشيعة وإمام الحفاظ والمحدثين في لبنان.
الأمر الذي جعل لهذا الحوار خطره واثره في هذا العصر الذي جرى فيه وفي عصرنا الذي نعيشه وفي الأجيال التي بعد ذلك”.
قبول الشيخ سليم البشري للحق:
كان الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر في مصر، وهو بذلك كان قائداً للمذهب، ورئيساً لطائفة كبيرة من المسلمين إلاّ ان ذلك لم يمنعه عن قبول الحق وتصريحه بالاستفادة وإيواءه إلى علم هدى ومصباح دجى.
وقد تجلى ذلك منه عدة مرات في هذا الكتاب:
قال على سبيل المثال في المراجعة رقم (۵): “أخذت كتابك الكريم مبسوط العبارة، مشبع الفصول، مقبول الاطناب، حسن التحرير، شديد المراء قوي اللداد، ولم يدخر وسعاً في بيان عدم وجوب اتباع شيء من مذاهب الجمهور في الاصول والفروع”.
وقال في المراجعة رقم (۱۱): “وحين أغرقت في البحث عن حجتك، وأمعنت في التنقيب عن أدلتك رأيتني في أمر مريج، أنظر في حججك فأراها ملزمة، وفي بيناتك فأجدها مسلمة، وانظر في ائمة العترة الطاهرة فاذا هي بمكانة من الله ورسوله”. وهو هنا يعترف بالزام الأدلة التي تثبت حقية مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
وأخيراً شهد بجلاء ليس فيه لبس بصحة المذهب الشيعي في الاصول والفروع واستناده إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وعدّ الشيخ سليم ذلك من أسباب فلاحه ومن اعظم النعم عليه كما ورد في المراجعة (۱۱۱) التي تقدم نصها آنفاً في ترجمة حياته.
أهمية كتاب المراجعات:
كان لكتاب (المراجعات) الدور الكبير في التأليف بين الأمة والأثر المحمود في التقريب بين المذاهب، ويشهد بذلك الدكتور حامد حفني داود حيث يقول في المقدمة: “وليس أدلّ على أثر هذا الكتاب في جيلنا السالف وجيلنا المعاصر، من ظهور جماعة من قادة الفكر في مصر والعراق وايران وغيرها من البلاد الاسلامية دعوا إلى التقريب بين المذاهب”.
وأصدر شيخ الأزهر ـ فيما بعد ـ الاستاذ شلتوت فتوى جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية، ويعد هذا اعترافاً رسمياً بصحة المذهب الإمامي من الأزهر وأهل السنة عموماً، وبذلك زالت أسباب خلاف كثيرة بين الجانبين وكانت الشرارة الأولى لهذه الفكرة قد برقت في هذا الكتاب من خلال مناظراته التي طلبت الحق لتتبعه.
وقد ورد التصريح بذلك في المراجعة الرابعة: “نعم يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت واعتباركم إياه كأحد مذاهبكم، حتى يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية إلى شيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله)كنظر بعضهم إلى بعض، وبهذا ينتظم عقد اجتماعهم”.
كما فتح هذا الكتاب باسلوبه الرائع ومضامينه العميقة الباب لاستبصار الكثير من علماء أهل السنة ومثقفيهم فضلاً عن عوامهم في عصرنا الحديث، فكان نافعاً جداً في حركة الاستبصار الواسعة التي شهدها هذا العصر، فقلّ أن تجد مستبصراً لم يطلع على كتاب (المراجعات) ولم يستفد منه في حركته نحو معارف أهل البيت ـ التي هي معارف الإسلام الحق ـ ومن ثم الاهتداء بنور ولائهم وأخذ الدين عنهم والتمسك بهم كما أمر الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).
ومن هنا حقّ لهذا أن الكتاب أن ينتشر انتشاراً واسعاً وأن يطبع أكثر من عشرين طبعة وأن يترجم إلى عدة لغات. وقد تلقاه المسلمون من جميع مذاهبهم بالقبول الحسن ما عدا قلة قليلة، ومع ذلك قد اعترف أحد هذه القلة أنّ الكتاب: “يسعى جاداً للدخول إلى كل بيت”(۱).
إمامة المذهب:
المرحلة الأولى: قبول الشيخ سليم بعدم وجوب اتباع مذاهب الجمهور:
طالب الشيخ سليم أن تتبع الشيعة مذاهب الجمهور وتأخذ بها حفاظاً على الوحدة الاسلامية، لكنه لم يغلق باب البحث في هذه القضية وسأل ـ بأدب جم ـ من مناظره أن يدلي برأيه فيها.
فكان جواب مناظره انه لا دليل على الأخذ بمذاهب الجمهور، اذ لا مرجح لها فضلاً عن وجوبها فغاية ما يورد من أدلة على ذلك اجتهاد أربابها وامانتهم وعدالتهم وجلالتهم لكن هذه الامور غير محصورة بهم فلا يصح تعين هذه المذاهب، وأئمة هذه المذاهب ليسوا أفضل من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) اذ لا يجرؤ أحد على القول بذلك وهم أئمة العترة الطاهرة وسفن نجاة الأمة.
وقد يضاف إلى أدلة الأخذ بمذاهب الجمهور أنّ السلف الصالح دانوا بتلك المذاهب ورأوها أعدل المذاهب وأفضلها.
والجواب: إنّ الشيعة ـ وهم نصف المسلمين في المعنى ـ إنما دانوا بمذهب الأئمة من ثقل رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلم يجدوا عنه حولاً، وأنّهم على ذلك من عهد عليّ وفاطمة إلى الآن حيث لم يكن الأشعري ولا واحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا آباؤهم، كما لا يخفى.
وعندما سمع الشيخ سليم بذلك قبل بقوة الحجة لدى مناظره في المسألة وصحة الاستدلال منه ولم يستقص البحث أكثر من ذلك قبولاً منه بالحق عندما يبين وخضوعه له.
المرحلة الثانية: قبوله بفتح باب الاجتهاد:
بعد سقوط أدلة وجوب اتباع مذاهب الجمهور اتضحت أهمية الاجتهاد وعدم الجمود على أدلة السلف، إذ أن الاجتهاد ممكن وليس بمستحيل فما الذي أزلج بابه بعد ان كان في القرون الثلاثة مفتوحاً على مصراعيه، وهل يعقل أن الله أرسل الأنبياء وأنزل الكتب لينتهي الأمر إلى أئمة هذه المذاهب، فيحتكرون الدين لانفسهم من غير دليل، فهل كانوا ورثة الأنبياء أم ختم الله بهم الأوصياء والأئمة وعلمهم علم ما كان وعلم ما بقي واتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين؟ كلا بل كانوا كغيرهم من أعلام العلم ورعاته وسدنته ودعاته، وحاشا دعاة العلم أن يوصدوا بابه. أو يصدوا عن سبيله، فقبل ذلك الشيخ سليم ولم ينكره خضوعاً للحق وان كان العمل في مذهبه على خلاف ذلك.
المرحلة الثالثة: قبوله أن الأدلة تفرض مذهب أئمة أهل البيت وصحة التعبد به:
أخذ الشيعة دينهم عن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ولم يأخذوا من غيرهم للأدلة الشرعية التي ساقتهم إلى ذلك وهي كثيرة جداً تأخذ على المؤمن وجهته إلى أهل البيت (عليهم السلام) دون غيرهم من هم ادنى منهم بل لا يمكن أن يقاس بآل محمد أحد.
فمن القرآن نذكر على سبيل المثال آية التطهير(۲)، وآية المودة في القربى(۳)، وآية المباهلة(۴)، وسورة الدهر، أمّا الأحاديث الشريفة فنذكر حديث الثقلين(۵) الذي نقله أكثر من عشرين صحابي حيث ذكره الرسول في أكثر من موقف كيوم الغدير ويوم عرفة من حجة الوداع، وعند انصرافه عن الطائف، وعلى منبره في المدينة وفي حجرته المباركة في مرضه، وحديث السفينة(۶)، وحديث باب حطة(۷)، وهي آيات مفسرة في أهل البيت وأحاديث منقولة فيهم عند أهل السنة فضلا عن الشيعة التي صحت عندهم من طرقهم.
وقد قبل الشيخ سليم ذلك كله وآمن به، وصح عنده التعبد بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) واندهش لعدول أكثر الناس عنهم، ثم علم أنّ ذلك نتيجة عدول ساسة الأمة وولاة أمورها عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فانتقل عنده النقاش والتفكير في الخلافة العامه وإمامة المسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
أدلة خلافة الامام علي (عليه السلام) بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله):
الأدلة هنا أيضاً كثيرة والاستدلال بها واضح، قد اعترف به كثير من علماء أهل السنة فضلا عن الشيعة فمن حديث الدار يوم الانذار(۸)، إلى حديث ابن عباس في خصائص عليّ (عليه السلام) وفضائله(۹)، وحديث المنزلة(۱۰)، وحديث الغدير(۱۱) وغيرها كثير بالعشرات(۱۲).
وقد قبلها الشيخ سليم بعد مناقشات دلالية وسندية، وأذعن بصحتهما ودلالتهما على خلافة الإمام عليّ (عليه السلام) بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) مباشرة وبلا فصل.
هل يمكن الجمع بين ثبوت النص وحمل الصحابة على الصحة:
كان العائق الرئيسي لدى الشيخ سليم عن قبول مفاد هذه الأدلة ـ ولا زال عند معظم أهل السنة ـ هو كيفية تفسير تصرفات الصحابة واستيلاءهم على الخلافة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ودفعهم الإمام عليّ (عليه السلام) عن حقه، وقد حار كذلك في عدم مطالبة الإمام عليّ (عليه السلام) بحقه ـ على ما كان يرى ـ وبيعته للخلفاء الثلاثة.
وكان الشيخ سليم يرى أن الأدلة ملزمة في قرارة نفسه، فهو لم يكن من المعاندين لكن جمعها مع ما وقع في الخارج من تاريخ المسلمين بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) صعب عليه، يقول في المراجعة ۸۳: “أنّ أولي البصائر النافذة، والرؤية الثاقبة، ينزهون الصحابة عن مخالفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) في شيء من ظاهر أوامره ونواهيه، ولا يجوزون عليهم غير التعبد بذلك، فلا يمكن أن يسمعوا النص على الإمام ثم يعدلوا عنه أولاً وثانياً وثالثاً، وكيف يمكن حملهم على الصحة في عدولهم عنه مع سماعهم النص عليه؟”.
وقد أجاب هذا الكتاب: إنّ هذا ممكن فلننظر ما ورد فيه:
كيف تعبد الصحابة بالنصوص ولماذا قدموا المصالح:
أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم إنما يتعبدون بالنصوص إذا كانت متمحضة للدين، مختصة بالشؤون الأخروية، كنصه(صلى الله عليه وآله)، على صوم شهر رمضان دون غيره، واستقبال القبلة في الصلاة دون غيرها، ونصه على عدد الفرائض في اليوم والليلة، وعدد ركعات كل منها وكيفياتها، ونصه على أن الطواف حول البيت أسبوع، ونحو ذلك من النصوص المتمحضة للنفع الأخروي.
أما ما كان منها متعلقاً بالسياسة كالولايات والامارات، وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، وتسريب الجيش، فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحاً للبحث، ومجالاً للنظر والاجتهاد، فكانوا إذا رأوا في خلافه، رفعاً لكيانهم، أو نفعاً في سلطانهم، ولعلهم كانوا يحرزون رضا النبي بذلك، وكان قد غلب على ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا تتعبد بالنص عليه، إذ وترها في سبيل الله، وسفك دماءها بسيفه في إعلاء كلمة الله، وكشف القناع منابذاً لها في نصرة الحق، حتى ظهر أمر الله على رغم كل عات كفور فهم لا يطيعونه إلا عنوة، ولا يخضعون للنص عليه إلا بالقوة، وقد عصبوا به كل دم أراقه الاسلام أيام النبي(صلى الله عليه وآله)، جرياً على عادتهم في أمثال ذلك، اذا لم يكن بعد النبي في عشيرته(صلى الله عليه وآله)، أحد يستحق أن تعصب به تلك الدماء عند العرب غيره، لأنهم إنما كانوا يصبونها في أمثل العشيرة، وأفضل القبيلة، وقد كان هو أمثل الهاشميين; وأفضلهم بعد رسول الله، لا يدافع ولا ينازع في ذلك، ولذا تربص العرب به الدوائر، وقلبوا له الأمور، وأضمروا له ولذريته كل حسيكة، ووثبوا عليهم كل وثبة، وكان ما كان مما طار في الأجواء، وطبق رزؤه الأرض والسماء.
