مقالات

زهد السيدة الزهراء عليها السلام وأنفاقها في سبيل الله


كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على جانب كبير من الزهد، ومعنى الزهد: التخلي عن الشيء وتركه وعدم الرغبة فيه، وكلما ازداد الإنسان شوقاً إلى الآخرة ازداد زهداً في الدنيا، وكلما عظمت الآخرة في نفس الإنسان صغرت الدنيا في عينيه وهانت، وهكذا كلما ازداد الإنسان عقلاً وعلماً وإيماناً بالله ازداد تحقيراً واستخفافاً لملّذات الحياة.

أرأيت الأطفال كيف يلعبون، ويفرحون، ويحزنون ويتسابقون ويتنازعون على أشياء تافهة يلعبون بها، فإذا نضجت عقولهم وتفتحت مشاعرهم تراهم يبتعدون عن تلك الألاعيب، ويستنكفون من التنازل إلى ذلك المستوى ويعتبرونه منافياً للوقار، ومُخلاًّ للشخصية، كل هذا بسبب تطوُّر مداركهم، وانتقالهم من دور الصبا إلى مرحلة الرجولة والنضج.

نعم، هكذا كان أولياء الله، كانوا ينظرون إلى حطام الدنيا نظرة تحقير واستهانة، ولا تتعلق قلوبهم بحب الدنيا وما فيها، ولا يحبون الدنيا للدنيا، بل يحبون الدنيا للآخرة، يحبون البقاء في الدنيا ليعبدوا الله تعالى، يريدون المال لينفقوه في سبيل الله عز وجل، لإشباع البطون الجائعة وإكساء الأبدان العارية وإغاثة الملهوف وإعانة المضطر.

بعد هذه المقدمة يسهل عليك أن تدرك أسس الزهد عند السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي عرفت الحياة الدنيوية، وأدركت الحياة الأخروية، فلا عجب إذا قنعت باليسير اليسير من متاع الحياة، واختارت لنفسها فضيلة المواساة والإيثار، وهانت عليها الثروة، وكرهت الترف والسرف.

فلا غرو، فهي بنت أزهد الزهاد، وحياتها العقائدية ملازمة للزهد وحياتها الاجتماعية أيضاً تتطلب منها الزهد، فهي أولى الناس بالسير على منهاج أبيها الرسول الزاهد العظيم (صلى الله عليه وآله).

وحياتها الزوجية تبلورت بالزهد والقناعة، فلقد كان زوجها الإمام علي (عليه السلام) أول الناس وأكثرهم اتباعاً للرسول في زهده، ولم يشهد التاريخ الإسلامي رجلاً من هذه الأمة أكثر زهداً من علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وهو الذي كان يخاطب الذهب والفضة بقوله: يا صفراء يا بيضاء غري غيري. وقد أمر علي (عليه السلام) لأعرابي بألف. فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال علي: كلاهما عندي حَجَران، فأعطوا الأعرابي أنفعهما له وإليك نبذة من الأحاديث التي تشير إلى نفس الموضوع:

في السادس من البحار عن كتاب (بشارة المصطفى) عن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

صلَّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة العصر، فلما انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من العرب مهاجر، عليه سمل قد تهلل وأخلق(1) وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستحثه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني وفقير فارشني(2).

فقال (صلى الله عليه وآله): ما أجد لك شيئاً، ولكن الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة.

وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يتفرد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة.

فانطلق الإعرابي مع بلال، فلما وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند رب العالمين.

فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمن أنت يا هذا؟

قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيد البشر مهاجراً من شقة، وأنا – يا بنت محمد – عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.

وكان لفاطمة وعلي – في تلك الحال – ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شأنهما.

فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ(3) كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا يا أيها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.

فقال الإعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟

قال: فعمدت فاطمة – لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه.

فأخذ الإعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله، والنبي (صلى الله عليه وآله) جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك.

قال: فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيدة بنات آدم.

فقام عمار بن ياسر (رحمة الله عليه) فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية استر بها عورتي وأصلّى فيها لربي، ودينار يبلغني إلى أهلي.

وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر ولم يبق منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم.

فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له.

وعاد الإعرابي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت! قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأمي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللهم أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللهم أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. وإلى أن قال: فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فأدفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنت له.

فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربه أي إلى صاحبه.

وفي كتاب البحار عن تفسير فرات بن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري قال:

أصبح علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم ساغباً(4) وقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاَّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابني هذين؟ الحسن والحسين.

فقال علي: يا فاطمة؟ ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغيكم شيئاً: فقالت: يا أبا الحسن إني لأستحيي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه.

فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمة (عليهما السلام) واثقاً بالله بحسن الظن، فاستقرض ديناراً فبينما الدينار في يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في يوم شديد الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته فلما رآه علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنكر شأنه فقال: يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عما ورائي!!

فقال: يا أخي إنه لا يسعني أن تتجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي!!!

فقال له: يا أخي إنه لا يسعك أن تكتمني حالك. فقال: يا أبا الحسن! أمَّا إذا أبيتَ! فو الذي أكرم محمد بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد وقد تركت عيالي يتضورون جوعاً، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكب رأسي، هذه حالي وقصتي!!

فانهمرت عينا علي بالبكاء حتى بلّت دمعته لحيته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ: ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت ديناراً، فقد آثرتك على نفسي.

فدفع الدينار إليه ورجع حتى دخل مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فصلَّى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغرب مرَّ بعلي بن أبي طالب وهو في الصف الأول فغمزه برجله، فقام علي متعقباً خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلَّم عليه فردَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) السلام، فقال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشاه فنميل معك؟

فمكث مطرقاً لا يحير جواباً، حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان النبي يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) أن يتعشى تلك الليلة عند علي بن أبي طالب.

فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى سكوته فقال: يا أبا الحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضي معك؟ فقال – حياءً وتكرماً -: فاذهب بنا!!

فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يد علي بن أبي طالب فانطلقا حتى دخلا على فاطمة (عليها السلام) وهي في مصلاّها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً.

فلما سمعت كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرجت من مصلاّها فسلّمت عليه وكانت أعزّ الناس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها وقال لها: يا بنتاه كيف أمسيت؟ قالت: بخير. قال: عشّينا، رحمك الله، وقد فعل.

فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب.. إلى أن قال: فقال علي لها: يا فاطمة أنِّي لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشمّ ريحه قط، وما آكل أطيب منه؟؟

قال: فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفّه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فغمزها، ثم قال: يا علي! هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

ثم استعبر النبي (صلى الله عليه وآله) باكياً، ثم قال: الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ويجريك – يا علي – مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً.

في المجلد العاشر من البحار عن الإمام الحسين عن أخيه الإمام الحسن (عليهما السلام) قال: رأيت أمِّي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جُمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتَّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أمَّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني! الجار ثم الدار.

وروى الحسن البصري: ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورَّم قدماها.

وفي البحار أيضاً: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وأمَّا ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية؛

متى قامت في محرابها بين يدي ربها (جل جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عز وجل) لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي: فاطمة، سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار.. الخ.

وفي كتاب عدة الداعي: وكانت فاطمة (عليها السلام) تنهج في الصلاة من خيفة الله. والنهج – بفتح النون والهاء – تتابع النَفَس.

والأحاديث في عبادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كثيرة، خاصة الأدعية التي كانت تناجي بها ربها، ولا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدث عن عبادتها، وكثرة شوقها ورغبتها إلى الصلاة، ومدى إقبال قلبها إلى المناجاة مع الله تعالى، فهي بنت أول العابدين، الذي كان يقف على قدميه للعبادة طيلة ساعات طوال حتى نزل عليه قوله تعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى).

وهي التي عرفت معنى العبادة وقيمة العبادة بمقدار معرفتها بعظمة الله تعالى فلا عجب إذا كانت السيدة فاطمة تستلذ من العبادة، وترتاح نفسها حين الوقوف بين يدي الله عز وجل، والتذلل والخضوع لربها، وكأنها لا تتعب من القيام والركوع والسجود.

1 – السمل: الثوب الخلق. تهلل الثوب: انحرق.
2 – ارشني: أحسن إليّ.
3 – القرظ شيء يدبغ به الجلد.
4 – أي: جائعاً.

* فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى