الإمام الصادق (عليه السلام) يوقد قناديل القلوب
روي المجلسي في (بحار الانوار) (ج47 ص18): (إن المنصور الدوانيقي كتب إلى الإمام الصادق (عليه السلام) كتاباً يقول فيه: (لمَ لا تغشانا كما تغشانا سائر الناس) ؟! فأجابه الإمام: (ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها ولا تعدها نقمة فنعزيك بها فلمَ نغشاك)؟! فكتب إليه المنصور ثانية: (تصحبنا لتنصحنا) فأجابه الإمام: (من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك).
يتجلى في هذين السؤالين وجوابيهما الكثير من الدلالات والمعاني يستطيع القارئ أن يجد في مجالاتها الواسعة حيّزاً كبيراً للتأمل والتفكير ومن ثم الاستنتاج وكشف الستار عن مدى الفجوة العميقة بين خط السلطة المنحرف وخط الإمام الذي جسّد الإسلام بكل معانيه، كما تتضح فيهما ما يطمح إليه السائل وما يصبو إليه المجيب، فالسائل كمن يحاول أن يحصر البحر في زجاجة أو يقبض الشمس ليجعلها في حوزته، بينما المجيب يحمل في جنبيه روحاً أنقى وأسمى من أن تتعلق بشوائب الدنيا وتطمح إلى مغرياتها، فقد كان (عليه السلام) يحمل مبادئ الرسالة العظيمة التي جاء بها جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكما حملها من قبله آباؤه الطاهرون وحملها بعده أبناؤه المنتجبون
منهج لا يحيد
وما دمنا بصدد الحديث عن هذا الجانب وهو الدور المعارض للإمام الصادق للإنحراف السلطوي لا بد من الإشارة إلى أن دوره كان متماهياً مع أدوار الأئمة الإثني عشر تجاه السلطة، فلم يختلف دورهم (عليهم السلام) كلهم في مواقفهم المعارضة والمجابهة للسلطة الظالمة، فإضافة إلى عملهم على توجيه الأمة عقائدياً نحو التمسّك بالمبادئ الإسلامية فقد كان دورهم مشتركاً في مواجهة السلطة المنحرفة عن هذه المبادئ والحدّ من ممارساتها القمعية وأساليبها في سلخ القيم الإسلامية عن الأمة.
والمتابع لسيرتهم الشريفة يجد أن الدور المعارض المشترك والمترابط قد تجسّد في كل أقوالهم ومواقفهم تجاه السلطة وانعكس على سلوكهم، وإذا اعترض معترض بالقول إن الإمام الحسين (عليه السلام) قام بالسيف، وإن الإمام الحسن (عليه السلام) صالح معاوية، والإمام السجاد (عليه السلام) قد اهتم بالعبادة والدعاء، والباقر والصادق (عليهما السلام) بالفقه والحديث والتفسير، والكاظم (عليه السلام) مات في السجن، والرضا (عليه السلام) قد تولى ولاية العهد ؟ نقول له: إن هذا لا يعني تبايناً في المواقف أو تناقضاً في نظرتهم المشتركة إلى السلطة، وإنما جاء من حيث الظروف السياسية والملابسات التي تفرض على الإمام اتخاذ موقف لا يختلف من حيث الهدف عن أي موقف لمن سبقه أو لحقه منهم (صلوات الله عليهم).
فالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان موقفه معروفاً من السقيفة وكان يستشهد الصحابة على أحقيته بالأمر من غيره، والإمام الحسن (عليه السلام) لم يصالح معاوية حتى خانه الناس وبقي في ثلة قليلة من أصحابه المؤمنين فآثر حقن دمائهم حرصاً عليهم مع الاحتفاظ بأحقيته في الشروط التي وضعها في الصلح، ورغم أن معاوية نقض كل تلك الشروط إلا أن الإمام الحسن قد أدى واجبه تجاه الأمة كاشفاً عن الحق الذي هو عليه وضلال معاوية.
