الإمام الكاظم عليه السلام ترجمان الوحي
من أهم ما واجهه الإمام الكاظم (عليه السلام) في فترة إمامته هو محاولات الخلفاء العباسيين لتحريف الدين، وزرع الشبهات حول القرآن، وإطلاق الأحكام الخاطئة والتأويلات الباطلة على الآيات الكريمة، ودعم الحركات والتيارات المنحرفة والمعادية للشيعة، كما حاولوا تبرير سياستهم الفاسدة وأعمالهم المخزية بهذا التحريف كما فعل المهدي والهادي والرشيد العباسي.دع
من هذه المهازل التي حاول العباسيون تبرير مفاسدهم بها، أن الخليفة المهدي العباسي سأل الإمام (عليه السلام) عن حكم الخمر، وهل هي محرّمة في القرآن أم لا ؟
ولكن .. أصحيح أنه يجهل هذا الأمر ؟ أم أراد شيئاً آخر من خلال سؤال الإمام ؟
وهل أصبح تقياً وورعاً فجأة، وهو من عرفه التاريخ والناس والقريب والبعيد بالمجون واللهو والانغماس في الملذات ومعاقرة الخمر وإحياء ليالي الرقص والغناء حتى قبل أن يصل إلى الخلافة، فقد كان هذا ديدنه عندما كان ولياً للعهد في زمن أبيه المنصور.
وقد ازداد مجوناً وخلاعة وعربدة بعد توليه الخلافة، يقول عنه ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (ص365): (ولقد استغرق المهدي في المجون واللهو وظن الناس به الظنون واتهموه بشتى التهم وإلى ذلك أشار بشار بن برد في هجائه إيّاه:
خليفة يزني بعمّاته *** يلعبُ بالدفِّ وبالصــــــــولجان
أبــدلنا الله به غيره *** ودسّ موسى في حرِ الخيزران
وقال أيضاً في انهماك المهدي العباسي في المجون وتسلط وزيره يعقوب بن داود:
بني أميّةً هبّــــــــــوا طالَ نومكمْ *** إنّ الخليفة يعقوب ابن داودِ
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا *** خليفة الله بيـن النّاي والعودِ
وقد أنجب هذا الخليفة اثنين من (عباقرة) الغناء في التاريخ هما: ابنه إبراهيم وابنته عُليّة اللذين (كانا ملحنين وشاعرين ومغنيين) في غاية الإتقان والإبداع ! وقد أشار أبو فراس الحمداني إلى ذلك في قصيدته (الشافية) وهو يخاطب بني العباس فقال:
منكم علية أم منهم ؟ وكان لكم *** شيخُ المغنين إبراهيم أم لهم ؟
وهذا الحديث طويل ومخزٍ ولا نريد الخوض فيه فقد امتلأت صحف التاريخ بلياليهما الحمراء. ولنرجع إلى موضوعنا.
لقد حاول المهدي من خلال سؤاله هذا أن يثير شبهة حول هذا الأمر، وأن يجد من الإمام قولاً يوافق قوله لكي يُسكت الألسن التي ضجّت بسياسته الماجنة ولياليه الحمراء، فقال له: فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها، ولا يعرفون التحريم ؟ !!
هذا كلام من تسنّم أعلى منصب قيادي في الإسلام ولقّبَ بـ (أمير المؤمنين) وهو يجهل أن شرب الخمر حرام !
ولكن إذا أردنا أن نقول أنه يعلم أن الخمر حرام وتجاهل ذلك فستكون المصيبة أعظم كما يقال.
فهو بهذه الحالة يريد أن يحمّل القرآن والدين تبعات آثامه وفسقه وفجوره إضافة إلى انتزاع قول من إمام المسلمين يوافق قوله لكي يتذرع به في شرب الخمر بعد أن ضجّ الناس منه، وكثرت شكواهم من مفاسده وموبقاته.
كانت محاولة منه لعله يجد تساهلاً من الإمام في الدين كما وجده عند وعاظ السلاطين من المتقوِّتين على سحت موائده لكي يشهر ذلك وينتقص من الإمام (ع) لكنه صعق وهو يسمع جواب الإمام:
ــ بل هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل.
هاله هذا الجواب الذي لم يتوقّعه فقد تعوّد على الأجوبة التي تلائم نفسيته المريضة من قبل فقهاء البلاط المتزلفين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم ولم يتورعوا عن تحريف الأحكام والسنن من أجل إرضاء الخليفة وتبرير نزواته وشهواته.
لم يحدث أن اعترض عليه ــ وهو الخليفة ــ أحد من الناس مهما كان ذلك الشخص، ومهما كان الفعل الذي يفعله، فكل أفعاله مباحة وسائغة ما دام هناك من يجمّل له أفعاله، فانتشر الفساد في قصوره، وكثرت موبقاته، وتفشت الخلاعة والمجون، وكثر الظلم من قبل حاشيته للناس، وهو منهمك بمعاقرة الخمر واللهو بالحمام الذي كان شغفا به.
ورغم أن سيرته قد امتلأت بالمعاصي والآثام إلا أن أحداً لم يجرؤ على الاعتراض عليه وانتقاده من قبل حاشيته وجلسائه، بل أصبحت هذه المعاصي والكبائر من المباحات! بل من المستحبات التي يثاب عليها! كما في حادثة غياث بن إبراهيم التميمي وهو أحد أفراد حاشيته المتزلفين ووعاظ السلاطين
فقد دخل عليه يوماً فوجده يمارس هوايته التي عُرف بها وهي اللهو بالحمام فذكر حديث النبي (ص): (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) ولكنه أضاف عليها رابعة وهي (أو جناح) ولم يتورّع عن تحريف حديث النبي (ص) فضحك المهدي وأكرمه !!
ورغم أن النبي قد حرم هذه الرابعة كما في كثير من الأحاديث منها قوله (ص): الحمامات الطيارات حاشية المنافقين. ومنها عن الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله: إن النبي (ص) رأى رجلاً يرسل طيراً، فقال: شيطان يتبع شيطاناً. إلا أن الخليفة عندما يهوى اللهو بالحمام فعلى فقهاء السلطة أن يجيزوه له ! بل يحبذوه !!
لكن الأمر هنا اختلف تماماً مع الإمام الكاظم (ع)
ذهل المهدي لهذا الجواب الواثق ولكنه تماسك وقال:
ــ في أي موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّ وجل يا أبا الحسن ؟
فقال الإمام (ع): في قول الله عزّ وجل: (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) .
ثم بدأ (ع) يفسّر الآية من مظانها ومن منبعها الصحيح فهو (ع) أعلم الناس بالقرآن بل هو القرآن الناطق فقال: فأمّا قوله (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني الزنا المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية.
وأمّا قوله عزّ و جل: (وَمَا بَطَنَ) يعني ما نكح الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (ص) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها، تزوّجها ابنه الأكبر من بعده إذا لم تكن أمّه، فحرّم الله عزّ وجل ذلك .
وأمّا (الإِثْمَ) فإنّها الخمرة بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، فأمّا الإثم الذي ذكر إنه حرام في كتاب الله فهو الخمر والميسر، فإثمهما كبير، كما قال عزّ وجل بشكل صريح وعليه فالخمر محرم في القرآن.
دهش المهدي وهو يستمع هذا الاستدلال ولم يدر ما يقول فتدارك الموقف وقال لعلي بن يقطين وكان حاضرا:
ــ يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية.
وقد سمّاها هاشمية لكي يتوسّع في رقعة النسب فيقحم بني العباس ونفسه فيها وعدم حصرها في العلويين حسداً لهم وبغضا، لكنه اصطدم أيضا بجواب ابن يقطين الذي نوّه بطريقة غير مباشرة إلى فضل أهل البيت فقال:
ــ الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت.
لقد أراد ابن يقطين بقوله هذا أن الإمام الكاظم وأهل البيت (عليهم السلام) بصورة عامة هم مصدر فخر وشرف واعتزاز لكل من يتصل بهم من رحم أو صحبة، وقد فطن المهدي إلى مغزى جواب ابن يقطين لكنه كتم غضبه وقال على مضض
ــ صدقت.