السيدة فضة وملازمتها للسيدة زينب(ع) في واقعة الطف
اسمها ولقبها:
اختلف المؤرخون في أصلها وتسميتها فالبعض يقول أن اسمها ميمونه وأن رسول الله(ص) سماها فضة هذا ما نقله الأستاذ كريم جهاد الحساني في كتابه فضة خادمة الزهراء(ع) ص23 نقلا عن كتاب حضرة فضة للسابقي باللغة الأوردية وأن أصلها من الهند وإنها بنت أحد الملوك كما ذكر ذلك العلامة المجلسي في بحار الأنوار والحافظ البرسي في مشارق أنوار اليقين وإنها من سبايا الحروب والفتوح الإسلامية من خيبر وبني قريظة وبني النضير وغيرها أما العلامة النقدي والسابقي كما نقل عنهم في المصدر السابق فيقولون إنها بنت ملك من ملوك الحبشة استنادا إلى قول الصحابي بن عباس وما رواه الثعلبي في تفسيره وهناك من يقول أنه عندما هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة يتقدمهم جعفر الطيار ونزلوا عند النجاشي وعندما أرادوا العودة أرسل النجاشي هدايا إلى النبي(ص) ومن ضمن ما أهدي إليه هذه المرأة الفاضلة بعد أن رأى فيها من حسن السيرة والخلق والعلم ما يليق بأن تكون خادمة عند رسول الله(ص) وإنها كانت من الغنائم التي حصل عليها النجاشي من حروبه مع ملك الهند فبقيت في بيت النبي (ص) إلى أن تزوجت فاطمة الزهراء(ع) بأمير المؤمنين(ع) فأرسلها النبي(ص) لخدمتها.
زواجها:
نقلا عن الحافظ عن النظام نقلا عن فضة خادمة الزهراء ص92 أن الإمام أمير المؤمنين(ع) قام بتزويج فضة من أبي ثعلبة الحبشي وولدت له ولداً وبعد ذلك توفي أبو ثعلبة. فزوجها الإمام علي(ع) من سليك الغطفاني وقيل أبو مليك الغطفاني وله منها عدة أولاد.
منزلتها:
عاشت وتربت في بيت النبوة وأحضان الرسالة فنهلت من آداب أهل البيت وأخلاقهم وعلومهم بحكم ملازمتها لمولاتها وسيدتها الزهراء عليها السلام مما غرس في نفسها معاني الكمال والفضيلة فكانت على درجة من الإيمان والتقوى والزهد والورع إضافة إلى بلاغتها وحسن نطقها ينقل الأستاذ الحساني في كتابه ص29 نقلا عن الكاتبة زينب الفوازيه قولها أن فضة كانت من النساء العاقلات الصادقات وقد اشتهرت بالفضيلة وعن كتاب الدر المنثور في ذكر كونها ممن نزلت فيهم سورة (هل أتى) ساوت نفسها بسيدتها الزهراء(ع) فنالت بذلك فخرا لم تنله غيرها من نساء العرب فمن وفائها وحسن إيمانها أنها كانت ذائبة في حب النبي(ص) وأهل بيته عليهم السلام ويذكر المؤرخون أنها نذرت حياتها لخدمتهم وامتازت بالحلم والصبر وتحملها للبلايا والرزايا.
وفي الإصابة: روي عن الإمام الصادق عن آبائه، عن علي(ع) أنّه قال: (إنّ رسول الله(ص) أخدم فاطمة ابنته(ع) جارية اسمها فِضَّة النوبيَّة. والنوبية نسبة إلى البلاد التي كانت تسكنها حيث عرفت هذه البلاد بارتفاع درجات الحرارة وكانت تشاطر الزهراء الخدمة، فعلَّمها رسول الله (ص) دعاء تدعو به.فقالت لها فاطمة: أتعجنين أو تخبزين؟ فقالت: بل أعجن يا سيَّدتي واحتطب.
فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة، فأرادت حملها فعجزت، فدعت بالدعاء الذي علَّمَها(ص).
وكان الدعاء هو: (يَا واحدُ لَيس كَمِثلِهِ أَحَد، تُميتَ كُلَّ أحدٍ وأنتَ على عَرشِكَ وَاحِد لا تَأخُذهُ سِنَةٌ وَلا نَوم).فجاء أعرابي كأنّه من(أزد شنوءة)، فحمل الحزمة إلى باب فاطمة الزهراء(ع).
محبتها لآل البيت(ع):
هي من خادمات وموليات هذه الأسرة الرفيعة الدرجات العالية المقامات، قضت عمرا في خدمة الخمسة الطيبة، وكانت دائبة في خدمتها، لم تغفل لحظة عن القيام بواجبها، مقدمة رضاهم على رضاها، ساهرة على تطييب خاطرهم وتنفيذ مرادهم، مهتمة غاية الاهتمام بالعبادة وإطاعة الرب المتعال، مستقيمة على امتثال أوامر سيدة العصمة وأميرة العفة: الصديقة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها، متميزة عن أقرانها وأترابها بالحلم والصبر والتحمل والثبات في البلايا والشكر والخلوص، حتى مدحها الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد في سورة «هل أتى»، فغمرتها الألطاف الإلهية والأفضال الرحمانية، وحشرت مع علي بن أبي طاب وفاطمة الزهراء والحسنين(ع)، فنزعت عنها ذمائم النفس الدنية والرذائل الأخلاقية باتباع السيدة المطهرة المصطفوية، وتحلت بمكارم الأخلاق النبوية، و«لكم في رسول الله أسوة حسنة»(1) فدرجت في مراقي الفخر في خدمة الحضرة النبوية، فما تعدت قط حدود الطاعات، وما تهاونت أبدا في الخيرات.
