مقالات

الأمانة والخيانة

الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلامية والإنسانية، والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. وقد أولاها علماء الأخلاق والسالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصيّة. وعلى العكس من ذلك (الخيانة)، التي تعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي.

الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني، والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيويّة والأُخرويّة، في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية، وتؤدّي إلى الفوضى والفقر والشقاء، وبالتالي تخريب الأُطر الإنسانيّة والحضارية في المجتمعات البشرية.

الأمانة من الصفات التي تربط الإنسان من جهة مع الله تعالى، وتربطه مع غيره من أفراد البشر من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة ترسم علاقته مع نفسه أيضاً ومع الطبيعة والبيئة كذلك، وقد اُعتبرت الكتب السماويّة، والشرائع الإلهيّة، أمانة بيد البشر.

إنّ جميع النعم الماديّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه، هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان. فالأموال والثروات الماديّة، والمقامات والمناصب الاجتماعيّة والسياسيّة هي أمانات بيد الناس، ويجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ وأداء المسؤوليّة.

الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، الماء والتراب والهواء وجميع ما خلقه الله تعالى من الكائنات الطبيعيّة لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا، كلّ ذلك يُعتبر أمانة غالية بيد الإنسان، ويُعدّ التفريط فيها وعدم أداء حقّها خيانة بالنسبة 
إلى هذه المواهب، ومن الذنوب الكبيرة.

ونظراً إلى سعة مفهوم الأمانة والخيانة واستيعابها لأبعاد مختلفة وواسعة من حياة الإنسان، نُدرك جيّداً أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقيّة.

فضيلة الأمانة في القرآن والسنّة

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم والسنّة الشريفة لنستوحي منهما ما يُلقي الضوء على صفة الأمانة والخيانة في حركة الإنسان والمجتمع، فهناك آيات متعدّدة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي، نستعرض بعض هذه الآيات:
• ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾1.
• ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾2.
• ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾3.
• ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾4.
• ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾5

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، فإنّه يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة، حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الأُصول والمبادئ الأساسية المشتركة بين جميع الأديان السماوية، وتارة أُخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق والثروة والثقة والاعتماد لدى الناس وسلامة الدين والدنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك، وفيما يلي نختار من هذه الروايات الشريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة:

في حديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ”6

وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن الإمام عليّ عليه السلام قال: “رَأَسُ الإسلام الأَمـانَةُ، رأس النفاق الخيانة”7

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “إنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَث نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفـاجِرِ”8. وهذا التعبير يوضّح أنّ جميع الأديان السماوية قد جعلت الصدق والأمانة جزءاً مهمّاً من تعليماتها الدينيّة والإنسانيّة، ومن الأُصول الثابتة في الأديان الإلهيّة.

ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام تعبير شديد، حيث قال: “لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ شَيءٌ اعتَـادَهُ فَلَو تَرَكَهُ استَوحَشَ لِذلِكَ، وَلَكِنْ اُنظُرُوا إلى صِدقِ حَدِيثِهِ وَأَداءِ أَمـانِتِهِ”9. والهدف من هذا التعبير ليس تقليلاً من شأن الصلاة والركوع والسجود، بل الهدف هو أنّ هذه الأمور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد، بل هناك ركنان أساسيان لدين الشخص, أي الصدق والأمانة.

وفي حديث آخر بالغ الأهمّيّة عن الإمام الصادق عليه السلام يُستفاد منه بشكل واضح أنّ الوصول إلى المقامات السامية حتّى للأئمّة المعصومين عليهم السلام يكون عبر صدق الحديث وأداء الأمانة، حيث يقول عليه السلام لأحد أصحابه: “اُنظُر مـا بَلَغَ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَالزَمهُ” ـ ثمّ قال : “فَإنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنّما بَلَغَ مـا بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بِصدقِ الحَدِيثِ وَأداءِ الأمـانَةِ”10.

ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال:“لا  تَزَالُ اُمّتِي بِخَير مـا تَحـابُّوا وَتَهـادُّوا وَأَدُّوا الأَمـانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقـامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكـاةَ، فَإذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ ابتُلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ”11.

هذه الروايات ما هي إلّا موارد مختارة من المصادر الإسلامية الواردة في باب الأمانة، وتوضّح جيّداً أنّ هذا المفهوم الأخلاقي على درجة عالية من الأهمّيّة من بين التعليمات الإسلاميّة، وكذلك الصفة التي تقع في مقابل الأمانة، أي الخيانة، ومدى إضرارها بدين الإنسان وشخصيّته من موقع تخريب الإيمان، وأنّها تورث الشقاء والبعد عن الله تعالى. وكلّ واحدة من هذه الروايات المذكورة آنفاً تشير إلى أحد الأبعاد والآثار البنّاءة للأمانة، أو الأبعاد والنتائج السلبيّة والمخرّبة للخيانة، بحيث إنّ الإنسان عند مطالعتها والتأمّل والتدبّر فيها يستوحي الكثير من المفاهيم الإسلاميّة والقيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة المهمّة والبنّاءة في حركة الحياة والمجتمع.

أنواع الأمانة

عندما نتحدّث عن الأمانة، فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأُمور الماليّة فقط، مع أنّها طبعاً من أبرز مصاديق الأمانة، كما هو مفهوم من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾12. لكن للأمانة مفهوماً واسعاً جدّاً، بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان. ففي الآية 8 من سورة “المؤمنون”، والتي تأتي بعد بيان أوصاف المؤمنين الحقيقيين وضمن تبشيرهم بالفلاح والنجاة في الآخرة، وبعد بيان أهميّة الصلاة والابتعاد عن اللغو وأداء الزكاة واجتناب أي لون من ألوان الانحراف الجنسي، في النهاية يشير القرآن الكريم إلى مسألة حفظ الأمانة والالتزام بالعهد، فيقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾13

فالملفت للنظر أنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذُكرت بصورة الجمع، وهي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع وأشكال مختلفة. والكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة الماليّة، بل يشمل الأمانات المعنويّة، كالقرآن الكريم والدين الإلهي والعبادات والوظائف الشرعيّة، وكذلك النعم الإلهيّة المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادّيّة والمعنويّة. ومن هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي والإنسان الذي يتمتّع باللياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة، ويهتمّ بالحفاظ عليها من موقع المسؤوليّة وأداء الوظيفة. إذاً النعم والمواهب الإلهيّة المندرجة في مفهوم الأمانة تشتمل على مصاديق لا تُعدّ، فهي ترد بالنسبة إلى القرآن الكريم والإسلام والإيمان والولاية، وحتّى إلى أقل النعم والمواهب المادّيّة والمعنويّة. وفيما يلي نذكر بعض أنواع الأمانة، بالإضافة إلى الأمانة المالية، وهي:

1- التكاليف الشرعيّة: من مصاديق الأمانة. التكاليف والأحكام الشرعية، من الصلاة والحج والزكاة وغيرها، فكلها ودائع وأمانات إلهيّة, لذا كان الإمام علي عليه السلام عندما يحين وقت الصلاة يتغير حاله، وعندما سُئِل عن ذلك، قال: “جَـاءَ وَقتُ  الصَّلاةِ، وَقتُ أَمـانَة  عَرضَهـا اللهُ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها وأَشفَقنَ مِنهـا”14

2- ولاية أهل البيت عليهم السلام: في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “إنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة بعدهم… ومن أقرّ بولايتهم، ولم يدعّ منزلتهم منّي ومكانهم من عظمتي، جعلته معهم في روضات جناني، وكان لهم فيها ما يشاؤون عندي، وأبحتهم كرامتي وأحللتهم جواري وشفّعتهم في المذنبين من عبادي وإمائي، فولايتهم أمانة عند خلقي…”15.

3- أعمال الإنسان: ومن أنواع ومصاديق الأمانة أيضاً عمل الإنسان، كما روي عن الإمام علي عليه السلام ، حيث قال: “وإنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَة، وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمـانَة”16

4. كتمان السرّ: وهو يعتبر من أعظم مصاديق حفظ الأمانة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:“المجالس بالأمانة، وليس لأحد أن يُحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلّا بإذنه، إلّا أن يكون ثقة أو ذكراً له بخير”17 ـ لأنّ في  المجالس قد  تُذكر أسرار تخصّ المجلس. وورد في الحديث النبوي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذر (رضي الله عنه): “يـا أبـا ذر، المَجـالِس بِالأمـانَةِ، وإفشَـاءِ سرّ أَخِيكَ خِيـانَة”18. وغيرها من المصاديق والعناوين الأخرى…

آثار الأمانة والخيانة

إنّ أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي مسألةُ الاعتماد وكسب ثقة الناس. ونعلم أنّ الحياة الاجتماعية مبنية على أساس التعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع لحلّ المشاكل والتخفيف من تحدّيات الواقع والظروف القاهرة، والاستفادة الأفضل من مواهب الحياة والطبيعة. ولهذا فإنّ مسألة الثقة والاعتماد لها دور أساس في تأصيل هذا المفهوم الاجتماعي, لأنّه لولا وجود الاعتماد المقابل فإنّ المجتمع سيتحوّل إلى مكان لا يطاق ولا يحتمل العيش فيه، وسوف يسود قانون الغاب، وبدلاً من أن تتكاتف القوى والطاقات على مستوى بناء المجتمع والتصدّي لتحدّيات الظروف القاهرة، فإنّ هذه القوى سوف تتحرّك في الجهة المقابلة لتعميق الأنانيّة والانقسام في المجتمع. وفيما يلي نذكر بعض الآثار الطيّبة للأمانة: 

1- المحبّة: الأمانة سبب في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة بين الأفراد، في حين إنّ الخيانة تُعتبر عاملاً للكثير من الجرائم والحوادث السلبيّة وأشكال الخلل الاجتماعي. وإذا طالعنا وثائق المحاكم والسجون لرأينا أنّ الكثير من هذه الجرائم مردّه إلى الخيانة. وفي بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَير مـا تَحـابُّوا وَتَهـادُوا وَأَدُّوا الأَمـانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقـامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكـاةَ، فَإذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ ابتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ”19.

2- الصدق: الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث، كما إنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول، والأمانة نوع من الصدق في العمل، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك وتُعبّران عن وجهين لعملة واحدة، ولذلك ورد في الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “الأمـانَةُ تُؤدِّي إِلى الصدقِ”20، وفي حديث آخر قال عليه السلام : “إذا قَويَت الأَمـانَةُ كَثُرَ الصّدقُ”21.

3- الهدوء والسكينة: عندما تسود الأمانة في المجتمع وفي العائلة، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكريّة والروحيّة, لأنّ مجرّد احتمال الخيانة سيكون مدعاة للقلق والخوف عند الناس، بحيث يعيشون حالة من الارتباك في علاقاتهم مع الآخرين، ومن الخطر المحتمل الذي ينتظر أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية. ومن المعلوم أنّ الاستمرار في مثل هذه الحياة المربكة والموحشة عسير جدّاً وقد يورثهم الكثير من الأمراض الجسميّة والروحيّة.

إفشاء السرّ خيانة

حفظ السرّ هو من الخصال الإلهيّة، ومن أوصاف المؤمنين الكاملين، وعلامة العقل ومنبع الخيرات. الإنسان الذي يحفظ السرّ وفيّ وأمين، وهو يحفظ منزلته بحفظ الأسرار، وهو يحترم أعراض ونواميس الآخرين. من هذه الجهة يؤكّد الإسلام على حفظ الأسرار، فعن أمير المؤمنين عليه السلام : “جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ”22. ويقول عليه السلام في مكان آخر:“كن بأسرارك بخيلاً”23.