أما الإمام الحسين (عليه السلام) فقد هزّ عروش الظالمين بدمه ودبّ في الأمة روح الإسلام من جديد بعد أن كاد أن يسلخها الأمويون منها، وكان الظرف الذي تعيشه الأمة يتوجّب أن يقوم من ينقذ الشريعة من براثن الأمويين، ولم يكن في وقته (عليه السلام) أجلّ وأكرم منه للقيام بهذا الأمر وهو وريث النبوة وسليل الإمامة، ونرى في مواقف الأئمة السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) الدور المشترك في إعداد الأمة وتفقيهها وتثقيفها وتوجيهها واتخاذ جانب مستقل تماماً عن السلطة، بل ومعارضاً ومحرّضاً عليها ومقاطعتها والعمل على تعريف الناس بعدم شرعيتها.
فنجد موقف الإمام الكاظم (عليه السلام) واضحاً في رفضه وهو في غياهب السجون زيارة الرشيد العباسي مقابل إطلاق سراحه لأن زيارته تعطي شرعية لخلافة الرشيد، فيفضل (عليه السلام) الموت في السجن على التنازل عن مبدئه والتنصّل عن مسؤوليته كإمام معصوم حمل رسالة قول الحق ومقارعة الباطل.
غايات تتلاشى أمام الموقف الثابت
وجاءت مواقف الإمام الصادق (عليه السلام) مكمّلة لما قبله وحلقة وصل لمن بعده من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في رسم الخط والمنهج في مقاطعة ومعارضة السلطتين الأموية والعباسية لتبيين انحرافها عن خط الإسلام وكشف حقيقة سياستها البعيدة عن روح الشريعة فالإمام الصادق (عليه السلام) هو المكلّف بنشر العقيدة السمحاء وتعاليم القرآن الكريم التي تتعارض تماماً مع توجّهات السلطة وسياستها القمعية وأهوائها وانحلالها وانحرافها.
حاول المنصور أن يعطي الشرعية لحكومته الفاسدة وأن يضفي عليها صبغة تشريعية إلى جانب سلطتها التنفيذية باستدعاء الإمام وضمّه إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا يتقّوتون على موائده باستغلال الدين فأدانوا له بالطاعة الكاملة بمعصية الله، ولكن هيهات أن يجد في الإمام الصادق (عليه السلام) مطمحاً لمآربه، وشتّان بين من حمل بين جنبيه نور النبوة وبين من يتقوّت على غياهب الجهل.
كما كانت هناك غاية أخرى في ذهن المنصور أملتها عليه طويته الفاسدة، حيث حاول من خلال تقريب الإمام من السلطة الحدّ من دوره الرسالي والحضاري المعارض للسلطة، ولكنه نسي أو تناسى أن الإمام الصادق (عليه السلام) من نسل أولئك الذين خُلقوا لمحاربة الظلم والفساد، وبذلوا دماءهم في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ليس من نسيج أولئك الذين يغشونه من أصحاب المطامع والمطامح الدنيوية، ولا يمكن أن يلين له، أو يتنصل عن دوره في السير على نهج آبائه الطاهرين في محاربة الظلم وإحقاق الحق وإماتة الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر تعاليم الإسلام والإصلاح في الأمة.
وعليه فقد تبددّت كل آمال المنصور ومساعيه أمام هذا الجبل الأشم وأحد الثقلين – كتاب الله والعترة- اللذين لن يفترقا حتى يردا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحوض، فهم – أهل البيت- منذ وجدوا كانوا منبعاً ومصدراً للثورات ضد الظلم والجور، وهكذا كان دأب الإمام الصادق (عليه السلام) الذي أسس أعظم مدرسة فكرية في تاريخ الإسلام كان شعارها محاربة الظالمين، كما كانت هناك محاولات أخرى من المنصور للحط من قدر الإمام والنيل منه ومن فكر أهل البيت من خلال دعمه للتيارات المنحرفة المعادية لفكرهم (عليهم السلام) ومطاردة أصحاب الإمام وزجهم في السجون وزرع الفتن ونشر الضلالات والأباطيل ولصقها بالإمام ومدرسته المعطاء.
مدرسة الرفض
في ذلك الجو المشحون والمعترك الصاخب الذي يعجُّ بالفتن والظلم كان الإمام الصادق (عليه السلام) يدعو إلى مبادئ الاسلام ويحضّ على التمسك بكتاب الله والعدالة والاصلاح، ويرفع صوت الرفض بوجه الحكام المستبدّين فتمتزج مشاعره بمشاعر المظلومين ويشاركهم في آلامهم وعذاباتهم، وقد توسّعت دعوته وانتشر صدى روحانيته لتفعم النفوس والقلوب بأنوار هديه وفيوض علمه، فهفت إليه طلبة العلم ورجال العقيدة من كل الأرجاء حتى وصل عدد تلاميذه إلى أربعة آلاف كان منهم قادة الفكر الإسلامي وأرباب الثقافة الإسلامية في شتى المجالات.
لقد تميّزت هذه المدرسة من بين كل المدارس بخصائص فريدة وطابع خاص ومنهج ثابت لم يتغير، وهو استقلالها التام وعدم خضوعها لنظام السلطة، وارتبطت بشكل وثيق بمنهج القرآن الكريم وتعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد أكّد الإمام الصادق (عليه السلام) في كل أقواله وأفعاله على حرمة التعاون مع الظالمين وعدم الركون إليهم، فهو الناطق بالقرآن والداعي إلى تطبيق أحكامه في القول والعمل: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ).
فالإمام الصادق (عليه السلام) قد جعل هذه الآية الكريمة مصداقاً لتعامله مع السلطة الظالمة وعمل بموجبها كما عمل بموجب جميع آيات القرآن، فوضع جدار الإنفصال التام مع الظالمين. فكان (عليه السلام) مع القرآن والقرآن معه في مهمة واحدة وهدف واحد، ألا وهو نشر الإسلام وتبليغ دين الله إلى الأمة، ومحاربة الظلم والفساد والاستبداد فكان الأمام هو المصدر الحقيقي للتشريع الإسلامي في كل جوانب الحياة ومنها هذا الجانب الذي جسّده في جميع أقواله وأفعاله ودلت عليه الروايات الكثيرة التي نقلت عنه (عليه السلام) ومدى انطباقها مع مفهوم الآية الكريمة.
مقاطعة السلطة
ومن ذلك قوله عندما سُئل عن وجوه المعاش فقال: (وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الجائر وولاية ولاته، فالعمل لهم والكسب لهم بجهة الولاية لهم حرام، معذّبٌ فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير).
وهذا تصريح منه بحرمة العمل مع السلطة مطلقاً سواءً بقليل أو بكثير فمن عمل معهم فهو منهم ويحشر معهم، وهو ما حذر (عليه السلام) منه أصحابه بقوله: (ما أحب أن أعقد لهم – أي الظلمة – عقدة أو وكيت وكاءً ولا مبرة بقلم، إن الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد).
ويحذر (عليه السلام) أصحابه من مزالق هذه الحكومة ـ العباسية ـ ومصائدها التي تجرّ الناس إلى الكفر والضلال والفساد في الأرض ففي (أمالي الطوسي) (ج2ص280)، و(بحار الأنوار) (ج47ص162) جاء عنه (عليه السلام) قوله: (فإنكم في سلطان من قال الله تعالى: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال).
ويصف الإمام الصادق (عليه السلام) بني العباس كما في الكافي (ج8ص341) بقوله: (من تقرّب منهم أكفروه، ومن تباعد عنهم أفقروه، ومن ناواهم قتلوه، ومن تحصّن منهم أنزلوه، ومن هرب منهم أدركوه، حتى تنقضي دولتهم)
التحذير من هاوية السلطة
وكما كان (عليه السلام) يحذر الناس من الوقوع في هاوية السلطة وجحيمها، فقد كان يسعى إلى إنقاذ من تورّطوا معها بانتشالهم من براثنها وإخراجهم من ظلماتها إلى نور الهداية وتطهير أبدانهم من السحت وتنبيه قلوبهم من الغفلة، فكان الواحة التي يجد فيها الإنسان الماء الزلال بعد أن أعياه تيه الحرام، فيفعمه بنسيم الأمل والنجاة، ويغمره بروح وريحان ورحمة ومغفرة.
روى الكليني في الكافي (ج5ص106): (عن علي بن حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبد الله (عليه السلام). فاستأذنت له عليه، فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم ـ يعني بني أمية ـ ، فأصبتُ من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت عن مطالبه ـ أي حصلتُ عليه بسهولة ولم أجتنب فيه الحرام والشبهات ـ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم، ويُجبى لهم الفيء ـ أي المال ـ ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم).
يؤكد الإمام هنا على قضية مهمة تراود أكثر الناس ألا وهي قضية الإنجرار وراء السلطة، فيعتقد الكثير أن عمله مع السلطة مبررّ لأنها سلطة واقعة وعليه أن يرضخ لهذا الواقع، ثم إنه لا يغير شيئاً من واقعها وظلمها فيقول لنفسه: لو لم أعمل أنا لعمل غيري ! وهكذا يقول غيره وغيره، وهذا اعتقاد خطير ورأي مخالف للشرع والحقيقة، فلو نظر بعين الصواب وفكر بالنتائج لما عمل مع السلطة، وهكذا سيفكر غيره وغيره، حينها لن تستطيع السلطة أن تمارس دكتاتوريتها على الشعب بعد أن تتعطل المرافق الحيوية للدولة، فعمله معها مهما كان ضئيلاً فإنه سيساهم في تقوية جانبها في تسلطها على مقدرات الشعب وسيساعد على تقوية شوكتها التي تضرب بها القوى الخيرة الساعية إلى الإصلاح، وربما أصابه هو بعض نارها بعد حين كما حصل مع الكثير ممن ساندوا سلطات الجور، فلو فكّر كل واحد في ترك العمل مع السلطة الظالمة لما جرت الويلات والكوارث وسالت الدماء البريئة وهُتكت الأعراض وسُبيت النساء وما إلى غيرها من المآسي التي حلت بالأمة على طول تاريخها، فالعمل مع السلطة يؤدي إلى الهاوية إلا من تداركه الله بالنجاة ولنا في الشهيد الحر الرياحي (رضوان الله عليه) خير مثال على ذلك.
ولنرجع إلى قصة ذلك الفتى التائب، فبعد أن سمع قول الإمام أطرق خجلاً ثم قال: جعلت فداك فهل لي مخرج منه ؟ فقال الإمام: إن قلت لك تفعل ؟ فقال: أفعل. فقال (عليه السلام) له: فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم، فمن عرفتَ منهم رددتَ عليه ماله، ومن لم تعرف تصدَّقتَ به، وأنا أضمن لك على الله (عز وجل) الجنة.
إن الإمام يضمن الجنة في مقابل ترك العمل مع السلطة الظالمة لمن يلتزم طاعته وتنفيذ أوامره فطاعة الإمام المعصوم هي طاعة النبي وطاعة الله، وللإمام أن يضمن الجنة لمن يراه قد توفرت فيه الطاعة والتوبة، وكان النبي يضمن الجنة لبعض الناس كما ضمنها لعلي وعمار وسلمان والمقداد وأبي ذر وكذلك الأئمة وهم ورثة النبي وحاملي علمه، فهم الشفعاء يوم القيامة لمن يرضونه، كما جاء ذلك في القرآن الكريم بقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ). وهذا الإستثناء بالشفاعة (إلا) يشمل الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
فالإمام ضمن الجنة للفتى مقابل ترك العمل مع السلطة لدرء المفاسد التي لا تشمله وحده بل تشمل الكثير من الناس ثم إنه سيترك عز السلطة والجاه في الدنيا طاعة لله وفي سبيل ثواب الآخرة فضمن (عليه السلام) له الجنة والتي فيها النعيم الأبدي في مقابل ذلك.
أطرق الفتى رأسه طويلاً، ثم قال: قد فعلتُ، جعلت فداك….
الإمام الصادق يطهر القلوب من أدران السلطة
هكذا يضيء الإمام (عليه السلام) القلوب بأشعة الإيمان ويهدي النفوس إلى طريق الحق ويزرع الأمل في الأحداق ويزيل عنها غشاوة الظلام والجهل. لقد كان هذا الفتى يحمل طهارة الروح التي حاولت السلطة تدنيسها وتلويثها فأنقذها الإمام وأرجعها نقية طاهرة.
قال ابن حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة، فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه، حتى ثيابه التي كانت على بدنه. قال: فقسّمتُ له قسمة ـ أي جمعت له من كل رجل من أصدقائي له مبلغاً من المال ـ واشترينا له ثياباً، وبعثنا إليه بنفقة. فما أتى عليه إلا أشهر قلائل حتى مرض، فكنا نعوده، فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوق ـ أي في حالة الإحتضار ـ ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك. ثم مات فتولَّينا أمره.
ويواصل ابن حمزة حديثه فيقول: فخرجت حتى دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فلما نظر إليَّ قال: يا علي وفّينا ـ والله ـ لصاحبك. فقلت: صدقت، جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته.
الله أكبر كان الإمام الصادق (عليه السلام) كالشمس تشرق على الجميع لتضيء في داخلهم الأمل والرحمة والمغفرة فهو ينقي القلوب بكلامه من أدران الدنيا وشوائبها لتسطع بالهدى.
نور يجلي القلوب
ولننظر إلى هذه القصة الأخرى وكيف أنقذ (عليه السلام) رجلاً من غياهب الفساد والإفساد إلى طريق الحق وسبيل الهداية من براثن السلطة إلى رياض الجنة. ففي الكافي (ج1ص474) عن أبي بصير قال: (كان لي جار يتبع السلطان، فأصاب مالاً، فأعدَّ قِياناً ـ جمع قينة وهي المغنية ـ وكان يجمع الجميع إليه، ويشرب المسكر، ويؤذيني، فشكوتُ إلى نفسه غير مرة فلم ينته. فلما ألححتُ عليه قال لي: يا هذا أنا رجلٌ مُبتلى، وأنت رجلٌ مُعافى، فلو عرضتني لصاحبك رجوت أن ينقذني الله بك).
إن الرجل كما يتضح من كلامه كان آيساً من رحمة الله بقوله: (أنا رجل مُبتلى) بعد أن انغمس في الملذات والمحرمات إضافة إلى تعاونه مع سلطة الظلم والجور والفساد فنسي قوله تعالى: (قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)
يقول أبو بصير: (فوقَع ذلك له في قلبي، فلما صِرت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ذكرت له حاله، فقال لي: إذا رجعت إلى الكوفة سيأتيك فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دع ما أنت عليه، وأضمن لك على الله الجنة.
فلما رجعتُ إلى الكوفة أتاني فيمن أتى، فاحتبسته عندي حتى خلا منزلي ثم قلت له: يا هذا إني ذكرتك لأبي عبد الله: جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فقال لي: إذا رجعت إلى الكوفة سيأتيك فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دع ما أنت عليه، وأضمن لك على الله الجنة. قال أبو بصير: فبكى ثم قال لي الله ـ أي بالله عليك ـ لقد قال لك أبو عبد الله هذا ؟ فقال: فحلفت له أنه قد قال لي ما قلت. فقال لي: حسبك، ومضى.
فلما كان بعد أيام بعث إليَّ فدعاني وإذا هو خلف داره عريان فقال لي: يا أبا بصير لا والله ما بقي في منزلي شيء إلا وقد أخرجته وأنا كما ترى. قال أبو بصير: فمضيت إلى إخواننا فجمعت له ما كسوته به ثم لم تأت عليه أيام يسيرة حتى بعث إليَّ: إني عليل، فأتني فجعلتُ أختلف إليه، وأعالجه حتى نزل به الموت فكنت عنده جالساً وهو يجود بنفسه فّغُشي عليه غشية، ثم أفاق فقال لي: يا أبا بصير قد وفى صاحبك لنا. ثم قُبض ـ رحمة الله عليه ـ فلمّا حججتُ، أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت عليه فلمّا دخلتُ قال لي ابتداءً من داخل البيت وإحدى رجليَّ في الصحن والأخرى في دهليز داره يا أبا بصير قد وفَينا لصاحبك)
سلام الله وصلواته عليك يا سيدي ومولاي يا جعفر بن محمد الصادق الصدوق الناطق بالحق، سلام الله عليك وأنت تنشر أنوار الهدي وتفعم النفوس والقلوب بالنقاء.
مصدر النقاء والطهر
كان (عليه السلام) يريد للإنسان أن يبقى نقياً لا تدنسه آثام السلطة ولا تشوبه أهواؤها ومغرياتها ليبقى قلبه قريباً من الله ما دام بدنه بعيدا عنها. ونجد في الكافي (ج5ص107) قصة ذلك الرجل الذي أراد أن يلتحق بهاوية السلطة فمنعه الإمام وأنقذه، فقد روى الكليني: (إن رجلاً قال للإمام الصادق (عليه السلام): جُعلت فداك لو كلَّمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات (الوظائف الحكومية). فقال (عليه السلام): ما كنت لأفعل.
يقول الرجل: فانصرفتُ إلى منزلي، فتفكَّرتُ فقلت: ما أحسبه منعني إلا مخافة أن أظلم أو أجور، والله لآتينَّه ولأعطينَّه الطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أن لا أظلم أحداً ولا أجور ولأعدلنّ.
فأتيته فقلت: جُعلت فداك، إني فكرت في إبائك ـ أي امتناعك ـ عليَّ فظننتُ إنما منعتني وكرهتَ ذلك مخافة أن أجور أو أظلم وإن كل امرأة لي طالق، وكل مملوك لي حُر عليّ إن ظلمتُ أحداً، أو جُرتُ عليه، وإن لم أعدل.
فقال (عليه السلام): كيف قلت ؟ وكان استفهامه على صيغة الإنكار فقال الرجل: فأعدتُ عليه الأيمان، هنا رفع الإمام رأسه إلى السماء وقال: تناولُ السماء أيسر عليك من ذلك ـ أي لا يمكنك الوفاء بتلك الأيمان، والدخول في أعمال هؤلاء بغير ارتكاب الظلم محال، فتناول السماء بيدك أيسر مما عزمت عليه.
المقاطعة الكاملة
وله (عليه السلام) في نهي الناس عن طاعة السلطة الكثير من الأقوال والأحاديث والروايات منها قوله: (من أرضى سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله). وعن جهم بن حميد قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أما تغشى سلطان هؤلاء ؟ فقال: لا، فقال الإمام: ولم ؟ فقال جهم: فراراً بديني. فقال (عليه السلام): فعزمت على ذلك ؟ فقال: نعم. فقال الإمام لجهم: الآن سَلِم لك دينك.
وهناك روايات كثيرة عنه عليه السلام فحواها أنه (عليه السلام) كان ينهى عن المرافعة إلى الحكام لأن حكمهم لايستقيم مع الشريعة المقدسة، كما كان ينهى عن الأخذ من علماء السوء ووعّاظ السلاطين ممن يسايرون الحكام الظلمة، فأمر بالابتعاد عنهم ومن ذلك قوله: (الفقهاء أمناء الرسل فأذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم). وكان الإمام يسعى من وراء كل ذلك تعرية هؤلاء المزيفين من مدعي الدين أمام الملأ والحد من تسلطهم على الناس باسم الدين وعدم الأخذ بفتاواهم التي تخدم السلطة.
ومن هنا كان الصراع بين هذه الإمام الصادق الذي يمثل المدرسة النبوية وبين السلطة الجائرة على أشده وفقاً لتناقض الغايات وتباين الأهداف فسخّرت السلطة العباسية كل طاقاتها وإمكانياتها للتخلص من الإمام والحد من سلطته الروحية فمارست كل أساليبها القمعية ومؤامراتها البشعة لتصفية الإمام (عليه السلام) جسدياً وفكرياً حتى دس إليه المنصور الدوانيقي سمّاً في عنب فمات منه سلام الله عليه.