الأبعاد السياسية لحركة الامام الصادق
مما لا شك فيه ان اهتمام الامام الصادق “عليه السلام” بالعلم وأهله، لم يكن بسبب أهمية العلم فقط، وانما من أجل خدمة العقيدة والدين الاسلامي، والتصدي للفرق الضالة، والمذاهب الفكرية المنحرفة، وذلك ان عصر الامام الصادق “عليه السلام” شهد منطلقات فكرية متعددة استخدمت لطروحاتها آليات متنوعة مستندة على أرثية حضارية لعدد من الامم والحضارات الأخرى، فكثرت الفرق المغالية ونشطت الزنادقة والالحاد.
على الرغم من الظروف السياسية المضطربة التي عاصرها الامام الصادق، والتدهور الاقتصادي الذي شهدته الدولة العربية الاسلامية خلال تلك الحقبة، الا ان الجوانب الفكرية والثقافية تميزت بمواصلة نشاطاتها، حيث انها لم تتأثر بتلك الظروف، ولذلك تبنى الامام الصادق ركائز فلسفته الفكرية والسياسية وفق قيادته لمؤسسة علمية واسعة النطاق لم تقتصر على الجوانب العلمية والفقهية فقط بل كانت لها انعكاساتها السياسية، حيث ساهمت حيثيات الواقع الذي كان الامام يعاصره في تكوين هذه المؤسسة التي يمكن اجمالها بالآتي:
اولاً:- معاصرة الامام الصادق لدولتين الأموية والعباسية.
مما لا شك فيه ان الامام واجه ازمة كبيرة الا وهي ان حكام الدولتين الاموية والعباسية كانوا يعملون لخلق مجتمع يسير على شاكلتهم ففرضوا أساليب الارهاب الفكري والقمع والتنكيل وأشاعوا الرعب والخوف لتحقيق اغراضهم.
يمكن القول ان الامام كان له دور ملموسّ لتخفيف سطوة الارهاب الفكري والاجتماعي الذي مارسته السلطات الأموية والعباسية، من خلال مقاومة الظلم والاهتمام بالحياة العلمية والثقافية لذا كانت تشمل كافة العلوم والمعارف الانسانية كعلوم القرآن وتفسيره والحديث والفقه وعلم الكلام والفلسفة والكيمياء والطب وغيرها. ولذلك يُعتبر عصر الامام الصادق عصر الانفراج الفكريّ والثقافي لمدرسة أهل البيت “عليهم السلام” ، طبعاً قياساً بالعهود السابقة التي مرّت بها الأمّة الإسلاميّة. وكان احد اهم اسباب الانفراج هو ضعف الحكم الأمويّ وانهياره. والبداية الضعيفة لدولة بني العبّاس، لذلك كان الإمام “عليه السلام” بعيداً عن المواجهة السياسيّة العلنيّة[1].
وقد أشاد الجاحظ بفضل الامام “عليه السلام” ومكانته العلمية التي تاثرت الناس بتراثها الغني بالمعارف قائلا : ” وفجر الامام الصادق “عليه السلام” ينابيع العلم والحكمة في الأرض وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل وقد ملأ الدنيا بعلمه”[2].
في الوقت نفسه ان الامام عمل جاهداً من خلال مؤسسته العلمية والفكرية والثقافية التي اسسها لتحقيق مسألة في غاية الاهمية الا وهي تغير فكرة المجتمع من المواجهات السياسية والعسكرية الى المواجهة السلمية أي اراد أبدال مفهوم لغة السيف والدم كوسيلة لتحقيق الاهداف، ورفعه الى اسمى من ذلك بترسيخ قواعد الحوار وسيادة العقل كلغة للتفاهم وتحقيق الوحدة المتكاملة للمجتمع على اساس المحبة والتعاون والتكاتف واصلاح النفس بصحوة ضمير الفرد والمجتمع ونبذ الخصومة والجدالات العقيمة بقوله :” إياكم والخصومة في الدين !.. فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عزّ وجلّ ، وتورث النفاق ، وتكسب الضغائن ، وتستجيز الكذب”[3]، كذلك قال:” لا تخاصموا الناس !.. فإنّ الناس لو استطاعوا أن يحبونا لأحبونا ، إنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا يوم أخذ ميثاق النبيين ، فلا يزيد فيهم أحدٌ أبدا، ولا ينقص منهم أحدٌ أبدا” [4]
يمكن القول ان الامام الصادق عمل على توضيح مفهوم الاعتراف الضمني بالواقع السياسي الحاكم لا يعني الاعتراف الشرعي به واقرار محكوميته، اي انها ليست دعوة للخضوع والتخاذل للسلطة بقدر ما يسمح به كمواطن لتأدية واجباته وصيانته بقوله :” لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإن كان عادلا فاسألوا الله بقاه، وإن كان جائراً فاسألوا الله إصلاحه، فان صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فاحبوا له ما تحبون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم”[5] ، وكذلك قال :” إن الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا”[6] يبدو من ذلك أن المصلحة العامة تقتضي الاجبار على الهدوء بسيادة القانون وكحد فاصل لإيقاف دوامة العنف السياسي التي عصفت بالمجتمع الاسلامي، فأثرت بشكل سلبي على كافة ميادين الحياة، ولهذا اعترف الامام “عليه السلام” بمشروعية المقاومة وفق الاطار السلمي[7].
حيث عمل الامام الصادق على تصحيح المفاهيم الخاطئة المتعلقة بمشروعية العمل مع السلطة اولا بقدر ما يتعلق الامر بالمهمة الملقاة على عاتقه وفقاً للضوابط المحدودة لتحقيق المنفعة العامة بإقامة العدل ودفع الأذى والظلم والاحسان الى الرعية فكانت احدى وصاياه في الالتزام بهذه المسلمات الاساسية قائلا:” … كان حقاً على الله عز و جل أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة”.
ثانيا: التصدي للأفكار الفلسفية المضادة والمنحلة للفرق الضالة.
كانت افكار الفرق الضالة مغايرة للإسلام ولكيانه الديني والسياسي، فعمل الامام الصادق على ابراز الفكر الفلسفي الاسلامي فكشف زيفها وادعاءاتها الباطلة على سبيل المثال لا الحصر افكار ابي العوجاء والديصاني والغلاة الذين تستروا باسم اهل البيت مدعين بذلك صفات الربوبية وغيرهم من الوضاعين واهل الرأي والمتصوفة[8].
يمكن القول ان اغلب هذه التيارات شكلت خطراً كبيراً على الاسلام وبنائه الداخلي، فعمل الامام الصادق على اعداد نخبه واعية قدر عددهم في المصادر التاريخية اكثر من اربعة الالف، على سبيل المثال لا الحصر هشام بن الحكم، وهشام بن سالم، والفضل بن عمر ، ومؤمن الطاق، وابان بن تغلب… وغيرهم حيث ان هؤلاء برعوا في علم الكلام والفلسفة والمناظرة والجدل واخذوا على عاتقهم الدفاع عن العقيدة والتوحيد وعقدوا الكثير من المناظرات مع الخوارج واصحاب الافكار المنسلخة عن الاسلام [9]. فضلا عن جهود جابر بن حيان في الكيمياء، وزرارة، ومحمد بن مسلم، وحمران بن أعين في اصول الفقه والتفسير والحديث .
نستنتج من ذلك ان حركة الامام العلمية حملت ابعاد سياسية بحتة ولم تقتصر على المعنى الظاهري _العلمي والديني_ بل ابعد من ذلك فان المدرسة الفكرية التي تخرج منها العديد من المفكرين ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في توعية المجتمع الاسلامي وجعلت لديه القدرة على التمييز بين الحاكم العادل و الحاكم الذي يفتقد للموازين والمؤهلات لقيادة الامة الاسلامية، فضلا عن قصورهم وافتقارهم للوعي الفكري والديني وجهلهم بالأحكام الشرعية . ولذا فقد تمتع الامام باستراتيجية الدفاع، وبهذا فقد ملأ الامام الفراغ الفكري في ذلك الوقت.
جعفر رمضان
[1] نغم حسن الكناني ، المواقف السياسية للامة الاثني عشر، (النجف الاشرف: مطبعة الرافد،2009)، ص246.
[2]عبد الحليم الجندي، الامام الصادق “عليه السلام،(القاهرة: دار المعارف)، ص106
[3] الصدوق، الاماني،(بيروت: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات،2009) ، ص128.
[4] أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، تحقيق: جلال الدين الحسيني،(ايران :دار الكتب الاسلامية،123ش) ، ص134.
[5] محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث،(قم : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث،1414هـ)، ج16، ص220.
[6] الكليني ، اصول الكافي، تحقيق: علي اكبر الغفاري، (ايران: دار الكتب الاسلامية، 1363ش)، ج2، ص246.
[7] للمزيد من التفاصيل ينظر: نغم حسن الكناني ، المصدر السابق، ص246.
[8] نغم حسن الكناني ،المصدر السابق، ص249.
[9] اسد حيدر ، الامام الصادق والمذاهب الاربعة،( بيروت :مؤسسة دار الكتاب الإسلامي )ج1، ص78؛ نغم حسن الكناني ، السابق، ص246.