الإمام الرضا… مدرسة الإسلام المتكاملة
ولد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام سنة (148 هـ )، وعاش في كنف أبيه حوالي ثلاثين سنة وقيل ستّ وثلاثون سنة، وعاصر في هذه المرحلة كلاً من المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وفي عصر الأخير استشهد أبوه الإمام موسى الكاظم عليه السلام في سنة (183 هـ)، وعاصر بعد استشهاد أبيه كلاً من هارون الأمين والمأمون، ولم يعلن عليه السلام تصدّيه للإمامة إلّا بعد مضي أربع سنوات على استشهاد والده وفيها انتهى نفوذ البرامكة على يد هارون العباسي والذين كانوا يشكلون أركان الدولة وجزءاً كبيراً من قوتها، وكانوا يحرِّضون على قتل أهل البيت عليهم السلام ومضايقتهم بتحجيم حركتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية، وبهذه الحقبة الزمنية انتهز الإمام الرضا الفرصة في الإعلان والتصدّي للإمامة، وقد حذّره بعض مواليه وأنصاره من تعرض هارون العباسي له بالقتل وقالوا له: إنّك أظهرت أمراً عظيماً وإنّا نخاف عليك من هذا الطاغية فقال عليه السلام : (ليجهدنّ جهده فلا سبيل له عليّ) (1)
وفي سنة (200 هـ ) فرض عليه المأمون العباسي ولاية العهد قسراً ، وانتهى المطاف باستشهاد الإمام عليه السلام على يد المأمون العباسي بدسّ السمّ له سنة (203 هـ).
أهم مميزات عصر الامام عليه السلام:
يرى الباحثون إن عصر الإمام الرضا امتاز بتعدد المذاهب المبتدعة وطرح الأفكار الدخيلة وانتشار العقائد الباطلة التي أدت إلى كثرة الجدل في الأمور الدينية والعقائدية والتي جعلت من النسيج الاجتماعي المتفهّم يتحوّل إلى أحزاب فكرية تفرض آراءها بقوة السلاح، ومما لا شك فيه إن السلطة العباسية كانت لها دور كبير في التمهيد لهذه التيارات وتشجيعها لرسم سياسة التزييف ودعم الحركات الفكرية المنحرفة التي تضيف شرعية كاذبة لخلفائها
من هذه التيارات والحركات التي نشأت في حكومة هارون العباسي هي الواقفية والغلاة والمشبّهة والمجسّمة والمجبّرة والمفوّضة، وتيار القياس والاستحسان والرأي، ومما ساعد على اتساع هذه الحركات هو قيام المأمون بترجمة الكتب الفلسفية من اليونانية إلى العربية ، ولم يكن المجتمع ــ في حينها ــ مستعداً لفهمها ومناقشتها فأدّى ذلك إلى انتشار الأفكار والمصطلحات والفروضات البعيدة عن الواقع ، وفي عهده – أي المأمون – أيضا راج مذهب القياس الباطل القائم على أساس قياس حكم فرعي بحكم فرعي آخر، وكثر الافتاء وتفسير القرآن بالرأي، فكانت الأجواء مشحونة بالاختلافات الفقهيّة والأزمات السياسية ، وقد كان دور الدولة العباسية في إعطاء غطاء التمكين والقوة للتيارات المناصرة لها ولأفكارها ومعتقداتها، والتضييق على المعترضين عليها عاملا مهما في نفوذ أصحاب هذه المذاهب بين المجتمع، وكان هذا الأسلوب إضافة إلى أسلوب العنف والإرهاب هما دعامتا الدولة العباسية في تثبيت سلطتها وفرض سطوتها على الناس.
ولم يكن الإمام الرضا في مقدوره مواجهة الدولة العباسية عسكرياً بشكل علني – رغم انقساماتها وحروبها الداخلية – وذلك لقلة انصاره وتشتت بعضهم بسبب سياسة الاضطهاد العباسية، ولكنه عليه السلام تولّى النهوض بالجانب الفكري والديني وتثبيت العقائد الحقة ومواجهة الأفكار الضّالة مؤزّراً بأنصاره ومواليه وقد حالت الظروف السياسية المشتتة من التعرّض له وملاحقته في هذا الخصوص.
فاتخذ الإمام الطرق الصحيحة في معالجة الانحطاط الفكري والديني المتفشي في المجتمع، وكانت بدايته في معالجة الشبهات والتزييف المطروح في الساحة العلمية، فوضع القواعد العامة لطرق معالجة هذه الحركات حيث قال عليه السلام : (إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم؛ ثلبونا بأسمائنا…) (2).
وهذه كانت خطوته الأولى في محاربة هذه التيارات ثم تولى مناظرة أصحاب المذاهب المبتدعة ومن أقواله عليه السلام لبعضهم مثل المجبّرة والمفوّضة:
(من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ الله عَزَّ وجَلَّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام ، فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك) (3).
وفي ردّه على المشبّهة قال عليه السلام : (إلهي بدت قدرتك, ولم تبد واهية فجهلوك، وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك, وإنّي بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك, ليس كمثلك شيء) (4).
و في رده على الرواية المفتعلة والمنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله والتي جاء فيها: (أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا)، قال عليه السلام : (لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله كذلك، وإنما قال: إن الله تعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادي هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فاغفر له… حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله ) (5).
وكذا حين واجه الواقفية الذين أغرتهم الأموال التي طمعوا بها بعد أن طلبها منهم الإمام وأجابوه : إن أباك لم يمت وهو حي قائم، ومن ذكر أنّه مات فهو مبطل (6).
واستطاع الواقفية أن يجذبوا عدداً من الناس بترويج هذه الأفكار، فقال عليه السلام فيمن سأله عن الواقفية: (الواقف حائد عن الحق ومقيم على سيئة إن مات بها كانت جهنّم مأواه وبئس المصير). (7) وأمر بمنع الزكاة عنهم وعن مجالستهم حتى استطاع تحجيم حركتهم وتقليص نفوذهم ولكن بقيت منهم جماعة قد مالؤا السلطة وصرحوا بتبعيتهم لها.
ولم يقتصر تصدي الإمام على رد وتفنيد ادعاءات هذه الملل المنحرفة التي تدعي الإسلام بل تعدى نشاطه الفكري إلى الرد على عقائد الفرق الغير إسلامية كاليهود والنصارى وكذلك الزنادقة وغيرهم.
وبعد محاربته للانحراف الفكري وتوضيح القواعد الصحيحة للإسلام الذي جاء به النبي واستقام بشريعته الغراء التي جهد أهل البيت في المحافظة عليها والذود عنها، توجه إلى نشر العلوم الإسلامية الحقة باعتبارها ركائز الإصلاح وأساسه.
فاهتم عليه السلام بتفسير القرآن الكريم وقام بنشر الأحاديث الشريفة المنقولة عن آبائه واستطاع بهما تشكيل منظومة فكرية مجتمعية مهيمنة على الساحة العلمية ومبلورة لأفكار وتوجهات المسلمين من الناحية العقائدية والتشريعية حيث رُويت كثير من الأحاديث الشريفة التي تنقل لنا صورة حية من واقع ما قدمة الإمام ومنها:
صنّف عليه السلام أصناف القائلين بالتوحيد فقال: (للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه) (8)
وقال عليه السلام في اثبات وحدانية الخالق : (حسبنا شهادة أن لا اله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، قيّوماً سميعاً بصيراً قوياً قائماً باقياً نوراً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنياً لا يحتاج، عدلاً لا يجور، خلق كل شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضدّ، ولا ندّ، ولا كفوء) (9).
إضافة إلى غيرها من الأحاديث الشريفة التي نقلت لنا مركزة لأصول العقيدة والتشريع فضلاً عن المناظرات التي أجريت في طوس مع الفلاسفة ممن أنكروا وجود خالق لهذا الكون والتي يطول بها الكلام .
وبعد أن استطاع عليه السلام نشر الفكر الصحيح للإسلام انتقل إلى مرحلة تسهيل وصول المسلمين إلى احتياجهم من الأجوبة المبتغاة لهم، فقد أسس شبكة من العلماء تنتشر في جميع البقاع التي يتواجد فيها أنصاره لتسهيل عملية التواصل معهم وقد أشارت إلى ذلك عدة روايات منها:
عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا، فقلت: إني لا ألقاك في كل وقت فعن من آخذ معالم ديني؟ قال: (خذ من يونس بن عبد الرحمن) (10) .
إضافة إلى ذلك كان متابعاً للرواة خشية الكذب عليه وعلى آبائه عليهم السلام كما انتهج عليه السلام المنهج الإسلامي الحق وتدرج فيه حسب المفاهيم عن السياق القرآني والأحاديث الشريفة.
……………………………………………………………….
1ــ الفصول المهمة ص 245
2ــ عيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٤.
3ــ عيون أخبار الرضا: ١ / ١٢٤.
4ــ عيون أخبار الرضا: ١ / ١١٧.
5ــ عيون أخبار الرضا: ١ / ١٢٦، ١٢٧.
6ــ الغيبة للطوسي: ٦٥ ح ٦٧
7ــ رجال الكشي: ٤٥٥ ح ٨٦٠.
8ــ بحار الأنوار: ٣ / ٢٦٣.
9ــ تحف العقول: ٣١٠
10ــ رجال الكشي: ٤٨٣ ح ٩١٠.