مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 26-27)

قال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران : 26، 27].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

لما ذكر سبحانه مكائد أهل الكتاب، علم رسوله محاجتهم، وكيف يجيبهم إذا سألوا وأجابوا، فقال: {قل} يا محمد {اللهم} يا الله {مالك الملك} مالك كل ملك وملك، فكل مالك دونك هالك، وكل ملك دونك يهلك. وقيل:

مالك العباد وما ملكوا، عن الزجاج. وقيل: مالك أمر الدنيا والآخرة. وقيل: مالك النبوة، عن مجاهد، وسعيد بن جبير {تؤتي الملك من تشاء} تعطي الملك من تشاء. وفيه محذوف أي: من تشاء أن تؤتيه {وتنزع الملك ممن تشاء} أن تنزعه منه، كما تقول: خذ ما شئت، ودع ما شئت، ومعناه: وتقطع الملك عمن تشاء أن تقطعه عنه، على ما توجبه الحكمة، وتقتضيه المصلحة. واختلف في معناه فقيل:

تؤتي الملك وأسباب الدنيا محمدا وأصحابه وأمته، وتنزعه عن صناديد قريش، ومن الروم وفارس، فلا تقوم الساعة حتى يفتحها أهل الاسلام، عن الكلبي. وقيل:

تؤتي النبوة والإمامة من تشاء من عبادك، وتوليه التصرف في خلقك وبلادك، وتنزع الملك على هذا الوجه من الجبارين بقهرهم، وإزالة أيديهم، فإن الكافر والفاسق وإن غلب أو ملك، فليس ذلك بملك يؤتيه الله لقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} وكيف يكون ذلك من إيتاء الله، وقد أمر بقصر يده عنه، وإزالة ملكه.

{وتعز من تشاء} بالإيمان والطاعة {وتذل من تشاء} بالكفر والمعاصي.

وقيل: تعز المؤمن بتعظيمه والثناء عليه، وتذل الكافر بالجزية والسبي. وقيل: تعز محمدا وأصحابه، وتذل أبا جهل وأضرابه من المقتولين يوم بدر في القليب. وقيل:

تعز من تشاء من أوليائك بأنواع العزة في الدنيا والدين، وتذل من تشاء من أعدائك في الدنيا والآخرة، لأن الله تعالى لا يذل أولياءه وإن أفقرهم وابتلاهم، فإن ذلك ليس على سبيل الإذلال، بل ليكرمهم بذلك في الآخرة، يعزهم ويجلهم غاية الإعزاز والإجلال.

{بيدك الخير} اللام للجنس أي: الخير كله في الدنيا والآخرة من قبلك.

وإنما قال {بيدك الخير} وإن كان بيده كل شئ من الخير والشر، لأن الآية تضمنت إيجاب الرغبة إليه، فلا يحسن في هذه الحالة إلا ذكر الخير، لأن الترغيب لا يكون إلا في الخير. وهذا كما يقال: أمر فلان بيد فلان.

{إنك على كل شيء قدير} أي: قادر على جميع الأشياء، لا يعجزك شئ تقدر على إيجاد المعدوم، وإفناء الموجود، وإعادة ما كان موجودا. {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل} قيل في معناه قولان أحدهما: إن معناه ينقص من الليل، فيجعل ذلك النقصان زيادة في النهار، وينقص من النهار، فيجعل ذلك النقصان زيادة في الليل، على قدر طول النهار وقصره، عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعامة المفسرين. والآخر: معناه يدخل أحدهما في الآخرة بإتيانه بدلا منه في مكانه، عن أبي علي الجبائي. {وتخرج الحي من الميت} أي: من النطفة وهي ميتة بدليل قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28].

{وتخرج الميت من الحي} أي: النطفة من الحي، وكذلك الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة والسدي.

وقيل: إن معناه تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، عن الحسن، وروي  ذلك عن أبي جعفر ” عليه السلام “، وأبي عبد الله ” عليه السلام “.

{وترزق من تشاء بغير حساب} معناه: بغير تقتير، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب، لأن من عادة المقتر أن لا ينفق إلا بحساب، ذكره الزجاج. وقيل: معناه بغير مخافة نقصان لما عنده، فإنه لا نهاية لمقدوراته. فما يؤخذ منها لا ينقصها، ولا هو على حساب جزء من كذا، كما يعطي الواحد منا العشرة من المائة، والمائة من الألف. وقيل: إن المراد بمن يشاء أن يرزقه، أهل الجنة، لأنه يرزقهم رزقا لا يتناوله الحساب، ولا العد، ولا الإحصاء، من حيث إنه لا نهاية له، ويطابقه قوله:

{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص270-272.

 

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) :

تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ :

ان ظاهر الآية ينطبق تماما على حال المسلمين في بدء الدعوة الاسلامية ، حيث لم يكن لهم آنذاك شيء من الملك وعزة السلطان ، فلقد بدأ الإسلام غريبا ، كما قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله  ) ، وكان الملك والسلطان موزعا بين الفرس والروم . .

وبعد أن جاء نصر اللَّه انعكست الآية ، وأصبح الذليل عزيزا ، والعزيز ذليلا ، وصار الفرس والروم محكومين للمسلمين بعد أن كانوا حاكمين ، والمسلمون حكاما بعد أن كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس ، وتحققت إرادة اللَّه تعالى التي بيّنها بقوله : {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص : 5].

{ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ } . المراد بملك اللَّه للملك قدرته على كل شيء ، فكأنه قال : اللَّه مالك القدرة ، وانما أطلق لفظ الملك على القدرة ، لأن أبرز آثار الشيء المملوك هي قدرة المالك على التصرف فيه ، ولا أحد يقدر على شيء ، أو يملك شيئا إلا أن يملكه اللَّه إياه ، ويمنحه القدرة عليه . . شأن الممكن مع الواجب : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ والأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ } . { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ } .

وقد أعطاه المسلمين الأول ، حين استجابوا لدعوة الإسلام ، وبه كانوا يعملون .

{ وتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ } . نزعه من الفرس والروم لكفرهم باللَّه والحق .

( وتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ ) . وهم المسلمون . ( وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) . الفرس والروم ومشركو العرب . { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } . المراد بيد اللَّه قدرته ، والخير يشمل كل ما فيه منفعة محللة معنوية كانت أو مادية ، وقد ساق اللَّه للمسلمين خيرا كثيرا ببركة الإسلام . { إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ومن دلائل قدرته سبحانه انه نزع الملك من الأقوياء ، وأعطاه للضعفاء .

{ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ } . حيث تتحرك الأفلاك بقدرته وعنايته ، ويدور بعضها حول بعض ، فتتعدد الفصول ، ويأخذ الليل من النهار في فصل ، حتى يصير 15 ساعة ، والنهار 9 ساعات ، ويأخذ النهار من الليل في فصل ، حتى يصير 15 ساعة ، والليل 9 . { وتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } .

من ذلك إخراج المؤمن من الكافر ، والعزيز من الذليل . { وتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ }. ومنه إخراج الكافر من المؤمن ، والذليل من العزيز . { تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } . تماما كما رزق المسلمين الأول الملك وعلو الشأن ببركة الإسلام .

وإذا سألت : هل ملك الحاكم الجائر وسلطانه من اللَّه ، وبإرادته ومشيئته ؟ .

فإنك تجد الجواب عن سؤالك هذا في تفسير الآية 246 من سورة البقرة .

وبعد ، فإن ظاهر الآية يعزز ما قاله جماعة من المفسرين في سبب نزولها ، وخلاصته ان رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله  ) لما خط الخندق عام الأحزاب بإشارة سلمان الفارسي قطع لكل عشرة من أصحابه أربعين ذراعا ، وكان سلمان رجلا قويا ، فأراد الأنصار أن يكون معهم في الحفر ، وقالوا : سلمان منا . وأراده المهاجرون ، وقالوا : بل سلمان منا . فقال النبي كلمته المتواترة : سلمان منا أهل البيت ، وبينما سلمان يحفر إذ اعترضته صخرة لا تعمل المعاول فيها شيئا ، فرفع الأمر إلى رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله  ) ، فأخذ المعول من يد سلمان ، وفتت الصخرة بثلاث ضربات برقت منها ثلاث مرات ، رأى النبي من خلالها قصور الفرس والروم واليمن ، وقال لأصحابه : ان أمته ستستولي على ملك كسرى وقيصر ، ولما سخر المنافقون من هذه النبوءة أنزل اللَّه : { قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ } .

وسواء أكان هذا هو سبب الآية ، أو لم يكن فإن ظاهر اللفظ لا يأباه ، ووقائع التاريخ تؤيده .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص36-38.

 

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين(1) :

الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة ومن العذاب ما سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة وأخذ أنفاسهم وذهب باستقلالهم في السؤدد.

على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ويعز من يشاء وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء وهو الآخذ النازع للملك والعزة ولكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.

قوله تعالى قل اللهم مالك الملك أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين والمتمردين من الحق من المشركين وأهل الكتاب فضلوا وهلكوا بما قدروه لأنفسهم من الملك والعزة والغنى من الله سبحانه ويعرض الملتجىء نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب.

و الملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن الملك بكسر الميم ما هو حقيقي وهو كون شيء كالإنسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأي نحو شاء وأراد وكذا في يده بالقبض والبسط،  والأخذ بها والترك ونحو ذلك ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغني عنه ولا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الإنسان ومن هذا القبيل ملكه تعالى بكسر الميم للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الإطلاق، فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء.

و  من الملك بكسر الميم ما هو وضعي اعتباري وهو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والأغراض الاجتماعية، وإنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني.

ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير والتحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.

وأما الملك بالضم فهو وإن كان من سنخ الملك بالكسر إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه، ولا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك، وهو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد وما في يده، ولهذا كان للملك بالضم من الأقسام ما ذكرناه للملك بالكسر.

والله سبحانه مالك كل شيء ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلأن له الربوبية المطلقة والقيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء وإله كل شيء، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر: 62] وقال تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شيء وهذا هو الملك بالكسر كما مر.

وأما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، والأشياء تملك قواها الفعالة، والقوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك اعضاءه وقواه الفعالة من سمع وبصر وغير ذلك، وهي تملك أفعالها، وإذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئا، ويملك ما يملكه، وهذا هو الملك بالضم فهو مليك على الإطلاق، قال تعالى : {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1] ، وقال تعالى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [القمر: 55] ، إلى غير ذلك من الآيات، هذا هو الحقيقي من الملك والملك.

وأما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من المال، ولو لم يملك لم يصح منه ذلك ولكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].

وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 1، 2] ، وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] ، وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 10] ، وقال تعالى : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر: 16] ، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عز ملكه.

ومن التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى : {اللهم مالك الملك}، مسوق: أولا: لبيان ملكه تعالى بالكسر لكل ملك بالضم ومالكية الملك بالضم هو الملك على الملك بالضم فيهما فهو ملك الملوك، الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] ، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54].

وثانيا: يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبرياؤه وهو ظاهر.

وثالثا : أن المراد بالملك في الآية الشريفة والله أعلم ما هو أعم من الحقيقي والاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} على ما سنوضحه من شئون الملك الاعتباري وما ذكره في الآية الثانية من شئون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقا.

قوله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}، الملك بإطلاقه شامل لكل ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فإن الملك كما تقدم بيانه في قوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } [البقرة: 258] في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لأن يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني وقد جبل الله النفوس على حبه والرغبة فيه، والملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك، وإنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا وغصبا، وإما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة، ويرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول.

وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه، وبالنسبة إلى غير أهله نقمة وهو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده.

و قد تقدم : أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وإن جرى فعله على المصلحة دائما.

قوله تعالى: {وتعز من تشاء وتذل من تشاء}، العز كون الشيء بحيث يصعب مناله، ولذا يقال للشيء النادر الوجود إنه عزيز الوجود أي صعب المنال، ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة، وصعب المنال من حيث مقامه فيهم ووجدانه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل صعوبة كما يقال: يعز علي كذا.

قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] ، أي صعب عليه.

واستعمل في كل غلبة كما يقال.

من عز بز أي من غلب سلب، قال تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] ، أي غلبني والأصل في معناه ما مر.

ويقابله الذل وهو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] ، وقال تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24] ، وقال تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]

والعزة من لوازم الملك على الإطلاق وكل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله ذلك وملكه، وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا وما عند غيره منها فإنما هو بإيتائه وإفضاله.

قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء: 139] وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وهذه هي العزة الحقيقية وأما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز.

قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] ولذا أردفه بقوله {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3].

وللذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى تعز من تشاء وتذل من تشاء.

قوله تعالى: {بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}، الأصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنما نسمي الشيء خيرا لأنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة، وإن كنا أردناه أيضا لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، وغيره خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره، وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها وترددنا في اختياره من بينها.

فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شيء آخر مؤثرا بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل: إنه صيغة التفضيل وأصله أخير.

وليس بأفعل التفضيل، وإنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل، يقال: زيد أفضل من عمرو، وزيد أفضلهما، ويقال: زيد خير من عمرو، وزيد خيرهما.

ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه، ويقال أفضل وأفاضل وفضلى وفضليات، ولا يجري ذلك في خير بل يقال: خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال: شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبهة.

ومما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ} [الجمعة: 11] ، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل، وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل، وهو كما ترى.

فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب، واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.

ويظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شيء، ويرجع إليه كل شيء، ويطلبه ويقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسماؤه، وإنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73] ، وكقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].

نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الجمعة: 11] ، وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87] ، وقوله {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] ، وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] ، وقوله {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] ، وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف: 89] ، وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155] ، وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] ، وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29] ، وقوله: “ {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109].

ولعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق إطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه، وأما التسمية عند الإضافة والنسبة، وكذا التوصيف في الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.

و الجملة أعني قوله تعالى: {بيدك الخير} تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر، والمعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك، وأنت المعطي المفيض إياه.

فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله: {تؤتي الملك من تشاء} “الخ” من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك والعزة، وهو ظاهر.

و كما يصح تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك والإذلال فإنهما وإن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان وعدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك.

وبالجملة هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة، والخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى، والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره، فإذا أعطي غيره شيئا من الخير فله الأمر وله الحمد، وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما، على أن إعطاءه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.

وهناك خير وشر تشريعيان وهما أقسام الطاعات والمعاصي، وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره، ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعا، وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن ولا قبح، وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.

فقد تبين: أن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل وجدان وحرمان وخير وشر.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن في قوله: بيدك الخير إيجازا بالحذف، والتقدير: بيدك الخير والشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [النحل: 81] ، أي والبرد.

و كان السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى: وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى، والمعتزلة وإن أخطئوا في نفي الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب، وقد تقدم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الأمر.

قوله تعالى : {إنك على كل شيء قدير} في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى إياه على ذلك، ولو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شيء، وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى، وكان أيضا كل خير إفاضة غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده، وهذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى: {بيدك الخير}.

قوله تعالى: {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل}، الولوج هو الدخول، والظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع والأمكنة على بسيط الأرض، واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف، ثم يأخذ الليالي في الطول والأيام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء، كل ذلك في البقاع الشمالية، والأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائما، أما الاستواء في خط الإستواء والقطبين فإنما هو بحسب الحس وأما في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.

قوله تعالى: وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة ونورا والكفر موتا وظلمة كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام: 122] ، ويمكن أن يراد الأعم من ذلك ومن خلق الأحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي والحي إلى الميت، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 14، 15] ، إلى غيرها من الآيات.

وأما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور، وذلك لإنكاره الكون الحادث، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما، ولبقية الكلام مقام آخر.

والآية أعني قوله تعالى “تولج” الليل في النهار الخ تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء “الخ” تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي وتوابعه.

وقد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الأولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه، ووضع الإعزاز والإذلال وبحذائهما إخراج الحي من الميت وعكسه، وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم وإطلاقهم الغريزي وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار، ونزع الملك بالعكس من ذلك، وكذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها، نظير إخراج الحي من الميت، والإذلال بالعكس من ذلك، وفي العزة حيوة وفي الذلة ممات.

وهنا وجه آخر: وهو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوة قال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء: 12] ، ومظهر هذا الإثبات والإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك والسلطنة وزواله، وعد الحيوة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] ، وخص العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وهم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة والذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحياة والموت، ولهذا قابل ما ذكره في الآية الأولى من إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحي من الميت وعكسه.

ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: {وترزق من تشاء بغير حساب}، وما ذكره في الآية الأولى: {بيدك الخير}، كما سيجيء بيانه.

قوله تعالى: {وترزق من تشاء بغير حساب}، المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله: وترزق “الخ” بيانا لما سبقه من إيتاء الملك والعز والإيلاج وغيره، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله: بيدك الخير، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل، والمعنى: أنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.

معنى الرزق في القرآن :

الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة: رزقه، وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، فلم يعد الكسوة رزقا.

ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه، ثم عمم فسمي كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقا وإن لم يكن غذاء كسائر مزايا الحيوة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون: 72] ، وقال فيما يحكي عن شعيب {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88] ، والمراد به النبوة والعلم، إلى غير ذلك من الآيات.

والمتحصل من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 58] ، والمقام مقام الحصر: أولا: أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] ، حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم، وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] ، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.

وثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه، ويدل على ذلك – مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها – آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق والأمر والحكم والملك بكسر الميم والمشية والتدبير والخير لله محضا عز سلطانه.

وثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع.

قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] وحاشاه سبحانه أن ينهى عن شيء ثم يأمر به أو ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه.

ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع وكونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا، وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين، وليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية، وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون.

قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82].

على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم ذلك امتحانا وإتماما للحجة وخذلانا واستدراجا ونحو ذلك وهذا كله نسب تشريعية، وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح.

ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] ، وذكر أيضا أن ما عنده فهو خير.

قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ } [القصص: 60] ، وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] ، مع قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر: 62].

وأما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] ، وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.

وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق، وربما أشار إليه قوله تعالى {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [طه: 131].

ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير ومخلوق، وكل خلق رزق وخير، وإنما الفرق: أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها، والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به، وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية، قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه: 50].

والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته، والقوة الغاذية خير للإنسان، ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا.

وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه، وكذا القوة الغاذية مخلوقة، والإنسان مخلوق.

ولما كان كل رزق لله، وكل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية، وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض، وبلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقا، ولا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23].

فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.

ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.

وتوضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه، وكما أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر، ومتق وفاجر، وإنسان وغير إنسان، ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام، وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده، ومنه ما هو رزق خاص، وهو الواقع في مجرى الحل.

وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران، قال تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان: 2] ، كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران، وكما أن الهدى – وهو رحمة خاصة – مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 – 58] ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، فالعبادة وهي تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة تشريعا، كذلك الرزق الخاص – وهو الذي عن مجرى الحل – مقضي مقدر، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140] ، وقال تعالى {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71] ، والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.

و من الواجب أن يعلم: أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلا وقلته، وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].

ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: وترزق من تشاء بغير حساب فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى.

وأما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 2، 3] ، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.

و قد تحصل من الآيتين أولا أن الملك بضم الميم كله لله كما أن الملك بكسر الميم كله لله.

و ثانيا: أن الخير كله بيده ومنه تعالى.

و ثالثا: أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض واستحقاق.

و رابعا أن الملك والعزة وكل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال والجاه والقوة وغير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 112-125.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

بيده كلّ شيء :

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى : {قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء}.

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كلّ هذه الأُمور، {وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير}.

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً. وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

{بيدك الخير}.

«خير» صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء، والكلمة تطلق أيضاً على كلّ شيء حسن. بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه.

وعبارة (بيدك الخير) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين :

1 ـ الألف واللام في «الخير» هما للإستغراق.

2 ـ أنّ تقديم الخبر «بيدك» وتأخير المبتدأ «الخير» دليل على الحصر كما هو معلوم. فيكون المعنى : «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك».

كذلك يستفاد من «بيدك الخير» أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحداً أو أذلّه، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل، ولا شرّ فيه. فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا أحراراً.

وبعبارة اُخرى : أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور، فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب ان الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقاً.

{إنّك على كلّ شيء قدير}.

هذه الآية جاءت دليلاً على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعاً لمشيئته.

الحكومات الصالحة وغير الصالحة :

يُطرح هنا سؤال هام يقول : قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم، أو يسقط منه، فذلك بمشيئة الله. ومن هنا فلابدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ مثل حكومات جنكيز خان وهتلر وغيرهما. بل أنّنا نقرأ في التاريخ أنّ «يزيد بن معاوية» ـ تبريراً لحكمه الشائن الظالم ـ استشهد بهذه الآية(2). لذلك نرى في كتب التفسير توضيحات مختلفة بشأن هذه الشبهة. من ذلك أنّ الآية تختصّ بالحكومات الإلهيّة، أو أنّها تقتصر على حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أنهت حكم جبّاري قريش.

ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوماً عامّاً يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم، وأنّ الإستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل. فإذا قام ظَلَمة وطغاة ـ مثل جنكيز ويزيد وفرعون ـ باستغلال أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحمّلت حكمهم الشائن، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل : كيفما كنتم يولّى عليكم.

ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضاً نتيجةً لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.

في الواقع، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أُناس غير صالحين.

خلاصة القول : إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الإختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.

في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية :

1 ـ {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل…}.

وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى، ومنها مسألة التغيير التدريجي للّيل والنهار، بمعنى أن الليل يقصر مدّته في نصف من السنة، وهو ما عُبّر عنه بدخوله في النهار، بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة، وهو دخول وولوج النهار في الليل. وكذلك اخراج الموجودات الحية من الميّتة وبالعكس، وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض، كلّها من علائم قدرته المطلقة.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص238-240.

2- تفسير الميزان ،ج3 ،ص 143.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى