الإمام الرضا (ع) .. وولاية العهد
عاصر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم الرشيد والأمين والمأمون وفي عهد الأخير خُتمت حياته الشريفة، وقد عانى (ع) مرارة الألم والظلم والقهر والاضطهاد في تلك العهود الثلاثة ففي عهد الأول كان يقاسي مرارة سجن أبيه الكاظم (ع) حتى قضى شهيداً في سجن السندي بن شاهك، ولما تولّى الإمام الرضا الإمامة بعد أبيه حاول بعض أصحاب أبيه إبعاده عن مواطن الخطر، فطلبوا منه أكثر من مرة أن يتستر في دعوته ويحتاط لنفسه ولشيعته من أولئك الطغاة الذين يراقبونهم في كل شيء من أمورهم وتصرفاتهم، ولكن الإمام الرضا (ع) كان قد تلقى عن آبائه ما سيكون من أمره، وأن الرشيد على ضلاله وطغيانه لن يصل إليه بسوء فلم يعبأ بتلك المحاولات ولم يغير من سلوكه ونهجه وإظهار الدعوة إلى الله وممارسة مهامه كإمام معصوم.
فقد جاء في روضة الكافي عن محمد بن سنان إنه قال: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون، أنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجالس أبيك وسيف هارون يقطر الدم، فقال (ع): جرأني على ذلك ما قال رسول الله (ص) لأصحابه: إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة واحدة فأشهدوا بأني لست بنبي. وأنا أقول لكم إن أخذ هارون من رأسي شعرة فأنا لست بإمام، وكانت هناك محاولات من قبل هارون لقتل الإمام الرضا (ع) ولكن إرادة الله كانت تحول بينه وبين ما يريد حتى هلك هارون.
أما في عصر الأمين فلم يذكر لنا التاريخ أي موقف يدل على أن الأمين حاول الفتك بالإمام الرضا (ع) أو الإساءة إليه ولعل مرد ذلك إلى انصرافه للملذات والشهوات إضافة إلى انشغاله بالخلافات التي آلت إلى انقسام وانشقاق خطير في الخلاقة العباسية كان من نتائجها إقصاؤه لأخيه المأمون من ولاية العهد مما زاد من حدة الصراع بين الفريقين واضطراب الأوضاع في جميع أنحاء الدولة ولم ينته هذا الاضطراب والنزاع حتى استيلاء المأمون على السلطة ودخوله بغداد بعد قتله الأمين.
الثورات العلوية
كان الإمام (ع) يتجرّع مرارة الأحداث في ذلك العصر فقد كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية مزرية جداً، إذ عاش هؤلاء الخلفاء حياة القصور بين الجواري والمغنين والشعراء والندماء وكؤوس الخمر وقد امتلأت كتب التاريخ برذائلهم وموبقاتهم وتردي وضعهم الأخلاقي ولا يسعنا هنا الحديث بإسهاب عن البذخ والترف والمجون الذي عاشه الخلفاء العباسيون بينما كان المسلمون بمختلف طبقاتهم يرزحون تحت سياسة التجويع والإرهاب والتشريد وهذا ما أدى الى اندلاع العديد من الثورات التي تدعو إلى الإصلاح والتغيير كثورة محمد بن الحسن (النفس الزكية), وثورة الحسين بن علي (صاحب فخ), وثورة ابن طباطبا العلوي, وثورة إبراهيم بن موسى بن جعفر, وثورة محمد بن جعفر الصادق, وثورة زيد بن موسى بن جعفر وغيرها من الثورات العلوية، التي زعزعت أركان الدولة العباسية.
أما موقف الإمام الرضا (ع) من هذه الثورات والانتفاضات العلوية وتحركاتهم ضد الحاكمين فلم يكن سلبياً من حيث مبدأ الثورة المناهضة للظلم والطغيان والاستغلال بل كان كغيره من أئمة أهل البيت (ع) يباركون كل ثائر على الظلم والباطل حتى ولو لم ينجح عسكرياً إذا كانت ثورته ضمن الحدود المشروعة ولصالح الأمة الإسلامية، لأن الثورة النزيهة في الغالب تكشف للشعوب زيف الحكام وواقعهم الكريه وتترك وراءها فئة تحس بالظلم.
وفي الوقت الذي كانت ترتفع فيه الأصوات الثائرة من العلويين ضد السلطة العباسية الظالمة كان الأئمة (ع) يقودون الثورة الثقافية التي فرضتها مصلحة الإسلام يومذاك وكان النجاح حليفها في مختلف الميادين.
أسباب عقد ولاية العهد
لما رأى المأمون أن أنظار الناس تتجه نحو الإمام الرضا (ع) والقلوب تهفو إليه بينما يجلس هو على كرسي متزعزع بالثورات وسخط الجماهير، قرر أن يتعامل مع الرأي العام بدبلوماسية أكثر بعد أن رأى فشل السيف والسجون والدماء فقرر أن يعقد ولاية العهد للأمام الرضا لتهدئة الخواطر وامتصاص نقمة الجماهير أولاً ولإضفاء مسحة من الشرعية على حكمه ثانياً.
والأمر الثالث الذي أراده المأمون من ذلك أوضحه الإمام الرضا (ع) في قوله للمأمون: أني لأعلم ما تريد. فقال المأمون: وما أريد ؟ قال (ع): تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟
لقد رفض الإمام الرضا (ع) ولاية العهد رفضاً شديداً لأنه يعلم دخائل المأمون وما تنطوي سريرته من الخبث وبقي المأمون يعرض ولاية العهد على الرضا لمدة شهرين والإمام الرضا يرفض حتى غضب المأمون وقال له: بالله أقسم لئن قبلت بولاية العهد وإلا ضربت عنقك فقال له الرضا: على شرط أني لا آمر ولا أنهي ولا أقضي ولا أغير شيئاً مما هو قائم على أصوله، فقبل المأمون بذلك.
لقد وضع الإمام الرضا (ع) هذه الشروط حتى لا يتحمل شيئاً من تبعات الحكم العباسي, وأمر المأمون أن يعلن هذا النبأ في أرجاء البلاد وأن يبدل الشعار العباسي (اللون الأسود) باللون الأخضر وهو شعار العلويين, وأن تضرب النقود باسم الإمام الرضا (ع) وأمر ولده العباس ليكون أول المبايعين فقام وبايع الرضا (ع) بولاية العهد وقد أثار قبول الإمام الرضا (ع) بولاية العهد ردود أفعال مختلفة في الوسط الإسلامي وخاصة الشيعي منه فكيف تنقل الخلاقة التي بناها بنو العباس على السيف والدم والسجون والتشريد والتعذيب والتنكيل بهذه السهولة إلى العلويين.
صراع وكفاح دموي وعقائدي وفكري عنيف أمتد بينهم لأكثر من ستة عقود فكان هناك رفض واحتجاج وتذمر من قبل العباسيين ومن والاهم، ولا يهمنا هنا ردود أفعال العباسيين وسخطهم ودسائسهم بقد ما يهمنا إيضاح الموقف من قبل الإمام الرضا (ع) لشيعته وبقية الناس وكشف الملابسات التي احاطت بقبوله ورد الشبهات المثارة نحوه
موقف الإمام (ع)
(قد علم الله كراهيتي لذلك فلما خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل أما علموا أن يوسف (ع) كان نبياً ورسولاً فلما دفعته الضرورة الى تولي خزائن العزيز قال: أجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك على أني ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول الخارج منه).
لقد كشف الإمام الرضا (ع) في الفقرة الأخيرة من حديثه أنه خرج من العهد بمجرد وضعه للشروط التي اشترطها, والعمل بها يعني أنه لم يكن ضمن نظام السلطة الذي لا يتلاءم مع فكره وأخلاقه ومنهجه ولا بد من لفت النظر إلى أن الإمام كان لا يتمكن أن يصرح بالعلة التامة لقبوله ولاية العهد حرصاً على عدم كشفها للطرف الآخر وتحمل تبعات ذلك ولكنه استعمل أسلوب السوابق التاريخية للتدليل على موقفه.
وتدلنا رواية الريان بن الصلت على ذلك فقد روي أن هشام بن إبراهيم الراشدي كان مصاحباً للرضا (ع) فلما استدعي الإمام (ع) إلى خراسان اتصل هشام بالفضل بن سهل ذي الرياستين وأدناه إليه لينقل إليه وإلى المأمون أخبار الرضا وقد حظي عندهما بمكانة خاصة حتى أصبح لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره (ع) ثم ولاه المأمون حجابة الرضا فضيّق عليه ومنع عنه حتى بعض مواليه وخاصته ولم يتكلم الإمام في داره بشيء إلا وكان يبلغه لهما، ثم إن الإمام (ع) لم يجد بداً من الاستجابة لطلب المأمون بعد أن هدده بالقتل كما جاء في رواية علل الشرائع ومقاتل الطالبين وجاء فيها إن المأمون قال للأمام الرضا (ع):
أنك تتلقاني أبدا بما أكرهه وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وألا أجبرتك على ذلك فأن فعلت وإلا ضربت عنقك. وهذا ما جعل الإمام الرضا (ع) يقبل بولاية العهد رغم أنه يعلم دخائل المأمون وما انطوت عليه سريرته من الخبث والمكر وقد اعترف المأمون بأنه لم يكن جاداً في عهده للأمام الرضا (ع) كما في رواية البحار في قوله لبني العباس الذين اعترضوا على توليه الرضا لولاية العهد فقال:
أما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى الرضا فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم وان تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فأني في تدبيري والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم وأنتم ساهون لاهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم.
ويتضح جلياً من مضمون كلامه أنه لم يكن يريد أن ينقل الخلاقة إلى العلويين كما تصور بنو العباس بل أراد أن يطوق ما كان منتظراً في ذلك الظرف من المضاعفات التي قد تسبب له ولخلافته الكثير من المتاعب وتعرضها لأسوأ الاحتمالات، كما إن هناك أمر أخر في سبب قبول الإمام الرضا لولاية العهد, فبعض النظر عن القتل الذي ينتظر الإمام (ع) في حال رفض ذلك فأنه سيفتح باباً للقتل على أتباعه وأهل بيته فكان الإمام يوازن بين النتائج والمعطيات المترتبة على القبول والرفض واضعاً المصلحة الإسلامية نصب عينيه فرجح القبول على الرفض، فعقدت البيعة للأمام الرضا (ع) بولاية العهد في الخامس من شهر رمضان سنة (201هـ).
صلاة العيد
بعد خمس وعشرين يوماً من عقد ولاية العهد أي بانتهاء شهر رمضان وحلول شوال كلف المأمون الإمام (ع) أن يصلي بالناس صلاة العيد على الرغم من أن الإمام الرضا (ع) كان قد اشترط على المأمون أن لا يشترك معه بشيء يتعلق بالحكم فاستعفاه من ذلك لكن المأمون ألح عليه وجعل يرسل الرسول بعد الرسول حتى أجابه (ع) إلى ذلك على شرط أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج إليها رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) علي بن أبي طالب بعده، فقال له المأمون: أخرج كيف شئت. فلما سمع الناس بأن الإمام سيصلي بهم جلسوا بانتظاره في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه ووقف الجند والقادة على بابه حتى طلعت الشمس فأغتسل الإمام الرضا (ع) ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه ومسّ شيئاً من الطيب وأخذ بيده عكازاً وقال لمواليه وخاصته:
أفعلوا مثل ما فعلت فخرجوا بين يديه وهو حاف ثم رفع رأسه إلى السماء وكبّر فكبّر معه مواليه فلما رآه الناس ارتفعت أصواتهم حتى ضجت المدينة بأصوات المكبّرين وخرج الناس من منازلهم وازدحموا في الشوارع بشكل لم تعهد له المدينة مثيلاً من قبل، ولما رأى أجهزة الحكم هذا الاستقبال من قبل الجماهير للأمام الرضا (ع) والذي لم يكن حتى المأمون يتوقعه سارعت إلى تحذير المأمون من خطورة هذا الموقف إن استمر الإمام (ع) في طريقه إلى المسجد وأدى الصلاة فأرسل إليه المأمون: لقد كلفناك شططاً واتعبناك يا ابن رسول الله ولسنا نحب لك إلا الراحة فأرجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم على رسمه.
فلم يكن المأمون ذلك الشخص الزاهد بالخلافة حتى يرى التفاف الناس حول الإمام الرضا (ع) ويسكت على ذلك وقد قتل من أجلها أخاه الأمين وقتل حتى من خدموه وثبتوا ملكه وكان لهم الفضل في تصفية خصومه أمثال طاهر بن الحسين والفضل بن سهل وغيرهم فكيف بالإمام الرضا (ع) وهو عدوه اللدود وأشد الناس خطراً عليه فدسّ إليه سماً قتله وكانت شهادته (ع) في اليوم الأخير من صفر سنة (203) بمدينة طوس والتي دفن فيها.