(وعن ورقة بن عبد الله الأزدي قال: خرجتُ حاجّاً إلى بيت الله الحرام، راجياً لثواب الله ربِّ العالمين).فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء مليحة الوجه، عذبة الكلام، وهي تنادي بفصاحة منطقها وتقول: ربَّ البيت الحرام، والحفظة الكرام، وزمزم والمقام، والمشاعر العِظام، وربَّ محمد (ص) خير الأنام، البررة الكرام، أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين، وأبنائِهم الغرِّ المحجلين الميامين.
ثم قالت: ألا فاشهدوا يا جماعة الحُجَّاج والمعتمرين، أنَّ مواليَّ خيرة الأخيار، وصفوة الأبرار، الذين عَلا قدرهم على الأقدار، وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار، المرتدين بالفخار.قال ورقة: فقلتُ: يا جارية، إنِّي لأظنَّك من موالي أهل البيت(ع)؟ فقالت: أجل. فقلت لها: ومَن أنتِ من مواليهم؟
قالت: أنا فِضَّة، أَمَةُ فاطمة الزهراء(ع) بنت محمد المصطفى(ص).
فقلت لها: مرحباً بك، وأهلاً وسهلاً، فلقد كنتُ مشتاقاً إلى كلامكِ ومنطقكِ، فأريدُ منكِ الساعة أن تجيبني عن مسألة أسألك. فإذا أنت فرغتِ من الطواف قفي لي عند سوق الطعام حتى آتيك، وأنت مثابة مأجورة.
فافترقنا في الطواف، فلمّا فرغتُ من الطواف وأردتُ الرجوع إلى منزلي جعلتُ طريقي على سوق الطعام، وإذا أنا بها جالسة في معزل عن الناس. فأقبلتُ عليها واعتزلتُ بها، وأهديتُ إليها هدية، ولم أعتقد أنَّها صدقة ثم قلت لها: يا فِضَّة، أخبريني عن مولاتك فاطمة الزهراء(ع)، وما الذي رأيتِ منها عند وفاتها(ع) بعد موت أبيها محمد(ص)؟ قال ورقة: فلمَّا سمعتْ كلامي تغرغرت عيناها بالدموع، ثم انتحبت باكية، قالت: يا ورقة هيَّجت عليَّ حزناً ساكناً، وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة.
عالمة بعلم الكيمياء:
روي: لما جاءت فضة إلى بيت الزهراء(ع) لم تجد هناك إلا السيف والدرع والرحى.. وكانت عندها ذخيرة من الأكسير -ولا أدري كيف ادخرتها؟- فأخذت قطعة من النحاس وألانتها وجعلتها على هيئة سبيكة وألقت عليها الدواء وصنعتها ذهبا، فلما جاء أمير المؤمنين(ع) وضعتها بين يديه، فلما رآها قال: أحسنت يا فضة لكن لو أذبت الجسد لكان الصبغ أعلى والقيمة أغلى، فقالت: يا سيدي تعرف هذا العلم؟
قال: نعم … نحن نعرف أعظم من هذا، ثم أومأ بيده فإذا عنق من ذهب وكنوز الأرض سائرة(2)(3)… ثم ذكر لها أجزاء الأكسير، فتعجبت فضة مما رأته من غناه الذاتي وفقره الصوري فكانت ترى نفسها من هذه الجهة في عالم الكشف والشهود، فتزداد عبودية ما تراه من الفقر والحرمان اللذين يعيشها سلطان ممالك الإمكان، ثم وعظها أمير المؤمنين فذكرها بدناءة الدنيا الدنية وشرح لها شيئا من اعتبارات العقبة الباقية(4).
وروي في كتاب عوالم العلوم عن أمير المؤمنين، أنه سئل عن هذه الصنعة فقال: «هي أخت النبوة وعصمة المروة، والناس يتكلمون فيها بالظاهر، وإني أعلم ظاهرها وباطنها، وهي والله ما هي إلا ماء جامد، وهواء راكد، ونار جائلة، وأرض سائلة».
وسئل: هل كان الكيمياء؟
فقال: الكيمياء كان وكائن وسيكون.
فقيل: من أي شيء هو؟
فقال: إنه من الزيبق الرجراج والأسرب والزاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر الحبور ألا توقف على عابرهن.
فقيل: فهمنا لا يبلغ إلى ذلك.
فقال: اجعلوا الأرض بعضا، واجعلوا البعض ماء، وافلجوا الأرض بالماء.
فقيل: زدنا يا أمير المؤمنين.
فقال: لا زيادة عليه، فإن الحكماء القدماء ما زادوا عليه كيما يتلاعب به الناس(5).
وفاؤها بالنذر:
قال الله تعالى: «يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»، ذكر المفسّرون طبقاً لروايات وردت بهذا المضمون بأنّ الآية 5ـ22 من سورة هل أتى -الإنسان- نزلت في بيان فضل الذين وفوا بنذرهم لله تعالى، وهم: الإمام علي، والسيّدة فاطمة الزهراء، والإمامين الحسن والحسين(ع)، وجاريتهم فضّة، الذين نذروا إن برئ الحسنان(ع) من مرضهما أن يصوموا ثلاثة أيّام شكراً لله تعالى، ولمّا صاموا أعطوا أفطارهم يوماً لمسكين، وآخر ليتيم، ويوماً آخر لأسير قربة إلى الله تعالى، وباتوا جياعاً ثلاثة أيّام لم يذوقوا إلّا الماء في قصّة مشهورة، فجزاهم الله تعالى على عملهم هذا الجنّة.
موقفها من ابن ملجم:
«لمّا حُمل [الإمام علي(ع)] من مصلّاه، والناس من حوله قد أشرفوا على الهلكة من شدّة البكاء والنحيب، وبلغوا به منزله، ومعهم ابن ملجم موثوقاً، وأقبلت فضّة أَمة فاطمة الزهراء وبيدها حربة، فقالت: أموالي ذروني أضرب عدوّ الله بهذه الحربة، فأشفي بعض جوى صدري، فقد أحرق فؤادي، وأقلق رقادي، وهيّج حزني، وأوهى ركني، وأجرى دمعي، وهتك ستري، واجتثّ أصلي وفخري، وانقضت عليه كالشهاب، فقال لها الحسن(ع): اصبري يا أمة الله، وردّها إلى الدار.
فقالت لابن ملجم: ويلك يا عدوّ الله، أفجعتنا وجميع الإسلام، فمصيرك إلى النار، ولا بأس على سيّدي فلقد قتل في جنب الله، واختنقت بعبرتها، فقال لها ابن ملجم: يا أمة الله، أبكي على نفسك إن كنت باكية، فلقد سقيته السمّ حتّى عذقه، ولو كانت هذه الضربة على من في الأرض لأفنتهم جميعاً».
فضائلها:
في رواية: فلما خرج رسول الله(ص) من عند فاطمة أنزل الله على رسوله «إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها» يعني عن قرابتك وابنتك فاطمة (ابتغاء) يعني طلب (رحمة من ربك) يعني رزقا من ربك (ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) يعني قولا حسنا، فلما نزلت هذه الآية أنفذ رسول الله(ص) جارية إليها للخدمة سماها «فضة»(6). ففهم النبي(ص) من القول الميسور الرخصة في استرضاء فاطمة(ع)، بل يكون ابتغاء رضوان الله ورجاء رحمته في قضاء حاجة الصديقة الكبرى.
وروي أن النبي(ص) رأى فاطمة يوما وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله فقال: يا بنتاه! تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقالت: يا رسول الله! الحمد لله على نعمائه، وأشكره على آلائه، فأنزل الله «ولسوف يعطيك ربك فترضى»(7) ثم أرسل إليها بعد مدة فضة الجارية الخادمة المشهورة لتخدمها(8)… الخبر.
والحديثان وإن كانا في فضل فاطمة الزهراء(ع) إلا أن فيها نصيب لبيان فضل فضة الخادمة أيضا من حيث إدخال السرور على السيدة فاطمة(ع) بإنفاذها إليها وعلى علي أمير المؤمنين(ع)، من حيث أنه رأى البضعة النبوية في راحة من شدة العناء بقدوم فضة الخادمة، سيما وإن النبي(ص) هو الذي نحلها هذا الاسم «فضة»، وصارت سببا لنزول آيتين مباركتين استرضاء لخاطر فاطمة الزهراء(ع).
وفي حديث ورقة بن عبد الله أنها «سمراء ومليحة الوجه وعذبة اللسان وفصيحة البيان»(9)، وأنها شاركت فاطمة(ع) في جميع النوائب والمصائب، وبذلت همتها واستبسلت في الدفاع عن تلك النفس المقدسة وحفظها وحمايتها، وكم بذلت من جهد وجاهدت في سبيل الحيلولة دون إحراق باب الولي كما ذكر المتجاوز المتعدي نفسه: «.. فأتيت دار علي لإخراجه منها، فخرجت فضة وحاججتني … فركلت الباب وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه، وسمعتها وقد صرخت صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها، وقالت:.. آه يا فضة إليك فخذيني، فقد قتل -والله- ما في أحشائي من حمل، وسمعتها تمخض وهي مستندة إلى الجدار(10).. الخبر.
وكانت فضة جارية مملوكة لفاطمة الزهراء خاصة وبعد وفاتها(ع) بقيت في خدمة آل طه. ويبدو من الحديث الشريف المروي في «عوالم العلوم» عن المناقب عن الجاحظ، عن النظام في كتاب الفتيا، عن عمر بن داود أن فضة تزوجت مرتين بأمر أمير المؤمنين(ع); قال: عن الصادق(ع) قال: كان لفاطمة جارية يقال لها «فضة» فصارت من بعدها لعلي(ع) فزوجها من أبي ثعلبة الحبشي فأولدها ابنا، ثم مات عنها أبو ثعلبة، وتزوجها من بعده أبو مليك الغطفاني، ثم توفي ابنها من أبي ثعلبة فامتنعت من أبي مليك أن يقربها، فاشتكاها إلى عمر، وذلك في أيامه، فقال لها عمر: ما يشتكي منك أبو مليك يا فضة؟! فقالت: أنت تحكم في ذلك وما يخفى عليك. قال عمر: ما أجد لك رخصة. قالت: يا أبا حفص ذهب بك المذاهب، إن ابني من غيره مات، فأردت أن استبرئ نفسي بحيضة، فإذا أنا حضت علمت أن ابني مات ولا أخ له، وإن كنت حاملا كان الولد في بطني أخوه، فقال عمر: شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي.
وعلق عليه صاحب العوالم ببيان مفصل، ثم قال: قال ابن حزم من علماء العامة في كتاب المحلى بعد نفي العول جوابا عما ألزم عليه من التناقض فيما إذا خلف الميت زوجا وأما وأختين لأم، فللزوج النصف بالقرآن، وللأم الثلث بالقرآن، فلم يبق إلا السدس، فليس للإخوة غيره (إنتهى) ثم قال: ويحتمل أن يكون لها ولد آخر، وإنما احتاطت لئلا يتوهم وجود أخويه فيحجبها عن الثلث إلى السدس، وهذا أيضا مبني على عدم اشتراط وجود الأب في الحجب.. وكل ذلك موافق للمشهور بينهم(11). ولكن صورة الخبر لا يفهم من استبراء رحم فضة سوى إرادة تحصيل العلم بوجود المولود، وهذا الاحتياط متعارف بين النساء ومعمول به عندهن، والله أعلم. كما في علل الشرائع «إن الذين يشترون الإماء، ثم يأتوهن قبل أن يتبرؤهن فأولئك الزناة بأموالهم»(12).
وفي البحار أخبار تدل على أن لفضة الخادمة عدة أولاد قد يكونون من زوج آخر غير مليك، منها: أبو القاسم القشيري في كتابه قال: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: من أنت؟ فقالت: «قل سلام فسوف تعلمون»(13).
فسلمت عليها. فقلت: ما تصنعين ها هنا؟
قالت: «من يهد الله فما له من مضل»(14).
فقلت: أمن الجن أنت أمن من الإنس؟
قالت: «يا بني آدم خذوا زينتكم»(15).
فقلت: من أين أقبلت؟
قالت: «ينادون من مكان بعيد»(16).
فقلت: أين تقصدين؟
قالت: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»(17).
فقلت: متى انقطعت؟
قالت: «ولقد خلقنا السماوات والأرض في ستة أيام»(18).
فقلت: أتشتهين طعاما؟
قالت: «وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام»(19).
فأطعمتها. ثم قلت: هرولي ولا تعجلي.
قالت: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»(20).
فقلت: أردفك؟
قالت: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»(21).
فنزلت فأركبتها، فقالت: «سبحان الذي سخر لنا هذا»(22).
فلما أدركنا القافلة، قلت: ألك أحد فيها؟
قالت: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض»(23)، «وما محمد إلا رسول»(24)، «يا يحيى خذ الكتاب»(25)، «يا موسى إني أنا الله»(26).
فصحت بهذه الأسماء، فإذا أنا بأربعة شباب متوجهين نحوها، فقلت: من هؤلاء منك؟
قالت: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»(27).
فلما أتوها، قالت: «يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين»(28).
فكافؤني بأشياء.
فقالت: «والله يضاعف من يشاء»(29).
فزادوا علي، فسألتهم عنها، فقالوا: هذه أمنا فضة جارية الزهراء(ع)، ما تكلمت منذ عشرين سنة إلا بالقرآن(30).
ويشهد لما ذكرنا أيضا حديث المناقب عن مالك بن دينار، قال: رأيت في مودع الحج امرأة ضعيفة على دابة نحيفة والناس ينصحونها لتنكص، فلما توسطنا البادية رأيتها كلت فعذلتها في إتيانها فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: لا في بيتي تركتني ولا إلى بيتك حملتني، فوعزتك وجلالك لو فعل بي هذا غيرك لما شكوته إلا إليك، فإذا شخص أتاها من الفيفاء(31) وفي يده زمام ناقة فقال لها: اركبي، فركبت وسارت الناقة كالبرق الخاطف، فلما بلغت المطاف رأيتها تطوف، فحلفتها من أنت؟ فقالت: أنا شهرة بنت مسكة بنت فضة خادمة الزهراء(ع)(32).
وحكى المرحوم المجلسي سند هذين الخبرين في بحار الأنوار عن نفرين من مشيخة أهل السلوك والعرفان، وهي أفضل من بعض الرواة كثيرو الرواية من غير ضبط.
الخلاصة: يكفي فضة الخادمة فضلا رفيعا وقدرا منيعا نسبتها إلى قدوة السيدات وزبدة نساء العالمين، حيث تسمى خادمة فاطمة(ع) وجاريتها المخلصة، إضافة إلى خدمة هؤلاء العظماء والاستفاضة من أقوالهم ورضاهم عنها، وما في ذلك من الأجر غير المجذوذ والفيض غير المنقطع، فكانت النتيجة ما قاله عمر بن الخطاب لفضة في الخبر السابق «شعرة من آل أبي طالب أفقه من عدي» وهذه المعية والإتحاد بآل أبي طاب عن ثمرات التبعية و (من تبعني فإنه مني)(37).
ويشهد لفضلها نزول سورة «هل أتى» في شأنها ونزول جبرئيل في ثلاثين آية كريمة في حق أمير المؤمنين وفاطمة والحسنين وفضة الخادمة(ع)، ولم تستثن في آية من آياتها، وما ذلك إلا من فوائد وعلامات متابعتها وإخلاصها في مودتها.
وقد نزلت الآيات في صبرها على الجوع -حسب الظاهر- لمدة ثلاثة أيام تأسيا بمواليها وإطعامهم الخبز للمسكين واليتيم والأسير، فلم تحرم ثواب هذا الإنفاق، ودخلت في قرى ولي النعم الحقيقي وحماه، وتناولت من طعام الجنة، وجلست الخادمة والمخدومة على مائدة واحدة، وتنعمت بالنعم الأخروية الباقية، وما أكثر العباد الذين تجرعوا الجوع وأطعموا الخبز وألوان الطعام للفقراء ولم يصلوا إلى هذه المنزلة العظمى والموهبة الكبرى .
ولا بأس أن نختم هذه الخصيصة بالحديث الثاني والتسعين في خلق الجنة والنار من كتاب نزهة الأبرار ومنار الأنظار للسيد هاشم البحران، عن كتاب ثاقب المناقب، عن الصادق(ع)، عن آبائه(ع)، قال: أتى أمير المؤمنين(ع) منزل عائشة فنادى: يا فضة ائتنا بشيء من ماء نتوضأ به، فلم يجبه أحد، ونادى ثلاثا فلم يجبه أحد، فولى عن الباب يريد منزل الموفقة السعيدة الحوراء الإنسية فاطمة(ع)، فإذا هو بهاتف يهتف ويقول: يا أبا الحسن دونك الماء فتوضأ به، فإذا هو بإبريق من ذهب مملوء ماء عن يمينه، فتوضأ ثم عاد الإبريق إلى مكانه، فلما نظر إليه رسول الله(ص) قال: يا علي! ما هذا الماء الذي أراه يقطر كأنه الجمان؟ قال: بأبي أنت وأمي أتيت منزل عائشة فدعوت فضة تأتينا بماء للوضوء ثلاثا فلم يجبني أحد، فوليت فإذا أنا بهاتف يهتف وهو يقول: يا علي دونك الماء، فالتفت فإذا أنا بإبريق من ذهب مملوء ماء.
فقال: يا علي تدري من الهاتف؟ ومن أين كان الإبريق؟ فقلت: الله ورسوله أعلم فقال(ص): أما الهاتف فحبيبي جبرئيل(ع)، وأما الإبريق فمن الجنة، وأما الماء فثلث من المشرق وثلث من المغرب وثلث من الجنة، فهبط جبرئيل(ع) فقال: يا رسول الله يقرءك السلام ويقول لك: اقرأ عليا السلام مني وقل: إن فضة كانت حائضا.
فقال النبي(ص): منه السلام وإليه يرد السلام وإليه يعود طيب الكلام، ثم التفت إلى علي(ع) فقال: حبيبي علي، هذا جبرئيل أتانا من عند رب العالمين وهو يقرءك السلام، ويقول: إن فضة كانت حائضا، فقال علي(ع): «اللهم بارك لنا في فضتنا»(38). تم الخبر.
أولا: إتيان أمير المؤمنين إلى منزل عائشة لإظهار هذه الكرامة عندها إتماما للحجة وإيضاحا للمحبة.
ثانيا: سماع أمير المؤمنين صوت جبرئيل الأمين فضيلة من أشرف الفضائل، حيث يؤمر أفضل الملائكة بالقيام بهذه الخدمة.
ثالثا: نزول الإبريق الذهبي وهو غير الأباريق الذهبية الدنيوية، وهي فضيلة خاصة أن يوضع الإبريق عن يمينه وينزل من دار الحيوان ودار البقاء.
ولا شك أن دار القرار أصفى من هذا العالم، وظروفه وأباريقه تتناسب معه، فإذا أنزلت إلى هذا العالم وظروفه وأباريقه تتناسب معه، فإذا أنزلت إلى هذا العالم الجزئي كسيت بكسوة هذا العالم فسميت آنية من ذهب للتعبير عن اللون والصفاء، والتسمية بالذهب ملحوظة بالنسبة إلينا وإلى عالم الملك، وإلا فإن ذاك العالم يعيد عن تسمياتنا نحن بني النوع الإنساني.
رابعا: تبين من هذا الحديث أن فضة الخادمة كانت صاحبة مطهرة أمير المؤمنين كما كانت سلمى صاحبة مطهرة رسول الله(ص)، وفي هذا الحديث أراد الله أن يفهم فضة أن الملائكة تتباهى بالخدمة التي تقوم بها وتتنافس في ذلك.
خامسا: الظاهر أن المراد من إتيان بالماء من المشرق والمغرب أثلاثا مدينتي جابلسا وجابلقا، وهي مدينتان ممدوحتان ، وفيهما شيعة أمير المؤمنين(ع).
وقد يكون الماء إشارة إلى أن أشرف الأعضاء الرأس، وأشرف ما في الرأس الوجه، فماء الجنة جاء لغسل وجهه المبارك للكرامة، واليد اليمنى أشرف من اليسرى كما أن المشرق أشرف من المغرب، ولذا ذكرت المياه الثالثة حسب اختلاف المواضع الثلاثة. والموضعان الممسوحان متفرعان عن المواضع المغسولة; ولأن العلويات مخازن ومعادن للفيوضات علماء السفليات، فقد أراد رب العالمين أن يفيض على وليه الأكرم ما يناسب ربوبيته. وروى نظير هذا الحديث في وضوء أمير المؤمنين وسيد الأولياء ونزول السطل والسلسبيل، والعلم عند الله.
سادسا: إخبار رسول الله وإبلاغ سلام جبرئيل له عن العلي الأعلى، وتقاطر ماء الجنة من وجه سلطان عالم الإمكان رحمة أظهرت حقيقة تلك الرحمة، وصارت واسطة في الإبلاغ.
سابعا: امتناع فضة عن الإتيان بالماء للإمام علي(ع) دليل على كمال طهارتها وتقواها، حيث أن حمل المطهرة جائز للحائض -وقد يحمل على الكراهة- بل أن حسن أدبها واحتياطها في دينها المتين صار سببا لظهور كرامة باهرة من كرامات أمير المؤمنين، ومن المعلوم أن أمير المؤمنين لم يكلف بالعمل وفق علمه الباطني، ولو فعل لما تحققت هذه الكرامة، ولما نال هذا الشرف ظاهرا. فنداه لفضة الخادمة لتأتي بالماء كان بحسب توجهه إلى عالم الكثرة ليحفظ انتظام العالم «أنا بشر مثلكم»، فلما صرف النظر عن عالم الصورة والكثرة وتوجه إلى عالم الباطن والأحكام والوحدة، وجد جبرئيل عنده قد جاء بالماء واستفاض حسب استحقاقه الشخصي والذاتي عن الفياض على الإطلاق.
فمجئ جبرئيل إنما هو ترقي النفس القدسية العلوية، وتبديل العين البصرية برؤية البصيرة، والمحو في تجلي الحق والجلال الكبريائي، والاستغراق في الألطاف اللا متناهية الإلهية. فأمير المؤمنين لم يكن مكلفا بالعمل بالعلم الباطن من كونه يعلم أن فضة لم تكن على حال الطهارة، وأنها ستمتنع إذا ناداها أمير المؤمنين لكراهة في ذلك. وكذا الحال في غيره ممن لم يكلفوا بالعمل بالعلم الباطن، بل أمروا بالعمل بظاهر التكليف، وكذا الحال في قصة الشيطان وأمره بالسجود لآدم، مع أن الله يعلم أن الشيطان لا يطيع، ولكنه أمره; ونظيره قول أمير المؤمنين للسائل الذي سأله عن حربه مع معاوية مع تلك القدرات المتوفرة لديه، فقال: نحن «عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون».
أقول: كان موسى مأمورا بموافقة الخضر، فلماذا فتح عليه باب الاعتراض حينما رأى منه عملا خلاف الظاهر؟ وكان رسول الله(ص) يعلم بالفتن والمحن التي ستحدث بعده، ولكنه لم يتعرض إليها بعلمه الباطني. أجل; قد تظهر عن قطب الزمان وإمام العصر بعض العلوم الباطنة ليعلم الآخرون أنه منطو على هذه العلوم، أو ليعلم موسى(ع) أنه يوجد في العالم غيره مأمور بالعلم الباطن وليس هو الوحيد، وهذا لا يدل على أن موسى(ع) لم يكن عالما بالعلم الباطن. فمنذ بدو الإيجاد والتكليف كان المدار والمناط على العلم بالأحكام الظاهرية والإغماض عن العلوم الباطنية التي تبدو خلاف الظاهر في كل شريعة، وكذا كان علم الأئمة الطاهرين بالسموم المهلكة التي تناولوها ومعرفتهم بالقاتل، فهم يعلمون بالعلم الباطن، إلا أنهم «وهم بأمره يعملون»، فتلك الواردات كانت بحسب اختلاف الحالات.
ثامنا: دعاء أمير المؤمنين(ع) لفضة الخادمة جزاء لأدبها وخدمتها، حيث رؤي لفضة الخادمة بركات كثيرة وفوائد وفيرة من العلم والمال والولد. وقوله «اللهم بارك» دعاء بالزيادة مطلقا، أو طلب الزيادة في مورد خاص; كما دعا رسول الله(ص) لفرس هزيلة كانت عند جعيل بن إسحاق فأشار إليها بالسوط وقال: «اللهم بارك له فيها». فربح منها في مدة وجيزة اثني عشر ألف درهم(39)، ونظائر ذلك كثير في معجزات النبي والأئمة الأطهار ومناقبهم، وهي لا تعد ولا تحصى.
تاسعا: إضافة فضة الخادمة لهم ونسبتها إليهم في قوله(ع): «فضتنا» من أعلى الشرائف وأفضل الفضائل، كما قال في حق سلمان «سلمان منا أهل البيت»، وإنما ينسبون أحدا إليهم ويتباهون به من جهة إيمانه وإيقانه وطهارة نفسه وتقواه، وبهذا استحقت فضة الخادمة دعاء مولاها للقابلية التي كانت فيها، فحسبت في هذه الأسرة ودخلت في عدادهم، وهذه هي عاقبة اتباع آل العصمة، لأنها جاعت إذا جاعوا، وعطشت إذا عطشوا، وسهرت إذا سهروا، وصامت إذا صاموا، وأفطرت إذا أفطروا، وأنفقت على المسكين واليتيم والأسير إذا أنفقوا، ورضيت بالشدة إذ كانوا فيها، وبالراحة إذا ارتاحوا، تماما كالغلام الذي اشتراه مولاه فقال له: ماذا تأكل؟ فقال: ما تطعمني، فقال: ماذا تريد؟ قال: كل ما أردت، فقال: أين تنام؟ قال: حيثما أجرتني، قال: فما تلبس؟ قال: ما ألبستني; يعني لا رأي ولا إرادة له في جنب رضا مولاه، بل يرى نفسه فانيا، وهذا هو معنى التسليم والرضا.
قال علي بن الحسين(ع): «ولقاؤك قرة عيني، ووصلك منى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبتك ولهي، وإلى هواك صبابتي، ورضاك ابتغائي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبتي، وقربك غاية مسألتي، وفي مناجاتك روحي وراحتي، وعندك دواء علتي وشفاء غلتي وبرد لوعتي وكشف كربتي، فلا تقطعني عنك ولا تباعدني منك يا نعيمي وجنتي ويا دنياي وآخرتي»(40).
چون مقسم اوست كفر آمد گله * صبر كن الصبر مفتاح الصله اشترم
من تا توانم مى كشم * چون فتادم زار با كشتن خوشم(41)
ملازمتها للسيّدة زينب(ع):
كانت(رض) ملازمة للسيّدة زينب(ع) بعد شهادة فاطمة الزهراء(ع)، ولم تفارقها حتّى في خروجها إلى كربلاء مع أخيها الإمام الحسين(ع)، كما أنّها أُخذت معها في ركب السبايا من كربلاء إلى الشام.
وروي أنّها جاءت مع السيّدة زينب(ع) إلى الشام، وبقيت ملازمة لها حتّى تُوفّيت(ع)، فجاورت قبرها بعد وفاتها، حتّى تُوفّيت.
نقلا عن الحافظ عن النظام نقلا عن فضة خادمة الزهراء ص92 أن الإمام أمير المؤمنين(ع) قام بتزويج فضة من أبي ثعلبة الحبشي وولدت له ولداً وبعد ذلك توفي أبو ثعلبة. فزوجها الإمام علي(ع) من سليك الغطفاني وقيل أبو مليك الغطفاني وله منها عدة أولاد.
عاشت وتربت في بيت النبوة وأحضان الرسالة فنهلت من آداب أهل البيت وأخلاقهم وعلومهم بحكم ملازمتها لمولاتها وسيدتها الزهراء عليها السلام مما غرس في نفسها معاني الكمال والفضيلة فكانت على درجة من الإيمان والتقوى والزهد والورع إضافة إلى بلاغتها وحسن نطقها ينقل الأستاذ الحساني في كتابه ص29 نقلا عن الكاتبة زينب الفوازيه قولها أن فضة كانت من النساء العاقلات الصادقات وقد اشتهرت بالفضيلة وعن كتاب الدر المنثور في ذكر كونها ممن نزلت فيهم سورة (هل أتى) ساوت نفسها بسيدتها الزهراء(ع) فنالت بذلك فخرا لم تنله غيرها من نساء العرب فمن وفائها وحسن إيمانها أنها كانت ذائبة في حب النبي(ص) وأهل بيته عليهم السلام ويذكر المؤرخون أنها نذرت حياتها لخدمتهم وامتازت بالحلم والصبر وتحملها للبلايا والرزايا.
وفي الإصابة: روي عن الإمام الصادق عن آبائه، عن علي(ع) أنّه قال: (إنّ رسول الله(ص) أخدم فاطمة ابنته(ع) جارية اسمها فِضَّة النوبيَّة. والنوبية نسبة إلى البلاد التي كانت تسكنها حيث عرفت هذه البلاد بارتفاع درجات الحرارة وكانت تشاطر الزهراء الخدمة، فعلَّمها رسول الله (ص) دعاء تدعو به.فقالت لها فاطمة: أتعجنين أو تخبزين؟ فقالت: بل أعجن يا سيَّدتي واحتطب.
فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة، فأرادت حملها فعجزت، فدعت بالدعاء الذي علَّمَها(ص).
وكان الدعاء هو: (يَا واحدُ لَيس كَمِثلِهِ أَحَد، تُميتَ كُلَّ أحدٍ وأنتَ على عَرشِكَ وَاحِد لا تَأخُذهُ سِنَةٌ وَلا نَوم).فجاء أعرابي كأنّه من(أزد شنوءة)، فحمل الحزمة إلى باب فاطمة الزهراء(ع).
هي من خادمات وموليات هذه الأسرة الرفيعة الدرجات العالية المقامات، قضت عمرا في خدمة الخمسة الطيبة، وكانت دائبة في خدمتها، لم تغفل لحظة عن القيام بواجبها، مقدمة رضاهم على رضاها، ساهرة على تطييب خاطرهم وتنفيذ مرادهم، مهتمة غاية الاهتمام بالعبادة وإطاعة الرب المتعال، مستقيمة على امتثال أوامر سيدة العصمة وأميرة العفة: الصديقة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها، متميزة عن أقرانها وأترابها بالحلم والصبر والتحمل والثبات في البلايا والشكر والخلوص، حتى مدحها الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد في سورة «هل أتى»، فغمرتها الألطاف الإلهية والأفضال الرحمانية، وحشرت مع علي بن أبي طاب وفاطمة الزهراء والحسنين(ع)، فنزعت عنها ذمائم النفس الدنية والرذائل الأخلاقية باتباع السيدة المطهرة المصطفوية، وتحلت بمكارم الأخلاق النبوية، و«لكم في رسول الله أسوة حسنة»(1) فدرجت في مراقي الفخر في خدمة الحضرة النبوية، فما تعدت قط حدود الطاعات، وما تهاونت أبدا في الخيرات.
(وعن ورقة بن عبد الله الأزدي قال: خرجتُ حاجّاً إلى بيت الله الحرام، راجياً لثواب الله ربِّ العالمين).فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء مليحة الوجه، عذبة الكلام، وهي تنادي بفصاحة منطقها وتقول: ربَّ البيت الحرام، والحفظة الكرام، وزمزم والمقام، والمشاعر العِظام، وربَّ محمد (ص) خير الأنام، البررة الكرام، أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين، وأبنائِهم الغرِّ المحجلين الميامين.
ثم قالت: ألا فاشهدوا يا جماعة الحُجَّاج والمعتمرين، أنَّ مواليَّ خيرة الأخيار، وصفوة الأبرار، الذين عَلا قدرهم على الأقدار، وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار، المرتدين بالفخار.قال ورقة: فقلتُ: يا جارية، إنِّي لأظنَّك من موالي أهل البيت(ع)؟ فقالت: أجل. فقلت لها: ومَن أنتِ من مواليهم؟
قالت: أنا فِضَّة، أَمَةُ فاطمة الزهراء(ع) بنت محمد المصطفى(ص).
فقلت لها: مرحباً بك، وأهلاً وسهلاً، فلقد كنتُ مشتاقاً إلى كلامكِ ومنطقكِ، فأريدُ منكِ الساعة أن تجيبني عن مسألة أسألك. فإذا أنت فرغتِ من الطواف قفي لي عند سوق الطعام حتى آتيك، وأنت مثابة مأجورة.
فافترقنا في الطواف، فلمّا فرغتُ من الطواف وأردتُ الرجوع إلى منزلي جعلتُ طريقي على سوق الطعام، وإذا أنا بها جالسة في معزل عن الناس. فأقبلتُ عليها واعتزلتُ بها، وأهديتُ إليها هدية، ولم أعتقد أنَّها صدقة ثم قلت لها: يا فِضَّة، أخبريني عن مولاتك فاطمة الزهراء(ع)، وما الذي رأيتِ منها عند وفاتها(ع) بعد موت أبيها محمد(ص)؟ قال ورقة: فلمَّا سمعتْ كلامي تغرغرت عيناها بالدموع، ثم انتحبت باكية، قالت: يا ورقة هيَّجت عليَّ حزناً ساكناً، وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة.
وبقيت ملازمة للبيت المحمدي العلوي حتى بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في واقعة الطف في أرض كربلاء ومن ذلك ما كان من أمرها ليلة الحادي عشر من محرم فإنها قد سمعت وتعلمت من أمير المؤمنين عليه السلام عدداً من الأدعية ومنها كلام له(ع) بعد أن يتكلم به يأتيه أسدٌ عظيم مطأطأ رأسه إلى الأرض مؤتمر بأمر الإمام(ع) فتكلمت فضة بعد منتصف الليل في ليلة الحادي عشر من محرم بهذا الكلام الوارد عن أمير المؤمنين(ع) فحضر الأسد فأخبرته بأن هذه الجثث هي لأبناء أمير المؤمنين(ع) ومحبيهم وأنصارهم وطلبت منه أن يحرسها فسمعت بذلك السيدة زينب(ع) فأخبرتها بأن الجثث الطواهر والأطفال واليتامى بحراسة الله الواحد وقادرين على فعل أي شيء وبقي هذا الأسد محله في أرض المعركة حتى ورود الإمام السجاد(ع) يوم الثالث عشر من محرم لدفن الأجساد الشريفة.
وفاتها:
تُوفّيت(رض) بالشام، ودُفنت في مقبرة باب الصغير في دمشق.
تُوفّيت(رض) بالشام، ودُفنت في مقبرة باب الصغير في دمشق.