مقالات

أمهات في ذمة الخلود

عطاء دائم وقلب يفيض حباً ويقطر حناناً وعلاقة وثيقة وأواصر متينة تلك التي أودعها الله سبحانه في قلوب الأمهات ليحتضن أولادهن بكل ما أوتين من قوة, لكي ينشئوا جيلاً بعد جيل بفضل تربيتهن وحمايتهن المستمرة لأولادهن حتى أصبحن كالشموع التي تذوب لتضيء دروب الأجيال.

فمنذ لحظة الميلاد الأولى، تتولى الأم رعاية طفلها وتتعلق به وخاصة أن حكمة الله تعالى اقتضت احتياج الوليد الإنساني إلى حضانة طويلة,

ولهذا كفل الإسلام للأطفال حق الرضاعة الطبيعية، فقال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) , حيث يمنح الإرضاع الطبيعي الأم راحة نفسية وطمأنينة تغمرانها، ويسبغ عليها ثقة بنفسها تملأ عليها إحساسها باكتمال أنوثتها وأمومتها, إذن فالمرضعة الأم ترتبط بوليدها بعلاقة قوية أكبر من كونها عملية إطعام بل تتعدى إلى أكبر من ذلك, فتخيلوا لو أن واحدة من تلك الأمهات افترقت عن وليدها فكيف ستصبح حالتها بعد الفراق؟ وكيف لها أن تصبر وتتحمل لوعة الألم؟ وهنالك أمهات مرضعات سجلهن التاريخ في ذاكرته أصبحن رمزاً للبطولة والتضحية ومثلاً يحتذى به حيث يقف المجد إجلالاً لهن, فهذه أم موسى(عليها السلام) لما وضعت ولدها النبي, نظرت إليه وحزنت واغتمت وبكت وقالت يُذبَح الساعة, وأنزل الله تعالى عليها التابوت ونوديت: ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم (أي البحر), كما في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) , ولما سمعت أم موسى هذا الكلام أطمأنت ورضيت أن تلقي فلذة كبدها في بحر تعلوه الأمواج, وما كادت أن تفعل هذا لولا إنه سبحانه قد أفرغ قلبها منه, (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) , فشدة إيمانها وثقتها بالله العزيز الذي وعدها بأن يرجعه إليها, قد جعلها تصبر وتنتظر لكي يتحقق أملها في رؤية وليدها من جديد. لكن فاجعة الرباب أم عبد الله الرضيع بن الإمام الحسين(عليه السلام) في طف كربلاء هي أدهى وأمر, فقد سلّمته بيد عمته العقيلة زينب(عليها السلام) لأن العطش قد أنهكه وحرق قلبه حتى أغمي عليه (عليه السلام), فلم تستطع أمه أن تتحمل رؤيته على هذا الحال وخافت أن يموت بين يديها, وليس بمقدورها فعل شيء لأجله, وقد أضر بحالها الألم والبكاء والنحيب مع شدة العطش حتى جف حليبها, وعاشت حالة من الأمل برجوعه إلى أحضانها وقد سقي ماء, وبين اليأس الذي خيّم عليها لأنها تعلم بأن هؤلاء القوم لا يرتجى منهم خير فقلوبهم ميتة وعقولهم مغلفة بحب المال والدنيا وأعينهم لا ترى سوى الظلام ولون الدم, فانكشفت حقيقتهم ووقعت أقنعتهم عند قتلهم للإنسانية وذبحهم للبراءة من الوريد إلى الوريد حيث سددوا سهم الحقد والضغينة صوب هذا الطفل الذي رفرف كالطير المذبوح معانقاً أباه أبا عبد الله (عليه السلام) وبذلك كسروا قلبه الشريف بقتلهم لرضيعه, وقطعوا نياط قلب أمه التي كانت تنتظر رجوعه إليها بفارغ الصبر. إذن فأم موسى صبرت قليلاً لكي يرجع إليها رضيعها وتقر عينها به وتكون هي مرضعته رغم أنوف الأعداء, بقوله تعالى: ( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) , أما أم عبد الله الرضيع (عليه السلام) الرباب فقد صبرت صبراً عظيماً وابتليت بلاءً شديداً بقتل وليدها عطشاناً مذبوحاً مضمخاً بدمه ليكون أصغر طفل يقتل في الحرب, ولم يشهد التاريخ مثل هذه الفاجعة العظيمة التي يندى منها جبين الإنسانية, ويطأطئ خجلاً ضمير البشرية, يقول عز وجل في كتابه العزيز: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فطوبى للأمهات الصابرات لفقد أولادهن, فهن ما بين ألم الفراق ولوعة الحنين إلى الإرضاع تراهن صامدات قانعات قد توكلن على الله تعالى حتى بانقطاع حبال هذه العلاقة الوطيدة, لكن تبقى النفوس أسيرة الاشتياق وتظل الدموع رفيقة العيون والقلوب تنزف بلا انقطاع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى