الإمام الجواد عليه السلام قدوة الشباب الناجحين
عندما بلغت الأمة مراحل الانفتاح على العالم الخارجي، بحيث بات من السهل انتشار الافكار والمعتقدات البشرية، وبدأ التطاول على الفكر الديني، واجهت الأمة، مشكلة في تحديد الإمام المعصوم والمفترض الطاعة، وذلك تحديداً بعد استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا، عليهما السلام. وهذا ما شقّ على المؤمنين الموالين لأهل البيت، عليهم السلام. فقد كان أمامهم صبيٌ لم يتجاوز من العمر، سبع أو ثمان سنين، وعلى الرغم من أنهم سمعوا تكريم الرضا لابنه الجواد، عليهما السلام، فهو يبقى صبياً في نظر عامّة الناس، ولم تمر الحالة الشيعية بمثل هذا المنعطف الخطير، بل لم تمر الأمة الإسلامية بمثل هذا الامتحان، فكيف ستنصاع رجالات الأمة وعلماؤها لصبي صغير؟!، لاسيما أن مثل هذه الحالة لم تكن مألوفة في الأوساط العربية على الخصوص.
بعض الباحثين والمؤرخين يقارنون بين الذي مرّت به الأمة في عهد الامام الجواد، عليه السلام، وما مرّ على بني إسرائيل عندما بعث الله تعالى إليهم عيسى بن مريم، يكلمهم في المهد، وكما بعث إليهم، يحيى، فأعطاه الله الحُكم والكتاب وهو صبي، {وآتيناه الحكم صبيا}، فافترقت بنو إسرائيل في عيسى فِرقاً ، منهم من آمن به، ومنهم من كذبه وكان السبب في مطاردته، وبعضهم غالى فيه، وهكذا الحال في نبي الله، يحيى، والأمر نفسه حصل في إمامنا الجواد، عليه السلام.
من هنا كان الاتفاق على اجتماع ضمّ كبار الشيعة منهم الريان بن الصلت، ويونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى وآخرون، وخاضوا في الكلام حول المأزق الذي يمرون به حتى بكى بعضهم لشدة الحيرة. فقال يونس:
دعوا البكاء حتى يكبر هذا الصبي.
فقال الريان بن الصلت:
إن كان أمر من الله جل وعلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة، وإن لم يكن من عند الله، فلو عمّر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة، ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه، وهذا مما ينبغي أن ينظر فيه.
هذا الوعي والنضج، وإن كان لدى شريحة محدودة من شيعة الإمام الجواد، عليه السلام، إلا انها كانت النواة الطيبة لنشوء جيل من المؤمنين الصادقين والموالين الحقيقيين لأهل البيت، عليهم السلام. لكن الأمة لم تكن وحدها في هذا الامتحان، فقد كان للإمام الجواد عليه السلام، الدور الكبير في تربية هذا الجيل على القيم والمفاهيم الدينية، وتأصيل العلوم والمعارف، وإعطائها الهوية الاسلامية الحقيقية، وإحكام الربط بينها وبين القرآن الكريم، وسنة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله. وهذا لم يكن لولا التصدّي الباهر لدور الإمامة مما أسكت المخالفين والمشككين. ورغم الفترة القصيرة التي عاشها الإمام عليه السلام، بين الأمة، وهي تتراواح بين ثمان وتسع سنين فقط، إلا أن التاريخ يقرّ للإمام حضوراً مشابهاً لحضور سائر الإئمة من حيث إثبات الإمامة والولاية وغزارة العلم والمعرفة.
وربما يكون هذا درساً للشباب، واصحاب الطموحات الكبيرة وهم في مقتبل العمر، فما يحملونه من طموحات كبيرة، هذا التحدي يعلمنا الإمام الجواد عليه السلام، كيفية تجاوزه.
فلما رأى الإمام، عليه السلام، الحيرة على وجوه المؤمنين والناس بشكل عام، صعد المنبر في مسجد جده رسول الله ، صلى الله عليه وآله، بعد رحيل والده وخطب في الناس قائلاً: “أنا محمد بن علي الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه، علمٌ منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين، وبعد فناء السماوات والأرضين، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشك لقلت قولاً تعجب منه الأولون والآخرون”.
وبعد هذه المقالة، توافد عليه العلماء وأهل المنطق والكلام والحديث والتفسير، فسألوه وأكثروا في ذلك، فوجدوا أنهم أمام بحر واسع لا نهاية له من العلم والمعرفة، فكان يجيب على جميع الأسئلة دونما ضجر ولا ملل، بما فضّل الله تعالى عليه. ويؤكد المؤرخون أنه يجيب بشكل قاطع، دون تردد ولا تأنّي، وهذا تجسيد لقمة الإيمان، وقوة النفس وثبات اليقين، وهو ما يجب أن يقتدي به كل شاب طموح نحو ارتقاء مدارج العلم والمعرفة.
الإمام والمربّي
المعروف عند الناس، أن المربي والناصح والموجه، يكون في مرحلة عمرية متقدمة، كأن يكون شيخاً كبيراً أو على مسافة عمرية بعيدة عمن يتلقى النصح والإرشاد والتوجيه، بيد أن المعادلة في سيرة حياة الإمام الجواد، عليه السلام، تختلف تماماً، فكان ابن الخامسة عشر وربما أقل أو اكثر، وهو يتصدر المجلس ويجيب على أسئلة الناس بما يكرس لديهم القيم الانسانية والاخلاقية.
فهذا درسٌ في استشعار المسؤولية بالآخرين، وتفضيل أداء الدين على المكوث عند بيت الله الحرام، أو عند الحرم النبوي الشريف. فقد روى الشيخ الطوسي في “التهذيب”، عن أبي ثمامة قال: قلت لاَبي جعفر الثاني، عليه السلام: إنّي أُريد أن ألزم مكة أو المدينة ، وعليّ دين، فما تقول؟
قال عليه السلام: “ارجع إلى مؤدي دينك واُنظر أن تلقى الله عزَّ وجلَّ وليس عليك دين، إن المؤمن لا يخون”.
وعن الصبر على فقد الأحبة والأعزاء، ما ذكره “الكافي” أن الامام، عليه السلام كتب إلى رجل: “ذكرت مصيبتك بعلي ابنك ، وذكرتَ أنه كان أحبّ ولدك إليك ، وكذلك الله عزَّ وجلَّ إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله؛ ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة . فأعظم الله أجرك ، وأحسن عزاك ، وربط على قلبك ، إنّه قدير ، وعجّل الله عليك بالخلف ، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله تعالى”.
ودرسٌ رائع في التعامل مع الوالدين، حتى وإن كانا خاطئين، فالخطأ لا يبرر بأي حال من الاحوال، التنكّر لهم والتجاوز على حرمتهم ومكانتهم التي أوصى بها الله تعالى. فقد جاءه ذات مرة أحد الاشخاص يسأله قائلاً:
إن أبي ناصبيّ خبيث الرأي، وقد لقيت منه شدّة وجهداً ، فرأيك ـ جعلت فداك ـ في الدعاء لي ، وما ترى ؟ أفترى أن أكاشفه أم أُداريه؟
فكتب : “قد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر أبيك ، ولست أدع الدّعاء لك إن شاء الله ، والمداراة خير لك من المكاشفة ، ومع العسر يسر ، فاصبر إن العاقبة للمتقين، ثبتك الله على ولاية من تولّيت ، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا يضيع ودائعه”.
يقول ذلك الشخص: فعطف الله بقلب أبيه حتى صار لا يخالفه في شيء.
الحزم أمام الانحراف
من الواضح، أن القائد يحرص دائماً على تحصين القاعدة والأمة ثقافياً وفكرياً وعقائدياً، ليحفظ الاطار العام للسلوك القويم في المجتمع، ويجنّب الناس الانزلاق في متاهات العقيدة والفكر، لأن في غير ذلك، لن يكون بوسعه تعبئة الناس وتوجيههم والتأثير فيهم، وهي من أهم شروط القيادة. بيد أن مواقف طارئة ربما تحصل في الطريق، غير متوقعة، تتطلب الحزم والقطع بلا تردد، وتغليب كل المصالح والاعتبارات، لاسيما اذا تعلق الامر بعقيدة الناس ودينهم.
وهذا ما جسّده الامام الجواد، عليه السلام، وهو في ريعان شبابه، يتولّى قيادة الأمة، إماماً مفترض الطاعة. فقد عاصر الاِمام، عليه السلام، حمّى ظهور المذاهب الكلامية والعقائدية، وكانت آخذة بالانتشار في البلاد الاسلامية. والى جانب النزعات الانسانية للظهور والتسيّد، كان هنالك الاهتمام والحاجة من الحاكم للعب بالورقة المذهبية من جهة، وتربية جيل من وعّاظ السلاطين، يحقق من خلالهم طموحاته السياسية. فعاصر الإمام الجواد، عليه السلام، “الاعتزال” الذي ابتدعه المأمون العباسي، كما عاش تيارات فكرية عديدة، ابرزها “الجبرية” و”المشبّهة” و “الواقفية”، غيرها. ووقف منها موقف الشعاع المضيء الذي لم يترك لهم زاوية مظلمة إلا أضاءها وكشفها للناس أجمعين.
ليس هذا وحسب؛ إنما راقب المحيطين به، فلم يكن جميعهم من المؤمنين الحقيقيين الى النفس الأخير، إنما كان من يظهر شيئاً ويستبطن آخراً. ومن هؤلاء من كان يدعى بـ “الخطاب”، و هو محمد بن أبي زينب مقلاص الاَسدي الكوفي الاَجدع . وكان في بادئ أمره من أصحاب الاِمام الصادق، عليه السلام ، ثم انحرف عن نهج أهل البيت، عليهم السلام ، بل وعن الدين، فأخذ ينسب أباطيله وعقائده الفاسدة إلى الاِمام الصادق عليه السلام، كذباً وزوراً ، وتبعه عدد من المضلّلين والنفعيين حتى شكّلوا فرقة سمّيت فيما بعد بـ “الخطّابية” . من عقائدهم زعموا أن الصلاة والصيام والتكاليف الاُخرى ، والخمر والزنا والسرقة وغيرها هي أسماء رجال، والآيات القرآنية الآمرة بأداء تلك الاَعمال والناهية عنها ، إنّما هي آمرة بمحبة أولئك الرجال أو النهي عن محبتهم فقط! كما أظهروا كثيراً من البدع والضلالات والاِباحات، حتى وصل بهم الاَمر إلى الدعوة إلى نبوّة أبي الخطاب.
و يروى عنه عليه السلام، قال: وقد ذُكر عنده أبو الخطّاب ـ “لعن الله أبا الخطّاب ، ولعن أصحابه، ولعن الشاكّين في لعنه ، ولعن من وقف فيه ، وشك فيه…” .
وبالاِضافة إلى لعن الاِمام عليه السلام، لاَبي الخطّاب وأصحابه ، فإنّه اتخذ موقفاً حاسماً من “الواقفية” وغيرها. وتجسدت هذه المواقف في نهيه عن التعامل مع “الفطحية” و “الواقفة” ولم يجوّز الصلاة خلف أحدهم.
النجاح والحسد
بما أن النجاح والتفوق والوقوف على القمة، يجتذب الأنظار بشكل لا إرادي، فان اصحاب الطموحات الكبيرة، يجب ان يضعوا في حسبانهم أنهم سيكونوا هدفاً لنظرات البعض من الفاشلين والوضيعين، وتجاهل هؤلاء، احياناً لا يكون سهلاً، لاسيما اذا تعلقت القضية بالقيادة السياسية أو الروحية، والوقوف على قمة التأثير في الأمة، فيكون الاحتفاظ بهذه المنزلة – حتى وإن كان صاحبها محقاً- محفوفاً بالمخاطر والتحديات.