وكذلك فإن قريشاً خاصة والعرب عامة، كانت تنقم من علي شدة وطأته على أعداء الله، ونكال وقعته فيمن يتعدى حدود الله، أو يهتك حرماته عزوجل، وكانت ترهب من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتخشى عدله في الرعية، ومساواته بين الناس في كل قضية، ولم يكن لأحد فيه مطمع، ولا عنده لأحد هوادة، فالقوي العزيز عنده ضعيف ذليل حتى يأخذ منه الحق، والضعيف الذليل عنده قوي عزيز حتى يأخذ له بحقه، فمتى تخضع الأعراب طوعاً لمثله وهم (أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفَاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ى وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة: ۹۷) (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (التوبة: ۱۰۱۱) وفيها بطانة لا يألونهم خبالا.
وأيضاً فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من فضله، حيث بلغ في علمه وعمله رتبة ـ عند الله ورسله وأولي الألباب ـ تقاصر عنها الأقران، وتراجع عنها الأكفاء، ونال من الله ورسوله بسوابقه وخصائصه، منزلة، تشرئب إليها أعناق الأماني، وشأواً تنقطع دونه هوادي المطامع، وبذلك دبت عقارب الحسد له في قلوب المنافقين، واجتمعت على نقض عهده كلمة الفاسقين والناكثين والقاسطين والمارقين، فاتخذوا النص ظهرياً، وكان لديهم نسياً منسياً.
فكان ما كان مما لست أذكره ***** فظن خيراً ولا تسئل عن الخبر
وأيضاً، فإن قريشاً وسائر العرب، كانوا قد تشوقوا الى تداول الخلافة في قبائلهم، وأشرئبت إلى ذلك أطماعهم، فأمضوا نياتهم على نكث العهد، ووجهوا عزائمهم إلى نقض العقد، فتصافقوا على تناسي النص، وتبايعوا على أن لا يذكر بالمرة، وأجمعوا على صرف الخلافة من أول أيامها عن وليها المنصوص عليه من نبيها، فجعلوها بالانتخاب والاختيار، ليكون لكل حي من أحيائهم أمل في الوصول إليها ولو بعد حين، ولو تعبدوا بالنص، فقدموا علياً بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة، حيث قرنها يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب، إلى يوم الحساب، وما كانت العرب لتصبر على حصر الخلافة في بيت مخصوص، ولا سيما بعد أن طمحت إليها الأبصار من جميع قبائلها، وحامت عليها النفوس من كل أحيائها.
لقد هزلت حتى بدا من هزا لها ***** كلاها وحتى استامها كل مفلس
وأيضاً، فإنَّ من ألم بتاريخ قريش والعرب في صدر الاسلام، يعلم أنهم لم يخضعوا للنبوة الهاشمية، إلا بعد أن تهشموا، ولم يبق فيهم من قوة، فكيف يرضون باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم، وقد قال عمر بن الخطاب لابن عباس في كلام دار بينهما: “إن قريشاً كرهت أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة، فتجحفون على الناس(۱۳)“.
ماذا فعل الامام عليّ (عليه السلام) والسف الصالح:
السلف الصالح لم يتسن له أن يقهرهم [قريش والعرب] يومئذ على التعبد بالنص فرقاً من انقلابهم إذا قاومهم، وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال، وقد ظهر النفاق بموت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقويت بفقده شوكة المنافقين، وعتت نفوس الكافرين، وتضعضعت أركان الدين، وانخلعت قلوب المسلمين، وأصبحوا بعده كالغنم المطيرة، في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، وارتدت طوائف من العرب، وهمت بالردة أخرى، فأشفق علي في تلك الظروف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة، وفساد العاجلة، والقلوب على ما وصفنا، والمنافقون على ما ذكرنا، يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وأهل الردة على ما بينا، والأمم الكافرة على ما قدمنا، والأنصار قد خالفوا المهاجرين، وانحازوا عنهم يقولون: منا أمير ومنكم أمير(۱۴).
فدعاه النظر للدين الى الكف عن طلب الخلافة، والتجافي عن الأمور، علماً منه أن طلبها والحال هذه، يستوجب الخطر بالأمة، والتغرير في الدين، فاختار الكف إيثاراً للاسلام، وتقديماً للصالح العام، وتفضيلاً للآجلة على العاجلة.
غير أنه قعد في بيته ـ ولم يبايع حتى أخرجوه كرهاً(۱۵) احتفاظاً بحقه، واحتجاجاً على من عدل عنه، ولو أسرع الى البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين، والأحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين، فدل هذا على اصالة رأيه، ورجاجة حلمه، وسعة صدره، وإيثاره المصلحة العامة، ومتى سخت نفس امرىء عن هذا الخطب الجليل، والأمر الجزيل، ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين وإنما كانت غايته مما فعل أربح الحالين له، وأعود المقصودين عليه، بالقرب من الله عزوجل.
أما الخلفاء الثلاثة وأولياؤهم، فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها، ولا عجب منهم في ذلك بعد الذي نبهنا إليه من تأولهم واجتهادهم في كل ما كان من نصوصه(صلى الله عليه وآله)، متعلقاً بالسياسات والتأميرات وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، ولعلهم لم يعتبروها كأمور دينية، فهان عليهم مخالفته فيها، وحين تم لهم الأمر، اخذوا بالحزم في تناسي تلك النصوص وأعلنوا الشدة على من يذكرها أو يشير اليها، ولما توفقوا في حفظ النظام، ونشر دين الإسلام، وفتح الممالك، والاستيلاء على الثروة والقوة، ولم يتدنسوا بشهوة، علا أمرهم، وعظم قدرهم، وحسنت بهم الظنون، واحبتهم القلوب، ونسج الناس في تناسي النص على منوالهم، وجاء بعدهم بنو أمية ولا هم لهم إلا اجتياح أهل البيت واستئصال شأفتهم، ومع ذلك كله، فقد وصل إلينا من النصوص الصريحة، في السنن الصحيحة، ما فيه الكفاية، والحمد لله.
الاهتداء بأهل البيت (عليهم السلام) :
قبل الشيخ سليم هذا الجمع ورآه معجزاً في تقريب ما كان يستبعده كما ذكر ذلك في المراجعة (۸۵).
ثم أنه صرح في المراجعة (۱۱۱) ـ على ما تقدم ـ بأن الشيعة في الأصول والفروع على ما كان عليه الأئمة من آل الرسول، وانّه انصرف عن مناظره مفلحاً منجحاً يعظم نعمة الله عليه ويحمد الله رب العالمين.
فرحم الله الشيخ سليم الذي وصفه مناظره في المراجعة (۱۱۲): “أشهد أنك مطلع لهذا الأمر ومقرن له، حسرت له عن ساق وانصلت فيه أمضى من الشهاب، أغرقت في البحث عنه، واستقصيت في التحقيق والتدقيق، تنظر في أعطافه وأثنائه، ومطاويه وأحنائه، تقلبه منقباً عنه ظهراً لبطن، تتعرف دخيلته، وتطلب كنهه وحقيقته، لا تستفزك العواطف القومية، ولا تستخفك الأغراض الشخصية، فلا تصدع صفات حلمك، ولا تستثار قطاة رأيك، مغرقاً في البحث بحلم اثبت من رضوي، وصدر أوسع من الدنيا، ممعناً في التحقيق لا تأخذك في ذاك آصرة حتى برح الخفاء، وصرح الحق عن محضه، وبان الصبح لذي عينين، والحمد لله على هدايته لدينه، والتوفيق لما دعا اليه من سبيله(صلى الله عليه وآله)”.