إنّ دور حفظ الأسرار في حياة الإنسان حيويّ، بمنزلة دمه الذي يجري في عروقه: “سرّك من دمك, فلا يجرينّ من غير أوداجك”24. يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّه كما إنّ جريان الدم في البدن موجب لاستمرار الحياة، فإذا أُريق إلى الخارج أدّى بالإنسان إلى الموت، فإنّ أسرار الإنسان أيضاً كذلك، إذا خرجت وسارت في غير مجراها الطبيعي، فإنّ حياة الإنسان ستتزلزل وستكون عرضة للخطر الجديّ.

فبنفس المقدار الذي يؤكّد فيه الإسلام على حفظ الأسرار وكتمانها، فإنّه في المقابل أيضاً نهى بشدة عن إفشاء الأسرار، وعدّها من مصاديق الخيانة، كما عن أميرالمؤمنين عليه السلام : “ولا تذع سرّاً أُودِعْتَه، فإنّ الإذاعة خيانة”25. وفي بعض الروايات عُدّ إفشاء الأسرار مشاركة في قتل النفس البريئة والأنبياء الإلهيّين، وعواقب هذا العمل كما هو معروف العذاب الأليم في نار جهنّم. فعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الشريفة: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾26، قال عليه السلام : “أما والله ما قتلوهم بأسيافهم، ولكن أذاعوا سرّهم، وأفشوا عليهم، فقُتلوا”27.

دوافع وأسباب الخيانة

عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث عن الأمانة والخيانة، يقول: “مَنْ اُؤتُمِنَ عَلى أَمـانَة فَأَدّاهـا، فَقَد حَلَّ أَلفَ عُقدَة مِنْ عُقَدِ النّارِ، فَبـادِرُوا بِأَداءِ الأَمـانَةِ، فَإنَّ مَنْ اُؤتِمِنَ عَلى أَمـانَة وَكَّلَ بِهِ إبلِيسَ مِئةَ شَيطان مِنْ مَردَةِ أَعوانِهِ, لِيُضِلُّوهُ وَيُوسوِسُوا إِلَيهِ حتّى يُهلِكُوه، إلّا مَنْ عَصَمَ اللهُ عَزّ َوَجَلَّ”28. إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في سلوكيّاتهم من موقع الخيانة ويفضّلونها على الأمانة، هم في الحقيقة مبتلون بضيق الأفق، ولا يفكّرون سوى في مصالحهم الشخصية، ويسعون وراء المنافع العاجلة فحسب, لأنّ الخيانة توفّر لهم في الكثير من الموارد هذه المنافع العاجلة، وتُحقّق لهم بعض المصالح الفرديّة على حساب الصدق والوفاء والسمعة الطيّبة، من دون أن يتفكّروا في العواقب الوخيمة لهذا السلوك في المستقبل على المستويين الدنيوي والأُخرويّ. فهؤلاء وبسبب ضعف الإيمان، وعدم الالتفات إلى القدرة الإلهيّة المطلقة التي تكفّلت برزق الناس جميعاً، ووعدت من يعيش الأمانة والصدق منهم بالثواب العاجل والآجل، فإنّهم قد سقطوا في شراك الخيانة وفخاخ الشيطان. وفيما يلي نذكر بعض وأهم دوافع وأسباب الخيانة، وهي:

1- ضعف الإيمان، وتزلزل عقيدة التوحيد  الأفعالي لله تعالى، وحاكميته المطلقة على جميع الأشياء.
2- غلبة الأهواء والشهوات، وحبّ الدنيا.
3- تسلّط حالة الحرص والطمع على الإنسان،والخوف الدائم من الوقوع في الفقر.
4- عدم التفكير الجدّي في نتائج وعواقب الخيانة، وآثارها الوخيمة على الحياة  المادّيّة والمعنويّة للإنسان.
5- السعي المستمر والعمل الدؤوب لتحصيل المقاصد الدنيوية بطرق غير مشروعة، بسبب الكسل وحبّ الراحة وضعف الإرادة.

طرق الوقاية والعلاج

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع والوقاية من الخيانة لا يتسنّى إلّا في ظلّ التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقي, لأنّ أحد أهمّ جذور وأسباب الخيانة هو الشرك وعدم الاعتقاد الكامل بقدرة الله تعالى ورازقيّته. لذا فإنّ تقوية دعائم الإيمان في القلب، وتعميق حالة التوكّل والاعتماد على الله تعالى، والثقة بوعده، تُعدّ الركيزة والدعامة الأولى لتصحيح هذا الخلل في النفس.

من جهة أخرى من الأسباب والعوامل المهمّة في الوقاية من التورّط بالخيانة، التفكّر في عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وما يترتّب عليها من فضيحة وحرمان وزوال الثقة وماء الوجه أمام الخلق والخالق، وبالتالي الابتلاء بالفقر الذي كان يسعى بالأساس إلى الفرار منه.

ومن المعلوم أنّ التأمل في هذه النتائج والعواقب السلبيّة لسلوك طريق الخيانة، سوف يضعف الدافع في الإنسان لارتكابها، كأن يتأمّل ويتفكّر في كلام أمير المؤمنين عليه السلام : “رَأسُ الكُفِر الخِيانَةُ”29، أو أن يستمع إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يتحدّث عن بعض عناصر الشرّ وعوامل الانحراف، حيث يقول: “أَربَعٌ لا تَدخُلِ بَيتاً وِاحدَةٌ مِنهُنَّ إلّا خَرَبَ، وَلَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ، الخِيانَة والسَّرقَةُ وَشُربُ الخَمرِ والزِّنـا”30.

وفي النهاية، يبقى أنّ العلاج النهائي لهذه الآفة يكمن بأخذ المبادرة والقرار، بقوّة العزم والإرادة على ترك هذه السجيّة القبيحة، من خلال المخالفة الدائمة للنفس، وإرغامها على أفعال الصدق والأمانة فترة من الزمن، حتى تُقتلع جذور هذه الآفة من النفس بالصبر والتقوى الكاملة والتوكّل على الله، على القاعدة التي سنّها أمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي عليه السلام ، عندما قال:“وإنّما هي نفسي أروّضها  بالتقوى, لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق”31.

درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- المؤمنون،8.
2- النساء، 58.
3- الأنفال،27.
4- البقرة، 283.
5- الاحزاب، 72.
6- بحار الأنوار، ج69، ص198.
7- ميزان الحكمة، ج2، ص1345.
8- الكافي، ج2، ص104.
9- م.ن، ص105.
10- م.ن، ص104.
11- بحار الأنوار، ج72، ص115.
12- البقرة، 283.
13- المؤمنون،8.
14- عوالي اللآلي، ج1، ص325.
15- بحار الأنوار، ج11، ص172.
16- بحار الأنوار، ج32، ص362.
17- الكافي، ج2، ص660.
18- وسائل الشيعة، ج12، ص307.
19- وسائل الشيعة، ج15، ص254.
20- ميزان الحكمة، ج1، ص215.
21- م.ن.
22- سفينة البحار، ج7، ص436.
23- شرح غرر الحكم، ج4، ص610.
24- بحار الأنوار، ج75، ص71.
25- شرح غرر الحكم، ج4، ص215.
26- آل عمران، 112.
27- الكافي، ج2، ص371.
28- وسائل الشيعة، ج19، ص69.
29- مستدرك الوسائل، ج14، ص15.
30- بحار الأنوار، ج72ـ ص170.
31- م.ن، ج33، ص474.

المصدر: شبكة المعارف الإسلامية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى