مقالات

القرآن والعلوم المختلفة

تعظيم القرآن مكانة العلم والحث على طلبه

عظم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيما لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية الاخرى ، ويكفي انه نعت العصر العربي قبل الاسلام ، بـ « الجاهلية » ، وفيه مئات من الايات يذكر فيها العلم والمعرفة وفي اكثرها ذكرت جلالة العلم ورفيع منزلته.
قال تعالى ممتنا على الانسان : ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ 1.

وقال :﴿ … يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ … ﴾ 2.

وقال :﴿ … هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ … ﴾ 3.

الى غير ذلك من الايات الكثيرة التي تنادي بعظمة العلم. وفي احاديث الرسول واهل بيته عليهم‌السلام التالية للقرآن الكريم شواهد لا تحصر في الحث على طلب العلم واهميته وعظيم شأنه.

العلوم التي يدعو القرآن الى تعلمها

يدعو القرآن الكريم في كثير من آياته ( لم ننقلها هنا لوفرتها ) الى التفكر في الآيات السماوية والنجوم المضيئة والاختلافات العجيبة في اوضاعها والنظام المتقن الذي تسير عليه.

ويدعو الى التفكر في خلق الارض والبحار والجبال والاودية وما في بطون الارض من العجائب واختلاف الليل والنهار وتبدل الفصول السنوية.

ويدعو الى التفكر في عجائب النبات والنظام الذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات وآثارها وما يظهر منها في الحياة.

ويدعو الى التفكر في خلق الانسان نفسه والاسرار المودعة فيه ، بل يدعو الى التفكر في النفس واسرارها الباطنية وارتباطها بالملكوت الاعلى. كما يدعو الى السير في اقطار الارض والتفكر في آثار الماضين والفحص في احوال الشعوب والجوامع البشرية وما كان لهم من القصص والتواريخ والعبر.

بهذا الشكل الخاص يدعو الى تعلم العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والادبية وسائر العلوم التي يمكن ان يصل اليها الفكر الإنساني ، يحث على تعلمها لنفع الإنسانية واسعاد القوافل البشرية.

نعم ، يدعو القرآن الى هذه العلوم شريطة ان تكون سبيلاً لمعرفة الحق والحقيقة ومرآة لمعرفة الكون التي في مقدمتها معرفة الله تعالى.

واما العلم الذي يشغل الإنسان عن الحق والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل ، قال تعالى : ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ 4.

وقال :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ … ﴾ 5.

القرآن الكريم بترغيبه الى تعلم مختلف العلوم ، يعلم دورة كاملة من المعارف الالهية وكليات الاخلاق والفقه الإسلامي.

العلوم الخاصة بالقرآن

يتدارس المسلمون علوما موضوعها القرآن الكريم نفسه. ويرجع تاريخ ظهور هذه العلوم الى اوائل عصر النزول ، وقد نضجت مسائلها وبلغت المرحلة المطلوبة لطول البحث فيها واصبحت بحيث وضع لها المحققون الرسائل والكتب الكثيرة 6 .

وهذه العلوم بصورة عامة تنقسم الى فئتين : ما يبحث فيه عن الالفاظ ، وما يبحث فيه عن المعاني.

العلوم الباحثة في الفاظ القرآن هي فنون التجويد والقراءة وهي :

فن في كيفية تلفظ الحروف والعوارض التي تطرأها عند الافراد والتركيب ، كالادغام والابدال واحكام الوقف والابتداء ونظائرها.

وفن في ضبط وتوجيه القراءات السبع والقراءات الثلاث الاخرى وقراءات الصحابة وشواذ القراءات الاخرى.

وفن في عدد السور والآيات والكلمات والحروف ، وضبط اعداد جميع السور والآيات والكلمات والحروف.

وفن في خصوص ضبط رسم القرآن وما فيه من الاختلاف مع رسم الخط المعروف المعمول به.

واما العلوم التي تبحث في معاني القرآن فهي :

فن يبحث عن كليات المعاني كالتنزيل والتأويل والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

وفن يبحث في آيات الاحكام ، وهو في الحقيقة فرع من الابحاث الفقهية.

وفن يبحث عن معاني القرآن ، وهو المعروف بـ « التفسير ».

وقد الف علماء الإسلام والمحققين في كل هاتيك العلوم كتبا ورسائل كثيرة.

العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها

لا شك ان العلوم الدينية التي يتداولها المسلمون اليوم ، انما يرجع تاريخ نشأتها الى عصر البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم.

لقد تداول الصحابة والتابعون هذه العلوم في القرن الاول الهجري بصورة غير منظمة بسبب المنع الذي واجه تدوين العلم بكل فروعه ، وكانت طريقة التلقي والمدارسة هي الحفظ والاخذ الشفوي ، الا مدونات قليلة جداً في الفقه والتفسير والحديث.

وفي اوائل القرن الثاني الهجري عندما ارتفع المنع 7 بدأ المسلمون بتدوين الحديث اولا ، ثم وضعوا المؤلفات في بقية فروع العلم واوجدوا الانظمة الخاصة للتأليف والتصنيف ، فكانت نتيجة المساعي : فن الحديث ، وعلم الرجال والدراية ، وفن اصول الفقه ، وعلم الحديث ، وعلم الكلام ، وغيرها.

وحتى الفلسفة المنقولة من اليونانية الى العربية في بداية امرها والتي بقيت على شكلها اليوناني لفترة غير قصيرة ، فان البيئة اثرت فيها مادة وصورة ، وتحولت من شكلها البدائي الى شكل يغايره كل المغايرة. واحسن شاهد لذلك المسائل الفلسفية المتداولة بين المسلمين اليوم ، فانك لا ترى مسألة فلسفية في المعارف الالهية الا ويمكن ان تجد متنها وبراهينها وادلتها المقامة لها في طيات الآيات القرآنية والاحاديث المروية.

ويمكن اعادة هذا القول في العلوم الادبية ايضا ، فان امثال الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع واللغة وفقهها والاشتقاق بالرغم من انها تشمل اللغة العربية بصورة عامة ، الا ان الذي دفع الناس الى مدارستها والبحث فيها والفحص عنها انما هو كلام الله المجيد الذي له الحلاوة التامة وحسن الاسلوب في التعبير والاعجاز في الفصاحة والبلاغة ، فانجذبت اليه القلوب وكان السبب في السير وراء معرفة خصائصه والفحص عن الشواهد والنظائر له ومعرفة وجوه الفصاحة والبلاغة فيه والاسرار الكامنة تحت جمله والفاظه ، وبالتالي لهذه العوامل وجدت العلوم اللسانية التي ذكرناها.

كان ابن عباس من كبار مفسري الصحابة ، وكان يستشهد في التفسير بالشعر العربي ، وكان يأمر بجمع الشعر وحفظه ويقول : الشعر ديوان العرب.

بمثل هذه العناية والاهتمام ضبط النثر العربي وشعره ، وبلغت الحالة الى ان العالم الشيعي خليل بن احمد الفراهيدي البصري 8 الف في اللغة كتاب العين  ووضع علم العروض لمعرفة الاوزان الشعرية. وهكذا وضع العلماء الاخرون في هذين العلمين ايضا المؤلفات القيمة.

وعلم التاريخ ايضا من مشتقات علم الحديث ، ففي اوله كان مجموعة من قصص الانبياء والامم ، وبدأ من سيرة الرسول صلى‌الله‌ عليه‌ و آله‌ وسلم ، ثم اضيف اليه تاريخ صدر الإسلام ، وفيما بعد اصبح بصورة تاريخ عام للعالم ، وكتب المؤرخون امثال الطبري والمسعودي واليعقوبي والواقدي ، مؤلفاتهم التاريخية.

ويمكن القول بصراحة بأن القرآن هو الدافع الاول لاشتغال المسلمين بالعلوم العقلية من طبيعية ورياضية بشكل النقل والترجمة من اللغات الاخرى في البداية ، ثم استقلوا في الاشتغال بها والابتكار في موضوعاتها والتفريغ في مسائلها والتحقيق في مباحثها الهامة.

ترجمت العلوم بتشجيع من الخلافة في ذلك اليوم من اليونانية والسريانية والهندية الى العربية ، ثم وضعت تلك العلوم المترجمة في متناول ايدي المسلمين بمختلف جالياتهم ، واخذت دائرة التحقيق العلمي تتسع حتى اصبحت بشكل عميق ودقيق جداً.

ان مدنية الإسلام التي شملت قطعة عظيمة من المعمورة بعد رحلة الرسول ، وكان لها الحكم المطلق ، والتي امتدت حتى هذا اليوم الذي يعيش فيه اكثر من ستمائة مليون مسلم ، هذه المدنية هي اثر واحد من آثار القرآن الكريم ( مع العلم اننا نحن الشيعة نعارض دائماً سياسة الخلفاء والملوك حيث تساهلوا في نشر التعاليم الدينية وتطبيق قوانين الإسلام تطبيقا كاملا ، مع هذا نعتقد ان ضوء الإسلام المنتشر بهذا المقدار في ارجاء المعمورة انما هو اشراقة من اشراقات القرآن العظيم ).

من الواضح البديهي ان هذا التحول العظيم الذي هو حلقة مهمة من حلقات حوادث العالم ، سيؤثر تأثيراً مباشراً في الحلقات المستقبلة. ومن هنا يأتي الاعتقاد بأن احدى علل التحول العلمي الهائل الذي نشاهده اليوم هي من تأثير القرآن الكريم.

ان تجلية هذا الموضوع بشكل اوضح واعمق يحتاج الى دراسة واسعة ، ولكن طريقة الاختصار التي التزمنا بها في هذا الكتاب لا تعطينا الفرصة الكاملة لهذه الدراسة .. فإلى الكتب المعنية بذلك … 9 .

  • 1. القران الكريم: سورة العلق (96)، الآية: 5، الصفحة: 597.
  • 2. القران الكريم: سورة المجادلة (58)، الآية: 11، الصفحة: 543.
  • 3. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 9، الصفحة: 459.
  • 4. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 7، الصفحة: 405.
  • 5. القران الكريم: سورة الجاثية (45)، الآية: 23، الصفحة: 501.
  • 6. وضعنا فهرساً عاماً باسم « معجم المؤلفات  القرآنية » للكتب والرسائل التي دونت حول القرآن وعلومه على ترتيب العلوم ، يعرف من خلاله الجهد الكبير المبذول حول هذا الكتاب السماوي الذي عني به من شتى الجهات عناية فائقة لم تنلها سائر كتب الاديان ، المترجم.
  • 7. ارتفع المنع باجماع المؤرخين على يد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز بين سنتي ٩٩ ـ ١٠١١.
  • 8. الخليل بن احمد ، ابو عبد الرحمن الفراهيدي ،  من ائمة اللغة والادب ، وهو واضع علم العروض واستاذ سيبويه النحوي ، وكتابه « العين » مشهور في اللغة ، مات بالبصرة سنة ١٧٠ ( الاعلام للزركلي ).
  • 9. القرآن في الاسلام، العلامة السيد محمدحسين  الطباطبائي، تعريب: السيد أحمد الحسيني، الفصل الرابع ، ص 137 – 148 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى