الإمام الرضا (عليه السلام) .. يُفْشِل المخططَ العباسي
أثارت قضية عقد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) عاصفة سياسية وأزمة شديدة بين المأمون وبين العباسيين وأتباعهم وصلت إلى حد التهديدات ورمي المأمون بشبهة النسب من قبل عمه إبراهيم بن المهدي، ولكن كل هذه الزوابع من الأصوات الرافضة من قبل أفراد السلطة الحاكمة من العباسيين ذهبت أدراج الرياح أمام إصرار المأمون على تنفيذ ما أراده حتى تحوّلت تلك الآراء إلى معارضة من قبل العباسيين، ومن ثم خلع المأمون وتولية إبراهيم بن المهدي ـ أخو الرشيد ـ المعروف بـ (ابن شكله) الخلافة في بغداد رغم أنه لم تكن فيه أية خصلة أو مزية تؤهله لذلك، لكن المأمون سرعان ما تدارك الموقف وقضى على حركة إبراهيم سريعاً.
فماهي الغاية التي دفعت المأمون إلى عقد ولاية العهد للإمام الرضا واتخاذ مثل هذا القرار الخطير الذي لم تعهد له السياسة العباسية مثيلاً من قبل والذي يمثل ظاهرة غير مسبوقة في تاريخها ؟
وما هي الدوافع التي جعلته يشرك في حكمه أعداءه من العلويين ؟
ألم يكن أسلافه من العباسيين يقتلونهم ويشردونهم في البلاد وقد تلطخت أيديهم بدمائهم ؟
ثم لِمَ لَمْ يتنازل المأمون عن عزمه بعد كل النصائح والمقترحات وحتى التهديدات من قبل العباسيين الذين حاولوا ثنيه عن عزمه في عقد ولاية العهد للإمام الرضا فبقي مصراً على رأيه كل هذا الإصرار فأثار حفيظة العباسيين وغضبهم عليه.
هل كان المأمون زاهداً بالخلافة كما يظن بعض المؤرخين وقرر أن يعيد الحق إلى نصابه ويرجع الخلافة إلى أهلها الحقيقيين ؟ وهل كان صادقاً فيما عزم القيام به ؟ وهل كانت دوافعه عن قناعة تامّة بأحقية البيت العلوي بالخلافة، أم أراد بهذا العمل شيئاً آخر وقد اتخذ من هذه اللعبة وسيلة للوصول إلى غاياته ؟ وإذا كانت هذه هي وسيلته فما هي الغاية من ذلك ؟
إن مجرد التفكير في الغاية التي أرادها المأمون من خلال هذا العمل يرجعنا إلى الأساليب السياسية الدبئية والسيرة الإجرامية لهذا البيت الدموي الذي امتلأ تاريخه الأسود بقطع الرؤوس والأعضاء وسمل الأعين والإحراق والسجون ودفن الأحياء والبناء عليهم والتعذيب والتشريد وغيرها من الأساليب البشعة والوسائل المرعبة.
ما هي غاية التي أرادها المأمون ؟ وما الذي دفعه إلى لعب هذه اللعبة التي لا تنطلي على كل متتبع للتاريخ السياسي العباسي ؟ وهل يُعقل أن خليفة عباسي يحول الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي برغبته واختياره وبطريقة سلمية وإلى إمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ؟ إن هذا هو المستحيل الحدوث بعينه، وإن حدث فإن وراءه أمر خطير ويحتاج إلى الوقوف عنده طويلا.
آراء المؤرخين
وقبل التطرّق إلى هذه الغاية، وشرح الدوافع والغايات، وتسليط الضوء على ملامح تلك الفترة وملابساتها والأحداث السياسية التي دفعت بالمأمون أن يلعب بورقته هذه، نستعرض بعض أقوال المؤرخين والكتاب ثم نطابقها مع النوازع الشخصية للمأمون وسياسته وأعماله ومدى مصداقية ما عزم عليه من تولية الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد إضافة إلى عرض الأحداث والملابسات التي فرضت عليه أن يصدر مثل هذا القرار الخطير.
إن دافع المأمون من مبايعة الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد كما يقول الطبري في تاريخه (ج7ص135)، وابن الأثير في الكامل (ج1ص111)، واليعقوبي في تاريخه (ج3ص176) إنه: (نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحداً هو أفضل ولا أروع ولا أورع ولا أعلم منه).
وقال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين (ص563): (إن المأمون كان خلال صراعه مع أخيه الأمين قد عاهد الله أن ينقل الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب وإن الرضا هو أفضل العلويين).
أما السيوطي في (تاريخ الخلفاء) (ص307) فيرى: (إن المأمون قد حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل إنه همّ أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه) ـ أي إلى الإمام الرضا (عليه السلام) ـ !
ويرى الفخري في الآداب السلطانية (ص198): (إن المأمون فكّر في حال الخلافة بعده وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها لتبرأ ذمته) !
أما الجهشياري في (الوزراء والكتاب) (ص312): فيقول: (إن المأمون أراد أن يصل الأرحام التي قطعت منذ سنوات عديدة) !
شذوذ أحمد أمين
ونكتفي بهذه الآراء من المؤرخين القدماء لنأخذ رأياً من الكتاب المحدثين للـ (دكتور) أحمد أمين من كتابه (ضحى الإسلام) (ص295) والذي وضع لدافع المأمون أربعة أسباب نلخصها هنا بما يأتي وهو: (إن المأمون أراد أن يصلح بين البيتين العلوي والعباسي ويجمع شملهما ليتعاونا على ما فيه خير الأمة وصلاحها، وتنقطع الفتن وتصفو القلوب، وإن المأمون كان معتزلياً على مذهب معتزلة بغداد ويرى أحقية علي وذريته بالخلافة فأراد أن يحقق مذهبه، كما أنه كان واقعاً تحت تأثير وزيريه الفضل والحسن ابني سهل الفارسيين، وإن الفرس كان يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما حتى استجاب لهما وأقرها ونفذها، وكان المأمون أيضاً يرى إن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس، فإذا تولّوا الحكم ظهروا للناس وبان خطؤهم وصوابهم فزال هذا التقديس) !
والسبب الرابع الذي ذكره هذا (الدكتور) والذي لم يجرؤ أحد من المؤرخين القدامى على تبنيه طرحه بجرأة أكثر في كتابه (المهدي والمهدوية) حيث قال ما نصه: (إن هؤلاء الأئمة ـ يقصد أئمة أهل البيت ـ كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء فأراد المأمون أن يُظهرهم ليعرفهم الناس على حقيقتهم) !!!
نظرة في الآراء
وبغض النظر عن هذا الرأي الشاذ الذي تبنّاه (الدكتور) فإن المؤرخين حاولوا أن يُظهروا المأمون بمظهر الرجل الزاهد، والخليفة الصالح العادل، دون أن يستندوا إلى الواقع التاريخي، ويقتبسوا نظرتهم من عمقه، ودون أن يحللّوا مجريات الأحداث في عصر المأمون، وهذا ليس بغريب عليهم فقد عُرفوا باختلاق الأسباب والآراء والتبريرات للأحداث التاريخية حسب ما يلائم أهواءهم ونزعاتهم تارة، وبما يتلائم مع هوى السلطة في سياستها على إخفاء الحقائق والطعن في التشيع تارة أخرى.
أما رأي (الدكتور) الذي أفرزته عقده النفسية، وأمراضه العصبية المزمنة، فلنا معه وقفة. فهذا المأفون الذي سخّر قلمه لهواه واتبع شيطانه فأضله في كل ما يكتب هو وريث المدرسة (الهريرية) التي ابتدعها معاوية في وضع الأحاديث وابتداعها لخدمة مصالحه السياسية وضرب منافسيه، وقد حمل لواء الكذب والتزوير والإفتراء بعد سيده أبي هريرة لإكمال هذه المهزلة التي حلت بالتاريخ الإسلامي !
تساقط الآراء أمام الحقائق التاريخية
الرأي الذي أبداه الطبري وابن الأثير واليعقوبي من أن سبب تولية المأمون العهد للإمام الرضا أنه: (نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحداً هو أفضل ولا أروع ولا أورع ولا أعلم منه)، هو ما قاله المأمون نفسه، وتظاهر به، ولكنه مخالف لما أضمر في نفسه، وأظهره من خلال سياسته ومن ثم اعترافه بنفسه بما يخالف قوله، فلا يمكن للمؤرخ أن ينقل الحدث دون تحليل لتتابع الأحداث بعده أو النظر إلى ما قبله.
ولنا أن نسأل الطبري وابن الأثير واليعقوبي ونقول لهم: أيها السادة: هل كان المأمون أفضل من أبيه هارون عندما فطن إلى أن الإمام الرضا (عليه السلام) هو أفضل وأورع وأعلم إنسان في وقته ولم يفطن إلى ذلك أبوه، وقد توفرت هذه الخصال عند الإمام الكاظم (عليه السلام) أم كان المأمون أفضل من جده وأسلافه فلم يفطنوا إلى توفر هذه الصفات التي ذكروها بالورع والعلم والصلاح عند الإمام الصادق (عليه السلام)، وهم (عليهم السلام) كلهم كانوا في نفس المرتبة من العلم والتقوى والصلاح وقد اشتهر عنهم ذلك ؟
يقول الجاحظ في آثاره (235) عنهم: (كل واحد منهم (عليهم السلام): عالم، زاهد ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، والذين هم بين خليفة، أو مرشح لها) ؟.
ولكنهم تعرّضوا إلى القتل والسجون الإضطهاد على يد العباسيين، فإن قلتم إن المأمون كان أفضل من أسلافه فهذا منافٍ تماماً للواقع التاريخي، بل إنه فاقهم في إجرامه بحق العلويين.
أما قول أبي الفرج الأصفهاني: (إن المأمون كان خلال صراعه مع أخيه الأمين قد عاهد الله أن ينقل الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب وإن الرضا هو أفضل العلويين).
فنقول له وهو الخبير بوعود وعهود العباسيين: لِمَ لَم ينقل الخلافة إليه إذاً ؟ ولِمَ لَم يلح على طلبه بنقل الخلافة وألح عليه بولاية العهد ؟ وليتك يا أبا الفرج ذكرت لنا موقفاً واحداً في تاريخهم يدل على أنهم قد حافظوا على عهد، أو التزموا بوعد، أو راعوا ذمة ؟ أحين بايع إبراهيم والسفاح والمنصور محمداً ذي النفس الزكية ثلاث مرات ثم نقضوا بيعته وقتلوه ؟ أم حين أعطى هارون الأمان ليحيى بن عبد الله بن الحسن ثم قتله ؟ أم حين أعطى المأمون نفسه الأمان لمحمد بن جعفر الصادق ثم قتله غيلة بالسم ؟ أم حين أعطوا الأمان للهبيري ثم قتلوه ؟ أم حين قتلوا من أرسى لهم دولتهم، وثبّت لهم قواعدها، وألان لهم صعبها، وسهّل لهم طريقها، وأزال عقباتها، أمثال أبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال؟ أم حين أعطوا الأمان لعمهم عبد الله بن علي ثم قتلوه ولم تنفع فيه شفاعة أخوته وذويه ؟ أم حين أبادوا مدينة كاملة بعد أن أمنوا أهلها ؟ وفي ذلك يقول الشاعر أبو فراس الحمداني:
لا عن أبي مسلمٍ في نصحهِ صفَحوا *** ولا الهبيريَ نجا الحلفُ والقسمُ
ولا الأمانَ لأهلِ الموصلِ اعتمدوا *** فيه الوفاءَ ولا عن عمهم حَلَموا
أما قول السيوطي: (إن المأمون قد حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه) ـ أي إلى الإمام الرضا (عليه السلام) ـ.
فنقول له متى عُرف لهؤلاء دين يدينون به، أو ملّة أو مذهب يعتقدون به سوى دين القتل والإرهاب وقطع الرؤوس والسجون والتعذيب والتشريد ؟ متى عُرف لهم مذهب سوى مذهب اللذة والخمر والنساء والجواري والتهتك والمجون والإنحلال ؟ فهل خفي عليك أيها السيوطي ذلك وأنت الخبير بلياليهم الحمراء وجلسات السمر والمجون والخلاعة ؟ ألم تكتب أنت بنفسك في تاريخهم الماجن كمّاً هائلاً من المؤلفات التي يندى من ذكر عناوينها جبين أي إنسان لديه ذرة من عفة ؟ وليتك قرأت رسالة الخوارزمي إلى أهل نيسابور والتي يعدد فيها (إفراطهم) في الفجور وليس في التشيع كما ذكرت وإن كنت تعلم ذلك وناقضت نفسك بنفسك فلنستمع معك إلى بعض فقرات هذه الرسالة التي يقول فيها:
(وماذا أقول في قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات، وحرثوا تربة الحسين (عليه السلام) بالفدان، ونفوا زواره عن البلدان، وما أصف من قوم هم: نطف السكارى في أرحام القيان ؟ ! وماذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا، وفيهم راح التخنيث وغدا، وبهم عرف اللواط ؟! كان إبراهيم بن المهدي مغنياً، وكان المتوكل مؤنثاً موضعاً، وكان المعتز مخنثاً، وكان ابن زبيدة معتوها مفركا، وقتل المأمون أخاه، وقتل المنتصر أباه، وسم موسى الهادي أمه، وسم المعتضد عمه……)
عجباً هل فاتك كل ذلك يا سيوطي لكي تنسب واحداً من طواغيت هذا البيت المخزي إلى التشيع ؟
أما الفخري والجهشياري فإن قولهما: (إن المأمون أراد أن يصل الأرحام التي قطعت منذ سنوات عديدة)، و(إن المأمون فكّر في حال الخلافة بعده وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها لتبرأ ذمته) لممّا يضحك الثكلى والله!
عن أية رحم يتحدثون عنها وهم أمام رجل قتل أخاه؟؟ بل إنه أعطى لقاتله ألف ألف (مليون) درهم ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه ؟ وأية ذمة يجعلونها لرجل قد ماتت عنده الذمة والضمير ؟ بل إنه يتفنن في قتل ضحاياه يقتل الفضل ويبكي عليه ويقتل الرضا ويبكي عليه ويقتل طاهر بن الحسين ويولي أبناءه مكانه والله لا أدري هل يضحك الإنسان على عقول هؤلاء أم يبكي لما آلت إليه دراسة التاريخ.
الرد على أكاذيب أحمد أمين
أما بالنسبة (للدكتور) الذي رسم للمأمون صورة رومانسية فقال: (أراد المأمون أن يصلح بين البيتين العلوي والعباسي ويجمع شملهما ليتعاونا على ما فيه خير الأمة وصلاحها وتنقطع الفتن وتصفو القلوب).
فللدكتور أن يسأل نفسه قبل غيره من زرع فتنة خلق القرآن التي شبّت بها نار الحرب بين المسلمين وجرت بسببها ما لا يحصى من الدماء ؟
وهل كان المأمون يهمه إن كان القرآن مخلوقاً أم غير مخلوق عندما بذر هذه الفتنة ؟ وهل كان ذلك الخليفة بالذي يهتم لأمر المسلمين ولم يبق عليه شيء وأنهم كانوا يعيشون في حياته حياة النعيم والرفاهية ويتنعمون بحقوقهم ولم ينقصهم شيء سوى العلم بخلق القرآن من عدمه ؟
اتقِ الله يا دكتور وقل الحقيقة التي من أجلها زرع المأمون هذه الفتنة في الأمة الإسلامية وهي لكي يشغلها عن الجرائم التي يرتكبها والأموال التي يهدرها على ملذاته فيما يعيش المسلمون حياة الضنك والجوع والخوف والإذلال، وهل إن المأمون كان يقيم للدين وزنا لكي يقيم لمذهب كالمعتزلة أو غيره وزنا ؟
وهل أن شخصاً مثل المأمون يريد الإصلاح والتعاون على ما فيه خير الأمة، وقد جلب الويلات على الأمة الإسلامية في حروبه مع أخيه وقمعه للثورات العلوية وقد كلف قمع ثورة أبي السرايا وحدها (200) ألف جندي في ظرف عشرة أشهر وقد أصبحت البلاد الإسلامية فيها بلاداً منكوبة لكثرة القتل والنهب والسلب وخاصة بغداد ؟! أهكذا يكون الإصلاح برأيك أيها الدكتور ؟
وإذا كانت هذه غايته فلماذا رفض الإمام الرضا (عليه السلام) طلبه ؟ هل كان المأمون يريد إصلاح أمر المسلمين والرضا لا يريد ذلك ؟ هلا راجعت نفسك يا دكتور قبل موتك وتكلمت بلغة العقل ؟
أما قولك: (أنه كان واقعا تحت تأثير وزيريه الفضل والحسن ابني سهل الفارسيين وإن الفرس كان يجري في عروقهم التشيع فما زالا يلقنانه آراءهما حتى استجاب لهما وأقرها ونفذها).
فهذا القول إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على جهلك وحماقة من أعطاك لقب (دكتور)، وقد ذكرنا في بداية المقال إن العباسيين بأجمعهم وأتباعهم ووزرائهم عارضوا قرار المأمون بتولية الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد، ومن ضمنهم الفضل والحسن. وقد قال بذلك أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) (ص562)، وابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة (ص270)، والشبلنجي في (نور الأبصار) (ص142)، إضافة إلى إجماع المصادر الشيعية الكثيرة على ذلك والتي ذكرت ما نصه: (إن الفضل والحسن ابني سهل مانعا في عقد العهد للرضا).
فمن أين أتيت برأيك (العظيم) هذا يا دكتور ؟ ومن هما الفضل والحسن أمام هذا الداهية الدكتاتور الذي لا يكون الفضل وأخوه وغيرهما أمامه إلا دمى يحركها كيفما يشاء ؟ كيف هذا يا دكتور ؟ ألم تفطن إلى أن المأمون قتل أخاه واتهم الفضل بذلك، وولّى الرضا ولاية العهد ثم لما أخفق في تحقيق غاياته منها أشاع بين الناس أن الفضل أشار عليه بذلك لكي يتخلص منه وعندما أمر جماعة بقتل الفضل أمر بإحضارهم واتهمهم بقتله وقتلهم وهكذا ؟ ..
أما بالنسبة لقولك الذي لا يقوله حتى الزنديق: (وكان المأمون أيضاً يرى إن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئاً من التقديس فإذا تولّوا الحكم ظهروا للناس وبان خطؤهم وصوابهم فزال هذا التقديس) و: (إن هؤلاء الأئمة ـ يقصد أئمة أهل البيت ـ كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء فأراد المأمون أن يظهرهم ليعرفهم الناس على حقيقتهم) !!!
هذا القول سوف تقف بسببه بين يدي الله طويلا ونحن لا نرد عليك بالمصادر التاريخية التي لم تجرؤ كلها على دون ما قلت بل أشادت كلها بفضائل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وإن كنت لم تطلع عليها كلها ألم تقرأ أو تسمع قوله تعالى في آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾. حينها ستود أنك قد بكمت وصممت وشللت ولم تكن قلت ما قلت.
والآن بعد أن تهاوت كل الأسباب التي وضعها المؤرخون والتي غالطوا بها أنفسهم بأنفسهم وبعدما تبين سطحية تلك الآراء نعود للسؤال:
ما هي الدوافع التي من أجلها عقد المأمون ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) ؟
العباسيون والماضي الدموي
قبل الحديث عن هذه الدوافع والأسباب لولاية العهد نرى أنه لا بد من المرور ولو سريعاً على الماضي الأسود للخلافة العباسية التي سبقت عهد المأمون ومن ثم كيفية وصول المأمون للسلطة وما واجهه من التحديات التي كادت أن تزيل خلافته لولا حنكته ودهائه ومكره وغدره.
من المعروف إن العباسيين وصلوا إلى الخلافة عن طريق الدعوة لأهل البيت (عليهم السلام) والبيعة إلى (الرضا من آل محمد)، واستغلوا تعاطف الناس مع مظلومية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من قبل الأمويين وخاصة واقعة الطف الدموية، وغيرها من المجازر التي ارتكبها الأمويون بحق العلويين، وقد بايع (السفاح) و(المنصور)، محمداً بن عبد الله بن الحسن المثنى، ثلاث مرات، مرة بالإبواء وأخرى بالمدينة وأخرى بمكة ، في جملة من بايعه، ولولا اعطاء دعوتهم صبغة الثأر لأهل البيت والقيام لهم لما قامت للعباسيين قائمة.
فلما آلت الخلافة الى السفاح (ابو العباس)، عمل كل ما بوسعه على استبعاد العلويين من كونهم هم (أهل البيت) و (العترة)، ولصق هذه الصفة بالعباسيين وسخّر لدعايته هذه الولاة والشعراء وغيرهم، ولم تفارق هذه السياسة الخلفاء الذين جاؤوا بعده، بل تعددت انشطتها وكثر محرفوا الآيات من وعاظ السلاطين ومزيفوا الحقائق من المؤرخين والشعراء وغيرهم.
وهذه السياسة لم تكن جديدة في تاريخ الخلافة، فقد سبقهم الأمويون إليها عندما حضر عشرة من علماء الشام وحلفوا للسفاح انهم ما كانوا يعرفون أهل بيت للنبي (صلى الله عليه وآله) غير بني أمية !!
ولازال هذا الأمر مستمراً حتى الآن فلا زال أحفاد هؤلاء الطلقاء يبذلون جهودهم ويحاولون بكل ما بوسعهم تزييف الحقائق لإبعاد أقرب الناس إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وإلصاق البعيد به، وهذا الحديث يجرنا إلى موضوع لسنا هنا بصدده فله جذور تاريخية بدأت في السقيفة، واتبعته الحكومات التي تلتها.
وقد سلك بنو العباس في خلافتهم نفس السياسة الأموية فقد دعوا إلى أهل البيت (عليهم السلام) ونجحت دعوتهم بهم فسرقوا باسمهم الخلافة وعندما استقرت لهم الخلافة أبعدوا العلويين عنها وحاربوهم وقتلوهم، ولكنهم لم ينسوا أن يلجأوا إليهم كلما اضطرب عرشهم وتزعزع ملكهم، وهذا الإسلوب اتبعه المأمون في عقد ولاية العهد للامام الرضا (عليه السلام)، وهو أحد الأسباب في ذلك كما ستأتي بقية الأسباب الأخرى.
لذة القتل عند العباسيين
منذ أن استولى العباسيون على زمام السلطة انصب اهتمامهم على تصفية العلويين فمارسوا أبشع الأساليب القمعية لإبادة العلويين عن بكرة أبيهم.
وفي عرض موجز لسياسة كل خليفة تجاه العلويين قبل المأمون تتضح السادية التي جُبل عليها بنو العباس وشغفهم بسفك الدماء.
فقد سلّط السفاح على العلويين جلاوزته لقتلهم، وكان يضع عليهم الجواسيس والعيون، أما المنصور فقد اتبع سياسة هوجاء تجاه العلويين فكان يضعهم في الاسطوانات، ويبنيها عليهم، ويسمّرهم في الحيطان، ويتركهم يموتون جوعاً، ثم يهدم المطبق على من تبقى منهم حياً، وهم في أغلالهم، إلى الكثير من الأساليب البشعة، وتعد سياسة المنصور تجاه العلويين، من أقبح صفحات التاريخ العباسي ومن أقسى فترات العلويين في عهدهم.
أما المهدي فقد كان يتهم من يوالي أهل البيت بالإلحاد، وهي ذريعة للإيقاع بهم وقتلهم، أما الهادي فقد عاش العلويون في عصره عصر رعب وكان يتشدد في طلبهم وقتلهم، وقد جرت في عصره واقعة فخ الدموية التي حمل فيها أكثر من مائة رأس علوي إليه فأمر بصلبها وعرضها على الناس، أما الرشيد فليس أدل من قول (الخوارزمي) في وصف سياسته القمعية الدموية تجاه العلويين حيث قال: (الذي حصد شجرة النبوة واقتلع غرس الامامة). ومن أراد التوسّع فليرجع إلى كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الاصفهاني الذي نقل بعض جرائم العباسيين بحق العلويين لأن جرائمهم لا تعد ولا تحصى حتى قال الشاعر:
تالله ما فعلت أمية فيهم *** معشارَ ما فعلت بنو العباسِ
اعتراف المأمون بجرائم أسلافه
وهذه الجرائم اعترف بها المأمون نفسه في الكتاب الذي أرسله إلى العباسيين حيث قال: (حتى قضى الله بالأمر إلينا فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم….. ويحكم إن بني أمية قتلوا من سلّ سيفاً وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً، فلتسألن أعظم هاشمية بأي ذنب قتلت ؟ ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء……) إلى آخر الرسالة.
ولم يكن المأمون في موقفه هذا بموقف المنتصر للعلويين أو المطالب بحقوقهم المهدورة، وهو يصف ما فعل أسلافه من جرائم بحق العلويين انما اقتضت سياسته أن ينتصر شكلياً للعلويين لأسباب سنوضحها، فكانت رسالته تلك، كلمة حق يراد بها باطل.
ولكن ما هي الأسباب التي دعت المأمون لأن يمالئ العلويين ويشيد بفضلهم ويندد بالجرائم التي ارتكبت بحقهم، ومن ثم يعقد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) ؟
وقد عرفنا أن المأمون لم يكن بذلك الزاهد بالخلافة وقد قتل من أجلها أخاه حتى يعقدها لألد خصومه، كما انه لم يكن أفضل ممن سبقه من الخلفاء العباسيين في سياسته القمعية.
الثورات العلوية
وفي استقرائنا للثورات العلوية وغيرها التي قامت ضد الخلافة العباسية واشتدت وقويت شوكتها في بداية عهد المأمون تتوضح الصورة أكثر والتي آلت إليها الخلافة العباسية والتي كانت من جملة الاسباب التي دعت المأمون لعقد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) ليحافظ على كرسي الخلافة.
فمن الطبيعي أن تواجه سياسة العباسيين القمعية سخط الناس وقيام الثورات وفي مقدمتها الثورات العلوية، ففي عهد المنصور ثار ابراهيم قتيل باخمرى و أخوه محمد ذو النفس الزكية، ثم خرج عيسى بن زيد بن علي الشهيد، وفي أيام الهادي خرج الحسين بن علي صاحب فخ، وفي عهد الرشيد خرج يحيى قتيل الجوزجان، وكل هذه الثورات إلى جانب الثورات غير العلوية، زعزعت أركان الخلافة العباسية، وازداد سخط الناس على سياستهم الجائرة.
وعندما تسنّم المأمون الحكم، كان عرش الخلافة في مهب الريح تزعزعه الثورات والاضطرابات تقول الدكتورة سميرة مختار الليثي في كتابها (جهاد الشيعة) (ص316): (في الوقت الذي ثار فيه صراع عنيف بين الأخوين ـ الأمين والمأمون ـ اشتعلت نار الثورة في بلاد الشام إذ ثار السفياني وهو علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ودعا إلى نفسه، واستولى على دمشق والمنطقة المحيطة بها، وكاد أن يقيم حكماً في بلاد الشام، لولا أن نشب نزاع بين اليمنيين والمضريين أضعف من قوته … وانتشرت الفوضى في بغداد خاصة وفي أرجاء الدولة العباسية عامة).
اضطراب وفتن وثورات
وثارت ثائرة الناس، وسخطوا على المأمون بعد أن رأوا ظلمه وظلم عماله وجورهم ما يطول شرحه، وكثرت الفتن، وأصابت المجاعات الكثير من البلاد الاسلامية، ووقع الموت فيها، ففي بغداد كان إبراهيم بن المهدي عم المأمون يرمي المأمون بأمه ويدعو العباسيين بالثورة عليه، وفي الكوفة خرج أبو السرايا بجيش كبير وأعلن الثورة، وخرج زيد بن موسى بن جعفر ومعه علي بن محمد بالبصرة، وفي مكة خرج محمد بن جعفر الملقّب بالديباج، وفي اليمن خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر، وخرج محمد بن سليمان العلوي في المدينة، وخرج جعفر بن محمد بن زيد بن علي، والحسين بن إبراهيم بن الحسن بن علي في واسط، وفي المدائن خرج محمد بن إسماعيل.
نسج خيوط المؤامرة
في تلك الأوضاع الخطرة والحرجة كان كرسي الخلافة العباسية تتقاذفه الأمواج في مهب الريح، ولكن المأمون الذي عرف بدهائه ومكره، لم يكن ليستسلم بهذه السهولة لهذه الثورات مهما بلغت ضراوتها ويترك الخلافة وقد قتل أخاه من أجلها وخططّ لسنوات طوال في سبيل الوصول إليها، لذا فقد اقتضت السياسة العباسية أن تشرك العلويين ألد خصوم العباسيين في الخلافة لإخماد الثورات العلوية وغيرها والحصول على شرعية للخلافة واكتساب ثقة الناس وامتصاص نقمتهم، وهكذا تحتم على سياسة السيف والقمع والدم والتعذيب والتنكيل أن تخفي أساليبها الوحشية للضرورة لفترة من الزمن بعد أن رأت أن العنف لا يجدي مع هذه التحديات الكبيرة لتحوك المؤامرات والدسائس للتخلص من مناوئيها بعد أن رأت أن لا طاقة لها بهم.
فرأى المأمون أن يعقد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) لكي ينال تأييد الناس وترجع للخلافة قوتها ونفوذها كما أقام أسلافه خلافتهم بالدعاية للعلويين والبيعة (للرضا من آل محمد)، إذن فقد قرر أن يعيد المأمون كذبة آبائه وأجداده فهو يعلم ما للإمام من قاعدة شعبية واسعة وقوية، وما يحظى به من تقدير واحترام من قبل مختلف شرائح المجتمع.
الأهداف الدنيئة
وإضافة إلى الأهداف والمآرب التي ذكرناها والتي كان المأمون يسعى لتحقيقها من خلال تقليده ولاية العهد للإمام الرضا، فقد كان يسعى لجعل الإمام تحت المراقبة الشديدة وإبعاده عن الناس والشيعة من أصحابه وخواصه وقطع صلاته معهم ليمهد بذلك الطريق إلى التخلص منه.
والهدف الأهم من ذلك هو محاولة تسقيط الإمام اجتماعياً، وجعل الناس ينظرون إليه بأنه رجل دنيا بقبوله ولاية العهد، وتشويه صورته التي ينظر بها الناس إليه وهذا ما واجه به الإمام (عليه السلام) المأمون كما سنرى في محادثته معه، إلى غيرها من الأهداف التي لم تكن خافية على الإمام (عليه السلام) الذي كان يعلم دخائل المأمون، وما تنطوي عليه نفسه من الخبث، بل لم تكن مآرب المأمون خافية على أكثر العلويين فكان جواب الإمام: الرفض القاطع.
البيعة أو القتل
لم تفلح كل محاولات المأمون لثني الإمام عن إصراره في الرفض، وقد تنوّعت وتعددت محاولاته، إلا أن كل هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل ورجع رسولاه الفضل والحسن، ابنا الربيع، وقد عجزا عن تنفيذ ما يطمح إليه، ولما رأى المأمون إن الإمام مصرٌ على الرفض، لجأ الى اسلوب التهديد، فأرسل رجاء بن أبي الضحاك ليأتي بالإمام من المدينة ليعقد له البيعة بالتهديد والإكراه.
حضر الإمام من المدينة وعرض عليه المأمون ولاية العهد فرفض الإمام (عليه السلام) رفضاً شديداً، وبقي المأمون يعرضها عليه لمدة شهرين والإمام يرفض حتى غضب المأمون وجرت بينهما محاورة كشف فيها الإمام الرضا (عليه السلام) عمّا يضمره المأمون من عقد البيعة له فقال له: (اني لأعلم ما تريد)، فقال المأمون: وما أريد ؟ فقال (عليه السلام): (تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة..)؟!
لقد واجه الإمام (عليه السلام) المأمون بمآربه التي أخفاها وهدفه الدنيء من وراء عقد هذه الولاية مما أثار غضب المأمون وهو يواجَه بهذه الحقيقة فقال: (بالله أقسم لئن قبلت بولاية العهد وإلّا ضربت عنقك).
شروط البيعة
فلما رأى الإمام إنه مجبر على تقلّد ولاية العهد ولا خيار أمامه سوى القتل قال له: (على شرط : إني لا آمر، ولا أنهي، ولا أقضي، ولا أغير شيئاً، مما هو قائم على أصوله). فقبل المأمون بذلك.
لقد وضع الإمام هذه الشروط لكي لا يتحمل شيئاً من تبعات الحكم العباسي فقد كشف (عليه السلام) في الفقرة الأخيرة من قوله إنه خارج من العهد بمجرد وضعه للشروط التي اشترطها، والعمل بها يعني إنه لم يكن ضمن نظام السلطة الذي لا يمكن أن يتلاءم مع فكره وأخلاقه.
موقف الإمام من البيعة
كما أوضح (عليه السلام) موقفه من هذه البيعة بقوله: (قد علم الله كراهيتي لذلك فلما خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل.. أما علموا إن يوسف (عليه السلام) كان نبياً ورسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد إشراف على الهلاك على أني ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول الخارج منه).
كما كشف (عليه السلام) في قوله: (إني لا آمر ولا أنهي ولا أقضي ولا أغير شيئاً مما هو قائم على أصوله) فساد السلطة العباسية أمام الناس، وعدم شرعيتها، ومخالفتها لكتاب الله، وإلا لماذا لا يقوم الإمام بكل هذه الأعمال وهو ولي العهد ؟
فالإمام لو رفض ولاية العهد فبغض النظر عن القتل الذي ينتظره فانه سوف يفتح باباً للقتل على أتباعه وأهل بيته والإمام أحرص الناس على حقن الدماء فكان (عليه السلام) يوازن بين النتائج والمعطيات المترتبة على القبول والرفض فآثر القبول.
انقلاب السحر على الساحر
ولكن كل هذا التدبير من قبل المأمون قد انقلب عليه فرغم أنه ضيّق على الإمام ووضع الجواسيس عليه ومنع أصحابه من الإتصال به، إلا أن القاعدة الشعبية للإمام اتسعت خاصة بعد مجالس المناظرات التي كان يعقدها المأمون ويجمع فيها أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة للمناظرة، وكان يستدعي الإمام إليها فيفحم (عليه السلام) المناظرين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم فتنتهي المناظرة بقولهم: (والله إنه أولى من المأمون بالخلافة)، وهكذا انقلب السحر على الساحر ووقع المأمون في البئر التي حفرها للإمام.
الحقد المتوارث
هل يطيق المأمون سماع هذه الكلمات ؟ وهل يتحمل أن يرى أمامه رجلاً هو أولى منه ومن الناس جميعاً بالخلافة ؟ ويرى التفاف الناس حوله ويسكت على ذلك ؟ إنه يرى الخلافة تضيع من بين يديه، الخلافة التي قتل من أجلها أخاه الأمين، وقتل من خدموه وثبّتوا ملكه وكان لهم الفضل في تصفية خصومه أمثال طاهر بن الحسين والفضل بن سهل وغيرهم حينما خافهم عليها فكيف بالإمام الرضا (عليه السلام) وهو عدوه اللدود وأشد الناس خطراً عليه فهل يصبر وهو يرى كل هذا ؟
لقد اسودّت الدنيا في عينيه وأقضّ مضجعه الحقد الأسود على الإمام وهو يرى نفوذه يتسع وشعبيته تزداد يوماً بعد يوم ويقف هو عاجزاً على أيقاف هذا المد الكاسح فسوّلت له نفسه قتل الإمام بدسّ السمّ إليه وهكذا نفذ المؤامرة الجبانة.
فشل المؤامرة
لقد خسر المأمون بمؤامرته هذه وفشل فشلاً ذريعاً، فسرعان ما أفصح عن نواياه الخبيثة في رسالته إلى العباسيين والتي بين فيها أهدافه الدنيئة من عقد البيعة للإمام الرضا فقال ما نصه:
(أما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى الرضا فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فأني في تدبيري والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم وانتم ساهون لاهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم).
ويتضح جلياً من مضمون كلامه إن ولاية العهد كانت كذبة أراد بها الحفاظ على كرسي الخلافة العباسية ودفع الأخطار التي أحاطت حوله واستيعاب ما كان منتظراً منها في ذلك الظرف من المضاعفات التي قد تسبب له ولخلافته الكثير من المتاعب وتعرضه لأسوأ الاحتمالات.
وهكذا انتهت لعبة المأمون القذرة التي ربح بها قتل الإمام لكنه لم يستطع تحقيق غاياته الدنيئة في الحط من كرامته وتقليل منزلته بين الناس وما إقدامه على قتل الإمام بالسم إلا دليل قاطع على فشل المؤامرة.