التفاؤل باب من بوابة الأمل
كم لطيف هو التفاؤل ..فهو بوابة الأمل والانشراح وإطلالة السعادة ،فيه تنتعش النفوس وتطمئن القلوب ، وكم ذميم هو التشاؤم ففيه الضيق والانقباض والتراجع والقلق ،وهو مما لا تحتمله الحياة ولا ينبثق بسببه عطاؤها ،ففي تصاعده تكمن المشاكل وتتعطل الحركة ويتلاشى النشاط ،
وهذه الظاهرة الذميمة أخذت – وللأسف – بالازدياد وبدت انعكاساتها على واقعنا الاجتماعي . وللوقوف عند أصل هذه الظاهرة اللاصحية (التشاؤم أو التطيّر) ومراجعة جذورها التاريخية في المجتمع العربي فقد ورد في اللغة أن
: (شأم- شأماً:جرّ عليهم الشؤم فهو شائم ،شؤم –شآمة ً وشأم استشأم به :تطير وهو ضد تيمن وتفاؤل ،الشؤم :ضد اليمن والبركة ) ومن الواضح أن ظاهرة التشاؤم إحدى ممارسات المجتمع الجاهلي ،(فقد كان العرب في الجاهلية ينفرون الظباء والطيور فإن أخذت ذات اليمين تبركوا بها ،ومضوا في سفرهم ،وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا) ويُتَنَحس كذلك بالنجوم . وقد رفض الإسلام التطيّر ودعا إلى التفاؤل بالخير وردّ على المتطيرين في مواضع قرآنية كثيرة في ردّه على أمم الأنبياء الذين تطيّروا من دعوى أنبيائهم فقد وردفي تفسير الميزان في شرح قوله تعالى (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) – يس – الآية – 18 ،كان الردّ عليهم (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ – يس – الآية – 19)أي ما يجري إليكم هو معكم لا معنا وقوله تعالى(قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ )- النمل – الآية -47أي الذي يأتيكم به من الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر لا أنا ومن معي فليس لنا من الأمر شيء ،ويؤكد القرآن الكريم أن الإنسان لا يمكن أن يتجاوز ما قدّر له في هذه الدنيا فقد ورد في تفسير الرازي ج20 عن قوله تعالى (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) – الإسراء – الآية – 13(قال أبو عبيدة :الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت ، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طارت له من خير ٍ أو شرٍ ، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخصّ كل واحدٍ منهم بمقدار مخصوصٍ من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه تجاوز هذا القَدَرَ وأن ينحرف عنه بل لابد أن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية ،فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه فبهذا المعنى لا يبعد) . هذا التشخيص والردود القرآنية المتتالية في نبذ ظاهرة التطيّر رادفه الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة وما ورد عن آل البيت الأطهار (عليهم السلام) في التأكيد على أن التشاؤم والتطير لا يُعدّان من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الفرد في المجتمع المسلم فهما دليل على الضعف والتردد وليس من مظاهر الاتزان والقوة في الشخصية أن يكون المرء متردداً في اتخاذ القرار أو التحرك في بناء الحياة ومضي الفرد في أداء ما له وما عليه من واجبات ، فالتشاؤم والتطير لهما سلبيات كثيرة منها القلق والتردد والفشل المؤكد في مجالات الحياة ، فثمة من يكون مترددا في كل شيء نتيجة تطيّره من حدث معين فيحيل له في نفسه أنه فأل غير حسن فيتحرز منه بل تصل الحال عند البعض إلى عدم الخروج إلى عمله !، أو التراجع عن المضي في أمور حياته الطبيعية تخوفاً من حالةٍ معينةٍ نتيجة التشاؤم ، أو يفسر الأحداث بالطريقة التي يعتبرها في قرارة نفسه مرتبطةً بحصول ما كان يتطير منه مسبقاً،وهذه تعبر عن الروح الانهزامية في مواجهة الحياة بشكل شجاع ٍ والتقهقر أمام الظروف التي تحتاج إلى حزم وإرادة للتغلب عليها ، وهذا ما لا يرضى به الله سبحانه لعبده المؤمن كما جاء (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : (الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهوّنت وإن شددتها تشددت وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً) ، هذه التأثيرات النفسية إذا تضاعفت فقد تفقد الفرد توازنه تدريجياً ،وأين ذلك من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):( كفّارة الطيّرة التوكل ) ،وقوله (صلى الله عليه وآله) (تفاءلوا بالخير تجدوه ). إن ازدياد بعض العادات والسلوكيات وتفاقمها فقد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه بل قد تجعل المتمسكين بها مثاراً لسخرية المجتمعات الأخرى، ومثال ذلك عند انتهاء شهر صفر تمتلئ الأحياء والأزقة بالأواني والأقداح الزجاجية المتكسرة استبشاراً برحيل شهر صفر، وكأن الشّر لا يندفع إلا بكسر الأواني وملأ الطرقات بالزجاج بما يزيد الطين بلةً . وقد يجرّنا الحديث عن التفاؤل بالخير والشر إلى قراءة الفأل والبخت والتنجيم وامتهان هذه الوسيلة من قبل ضعاف النفوس والمتكسّبين بها مما يؤدي إلى إشاعة الدّجل والشعوذة والاستخفاف بعقول الناس وابتزازهم ،وقد تؤدي الحالة في بعض الأحيان إلى انتهاك الأعراض والحرمات من قبل المنحرفين الذين يمارسون هذه المهن بكل خبث وحقارة، فضلاً عن دور بعض وسائل الإعلام الهدّامة التي تروّج لاؤلئك المشعوذين وتدعمهم بكل قوة ، وهذا الدور بلا شك مخططٌ له ويراد منه النيل من ديننا الحنيف وما أكد عليه من مبادئ وقيم ونهج سماوي، ونبذ الدجل والشعوذة والخرافات والأساطير البالية مما نص عليها دين الله القيم دين الحقائق والدلائل المؤكدة، وليس دين الخزعبلات والأساطير ، وقد ورد في نهج البلاغة : ( المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار ) ، وإنّ تصديق أؤلئك المشعوذين يعني القبول بنهجهم وإتباعهم ومن رضي بعمل قوم أشرك معهم ، فهل نرضى لأنفسنا أن نكون من أصحاب النار ؟ وفي الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال (وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان بيني وبين رجل قسمة أرض وكان الرجل صاحب نجوم وكان يتوخى ساعة السعود فيخرج فيها وأخرج أنا في ساعة النحوس ، فاقتسمنا فخرج لي خير القسمين ، فضرب الرجل بيده اليمنى على اليسرى ، ثمَّ قال : ما رأيت كاليوم قط قلت : ويك ، ألا أخبرك ذاك ؟ قال : إني صاحب نجوم أخرجتك في ساعة النحوس وخرجت أنا في ساعة السعود ، ثمَّ قسمنا فخرج لك خير القسمين فقلت:ألا أحدثك بحديث حدثني به أبي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سره أن يدفع الله عنه نحس يومه فليفتتح يومه بصدقة يذهب الله بها عنه نحس يومه ، ومن أحب أن يذهب الله عنه نحس ليلته فليفتتح ليلته بصدقة يدفع نحس ليلته فقلت : إني افتتحت خروجي بصدقة ، فهذا خير لك من علم النجوم) . وعليه ينبغي أن يكون الاتكال على الله في دفع الأمور والاستعانة به عند القلق والحرج أو التعرض إلى مكاره الدنيا ،يرادف ذلك التصدق على الفقراء والمساكين ففيه دفع البلاء والكُرُبات .والأمر الأخر الذي ينبغي ألا يفوتنا ألا وهو اللجوء إلى الدعاء والتوسل إلى الله فهو يحب ويجيب المتوسلين في دعائه فهو القائل جلّ وعلا (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )لآية 60 والتضرع بالنبي ّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبآل بيته الأطهار (عليهم السلام) فهم الوسيلة إلى الله سبحانه ويقيناً أن الدعاء والاتكال على الله يؤديان بالمرء إلى استنهاض طاقاته الكامنة و مضاعفة استعداداته النفسية لمواجهة الصعاب بروحٍ وثابةٍ بعيدةٍ عن الخنوع والانهزامية ، وتراثنا الديني يزخر بما يتحرّز به من الأهوال والحفاظ على الأهل عند السفر كالدعاء وقراءة سورة الفاتحة المباركة.