المباهلة .. آية النبوة والولاية
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
رف جبرائيل على بيت النبي محمد (ص) وخشع بإجلال ليهمس بهذه الآية وليعلن نهاية شريعة وبداية أخرى لا نهاية لها إلى يوم القيامة, فامتداد هذه الشريعة التي بدأت بغار حراء هو بهذا البيت الذي ضمّ أقدس خمسة أشخاص على وجه الأرض, فمن هذا البيت انبجست ينابيع هذه الشريعة ومنه تدفق معينها لتزهر به كل خميلة على ضفاف الفرات وبردى والنيل وكل التضاريس التي غمرها نور لا إله إلا الله محمد رسول الله
كانت هذه الآية هي إقرار السماء بحق هذا البيت, والهالة الإلهية التي أحاطته, والوسام الذي أتحفه إياه رب السماوات والأرض, فالآية بقدر ما تمثل إيذاناً وإنذاراً للنصارى بوجوب اتّباع نبوّة محمد (ص) التي نسخت شريعة النبي عيسى (ع) فإنها تمثل تبليغاً للمسلمين بامتداد هذه النبوة بالإمامة التي تجسّدت بوضوح في قوله تعالى و(أنفسنا)
وهل أكثر من هذا الوضوح ؟
المباهلة .. دعوة للنبوة
ذكر حديث المباهلة المفسّرون والمحدّثون وأهل السير والأخبار وكل من أرّخ حوادث السنة العاشرة للهجرة وهي السنة التي جرت فيها المباهلة, وقد أسندوا هذا الحديث إلى أكثر من خمسين صحابياً ذكرهم وذكر رواياتهم وتفاصيل المباهلة وما سبقها من تآمر نصارى نجران على النبي (ص) السيد ابن طاووس (قدس سره الشريف) في كتابه الإقبال.
وملخص هذه القصة أن وفد نصارى نجران جاؤوا إلى النبي (ص) وكان عددهم ستون رجلاً وكان فيهم أربعة عشر رجلاً هم زعماء القوم, وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول الأمر في نجران, وهم: السيد واسمه الأيهم وهو إمامهم وصاحب رحلهم, والعاقب وهو أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح, وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم وكنائسهم وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.
فلما التقوا برسول الله قال الأسقف: ما تقول في المسيح يا محمد ؟
فقال (ص): هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
فقالوا: هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ فنزلت الآية الشريفة: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)
ولكنهم جحدوا بالحق الذي جاء على لسان النبي (ص) وأنكروا فنزلت هذه آية المباهلة واتفقوا على المباهلة في اليوم الثاني فجاء النصارى وهم يمنّون أنفسهم بالنصر, فقال لهم الأسقف: إذا جاء محمد بأصحابه فليس بنبي وإذا جاء بأهل بيته فهو نبي حقاً.
فلما كان موعد المباهلة جاء رسول الله وهو يحتضن الحسين ويده بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها فلما وقف أمام القوم قال (ص) لأهل بيته (ع): إذا أنا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى ! إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة).
ثم سألوا رسول الله (ص): لم لا تباهلنا بمن آمن بك واتبعك من أصحابك ؟ فقال لهم (ص): أُباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق.
فقال النبي (ص): والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولأستأصل الله نجران أهله حتى الطير على الشجر وما حال الحول على النصارى كلهم.
المباهلة .. تصريح بالولاية
أجمعت كتب التفسير والحديث من كل الطوائف الإسلامية وحتى الخوارج والنواصب على أن هذه الآية الشريفة عندما نزلت (غدا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين لمباهلة النصارى … ثم فسروا ذلك بالقول: (أنفسنا وأنفسكم) رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وعلي، و(أبناءنا) الحسن والحسين و(نساءنا) فاطمة.
ومن كبار مفسّري ومحدّثي أهل السنة الذين ذكروا هذه الرواية: الحاكم في المستدرك, والزمخشري في تفسيره الكشاف, والطبري في جامع البيان, والسيوطي في الدر المنثور, والقرطبي في تفسيره, وابن الجوزي في تذكرة الخواص, وابن الأثير في تفسيره, والذهبي, وابن عساكر, وأحمد بن حنبل, وحتى ابن تيمية على شدة عداوته ونصبه لأهل البيت (ع) لم يستطع إنكارها.
ونجد الفخر الرازي في تفسيره يقول: واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث. ثم ينقل قصة عن هذه الرواية تؤيد وبدلائل قطعية على أن أمير المؤمنين (ع) هو أفضل الخلق بعد رسول الله (ص) حيث يقول في المسألة الخامسة ما نصه: كان في الري رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن علياً أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد (ص)، والذي يدل عليه قوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم)، إذ ليس المراد بقوله (وأنفسنا) نفس محمد (ص) لأن الانسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيرها، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب (ع) فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد (ص).
ويسترسل الرازي في استدلال الحمصي على قوله فينقل عنه: ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف وهو قوله (ص): (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب) فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم، وذلك يدل على أن علياً أفضل من جميع الأنبياء، سوى نبينا محمد (ص)، وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً مثل نفس محمد (ص) إلا فيما خصه الدليل، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة).
فأمير المؤمنين (ع) هو نفس النبي (ص) بصريح القرآن الكريم ولم يشاركه في هذه المزية والخاصية سواه وبصريح القرآن الكريم أيضا حيث تتجلى أسرار القرآن إذا قُورنت هذه الآية الشريفة بقوله تعالى : (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)