الإمام الجواد عليه السلام ربيع الامامة وأعجازها
الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) غصن ندي من تلك الشجرة المباركة الطيبة.. التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
فرع طيب من أصل طيب.. طابوا وطهروا من كل دنس ورجس وعيب ـ حاشاهم العيب ـ فهم أصل الطيب في هذا الوجود الرحيب..
فرع رسالي من فروع الرسالة المحمدية الخاتمة.. والتي شاءت الأقدار أن يكونوا اثنا عشر فرعاً مباركاً.. بتقدير وتعيين من خالق الأكوان، مغيِّر الألوان، مبدِّل الأحوال، الله ذي الجلال.
لأن الإمامة فرع واجب من الرسالة.. باعتبار أن هذه الوصية واجبة عقلاً ونقلاً وذلك لأن فيها المصلحة كل المصلحة.. وتركها يعني المفسدة كل المفسدة للدين والدنيا..
الإمامة والإمام
فالإمامة تابع من توابع النبوة وفروعها.. فكما يجب اتصاف النبي (عليه السلام) بجميع الكمالات والفضائل ويجب أن يكون في ذلك أفضل وأكمل من كل واحد من أهل زمانه.. لأنه قبيح من الحكيم من أن يقدم المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل المكمَّل عقلاً وسمعاً.. إذ يستحيل على الحكيم العبث.. والعبث قبيح.. والقبيح ليس مما يتعاطاه الحكيم..
فالإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني.. وكونها رئاسة في الدين ورئاسة في الدنيا، هذا يعني أن هذا الشخص هو..
1: شخص معين معهود من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
2: إنه لا يجوز أن يكون مستحق الرئاسة أكثر من واحد في عصر واحد بحق الأصالة.. وقلنا بحق الأصالة احترازاً عن النائب الذي يفوضه الإمام عموم الولاية.. فإن رياسته عامة ـ النائب ـ إلا أنها ليست بالأصالة وذلك لأن النائب المذكور لا رياسة له على إمامه..
وهذا ينطبق على تعريف النبوة ويزاد فيه بحق النيابة عن النبي على البشر[1].
فالإمام.. أمر إلهي، وروح قدسي، ومقام عليّ، ونور جلي، وسرٌّ خفي، فهو ملكي الذات.. إلهي الصفات.. زائد الحسنات.. عالم بالمغيبات، خصّاً من رب العالمين ونصاً من الصادق الأمين.. وهذا كله لآل محمد (سلام الله عليهم)، لا يشاركهم فيه مشارك، لأنهم معدن التنزيل ومعنى التأويل..
والإمامة لطف إلهي واجب.. واللطف هو ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية وهذا المعنى حاصل في الإمامة كما النبوة[2]..
وكما يصف الإمام الثامن رضا الآل (عليهم السلام) فالوصف أجمل وأكمل..
عن القسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال: كنا في أيام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو.. فاجتمعنا في جامعها في يوم جمعة في بدو قدومنا.. فأدار الناس أمر الإمامة[3].. وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها.. فدخلت على سيدي مولاي الرضا (عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه.. فتبسم ثم قال:
(يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن دينهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء.. بيَّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام… وجميع ما يحتاج إليه الملأ.. فقال عز وجل: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)[4].
وأنزل في حجة الوداع وهو آخر عمره: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[5].
فأمر الإمامة من تمام الدين.. ولم يمض (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يبين لأمته معالم دينه، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق.. وأقام لهم علياً (عليه السلام) علماً وإماماً..
وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه.. فمن زعم أن الله عزوجل لم يكمل دينه فقد ردَّ كتاب الله عزوجل.. ومن ردَّ كتاب الله فهو كافر..
هل تعرفون قدر الإمامة.. ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم..
إن الإمامة أجل قدراً.. وأعظم شأناً.. وأعلى مكاناً.. وأمنع جانباً.. وأبعد غوراً.. من أن يبلغها الناس بعقولهم.. أو ينالونها بآرائهم فيقيموها باختيارهم.
إن الإمامة خصَّ الله عزوجل بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرَّفه الله بها، فأشار بها ذكره فقال عزوجل: (إني جاعلك للناس إماما) فقال الخليل سروراً بها: (ومن ذريتي) قال الله عز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين)[6]، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة..
ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعل في ذريته أهل الصفوة والطهارة.. فقال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلةً وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين..)[7].
فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض.. قرناً فقرناً.. حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الله عز وجل: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)[8].
فكانت له خاصة فقلدها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) بأمر الله على رسم ما فرض الله.. فصارت في ذريته الأصفياء الذين أتاهم الله العلم والإيمان بقوله عزوجل: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث)[9]، فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة.. إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟
إن الإمامة.. منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء..
إن الإمامة.. خلافة الله عزوجل وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحين والحسين…
إن الإمامة.. زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين.
إن الإمامة.. رأس الإسلام النامي، وفرعه السامي..
بالإمام.. تمام الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع النفور والأطراف..
الإمام.. يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبُّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.
الإمام.. كالشمس الطالعة للعالم وهي في الأفق، بحيث لا تناله الأيدي والأبصار..
الإمام.. البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيداء القفار ولجج البحار..
الإمام.. الماء العذب على الظمّاء، والدال على الهدى، والمنجي من الردى..
الإمام.. النار على البقاع الحارة لمن اصطلى، والدليل على المسالك، من فارقه فهالك..
الإمام.. السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة..
الإمام.. الأمين الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، ومفزع العباد في الداهية..
الإمام.. أمين الله في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله والذابَ عن حريم الله..
الإمام.. المطهّر من الذنوب، المبرّأ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المارقين، وبوار الكافرين..
الإمام.. واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل، ولا له مثيل ولا نظير.. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المتفضل الوهاب.. فمن ذا يبلغ معرفة الإمام؟ ويمكنه اختياره؟ هيهات.. هيهات..!!!
ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وحسرت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباب، وكلَّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعيّت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، فأقرت بالعجز والتقصير..
وكيف أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه؟
لا وكيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين..
فأين الاختيار من هذا؟
وأين العقول عن هذا؟
وأين يوجد مثل هذا؟
ظنوا أن ذلك يوجد في غير آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!!
كذبتهم ـ والله ـ أنفسهم ومنّتهم الباطل، فارتقوا مرتقاً صعباً وحصناً تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم.. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة باترة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعداً..
قاتلهم الله أني يؤفكون..
لقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً، وضلوا ضلالاً بعيداً.. ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام من غير بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل.. وكانوا مستبصرين.. رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة.. سبحان الله وتعالى عما يشركون.)[10].
وقال عزوجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)[11].
وقال عزوجل: (وما لكم كيف تحكمون، أم لكم كتاب فيه تدرسون، إن لكم فيه لما تخيرون، أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون، سلهم أيهم بذلك زعيم، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين.)[12].
وقال عز وجل: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.)[13]، و(أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون)[14]، و(وقالوا سمعنا وهم لا يسمعون، إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون) [15]، و(قالوا سمعنا وعصينا بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..)[16].
فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول.. لا مغمز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب.. في البيت من قريش، والثروة من هاشم، والعترة من آل الرسول، والرضا من الله.. شرف الأشراف والفرع من عبد مناف.. نامي العلم كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله حافظ لدين الله..
إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم.. فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عز وجل: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون.)[17]، وقوله عزوجل: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)[18].
وقوله عزوجل في طالوت: (ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم.)[19]، وقال عزوجل لنبيه: (وكان فضل الله عليك عظيماً)[20].. وقال عزوجل في الأئمة من أهل بيته وعترته: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة.. وآتيناهم ملكاً عظيماً.. فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنم سعيراً)[21].
وإن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمهم العلم إلهاماً.. فلم يعيَ بعده الجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، وهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن الخطايا والزلل والعثار..
فخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..
فهل يقدرون على مثل هذا، فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه تعدوا وبيت الله الحق.. ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وفي كتاب الله: (فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم..)[22].
فذمهم الله ومقتهم أنفسهم فقال عزوجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)[23].
وقال عزوجل: (فتعساً لهم وأضل أعمالهم..)[24].
وقال عزوجل: (كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار)[25].
لذلك نعظم ونجل صاحب الرسالة الخاتمة، أعنى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يكون ترك شأن وأمر هذه الأمة هملاً دون أن يوصي ويبين من يقوم مقامه في أمته.. وكذلك نعظم ونجل المرسِل ـ أعني به الله عزوجل ـ أن يأخذ رسوله إلى هذا الكون وفي الرسالة نقصاً أو خللاً أو أي مجال لأي متقول عن الرسالة.. لأنه قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[26].
فالرسالة كاملة والنعمة تامة والوصية بينة وواضحة والقيادة لها أهلها وليس كل من ادعى القيادة أو جعلوا منه قائداً فقد صار قائداً في الدين والدنيا.. وربما في الدنيا يصير.. أما في الدين فلا، لأن القيادة الربانية يجب أن تكون بمستوى الرسالة وخلافة أو نيابة عن المرسِل جل جلاله.. هو المبدأ المعروف بالخلافة الربانية: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس)[27]، إذاً داود خليفة وسليمان وموسى وهارون وبقية الأنبياء والرسل (عليهم السلام) هم خلفاء لله في هذه الأرض.. وربما في الكون..
والخليفة يجب أن يكون بمستوى المستخلف لا بمستوى المستخلف عليهم ـ وهذا بالمقياس البشري ـ بل معهم وفيهم ليكون حجة وأبلغ حجة عليهم..
فالخلافة الربانية ـ كما أوضحنا ـ مسألة إلهية بالتخصيص والتعيين من الله تعالى كما الرسالة تماماً دون أية فروقات إلا بأسلوب الوحي والتلقي..
.. وهل هناك أسوأ حظاً من أمة تستبدل الإمام علي (عليه السلام) بغيره؟
وهل هناك أخيب من سعي أمة تستبدل سيدة نساء العالمين بهند وأمثالها؟
وهل هناك أبشع من عمل أمة تستبدل سيدي شباب أهل الجنة بيزيد وابن زياد والحجاج وغيرهما..؟
لكن ولكن اللعنة على لكن..
ولزيادة الإيضاح ولتقريب المسألة إلى الأذهان بشكل عام وإلى الشباب المثقف بشكل خاص فلا بأس بان نأخذ هذه الأمثلة ونقتطف هذه الكلمات لسماحة السيد الشهيد المؤلف رحمه الله.. فإنه يقول:
والإمام: هو الذي يؤمر من قبل الله بـ (الولاية التنفيذية) سواءً كان الإمام رسولاً مثل إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي خاطبه الله تعالى بقوله: (إني جاعلك للناس إماماً)[28].
أو كان نبياً غير رسول مثل الألوف من الأنبياء الذين لم يصلنا حتى أسمائهم.. أو لم يكن نبياً ولا رسولاً بل وصياً لنبي مثل آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود (عليهم السلام).. ومثل يوشع بن نون وصي موسى بن عمران (عليهما السلام).
والأنبياء الأئمة كثيرون سجل القرآن الكريم بعضهم مثل إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب الذين قال عنهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا.)[29]، والإمامة مثل الرسالة صلاحية يخولها الله كل من تنسجم مواصفاته مع (الولاية التنفيذية)..
وقد ظهرت للناس آثار (الرسالة) وصلاحية (الإمامة) من الله حينما خلق الكون وضبطه بكل عوالمه وخلائقه الكثيرة المعقدة بإدارة شاملة محكمة لا تنفلت منها نبضة عصب ولا حبة مطر.. ولا حبة نسيم.. ولا أدنى من ذلك ولا أكبر.. وتظهر هذه الإدارة في حركات المجرات المخيفة.. وفي شبكات الري المنتشرة في كافة أنحاء ورقة الكرم (العنب).. وفي المهمات الحساسة التي تؤديها الخلية المجهولة في دماغك.. وفي التفاعلات الدقيقة التي تنجزها مليارات الأشعة الفاعلة في الكون.
والناس عندما يجدون (الإلكترون) السالب يدور حول (الفوتون) الموجب دورة في الثانية.. يقولون: (الإلكترون السالب يدور حول الفوتون الموجب) ولكنهم يتساءلون: من الذي يدير هذه حول تلك..؟
وعندما يرون حبات المطر تتساقط هنا لا هناك.. يقولون: السيول تجتاح هذه المنطقة.. والمواشي تموت في تلك المنطقة على أثر الجفاف.. ولا يتساءلون.. من الذي اسقط المطر على هذه المنطقة وحرم منه تلك..؟
وعندما يسمعون أن فجوات هوائية تحدث هنا بينما هناك يرتفع ضغط الهواء.. أو عندما يعرفون مياهاً جوفية هنا.. وأطنان اليورانيوم هناك.. وحبات الألماس ترقد هنالك.. يكتفون بالاطلاع عليها والاستفادة منها فحسب.. ولا يحاولون التعرف على الجهاز الإداري الذي يؤدي هذه الأعمال.. ولا استيعاب الأسباب التي تنتهي بهذه التركيبات، تماماً كالبدوي السائح الذي يدخل مدينة متحضرة بلا مترجم ولا دليل فيرى الشاشة الصغيرة هنا تتابع عرض مشاهدها.. وهناك هوائية جبارة جامدة تحت الشمس والمطر.. وهنالك آليات متحركة تتراكض في خطوط متشابكة من الفجر الى الفجر، وإلى جانبها غرفة كبيرة تضج بأصوات آلات حديد تتحرك تلقائياً وتعج بالأسلاك متزاحمة متراكبة.. وفوق البيوت أجسام كبيرة تسبح في الهواء وتزعق بلا انقطاع.. وعلى الجدران آلة صماء معلقة يأتي الناس إليها فيرون النقود في جيبها ويظلون يتكلمون ويضحكون لها وهي لا ترد عليهم فيذهب إلى نجمة كبيرة مرمية في وسط الشارع ليخطفها إلى كوخه فينقضه تيار الكهرباء.. ويحاول أن يمر الشارع فيصرخ به الرجال.. ويريد أن ينام على الرصيف فيقوده رجال الشرطة إلى موقف.. ويدخل المطعم ويختار طعاماً يروق له منظره فلا يستطيع تناوله..
وتماماً كالطفل الذي يجد أسلحة أبيه، فيحاول التعرف عليها والاستفادة منها في أغراضه الطفولية فتنفجر بين يديه، فتدمره وتقضي على حياته..
لابد أنك رأيت في حياتك أو سمعت بمثل ذلك البدوي ومثل هذا الطفل..
بهذا الشكل يتعامل كبار علماء الطبيعيات مع الكون.. فيرون الأشياء كأنها متبعثرة، وكأن كل شيء يتحرك ارتجالياً وبدافع ذاتي بلا هدف ولا وسيلة ولا خطة لذلك يجهدون أكثر مما ينبغي ويهدرون طاقات بشرية ومادية هائلة.. ثم يستفيدون أقل مما ينبغي..
ويأتي أدلاء الكون ومصادر الوحي فيقولون: إن الكون كله وحدة مترابطة مشدودة بأسباب ومسببات.. ومسيّرة بإرادة شاملة محكمة..
فما من حبة المطر إلا ويأتي بها ملك ليضعها في موضعها المناسب.. وما من نطفة إلا ويفصل ملامحها ويخطط جغرافيتها وأعمالها ملك.. ولا تتحرك ريح ولا موج ولا نجم ولا سحاب إلا ويحركه ملك وفق خطة حكيمة.. ولا تنبض خاطرة في دماغك إلا بوحي ملك أو شيطان..
صحيح أن الله سبحانه يصمم جميع الأقدار، وأنه يستطيع أن يدير كل العوالم بلا جهاز إداري، ولكن شاء أن يديرها بجهاز إداري.. ففي بعض الحديث: (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها).. كما أن الله قادر على أن يرزق جميع الناس من فوق رؤوسهم ومن تحت أقدامهم بلا سعي ولا حاجة أحد إلى أحد..
ولكنه شاء أن يرزق الناس بمساعيهم، وأن يرزق بعضهم ببعض، (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً)[30]، وكما أن الله قادر على أن يلهم كل واحد من الناس بمساعيهم شرائع دينه بلا واسطة، كما ألهم الحيوانات وظائفها بلا واسطة، فقال: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً)[31].. ولكنه شاء أن يعلمهم شرائعهم بواسطة الأنبياء والأوصياء والعلماء..
وكما أن الله قادر على أن ينزع خصائص الأرض من الناس ليعيشوا كالملائكة هوايتهم الهدى وشهوتهم العبادة.. ولكنه شاء أن يتعرضوا للتجربة حتى يبلغ كل مداه.. فقال: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالوا مختلفين)[32].
كما أن الله قادر على أن يخلق البشر من غير أبوين.. وأن يخلق الحيوان والنبات من غير أصل.. وأن يوجد جميع الأنواع ابتداءً لا من شيء، ولكنه شاء بحكمته البالغة التي لم يؤهلنا لاستيعابها.. أن تكون سنة الخلق في سلسلات متوالدة.
هكذا شاء الله أن يوكل الكائنات إلى جهاز إداري هرمي.. وأن لا ينفذ شيء إلا بعلمه الدقيق وإرادته المباشرة.. إلا أن هذا الجهاز موكل بتنفيذ إرادة الله في خلقه.. فوظف مجموعات من الملائكة في هذا الجهاز اسماهم في القرآن بـ:(المدبرات أمراً)[33].
وجعل على كل قسم ملكاً من أعظم ملائكته فوكل (رضوان) بالجنة ووكل (مالك) بجهنم… ووكل (جبرائيل) بالرسالات والرسل وعقاب المتمردين عليها.. ووكل (إسرافيل) بنفخة الصور.. ووكل (ميكائيل) بالأرزاق.. ووكل ملكاً عظيماً اسمه (الروح) بالأقدار، ووكل (عزرائيل بالأرواح) ووكل ملكاً بالرياح وملكاً بالبحار، وملكاً بالشمس، وملكاً بالقمر، وملكاً بالأرض، وملكاً بكل سماء من السماوات.. وجعل لكل قسم من هذه الأقسام فروعاً.. ووظف على كل فرع ملكاً تتناسب مؤهلاته مع مهمته في تسلسل إداري دقيق..
ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية رجلاً من البشر يمثل قمة الهرم.. وإذا أردنا التشبيه فمن الممكن تشبيه الرجل القمة برئيس مجلس الوزراء وأن نشبه الملائكة الموكلين بالأقسام بالوزراء.. وأن نشبه الفروع الممتدة من كل قسم بالمديريات المتفرعة من كل وزارة.. والرجل القمة في جهاز الإدارة التنفيذية يطلق عليه لقب (الإمام) ويقال له: (صاحب الولاية) كما يقال له: صاحب العهد.. اقتباساً من قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً..)[34].
وإلى جانب هذا الجهاز الإداري الشامل الدقيق الذي يتولى الجانب التكويني للكائنات، يوجد جهاز إداري شامل ودقيق آخر.. يتولى الجانب التشريعي للكائنات فيما أتاح لها الإدارة المستقلة لإتمام التجربة.. وهذا الجهاز أيضاً جهاز واسع له أقسام عديدة.. وعلى كل قسم ملك من أعظم ملائكة الله، ولكل قسم فروع عليها ملائكة تتناسب إمكاناتهم مع مهامهم.. وتتوالى قواعده الهرمية ويكفي لمعرفة مدى سعة الجهاز أن نعلم..
1: أن كل إنسان عليه ملكان يراقبانه ويسجلان تصرفاته حتى النفخة والنأمة أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.. فيوظف به ملكان بالليل وآخران بالنهار..
2: إن في قلب كل إنسان (لمتان) أي جماعتان.. جماعة من الملائكة تأمره بالخير وجماعة من الشياطين تأمره بالشر.. وهنا نقطة الاحتكاك الساخنة بين الملائكة والشياطين، وموقف الإنسان أشبه بموقف الحكيم.. فإذا مال نحو الشياطين ضعفت كتلة الملائكة، وإذا مال نحو الملائكة ضعفت كتلة الشياطين.. ومن هنا يجد الإنسان في داخله نازعة الخير ونازعة الشر..
3: ان الله يوكل ملائكة عظام بالأنبياء والأوصياء وخيار عباده الصالحين لتسديدهم وتأييدهم.. كما يوكل بأنبيائه وأوصيائهم ملائكة يعلمونهم، ويخبرونهم عما يريدون الإطلاع عليه من غيب وفي حدود صلاحياتهم.. وبهذا يفسر قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول)[35]، وقوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)[36].
4: إن كل نبي أو وصي يستخدم جماعات من البشر لتحمل أعباء التبليغ، وما قد يترتب عليه من احتكاك يؤدي إلى كفاح..
هذا الجهاز الواسع أيضاً ركبه الله تركيباً هرمياً.. ووكل بكل قسم من أقسامه ملكاً من أعظم ملائكته، ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية رجلاً من البشر يمثل قمة الهرم.. وهذا الرجل يكون نبياً أو وصي نبي منصوص من قبل الله..
وتشترط فيه مواصفات تبلغ درجة العصمة.. لأن الملائكة معصومون ولا يمكن أن يقود المعصومين غير معصوم..[37].
وهذا التشبيه ـ كما لا يخفى ـ من أجل تقريب الفكرة إلى الذهان وترسيخها أكثر..