تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 122)
قال تعالى : {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
الطائفتان هما بنو سلمة ،وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، والحسن وقتادة ومجاهد والربيع ، وأبي جعفر عليه السلام ، وأبي عبد الله عليه السلام . وقال الجبائي : نزلت في طائفة من المهاجرين ، وطائفة من الأنصار ، وكان سبب همهم بالفشل أن عبد الله بن أبي سلول ، دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة ، عن لقاء المشركين يوم أحد ، فهما به ، ولم يفعلاه .
{ والله وليهما } أي : ناصرهما . روي عن جابر بن عبد الله أنه قال : فينا نزلت ، وما أحب انها لم تكن ، لقوله { والله وليهما } . وقال بعض المحققين : هذا هم خطرة ، لا هم عزيمة ، لان الله تعالى مدحهما ، وأخبر أنه وليهما ، ولو كان هم عزيمة وقصد ، لكان ذمهم أولى من مدحهم .{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } في جميع أحوالهم وأمورهم .
ذكر غزوة أحد : عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة ، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ، لأنه قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، قال أبو سفيان : يا معشر قريش ! لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم ، فان الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد . فلما غزوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ، أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح ، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس ، وألفي راجل ، وأخرجوا معهم النساء .
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ، جمع أصحابه ، وحثهم على الجهاد ، فقال عبد الله بن أبي سلول : يا رسول الله ! لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها ، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة ، على أفواه السكك ، وعلى السطوح .
فما أرادها قوم قط فظفروا بنا ، ونحن في حصوننا ، ودروبنا ، وما خرجنا إلى عدو لنا
قط ، الا كان الظفر لهم علينا .
فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا : يا رسول الله ! ما طمع فينا أحد من العرب ، ونحن مشركون نعبد الأصنام ، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا ، لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم ، فمن قتل منا كان شهيدا ، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله .
فقبل رسول الله رأيه ، وخرج مع نفر من أصحابه يتبوؤون موضع القتال ، كما قال تعالى : { وإذ غدوت من أهلك } الآية . وقعد عنه عبد الله بن أبي سلول ، وجماعة من الخزرج اتبعوا رأيه ، ووافت قريش إلى أحد ، وكان رسول الله عبأ أصحابه ، وكانوا سبع مائة رجل ، ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب ، وأشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان ، فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه : ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة ، فلا تبرحوا من هذا المكان .
وان رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم .
ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا وقال : إذا رأيتمونا قد اختلطنا ، فأخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم . وعبأ رسول الله أصحابه ، ودفع الراية إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وحمل الأنصار على مشركي قريش ، فانهزموا هزيمة قبيحة ، ووقع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سوادهم ، وانحط خالد بن الوليد في مائتي فارس ، على عبد الله بن جبير ، فاستقبلوهم بالسهام ، فرجع .
ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتهبون سواد القوم ، فقالوا لعبد الله بن جبير : قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة ؟ فقال لهم عبد الله : اتقوا الله فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تقدم الينا أن لا نبرح . فلم يقبلوا منه ، وأقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم ، وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا .
وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي ، من بني عبد الدار ، فقتله علي عليه السلام ، وأخذ الراية أبو سعد بن أبي طلحة ، فقتله علي . وسقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي ، حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار . حتى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له ثواب ، فانتهى إليه علي عليه السلام فقطع يده اليمنى ، فأخذ اللواء اليسرى ، فضرب يسراه فقطعها ، فاعتنقها بالجذماوين ( 2 ) إلى صدره . ثم التفت إلى أبي سفيان فقال : هل أعذرت في بني عبد الدار ؟ فضربه علي على رأسه فقتله ، وسقط اللواء فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها ، وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير ، وقد فر أصحابه ، وبقي في نفر قليل ، فقتلهم على باب الشعب ، ثم أتى المسلمين من أدبارهم .
ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت ، فلاذوا بها ، وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة عظيمة ، وأقبلوا يصعدون في الجبال ، وفي كل وجه . فلما رأى رسول الله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إلي أنا رسول الله ، إلي أين تفرون عن الله تعالى ، وعن رسوله ! وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر ، فكلما انهزم رجل من قريش ، دفعت إليه ميلا ومكحلة ، وقالت : إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا .
وكان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا ، ولم يثبت له أحد .
وكانت هند قد أعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا ، أو عليا ، أو حمزة ، لأعطينك كذا وكذا . وكان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا ، فقال وحشي : أما محمد فلم أقدر عليه وأما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات ، فلا مطمع فيه . فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا ، فمر بي فوطئ على جرف نهر ، فسقط . وأخذت حربتي فهززتها ورميته بها ، فوقعت في خاصرته ، وخرجت من ثنته ( 3 ) فسقط . فأتيته فشققت بطنه ، وأخذت كبده ، وجئت به إلى هند ، فقلت : هذه كبد حمزة . فأخذتها في فمها ، فلاكتها ، فجعله الله في فمها مثل الداعضة : وهي عظم رأى الركبة . فلفظتها ورمت بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فبعث الله ملكا فحمله ، ورده إلى موضعه .
قال : فجاءت إليه فقطعت مذاكيره ، وقطعت أذنيه ، وقطعت يده ورجله ، ولم يبق مع رسول الله الا أبو دجانة سماك بن خرشة ، وعلي . فكلما حملت طائفة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبلهم علي ، فدفعهم عنه ، حتى تقطع سيفه . فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ناحية أحد ، فوقف . وكان القتال من وجد واحد .
فلم يزل علي عليه السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه ويديه وبطنه ورجليه ،سبعون جراحة . كذا أورده علي بن إبراهيم في تفسيره ، فقال جبرائيل : ان هذه لهي المواساة يا محمد ، فقال محمد : انه مني وأنا منه . فقال جبرائيل : وأنا منكما .
قال أبو عبد الله : نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرائيل بين السماء والأرض ، على كرسي من ذهب ، وهو يقول : لا سيف الا ذو الفقار ، ولا فتى الا علي .
وروى ابن أبي إسحاق والسدي والواقدي وابن جرير وغيرهم قالوا : كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، في شوال ، سنة ثلاث من الهجرة . وخرج رسول الله إليهم يوم الجمعة . وكان القتال يوم السبت ، للنصف من الشهر . وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وشج في وجهه . ثم رجع المهاجرون والأنصار بعد الهزيمة ، وقد قتل من المسلمين سبعون ، وشد رسول الله بمن معه حتى كشفهم ، وكان الكفار مثلوا بجماعة . وكان حمزة أعظم مثلة ، وضربت يد طلحة فشلت ، وسعد بن أبي وقاص كان يرمي بين يديه ، وهو عليه السلام يقول : ارم فداك أبي وأمي .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص375.
2- تثنية جذماء : أي باليدين المقطوعتين .
3- الثنة بالضم : العانة .
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ :
الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس . كادت تؤثر فيهما حركة المنافق عبد اللَّه بن أبيّ ، لولا ان أدركتهما ولاية اللَّه وتثبيته . وقوله تعالى : « واللَّهُ وَلِيُّهُما » دليل قاطع على انه سبحانه يمنح التوفيق والعناية لناس من عباده ، دون ناس ، لأن معناه انه لا يدع الطائفتين تفران وتفشلان . واللَّه سبحانه أعلم ، حيث يجعل عطاءه وعنايته ، كما انه أعلم ، حيث يجعل رسالته .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص149-150.
قوله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} الهم ما هممت به في نفسك وهو القصد، والفشل ضعف مع الجبن.
وقوله{ والله وليهما}، حال والعامل فيه قوله: {همت}، والكلام مسوق للعتاب واللوم، وكذا قوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، والمعنى: أنهما همتا بالفشل مع أن الله وليهما ولا ينبغي لمؤمن أن يفشل وهو يرى أن الله وليه، ومع أن المؤمنين ينبغي أن يكلوا أمرهم إلى الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن ذلك يظهر ضعف ما قيل: إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لأن الله تعالى مدحهما، وأخبر أنه وليهما، ولو كان هم عزيمة وقصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم.
وما أدري ما ذا يريد بقوله: إنه هم خطرة، أ مجرد الخطور بالبال وتصور مفهوم الفشل؟ فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك، ولا معنى لذكر مثل ذلك في القصة قطعا، ولا يسمى ذلك هما في اللغة، أم تصورا معه شيء من التصديق، وخطورا فيه شوب قصد؟ كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما، ولو كان مجرد خطور من غير أي أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل، على أن ذكر ولاية الله لهم ووجوب التوكل على المؤمن إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور، على أن قوله: {والله وليهما}، ليس مدحا بل لوم وعظة على ما يعطيه السياق كما مر.
و لعل منشأ هذا الكلام ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: فينا نزلت، وما أحب أنها لم تكن، لقوله: {والله وليهما} ففهم من الرواية أن جابرا فهم من الآية المدح.
و لو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم وصدق كونهم مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم، والله ولي الذين آمنوا والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب.
____________________
1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 7.
الطائفتان كما يذكر المؤرخون هما «بنو سلمة» من الأوس و «بنو حارثة» من الخزرج.
فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة، وهمتا بذلك.
وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنهما كانتا ممّن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها، وقد خالف النبي هذا الرأي، مضافاً إلى أن «عبدالله بن أبي سلول» الذي التحق بالمسلمين على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة، لأن النبي عارض بقاءهم في عسكر المسلمين، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.
ولكن يستفاد من ذيل الآية أن هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين، ولهذا قال سبحانه {والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يعني أن الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على الله بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.
ثمّ لابدّ من التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن ذكر هذه المقاطع من غزوة «أحد» بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن لزوم عدم الوثوق بالكفّار، إشارة إلى نموذج واحد من هذه الحقيقة، لأن النبي ـ كما أسلفنا وكما سيأتي تفصيله ـ لم يسمح ببقاء اليهود ـ الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين ـ في المعسكر الإسلامي، لأنهم كانوا أجانب على كلّ حال، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة، وأن يكونوا موضع إعتماد المسلمين في تلك المرحلة الحساسة.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص 415.