وهذا ما واجهه إمامنا الجواد، عليه السلام. فقد كان هنالك من المحسوبين على العلم والعلماء،ومن وعاظ السلاطين يُدعى “إبن أبي داوُد”. ينقل أحد المقربين منه وأصحابه، أنه كان ذات مرة عند المعتصم العباسي، وكان في المجلس الإمام الجواد، عليه السلام. لكنه عاد من هناك بغمّ شديد، فسأله عن ذلك، فقال: وددت اليوم أني قد متّ منذ عشرين سنة، فقال له صاحبه: ولِمَ ذاك؟
قال: لِما كان من هذا الأسود..! يقصد الإمام الجواد، عليه السلام.
قلت له: وكيف كان ذلك؟
قال: انّ سارقاً أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت: من الكرسوع.
قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قلت: لأن اليد هي الأصابع والكف الى الكرسوع، لقول الله في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (سورة المائدة:6) وأتفق معي على ذلك قوم.
قال: فألتفت الى محمد بن علي عليه السلام، فقال: ماذا تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين، قال: دعني مما تكلّموا به، أيّ شيء عندك؟ قال: إعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه.
فقال: اما إذا أقسمت عليّ بالله اني أقول: أنهم أخطأوا فيه السنّة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف، قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله: “السجود على سبعة أعضاء، الوجه واليدين والركبتين والرجلين”، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال تبارك وتعالى: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ”. (سورة الجن:18)، يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها: “فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً”، وما كان لله لم يقطع.
قال: فاعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف، قال: بن أبي داوُد: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حيّاً.
نار الحسد لم تنطفئ في نفس بن أبي داوُد، بل ظلت مستعرة ثلاثة أيام، حتى دخل الى المعتصم، وقال له: إنَّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة قال: وما هو؟
قلت: إذا جمع امير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلمائهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبره بما عندهم من الحكم في ذلك وقد حضر في مجلسه أهل بيته وقواده و وزرائه وكتّابه، وقد تسامع الناس ذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟!
وفي ذلك إشارة منه الى المجلس الذي تجاهل فيه المعتصم بن ابي داوُد، وكانت هذه الوشاية الكاذبة إسهام من هذا الواعظ السلطاني للإيقاع بالإمام، عليه السلام، والتخلّص منه.
هذا الحسد المشتعل إزاء الإمام الفذ والشاب اليافع، لم يقتصر في أروقة البلاط وفي أوساط العلم وأنصاف العلماء، إنما أبتلي به الإمام، عليه السلام، في بيته وبين حريمه، فبعد انحراف ابنة المأمون “أم الفضل” و زوجة الإمام الجواد، عليه السلام، عن النهج النبوي والاخلاق المحمدية، لاقت المقاطعة من لدن الإمام عليه السلام، ولاحظت اهتمامه وعطفه على الإماء، ومنها والدة الإمام الهادي عليه السلام، وطالما شكت ذلك عند أبيها المأمون قبل موته، لكن في نهاية المطاف وفي عهد المعتصم العباسي، وبالتواطؤ مع ابن المأمون “جعفر” دسّت هذه المرأة السمّ في طعام الإمام، فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي، فقال: ما بكاؤك؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر.
فماتت بعلة، يصفها التاريخ: “في أغمض موضع من جوارحها”، فأنفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلة حتى إحتاجت إلى الاستعانة. أما الإمام الجواد، عليه السلام، فبقي ويبقى مشعلاً وهّاجاً للأجيال الصاعدة، تستلهم منه دروس التحدي والصمود أمام العواصف من كل الاتجاهات، السياسية والاجتماعية والفكرية.