مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 55-58)

 

قال تعالى : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 55 – 58] [آل عمران: 52 – 54].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

لما بين سبحانه ما هم به قوم عيسى من المكر به وقتله، عقبه بما أنعم عليه من لطف التدبير، وحسن التقدير فقال: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك} وقيل في معناه أقوال أحدها: إن المراد به: إني قابضك برفعك من الأرض إلى السماء من غير وفاة بموت، عن الحسن وكعب وابن جريج وابن زيد والكلبي وغيرهم. وعلى هذا القول يكون للمتوفى تأويلان أحدهما: إني رافعك إلي وافيا، لم ينالوا منك شيئا. من قولهم: توفيت كذا واستوفيته أي: أخذته تاما والآخر: إني متسلمك، من قولهم: توفيت منه كذا: أي تسلمته. وثانيها: إني متوفيك وفاة نوم، ورافعك إلي في النوم، عن الربيع قال: رفعه نائما. ويدل عليه قوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي يميتكم لأن النوم أخو الموت. وقال {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} الآية. وثالثها: إني متوفيك وفاة نوم، عن ابن عباس ووهب قالا: أماته الله ثلاث ساعات.

فأما النحويون فيقولون: هو على التقديم والتأخير أي: إني رافعك ومتوفيك، لأن الواو لا توجب الترتيب بدلالة قوله: {فكيف كان عذابي ونذر} والنذر قبل العذاب بدلالة قوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وهذا مروي عن الضحاك، ويدل عليه ما روي عن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” أنه قال: ” كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم “؟ رواه البخاري وملم في الصحيح. فعلى هذا يكون تقديره: إني قابضك بالموت بعد نزولك من السماء.

وقوله: {ورافعك إلي} فيه قولان أحدهما: إني رافعك إلى سمائي. وسمى رافعه إلى السماء رفعا إليه، تفخيما لأمر السماء، يعني: رافعك لموضع لا يكون عليك إلا أمري. والاخر: إن معناه رافعك إلى كرامتي، كما قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إني ذاهب إلى ربي سيهديني} أي: إلى حيث أمرني ربي. سمى ذهابه إلى الشام ذهابا إلى ربه.

وقوله: {ومطهرك من الذين كفروا} وفيه قولان أحدهما: مطهرك بإخراجك من بينهم، وانجائك منهم، فإنهم أرجاس. جعل مقامه فيهم بينهم كملاقاة النجاسة من حيث كان يحتاج إلى مجارتهم والاخر: إن تطهيره منعهم من كفر يفعلونه بالقتل الذي كانوا هموا به، لان ذلك رجس طهره الله منه، عن الجبائي.

وقوله {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} معناه: وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا عليك وكذبوك في العز والغلبة والظفر والنصرة.

وقيل: في البرهان والحجة، والمعني به النصارى. قال ابن زيد: ولهذا لا ترى اليهود حيث كانوا إلا أذل من النصارى، ولهذا أزال الملك عنهم، وإن كان ثابتا في النصارى على بلاد الروم وغيرها، فهم أعز منهم، وفوقهم إلى يوم القيامة.

وقال الجبائي فيه دلالة على أنه لا يكون لليهود مملكة إلى يوم القيامة، كما للروم. وقيل المعني به أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما سماهم تبعا، وإن كانت لهم شريعة على حدة، لأنه وجد فيهم التبعية صورة ومعنى. وأما صورة فإنه يقال: فلان يتبع فلانا إذا جاء بعده. وأما معنى فلان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان مصدقا بعيسى وبكتابه. ويقال لمن يصدق غيره: إنه يتبعه. على أن شريعة نبينا وسائر الأنبياء متحدة في أبواب التوحيد.

فعلى هذا هو متبع له، إذ كان معتقدا اعتقاده، وقائلا بقوله. وهذا القول أوجه لان فيه ترغيبا في الاسلام، ودلالة على أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكونون ظاهرين إلى يوم القيامة، ولان من دعاه إلها لا يكون في الحقيقة تابعا له. {ثم إلي مرجعكم} أي:

مصيركم {فأحكم بينكم} فأقضي بينكم {فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر عيسى.

{فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة} عذابهم في الدنيا: إذلالهم بالقتل والأسر والسبي والخسف والجزية، وكل ما فعل على وجه الاستخفاف والإهانة. وفي الآخرة: عذاب الأبد في النار {وما لهم من ناصرين} أي: أعوان يدفعون عنهم عذاب الله تعالى. {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم} أي: يوفر عليهم، ويتمم {أجورهم} أي: جزاء أعمالهم {والله لا يحب الظالمين} أي: لا يريد تعظيمهم وإثابتهم، ولا يرحمهم، ولا يثني عليهم. وهذه الآية حجة على من قال بالإحباط لأنه سبحانه وعد بتوفير الأجر، وهو الثواب.

والتوفية منافية للإحباط {ذلك} إشارة إلى الإخبار عن عيسى وزكريا ويحيى وغيرهم {نتلوه عليك} نقرأه عليك، ونكلمك به. وقيل: نأمر جبرائيل أن يتلوه عليك، عن الجبائي {من الآيات} أي: من جملة الآيات والحجج الدالة على صدق نبوتك، إذا علمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب، أو معلم، ولست بواحد منها، فلم يبق إلا أنك عرفته من طريق الحي {والذكر الحكيم} القرآن المحكم. وإنما وصفه بأنه حكيم لأنه بما فيه من الحكمة، كأنه ينطق بالحكمة، كما تسمى الدلالة دليلا، لأنها بما فيها من البيان، كأنها تنطق بالبيان والبرهان، وإن كان الدليل في الحقيقة هو الدال.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص305-308.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

الاختلاف في عيسى :

اختلف الناس في أمر عيسى اختلافا شديدا . . اختلفوا في أصل وجوده ، واختلفوا في طبيعته ، واختلفوا في موته . . فمن قائل : لا وجود له إطلاقا ، وانما هو بطل أسطوري ، ظهر هذا القول في ألمانيا وفرنسا وانكلترا في القرن التاسع عشر ، وهو أسخف من السخف ، لأنه تماما كقول من ينفي الطوائف المسيحية والاسلامية التي تؤمن بالمسيح . . ومن قائل : انه إله ، وقائل : بل هو انسان ، وقائل : هو إله وانسان في وقت واحد ، وقالت اليهود فيه وفي أمه ما يهتز له العرش .

واختلف المسلمون فيما بينهم ، فقال أكثرهم : ان المسيح لم يمت ، وانه حي في السماء ، أو في مكان ما بجسمه وروحه ، وانه يخرج في آخر الزمان إلى الأرض ، ثم يتوفاه اللَّه بعد ذلك الوفاة الحقيقية . . وقال كثير من المسلمين : انه مات حقيقة ، وان الذي ارتفع إلى السماء روحه ، لا جسمه .

وسبب هذا الاختلاف بين المسلمين هو اختلاف ظاهر النص ، فالآية 158 من سورة النساء تقول : { وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهً لَهُمْ وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } . وهذه الآية ظاهرة في انه حي ، بالإضافة إلى أحاديث نبوية في معناها . ولكن الآية 117 من سورة المائدة تقول :

{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }. . وقريب منها الآية التي نحن بصددها ، وهي : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إِلَيَّ } . فإن المتبادر من الوفاة هو الموت ، وان المعنى الظاهر أني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع ، كما قال في إدريس : { ورَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا – 56 مريم } . وكما قال في الشهداء : أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ – 168 آل عمران .

والذين قالوا : ان عيسى حي بجسمه وروحه أولوا ( توفيتني ، ومتوفيك ) بوجوه أرجحها – نسبيا – ان القصد هو التشبيه بالوفاة ، لا الوفاة الحقيقية ، لأنه إذا رفع إلى السماء فقد انقطعت علاقته بالأرض ، وصار كالميت .

أما الذين قالوا : انه مات حقيقة فقد أولوا ( وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهً لَهُمْ ) بأن اليهود لم يقتلوا مبادئ عيسى وتعاليمه بقتله وصلبه . . ولكن خيل إليهم انهم قد قضوا على تعاليمه بذلك ، مع انها ما زالت قائمة ، وستبقى إلى يوم يبعثون .

ونحن نميل إلى القول الأول ، وان عيسى حي رفعه اللَّه إليه بعد أن توفاه بنحو من الأنحاء – غير الموت – نميل إلى هذا بالنظر إلى ظاهر الآية ، والى ما روي عن الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) من طريق السنة والشيعة انه ما زال حيا . .

ومع هذا فلا نرى أية فائدة من التحقيق والتدقيق في هذا الموضوع ، لأن الايمان بكيفية وفاته ، ورفعه ليس من أصول الدين ، ولا المذهب ، ولا من فروعه في شيء وانما هو موضوع من الموضوعات الخارجية لا تتصل بحياتنا من قريب أو بعيد . . واللَّه سبحانه لا يسأل الناس غدا ، ويقول لهم : بيّنوا كيف توفيت عيسى ؟ وكيف رفعته ؟ . . ان ما يجب علينا الايمان به هو ان عيسى نبي مرسل من اللَّه ، وانه خلق بكلمة من اللَّه ، وان أمه قديسة . . هذا ، إلى ان البحث في هذا الموضوع لا ينتهي بالباحث إلى الجزم واليقين بكيفية وفاته ، ولا بكيفية رفعه . . فالأولى إيكال ذلك إلى اللَّه سبحانه ( 2 ) .

مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ :

{ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إِلَيَّ } . بعد أن صمم اليهود على قتل عيسى ، ودبروا الأمر لذلك بشّره اللَّه بنجاته منهم ، وإبطال مكرهم وكيدهم ، وانه لن يقتل ، ولن يصلب ، بل يتوفاه اللَّه حين انتهاء أجله وفاة طبيعية ، وانه تعالى سينقله إلى عالم لا يناله أحد فيه بأذى ، ولا سلطان فيه لأحد عليه سوى اللَّه . وهذا هو معنى قوله تعالى : { ومُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } . أي أبعدك عن ارجاسهم ، ودنس معاشرتهم ، وعما يريدونه بك من الشر .

{ وجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ } . المراد بالتفوق هنا التفوق نفسا وكمالا ، لا التفوق سلطانا ومالا . . وليس من شك ان الذين آمنوا بعيسى أفضل وأكمل من الذين كذبوه .

{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . لا يحتاج هذا إلى تفسير ، لأن المعنى الظاهر هو المراد . . أجل ، ان ضمير الخطاب هنا يشمل الغائبين في كل زمان ومكان من الذين اختلفوا في السيد المسيح ، أو في صفة من صفاته .

{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ } . أما عذاب الكافر في الآخرة فمعلوم ، واما عذابه في الدنيا فلأنه دون المسلم في المرتبة في كثير من أحكام الشريعة الاسلامية ، منها ان الكافر تجوز غيبته دون المسلم ، ومنها ان الكافر يقتل بالمسلم ، والمسلم لا يقتل بالكافر ، بل لا دية له عند كثير من الفقهاء إلا إذا كان ذميا . . على ان دية الذمي دون دية المسلم بكثير .

{ وأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } .

في الحديث ان الظالم والراضي بالظلم سواء ، وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : الظلم ثلاثة : ظلم يغفره اللَّه ، وظلم لا يغفره اللَّه ، وظلم لا يدعه اللَّه ، أما الظلم الذي لا يغفره اللَّه فهو الشرك باللَّه ، وأما الظلم الذي لا يغفره اللَّه فظلم الرجل نفسه بينه وبين ربه ، وأما الظلم الذي لا يدعه اللَّه فالاعتداء على العباد . . وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ظلم الضعيف أفحش الظلم .

{ ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الْحَكِيمِ } . ذلك إشارة إلى ما أخبر اللَّه به نبيّه من أنباء أم مريم ، ومريم ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، والحواريين ، واليهود الجاحدين ، والمعنى : تلونا عليك يا محمد هذه الأنباء لتكون حجة ودليلا لك على من يجادلك في عيسى من وفد نجران وغيرهم . . أما كون هذه الأنباء حجة في يد محمد فلأنه أميّ لا يقرأ ، ولا يصحب من يخبره بذلك ، فلم يبق من مصدر لعلمه بهذه الأنباء إلا الوحي من اللَّه تعالى . . والمراد بالذكر الحكيم القرآن .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص69-73.

2- انظر ما قلنا في تفسير الآية 158 من سورة النساء .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى:{ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}، الماكرون هم بنو إسرائيل، بقرينة قوله: {فلما أحس عيسى منهم الكفر}، وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].

قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك}، التوفي أخذ الشيء أخذا تاما، ولذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ، أي أماتته، وقال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} – إلى أن قال -: { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) } [السجدة: 10، 11] ، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر: 42] ، والتأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ، وبعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه، وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144] ، وقوله تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى (عليه السلام) بنفسه كقوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33] ، وقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] ، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.

على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء: 157 – 159] ، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعي أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم (عليهما السلام) بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحا.

والذي يعطيه ظاهر قوله: {وإن من أهل الكتاب} الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، على هذا فيكون توفيه (عليه السلام) أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور، وسيجيء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.

قوله تعالى : {ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا}، الرفع خلاف الوضع، والطهارة خلاف القذارة، وقد مر الكلام في معنى الطهارة.

وحيث قيد الرفع بقوله : {إلي}، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها، والقرب والبعد منها، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: ثم {إلي مرجعكم}، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] ، وما ذكره في حق إدريس (عليه السلام): {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [مريم: 57].

وربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه، ومحل نزول البركات، ومسكن الملائكة المكرمين، ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والتطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود.

قوله تعالى: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}، وعد منه تعالى له (عليه السلام) أنه سيفوق متبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه الكافرين بنبوته، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام) أو غير ذلك.

غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى، والمسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق، وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة، فمحصل معنى الجملة: أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة، هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية.

والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله{ إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك}، أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله: {وجاعل الذين اتبعوك}، وعد حسن وبشرى، وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي، ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى (عليه السلام) إلا حجة عيسى نفسه، وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه السلام) أقطع لعذر الكفار ومنبت خصومتهم، وأوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده (عليه السلام) أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله:{ إلى يوم القيامة}، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.

فإن قلت: لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا وأوثق ركنا وأشد قوة.

قلت: مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه، واحتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية، وإما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه (عليه السلام) سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل، ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود وشمول الغضب عليهم إنما يناسب القهر والاستعلاء إما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.

والذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله: {الذين اتبعوك}، وقوله {الذين كفروا}، والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين والكافرين، ومجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم، كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب، وغير ذلك.

وعلى هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود، وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام) واتباعه – وقد كان إيمانا مرضيا واتباعا حقا – وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له (عليه السلام) بعد ظهور الإسلام، ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية.

فالمراد جعل النصارى – وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) – فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى (عليه السلام) ومكروا به، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود، وحلول المكر بهم، وتشديد العذاب على أمتهم، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى.

و يؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله:{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: وأما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.

و هاهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة، والتقريب عين التقريب، وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.

قوله تعالى: {ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}، وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به وهذا مآل أمرهم يوم القيامة، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبإه.

قوله تعالى: {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة}، ظاهره أنه متفرع على قوله:{ فأحكم بينكم}، تفرع التفصيل على الإجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفيه الأجر للمؤمنين.

لكن اشتمال التفريع على قوله: {في الدنيا}، يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلي مرجعكم} “الخ” فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في ذلك من ناصرين.

و هذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة.

و في قوله: {وما لهم من ناصرين} دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم، وهو حتم القضاء كما تقدم.

قوله تعالى: {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم}، وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الأمة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله:{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى (عليه السلام) أن الله يوفيهم أجورهم، وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء، وقد أشير إلى ذلك في الآية بقوله:{ والله لا يحب الظالمين}.

ومن هنا يظهر السر في ختم الآية – وهي آية الرحمة والجنة – بمثل قوله: والله لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] ، وقوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن: 9] ، وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية: 30] ، إلى غير ذلك من الآيات.

فقوله: {والله لا يحب الظالمين} مسوق لبيان حال الطائفة الأخرى ممن انتسب إلى عيسى (عليه السلام) بالاتباع وهم غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

قوله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} إشارة إلى اختتام القصة.

والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته، لا يدخله باطل، ولا يلج فيه هزل.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 180-185.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)

 إنّ اليهود ـ بالتعاون مع بعض المسيحيّين الخونة ـ قرّروا قتل السيّد المسيح، فأحبط الله مكرهم، ونجى نبيّه منهم. في هذه الآية يذكر الله نعمته على المسيح قبل وقوع الحادثة، قائلاً : {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ}.

من المعروف عند المفسّرين، بالاستناد إلى الآية 157 من سورة النساء، أنّ السيّد المسيح لم يُقتَل، وأنّ الله رفعه إلى السماء. غير أنّ المسيحيّين يقولون إنّه قُتِل ودُفِن، ثمّ قام من بين الأموات وبقي لفترة قصيرة على الأرض ثمّ صعد إلى السماء(2).

ولكن الذي لابدّ من قوله الآن هو أنّ هذه الآية ليس فيها دليل على موت عيسى، على الرغم من أنّ بعضهم تصوّر أنّ كلمة «متوفّيك» من «الوفاة». وعلى ذلك فإنّهم يرون أنّ هذا الموضوع يتعارض مع الرأي السائد بين المسلمين، والذي تؤيّده الأحاديث، من أنّ عيسى لم يمت وأنّه حي. ولكن الأمر ليس كذلك.

«الفوت» هو بُعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذّر إدراكه. و «الوافي» الذي بلغ التمام، ووفى بعهده إذا أتمّه ولم ينقضه. وإذا استوفى أحد دَينه من المدين قيل «توفّى دَينه».

وفي القرآن وردت «توفّى» كراراً : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]. فهنا عبّر عن النوم بكلمة «يتوفّاكم».

هذا المعنى نفسه يرد في الآية 42 من سورة الزمر، كما ترد كلمة «توفّى» في آيات أُخرى بمعنى الأخذ.

صحيح أنّ «توفّى» قد تأتي أحياناً بمعنى الموت، ولكنّها حتّى في تلك المواضع لا تعني الموت حقّاً، بل بمعنى قبض الروح. والواقع أنّ مادّة «فوت» ومادّة «وفي» منفصلتان تماماً.

ممّا تقدّم يكون تفسير الآية واضحاً.

يقول الله : يا عيسى إنّني سوف استوفيك وأرفعك إليّ. وهذا يعني حياة عيسى، لا موته (وطبعاً اذا كانت كلمة «توفي» بمعنى قبض الروح فقط. فإن لازم ذلك هو الموت).

ثمّ تضيف الآية {ومطهّرك من الذين كفروا}.

هذا جانب آخر من خطاب الله إلى المسيح. والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه من الكفّار الخبثاء البعيدين عن الحقّ والحقيقة الذين كانوا يوجّهون إليه التهم الباطلة، و يحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته، فنصر الله دينه، وطهّره من تلك التهم، بمثل ما نقرأه عن نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوّل سورة الفتح {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر}. أي أنّنا هيّأنا لك نصراً واضحاً كي يغفر لك الله ذنوبك السابقة واللاحقة (ويطهّرك من التهم التي ألصقوها بك على شكل ذنوب).

كما يحتمل أن يعني التطهير إخراج المسيح من ذلك المحيط الملوّث. وهذا يناسب الآية السابقة.

{وجاعل الذين أتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}.

وهذه بشارة يبشّر بها الله المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضيّ في الطريق الذي اختاروه. والواقع أنّ هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبّؤات القرآن الغيبية التي تقول إنّ أتباع المسيح سوف يسيطرون دائماً على اليهود الذين عادوا المسيح.

وها نحن اليوم نرى هذه الحقيقة رأيَ العين، فاليهود الصهاينة، ـ بغير الإستناد إلى المسيحيّين ـ غير قادرين على إدامة حياتهم السياسية والإجتماعية يوماً واحداً. بديهيّ أنّ «الكافرين» هنا هم اليهود الذين كفروا بالمسيح.

وفي ختام الآية يقول تعالى : {ثمّ إليّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} ويعني أن ما تقدّم من الإنتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا، أمّا المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة.

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}

عاقبة انصار وأعداء المسيح (عليه السلام) :

الآية الاُولى والثانية تتابعان الخطاب للسيد المسيح وحال أتباعه وأعدائه، بينما الآية الثالثة فتخاطب نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) .

وبعد ذكر رجوع ا لناس إلى الله ومحاكمتهم ـ في الآية السابقة ـ يأتي في هذه الآية ذكر نتيجة تلك المحاكمة. فالكافرون والمعارضون للحقّ والعدالة سيُلاقون في الآخرة من العذاب الأليم مثل ما يُلاقون في الدنيا، ولن يكون لأيّ منهم حام ولا نصير، {فاما الذين كفروا فاعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}.

ومن الإشارة في هذه الآية إلى عذاب الدنيا نفهم أنّ الكافرين ـ وهم هنا اليهود ـ لاينجون من العذاب. وهذا ما يؤكّده تاريخ اليهود، ومن ذلك تفوّق الآخرين عليهم كما جاء في الآيات السابقة.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى الفئة الثانية وقال {وأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اُجورهم}. ثمّ يؤكد القول : {والله لا يحب الظالمين}.

تقديم مصير الكافرين على المؤمنين من أجل أن الكافرين بنبوّة المسيح (عليه السلام)كانوا يشكلون الأغلبية.

والملفت للنظر أن الآية الاُولى إكتفت بذكر الكفر فقط. أمّا الآية الثانية فقرنت الإيمان بالعمل الصالح، وهذا إشارة إلى أن الكفر لوحده يكون سبباً للعذاب الإلهي. ولكن الإيمان لوحده لا يكفي للنجاة، بل لابدّ وأن يقترن بالعمل الصالح.

وجملة {والله لا يحب الظالمين} لعلّها ناظرة إلى أن جميع معاني الكفر والأعمال السيّئة داخلة في مفهوم الظلم بمعناه الواسع. ومن الواضح أن الله لا يحب الظالمين ولا يقدم على ظلم عباده بل يوفيهم اُجورهم بالكامل.

وبعد ذكر تاريخ المسيح وبعض ما جرى له، يتّجه الخطاب إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول : كلّ هذا الذي سردناه عليك دلائل صدق لدعوتك ورسالتك، وكان تذكيراً حكيماً جاء بصورة آيات قرآنية نزلت عليك، تبيّن الحقائق في بيان محكم وخال من كلّ هزل وباطل وخرافة.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص293-297.

2 ـ إنجيل مرقس الباب 6 ـ إنجيل متى الباب 28 ـ إنجيل لوقا الباب 24 ـ إنجيل يوحنا الباب 31.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى