الإمام المهدي (عليه السلام) حقيقة قطعية
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصَّلَاة والتَّسليم على طبيب نفوسنا وحبيب قلوبنا مُحَمّد (صلَّى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته وصحبه المنتجبين.
إن من أقوى مانمتلكه نحن أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في مشروعية إمامة الإمام المهدي (عليه السلام) وحقانيته هو النص القطعي الدلالة والتواتر المفيد للاطمئنان النوعي في نفوس محصليه.
ومن هذه النصوص في صراحتها ودلالتها القطعية في إمامة الإمام المهدي ( عليه السلام ) هو ما رواه الصحابي الجليل الثقة (جابر بن عبد ألله الأنصاري )، قال: لمّا قال تعال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾[1]، قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟ فقال : هم خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين من بعدي ، أولهم علي بن أبي طالب ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ، ستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسين بن علي ، ثم سميي محمد وكنيي ، حجة الله في أرضه ، وبغيته في عباده ، ابن الحسن بن علي ، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان، قال جابر : فقلت له : يارسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله)[2].
ومن هذا المنطلق تتبين حتميّة وجود إمام حقّ في كل زمان يكون حجة لله تبارك وتعالى على خلقه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾[3].، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[4]
فإذا كانت العصور الماضية لم تخل من إمام، وقد مضى أحد عشر إماماً من ائمة أهل البيت (عليهم السلام) وكان آخرهم الإمام العسكري (عليه السلام) الذي استشهد سنة (٢٦٠هـ)، فهل يمكن أن تبقى الأرض ويبقى الخلق منذ ذلك الوقت والى يومنا هذا بلا امام؟ والحال أنّ الحديث الشريف يقول: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية)[5].
الجواب: هذا محال، وذلك لحصول نقص في إتمام الحجة الإلهية على عباده. وكذلك فإن حياة الأرض وما عليها يرتبط ارتباطا ضرورياً لا انفكاك له بالإمام المعصوم. وبتعبير آخر فإن وجود الإمام (عليه السلام) لا يخصّ مسألة الهداية للخلق فحسب، بل أنّ كل القوانين الطبيعية مرتبطة به، فهومتجذّر ومتأصّل في كل الطبيعة وفي كل دقائق هذا الكون. ومن هنا يثبت معنى ما ورد في الروايات عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام): (لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها)[6]. فالحجّة في الحقيقة علَّة مبقية لبقاء الأرض والسماء وما بينهما من الموجودات وليس للملاذ والملجاء معنى غير هذا .
إضافة إلى ماذكرنا فإنّ هناك فلسفة أُخرى في ضرورة وجود الإمام المهدي (عليه السلام) تكمن في حتمية وجود ميزان فيصل بين مراحل الصلاح والفساد. فإذا رجحت كفة الفساد يفترض وجود من يثقل كفة الصلاح. وإلّا فعدم التوازن بينهما يؤدّي الى النهاية الحتمية للأرض ومن عليها.
إنّ الموازين المنطقية والتفكير العقلائي مضافاً إليها الأدلّة القرانية والروائية، كلّها تؤكّد وجود الإمام (عليه السلام) وضرورة ظهوره في آخر الزمان لينشأ الدولة العالمية التي تنصف المظلوم وتقتص من الظالم وتنشر العدل وتعطي كل ذي حقّ حقّه ويطبّق فيها الإسلام المحمدي الأصيل.
كما أشار الى ذلك أمير المؤمنين(عليه السلام):( وخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ ، ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ ، ومَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ ، دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ ، بَطِيءُ الْقِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ ، فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَه رِقَابَكُمْ ، وأَشَرْتُمْ إِلَيْه بِأَصَابِعِكُمْ ، جَاءَه الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِه ، فَلَبِثْتُمْ بَعْدَه مَا شَاءَ اللَّه، حَتَّى يُطْلِعَ اللَّه لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ ويَضُمُّ نَشْرَكُمْ ، فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ ، ولَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ ، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِه إِحْدَى قَائِمَتَيْه ، وتَثْبُتَ الأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً ، أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ ، إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ ،فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّه فِيكُمُ الصَّنَائِعُ ، وأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ)[7].
المراد من كلامه(عليه السلام) إشارة إلى الثقلين المخلَّفين أعنى كتاب اللَّه والعترة ، أو الثقل الأكبر فقط ، فقد روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (وإنّي تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتابُ الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال: «وأهل بيتي، أذكّركم في أهل بيتي، أذكركم في أهل بيتي)[8] ، والاستعارة عنهما بالراية باعتبار أنهما يهتدى بهما السّالكون في سبيل اللَّه كما أنّ الرّاية سبب الهداية في منازل الدّنيا ( مَنْ تَقَدَّمَهَا) ولم يعتدّبها ( مَرَقَ ) من الدّين مروق السهم من الرّمية ( ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا) ولم يتابعها ( زَهَقَ ) وهلك في الوادي الضّلالة ( ومَنْ لَزِمَهَا) ولم يفارق عنها ( لَحِقَ ) بالحقّ وأصاب الصّواب في كلّ باب.
في الوسائل عن الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمحمد بن الحنفية قال (عليه السلام): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ ومن تورّط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرّض لمفظعات النوائب، والتدبير قبل العمل يؤمّنك من الندم، والعاقل وعظه التجارب، وفي التجارب علم مستأنف، وفي تقلّب الأحوال علم تجارب الرجال)[9] .
قال أمير المؤمنين(عليه السلام):( اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّه بِحُجَّةٍ – إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً – لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّه وبَيِّنَاتُه)[10].
يتحدث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة حول وجوب الإمامة بين الناس في كلّ زمان ما دام التكليف باقيا وأنّ الإمام قائم بحجّة اللَّه على خلقه ويجب بمقتضى حكمته وهو إمّا أن يكون ظاهرا معروفا كالَّذين سبقوا إلى الإحسان ووصلوا إلى المحلّ الأعلى من ولده الأحد عشر ، وإمّا أن يكون خائفا مستورا لكثرة أعدائه وقلَّة المخلص من أوليائه كالحجّة المنتظر لئلَّا يكون للناس على اللَّه حجّة بعد الرسل[11] .
وهنا دعا (عليه السلام) الناس إلى الاهتداء بآل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنّ مثلهم كمثل نجوم السماء التي يهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾[12]. فالنجاة في الدنيا والآخرة ونيل السعادة في الدارين والفوز بالرضوان إنّما هو في ظل هدي آل محمد (صلى الله عليه وآله) حيث لاتخلو الأرض منهم كنجوم السماء فكلما غابت نجمة، ظهرت أخرى، وهنا أئمة العصمة (عليهم السلام) كلما رحل إمام جاء بعده إمام إلى خاتم الأئمة وهوالمهدي المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.[13]
ثم بشرهم (عليه السلام) بقوله(فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّه فِيكُمُ الصَّنَائِعُ ، وأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ)[14]. أي: نعمه وآلاؤه تعالى، (وأراكم ماكنتم تأملون)، أي: لا تيأسوا عسى الله أن يأتي بالفرج من قريب، والمتحقق الوقوع قريب وإن كان بعيدًا ويمكن أن يكون إرائة المخاطبين مأمولهم في الرجعة والله أعلم.[15]
ولايخفى بأنّ المراد من المأمول هو ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف). في خبر جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام): (كأنّي بأصحاب القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وقد أحاطوا بما بين الخافقين، فليس من شيء إلّا وهو يطيع لهم، حتى سباع الأرض وسباع الطير)[16].
الهوامش:
[1] سورة النساء، الآية:59 . [2] كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق:253 . [3] سورة الاسراء، الآية: 71 . [4] سورة الرعد، الآية:7 . [5] الوافي، الفيض الكاشاني: 2 /120 . [6] الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، الشيخ جواد بن عباس الكربلائي، تحقيق : مراجعة : محسن الأسدي، ط1 ،1428 – 2007 م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات:3/ 40 . [7] نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1/193 . [8] مواقف الشيعة، الأحمدي الميانجي، ط1 ،1416 مط، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: 3 /474 . [9] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق(ت: 381 هـ)، تحقيق العلامة الشيخ حسين الاعلمي، منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، ط1 ، 1986: 4 / ٣٨٨ ، وسائل الشيعة، الحر العاملي(ت: ١١٠٤هـ)، تحقيق وتصحيح وتذييل : الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، ط5 ، ١٤٠٣ – ١٩٨٣ م مط، دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان: ١٥ : ٢٨١ ،ح ٢٠٥١٧ . [10] نهج البلاغة خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 4 /37 . [11]ينظر: شرح نهج البلاغة ، ابن ميثم البحراني(ت: 679 هـ)، تحقيق : عني بتصحيحه عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بهاط 1 1362 ش مط ،تبليغات اسلام مركز النشر مكتب الاعلام:5/326 . [12] سورة الانعام، الآية: 97 . [13] ينظر: تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير(ت: 638 هـ)، تحقيق : محمادي بن عبد السلام الخياطي، ط1 ، 1418 ه – 1997 م / قدمه للشاملة / أبو إبراهيم حسانين، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي – الرباط:1 /27 . [14] نهج البلاغة، خطب الإمام علي ( عليه السلام ): 1 /194 . [15] ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي: 7 /156 . [16] بحار الأنوار، العلامة المجلسي(ت: 1111 هـ)، حقيق : محمد الباقر البهبودي، ط3 المصححة،1403 – 1983 م، دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان:52 /327 .