تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 28-30)
قال تعالى {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران : 28، 30].
لما بين سبحانه أنه مالك الدنيا والآخرة، والقادر على الإعزاز والإذلال، نهى المؤمنين عن موالاة من لا إعزاز عندهم، ولا إذلال من أعدائه، ليكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه الكافرين، فقال: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) أي: لا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم، وأن يستعينوا بهم، ويلتجئوا إليهم، ويظهروا المحبة لهم، كما قال في عدة مواضع من القرآن نحو قوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية. وقوله: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ولا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء).
وقوله: (من دون المؤمنين) معناه: يجب أن يكون الموالاة مع المؤمنين، وهذا نهي عن موالاة الكفار، ومعاونتهم على المؤمنين. وقيل: نهي عن ملاطفة الكفار، عن ابن عباس. والأولياء: جمع الولي، وهو الذي يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة، ويجري على وجهين أحدهما: المعين بالنصرة. والآخر:
المعان. فقوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا) معناه: معينهم بنصرته. ويقال:
المؤمن ولي الله أي: معان بنصرته. وقوله: (ومن يفعل ذلك) معناه من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. (فليس من الله في شئ) أي: ليس هو من أولياء الله، والله برئ منه. وقيل: ليس هو من ولاية الله تعالى في شئ. وقيل: ليس من دين الله في شئ.
ثم استثنى فقال: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) والمعنى إلا أن يكون الكفار غالبين، والمؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، ولم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه، ومداراتهم تقية منه، ودفعا عن نفسه، من غير أن يعتقد ذلك. وفي هذه الآية دلالة على أن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس. وقال أصحابنا: إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح. وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين.
قال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وتكون فرضا، ويجوز أحيانا من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها. وقد يكون تركها أفضل، وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه، متفضلا عليه بترك اللوم عليها. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي (قده):
ظاهر الروايات تدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده. وروى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال:
نعم. قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم. ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. ثم قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم قالها ثلاثا، كل ذلك يجيبه بمثل الأول. فضرب عنقه. فبلغ ذلك رسول الله فقال:
أما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئا له. وأما الآخر فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه. فعلى هذا تكون التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة.
وقوله: (ويحذركم الله نفسه) يعني إياه، فوضع نفسه مكان إياه ومعناه:
ويحذركم الله عقابه على اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وعلى سائر المعاصي. وذكر ” نفسه ” لتحقيق الإضافة، كما يقال: احذر الأسد أي: صولته وافتراسه دون عينه (وإلى الله المصير) معناه: وإلى جزاء الله المرجع. وقيل: إلى حكمه.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
لما تقدم النهي عن اتخاذ الكفار أولياء، خوفوا من الابطان بخلاف الإظهار فيما نهوا عنه، فقال سبحانه (قل) يا محمد (إن تخفوا) أي: إن تستروا (ما في صدوركم) يعني ما في قلوبكم. وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب. (أو تبدوه) أي: تظهروه (يعلمه الله) فلا ينفعكم إخفاؤه، (و) هو مع ذلك (يعلم ما في السماوات وما في الأرض). وإنما قال ذلك ليذكر بمعلوماته على التفصيل، فيتم التحذير. إذ كان من يعلم ما في السماوات وما في الأرض على التفصيل، يعلم الضمير. (والله على كل شئ قدير) فيقدر على أخذكم ومجازاتكم.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }.
لما حذر العقاب في الآية المتقدمة، بين وقت العقاب، فقال: (يوم تجد كل نفس ما عملت) في الدنيا (من) طاعة و (خير محضرا) ونظيره قوله:
(ووجدوا ما عملوا حاضرا). و (علمت نفس ما أحضرت). ثم اختلف في كيفية وجود العمل محضرا فقيل: تجد صحائف الحسنات والسيئات، عن أبي مسلم وغيره، وهو اختيار القاضي. وقيل: ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب. فأما أعمالهم فهي أعراض قد بطلت، ولا يجوز عليها الإعادة، فيستحيل أن ترى محضرة. (وما عملت من سوء) معناه: تجد كل نفس الذي عملته من معصية محضرا (تود لو أن بينها وبينه) أي: بين معصيتها (أمدا بعيدا) أي: غاية بعيدة، أي: تود أنها لم تكن فعلتها. وقيل: معناه مكانا بعيدا، عن السدي. وقيل: ما بين المشرق والمغرب، عن مقاتل (ويحذركم الله نفسه) قد مر ذكره (والله رؤوف بالعباد) أي: رحيم بهم. قال الحسن: ومن تمام رأفته بهم أن حذرهم عقابه على معاصيه.
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص273-276.
موالاة المؤمن للكافرين :
{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } . لم يكتف سبحانه بالنهي عن موالاة الكافر ، لنقول : انها محرمة ، وكفى ، كالكذب والغيبة ، بل اعتبرها كفرا بدليل قوله : { ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } فإن الظاهر منه ان اللَّه بريء ممن يتولى الكافرين ، ومن تبرأ اللَّه منه فهو كافر . .
ويؤيد هذا قوله تعالى : { ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ – المائدة 51 } . . وقوله :
{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهً ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ – المجادلة 22 } . فهذه الآيات تدل بظاهرها على ان من يتولى الكافر فهو كافر . . أجل ، ان لموالاة الكافر أقساما شتى ، منها ما يستوجب الكفر ، ومنها لا يستوجبه ، والتفصيل في الفقرة التالية .
أقسام موالاة الكافر :
كل من قال : لا إله إلا اللَّه ، محمد رسول اللَّه كان له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم إلا في حالات ، منها أن يتولى الكافرين على التفصيل التالي :
1 – أن يكون راضيا عن كفرهم ، وهذا يستحيل أن يكون مسلما ، لأن الرضى بالكفر كفر .
2 – أن يتقرب إلى الكافرين على حساب الدين . . فيؤوّل آيات اللَّه تعالى وأحاديث رسوله ( صلى الله عليه واله ) بما يتفق مع أهواء الكفار أعداء اللَّه والرسول ، على ان يتنافى تأويله مع أصول الإسلام والعقيدة . . يفعل ذلك عن علم وعمد . وهذا كافر أيضا .
وتسأل : ان الذي يفعل ذلك جاحدا للإسلام يكون كافرا بلا ريب ، أما إذا فعله عن تهاون فينبغي أن يكون فاسقا ، لا كافرا ، تماما كمن ترك الصلاة ، وهو مؤمن بوجوبها ، وشرب الخمر ، وهو جازم بتحريمها ؟ .
الجواب : ان التفصيل بين المتهاون والجاحد انما يتأتى في الفروع ، كالصلاة وشرب الخمر ، أما فيما يعود إلى أصول الدين والعقيدة ، كالوحدانية ، ونبوة محمد ، وما إليهما فإن النطق بإنكار شيء منها يستوجب الكفر ، سواء أكان الناطق متهاونا أو جاحدا ، جادا أو هازلا .
3 – أن يكون عينا وجاسوسا للكافرين على المسلمين . . وهذا ينظر في أمره . .
فإن فعل ذلك طمعا في المال أو الجاه فهو مجرم فاسق ، وان فعله حبا بالكافرين ، بما هم كافرون ، وبغضا للمسلمين بما هم مسلمون فهو كافر من غير شك .
4 – أن يلقي بالمودة إلى أهل الكفر ، وهو على يقين انهم حرب على المسلمين ، يعملون على إذلالهم واستعبادهم ونهب مقدراتهم . . وهذا مجرم آثم ، وشريك للظالم في ظلمه ، حتى ولو كان الظالم مسلما .
5 – أن يستعين بالكفار المسالمين على الكفار المحاربين . . وهذه الاستعانة جائزة بالإجماع ، فقد نقل أهل التاريخ والتفسير ان النبي ( صلى الله عليه واله ) حالف خزاعة ، مع انهم كانوا مشركين ، واستعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه على حرب هوازن ، كما استعان بيهود بني قنيقاع ، وخصهم بشيء من المال ، بل جاء في تذكرة العلامة الحلي ان جماعة من الفقهاء أجازوا الاستعانة بالكفار على حرب أهل البغي من المسلمين ، لأن الاستعانة بهم كانت لإحقاق الحق ، لا لإبطال الباطل .
6 – أن يصادق المسلم الكافر ، لأسباب عادية ، ومألوفة ، كالجوار ، وتلاؤم الأخلاق ، والزمالة في الدرس ، والمشاركة في المهنة ، أو في التجارة ، وما إليها مما لا يمس بالدين . . وهذه الصداقة جائزة أيضا بالإجماع ، لأن مودة الكافر انما تكون حراما إذا استدعت الوقوع في الحرام ، أما إذا لم تكن وسيلة للمعصية فلا تحريم ، بل قد تكون راجحة إذا عادت بالنفع والخير على بلد من البلدان ، أو أي انسان كان ، بل ان اللَّه سبحانه أمر بالحب والألفة والتعاون بين الناس أجمعين من غير نظر إلى دينهم وملتهم ، قال سبحانه : {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 7، 8].
ونحن لا نشك ان في ( الكافرين ) من هو أحسن سيرة وأنبل خلقا – من حيث الصدق والأمانة والوفاء – ، أحسن بكثير من الذين نسميهم ويسمون أنفسهم ( مسلمين ) وان صداقته خير للإنسانية والصالح العام من العملاء الخونة الذين يتظاهرون بالدين والإسلام . . وألف صلاة وسلام على من قال : القريب من قربته الأخلاق . . رب قريب أبعد من بعيد ، ورب بعيد أقرب من قريب .
وهذه حقيقة يدركها الإنسان بفطرته وينساق معها بغريزته من غير شعور .
التقية :
يبتدئ تاريخ التقية بتاريخ الإسلام يوم كان هذا الدين ضعيفا . . وبطلها الأول الصحابي الشهير عمار بن ياسر ، حيث أسلم هو وأبوه وأمه ، وعذبوا في سبيل اللَّه ، فاحتملوا الأذى والعذاب من غير شكاة . . مر رسول اللَّه بآل ياسر ، وهم يعذبون ، فلم يزد ياسر على ان قال : الدهر هكذا يا رسول اللَّه . فقال النبي ( صلى الله عليه واله ) : صبرا آل ياسر ، فان موعدكم الجنة ، وكان ياسر وامرأته سمية أول شهيدين في الإسلام .
وأكره المشركون عمارا على قول السوء في رسول اللَّه ، فقاله دفعا للضرر عن نفسه ، فقال بعض الأصحاب : كفر عمار . فقال النبي : كلا ، ان عمارا يغمره الايمان من قرنه إلى قدمه . . وجاء عمار إلى النبي ، وهو يبكي نادما . فمسح النبي عينيه وقال له : لا تبك ان عادوا لك فعد لهم بما قلت .
فنزل في عمار قوله تعالى : {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] . ولم يختلف اثنان في أن هذه الآية نزلت في عمار . .
وبديهة ان العبرة بعموم اللفظ ، لا بسبب النزول ، واللفظ هنا عام يشمل كل من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .
ثم نزلت الآية 28 من سورة آل عمران التي نحن في صددها تؤكد آية عمار ابن ياسر ، ومثلها الآية 27 من سورة المؤمن : { وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ } . والآية 119 من سورة الانعام : { إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } . .
وكما جاءت الرخصة في كتاب اللَّه بالتقية فقد جاءت أيضا في سنة رسوله ، قال الرازي في تفسيره الكبير ، والسيد رشيد رضا في تفسير المنار ، وغيرهما كثير ، قالوا : ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللَّه ، فقال لأحدهما : أتشهد اني رسول اللَّه ؟ قال : نعم . فأطلقه . وقال للثاني : أتشهد اني رسول اللَّه ؟ فلم يشهد . فقتله . ولما بلغ رسول اللَّه ذلك قال : أما المقتول فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئا له ، وأما الآخر فقبل الرخصة فلا تبعة عليه .
وجاء في تفسير المنار : « ان البخاري نقل في صحيحه عن عائشة ان رجلا استأذن على رسول اللَّه ، فقال النبي : بئس ابن العشيرة ، ثم أذن له ، ولما دخل ألان له الرسول القول . وبعد أن خرج قالت عائشة للنبي : قلت في هذا الرجل ما قلت ، ثم ألنت له القول ؟ فقال : ان من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه . وفي البخاري أيضا في حديث أبي الدرداء : إنّا لنكشر – أي نبتسم – في وجوه قوم ، وان قلوبنا لتلعنهم » .
هذا ، بالإضافة إلى أحاديث أخرى تدل بعمومها على جواز التقية مثل حديث :
« لا ضرر ولا ضرار » . وحديث : « رفع عن أمتي ما اضطروا إليه » . .
وهذان الحديثان متواتران عند السنة والشيعة .
واستنادا إلى كتاب اللَّه ، وسنة نبيّه المتواترة أجمع السنة والشيعة قولا واحدا على جواز التقية ، قال الجصاص – من أئمة الحنفية – في الجزء الثاني من كتاب أحكام القرآن ص 10 طبعة 1347 ه ما نصه بالحرف : { الا أن تتقوا منهم تقاة } ، يعني أن تخافوا تلف النفس ، أو بعض الأعضاء ، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها . . وعليه جمهور أهل العلم » . ونقل الرازي في تفسيره عن الحسن البصري انه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، وأيضا نقل عن الشافعي انه أجاز التقية وعممها للمسلم إذا خاف من المسلم لما بينهما من الاختلاف فيما يعود إلى مسائل الدين .
وقال صاحب تفسير المنار عند تفسير قوله تعالى : { إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } ما نصه بالحرف : « من نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك ، لا شارحا للكفر صدرا ، ولا مستحبا للدنيا على الآخرة لا يكون كافرا ، بل يعذر ، كما عذر عمار بن ياسر ، وقال الشيخ مصطفى الزرقا في كتاب الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد مادة 600 : « التهديد بالقتل للإكراه على الكفر يبيح للشخص التظاهر به مع اطمئنان قلبه بالإيمان » . إلى غير ذلك كثير .
وبالإضافة إلى كتاب اللَّه ، وسنّة رسوله ، واجماع المسلمين سنّة وشيعة على جواز التقية فإن العقل يحكم بها أيضا ويبررها لقاعدة : « الضرورات تبيح المحظورات » .
وبهذا يتبين معنا ان التقية قاعدة شرعية يستند إليها المجتهد الشيعي والسني في استنباط الأحكام ، وان الدليل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وعليه تكون التقية مبدأ اسلاميا عاما تؤمن به جميع المذاهب الإسلامية ، وليست مذهبا خاصا بفريق دون فريق ، ومذهب دون مذهب ، كما يتوهم – الا الخوارج – وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو إذا كانت التقية جائزة كتابا وسنة وعقلا واجماعا من الشيعة والسنة فلما ذا نسبت إلى الشيعة فقط ، حتى ان كثيرا من شيوخ السنة شنعوا على الشيعة ، ونسبوهم إلى البدعة من أجلها ؟ .
الجواب : أما نسبتها إلى الشيعة فقط ، أو اشتهار الشيعة بها فقد يكون سببه ان الشيعة اضطروا للعمل بها أكثر من غيرهم بالنظر لما لا قوه من الاضطهاد في
العصر الأموي والعصر العباسي ، وما تلاهما ( 2 ) ومن أجل اضطرار الشيعة إلى الأخذ بالتقية كثيرا أو أكثر من غيرهم اهتم بها فقهاؤهم ، وذكروها في مناسبات شتى في كتب الفقه ، وحددوا مفهومها ، وبينوا قيودها وحدودها ، متى تجوز ؟
ومتى لا تجوز . . وخلاصة ما قالوه : انها تجوز لرفع الضرر عن النفس ، ولا تجوز لجلب المنفعة ، ولا لإدخال الضرر على الغير .
أما من خصّ التقية بالشيعة فقط ، وشنّع بها عليهم فهو اما جاهل ، واما متحامل ، ومهما يكن ، فلا موضوع اليوم ولا موجب للعمل بالتقية من غير فرق بين السنة والشيعة فتوى وعملا بعد أن ولَّى زمن الخوف والاضطهاد .
{ ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } . أي ذاته التي تعلم كل شيء ، وتقدر على كل شيء ، وتجازي كل انسان حسب عمله . { وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } . والمرجع ، وهناك توفى كل نفس ما عملت .
{ قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ } . بعد ان أجاز سبحانه التقية ، ورخّص بها للمضطر قال : ان المعول عند اللَّه على ما في القلوب ، وهو يعلم ما تنطوي عليه ، سواء أسررتم ، أم أعلنتم .
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً } . لما كان اللَّه سبحانه عالما بكل شيء ، وقادرا على كل شيء ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ، وعادلا لا يظلم أحدا ، لما كان كذلك نحتم أن يجد كل انسان في ذاك اليوم جزاء عمله .
وقال البعض : ان الإنسان غدا يرى عمله مجسما في تمثال جميل مؤنس ان كان خيرا ، وقبيح موحش ان كان شرا . . ويلاحظ ان العمل من الأمور العرضية التي لا تبقى ، ولا يمكن إعادتها ورؤيتها ، فيتعين أن يكون المراد ان الإنسان يوم القيامة يرى جزاء عمله ، لا عمله بالذات .
{ وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } . الواو للاستئناف ، والمعنى ان من يعصي اللَّه في هذه الحياة يتمنى غدا أن لا يرى جزاء عمله ، بل يتمنى أن يكون بينه وبين ذاك اليوم بعد المشرقين . { واللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبادِ } .
حتى العاصين منهم لأنه كلفهم بما يطيقون ، وحذرهم عاقبة العصيان ، وفتح باب التوبة لمن سوّلت له نفسه ، ولم يبق عذرا لمعتذر .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص38-45.
2- انظر كتابنا « الشيعة والحاكمون » وكتاب « مقاتل الطالبيين » . وأول الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد . . وستجد في هذه الكتب ألوانا من اضطهاد الحكام للشيعة لا يتصورها العقل .
الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة: أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب والمشركين والتعريض لهم، فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم والامتزاج الروحي بالمشركين وبهم جميعا، وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتصال بحزب الله، وحب الله وطاعة رسوله.
قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}، الأولياء جمع الولي من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير أمورهم وأمور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليهم، ثم استعمل وكثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من المتحابين في أمور الآخر لإفضائه إلى التقرب والتأثر عن إرادة المحبوب وسائر شئونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في أمور المحب في حيوته.
فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم والتأثر منهم في الأخلاق وسائر شئون الحيوة وتصرفهم في ذلك، ويدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله: {من دون المؤمنين}، فإن فيه دلالة على إيثار حبهم على حب المؤمنين، وإلقاء أزمة الحيوة إليهم دون المؤمنين، وفيه الركون إليهم والاتصال بهم والانفصال عن المؤمنين.
وقد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين واليهود والنصارى واتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه، ويعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله: {من دون المؤمنين} بعد قوله :{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء}، واشتمال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] ، على قوله: بعضهم أولياء بعض، وتعقب قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ، بقوله : {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} إلى آخر الآيات.
وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين للدلالة على سبب الحكم وعلته، وهو أن صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شئون الحيوة لا يلائم حالهما مع الولاية فإن الولاية يوجب الاتحاد والامتزاج، وهاتان الصفتان توجبان التفرق والبينونة، وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان وآثاره ثم فساد أصله، ولذلك عقبه بقوله: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء، ثم عقبه أيضا بقوله: إلا أن تتقوا منهم تقية، فاستثنى التقية فإن التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.
ودون في قوله: {من دون المؤمنين} كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور، والمعنى : مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا.
والظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك وأخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله: {إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [المائدة: 116] ، وقوله : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48] ، أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون، كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيدا أي الزمه، كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي.
قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}، أي ومن يتخذهم أولياء من دون المؤمنين، وإنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به إلا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح، وهو شائع في اللسان، ولذلك أيضا لم يقل: ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل هذا الفعل.
ومن في قوله: {من الله}، للابتداء، ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شيء كما قال تعالى : {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة: 56] ، وكما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، أي من حزبي، وكيف كان فالمعنى والله أعلم: ليس من حزب الله مستقرا في شيء من الأحوال والآثار.
قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقية، الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من هذا القبيل.
والاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء لأن الخوف والحب أمران قلبيان متباينان ومتنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.
وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى: “من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم”: النحل – 106.
و بالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة، والاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين، ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته، وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحيوة الحق ما لا يترتب على تركها، وإنكار ذلك مكابرة وتعسف، وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي، وفي الكلام على قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
قوله تعالى: ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير، التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [الإسراء: 57] ، وحذر من المنافقين وفتنة الكفار فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ، وقال : {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] ، وحذرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين، وليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز في هذه المعصية، أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شيء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء أو يتحصن منه بحصن، وإنما هو الله الذي لا عاصم منه، ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي ولا شفيع، ففي الكلام أشد التهديد، ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد ويؤكده تذييله أولا بقوله: {وإلى الله المصير}، وثانيا بقوله : والله رءوف بالعباد على ما سيجيء من بيانه. و من جهة أخرى : يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية، ورفض لولاية الله سبحانه، ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين، وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الذي هو أشد وأضر بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر، وأما الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودب فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون، وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه.
و بالجملة هو طغيان، وأمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه، قال تعالى { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 – 14] ، فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكا يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب ولا مانع.
و من هنا يظهر: أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: {ويحذركم الله نفسه}، لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.
و يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 112، 113] ، وهذه آية ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنها شيبته – على ما في الرواية – فإن الآيتين – كما هو ظاهر للمتدبر – ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعا لا ناصر معه، وهو الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدم بيانه.
ومن هنا يظهر أيضا: أن في قوله: ويحذركم الله نفسه، دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضاء حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم حائل يحول في البين، ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود: {فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.
وفي قوله: {وإلى الله المصير} دلالة على أن لا مفر لكم منه ولا صارف له، ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.
والآيات أعني قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن، وسيجيء بيانه إن شاء الله في سورة المائدة.
قوله تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله}، الآية نظيرة قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة: 284] ، غير أنه لما كان الأنسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الأنسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء، وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.
وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة – وهو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه – من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام، وليس ذلك إلا ترفعا عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله: }ومن يفعل ذلك}.
و في قوله تعالى: {ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير} مضاهاة لما مر من آية البقرة وقد مر الكلام فيه.
قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء، الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والظرف متعلق بمقدر أي واذكر يوم تجد، أو متعلق بقوله: يعلمه الله ويعلم، ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة إلى تحققه منه تعالى، وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوته في اليوم، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر: 16] ، وقال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43] ، وقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [البقرة: 165] ، وقال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] ، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك والقدرة والقوة والأمر دائما – قبل القيامة وفيها وبعدها – وإنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه.
ومن ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله: يعلمه الله، لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة.
على أن في قوله تعالى : {محضرا}، دون أن يقول: حاضرا دلالة على ذلك فإن الإحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة، ولا حافظ لها إلا الله سبحانه، قال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21] وقال: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4].
و قوله: تجد، من الوجدان خلاف الفقدان، ومن في قوله: من خير ومن سوء للبيان، والتنكير للتعميم، أي تجد كل ما عملت من الخير وإن قل وكذا من السوء وقوله: وما عملت من سوء، معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق والآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، وقد مر البحث عنها في سورة البقرة.
قوله تعالى : {تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}، الظاهر أنه خبر لمبتدإ محذوف وهو الضمير الراجع إلى النفس، ولو للتمني، وقد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه وتأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.
والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية، قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد والأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، لا يقال: أبد كذا، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الزمان والأمد، أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدإ والغاية، ولذا قال بعضهم: الأمد والمدى يتقاربان، انتهى.
وفي قوله: {تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}، دلالة على أن حضور سيىء العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها، وإنما تود الفاصلة الزمانية بينها وبينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها إلا أن تحب بعده وعدم حضوره في أشق الأحوال، وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك، قال تعالى: “نقيض له شيطانا فهو له قرين إلى أن قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38].
قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد} ذكر التحذير ثانيا يعطي من أهمية المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى، ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية، والتحذير الأول ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا والآخرة.
وأما قوله : {والله رءوف بالعباد} فهو – على كونه حاكيا عن رأفته وحنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية والرقية – دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف وإيجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد إلا الخير والصلاح، تقول: إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا أسامح مع من تعرض لي فيه، إنما أخبرك بهذا رأفة بك وشفقة.
فيئول المعنى – والله أعلم – إلى مثل أن يقال: إن الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلا أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.
____________________
1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 132-138.
العلاقة مع الأجنبي :
ذكرت الآيات السابقة أن العزّة والذلّة وجميع الخيرات بيد الله تعالى. وبهذه المناسبة فإن هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدّة من موالاة الكفّار، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزّة والقدرة والثروة. فإنها جميعاً بيد الله عزّوجلّ. ولذلك تقول الآية :
{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} ولو إرتكب أحد المؤمنين ذلك فإنه يقطع إرتباطه مع الله تماماً {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.
وهذه الآية درس سياسيّ وإجتماعيّ مهمّ للمسلمين، فتحذّرهم من إتّخاذ الأجنبي صديقاً أو حامياً أو عوناً ورفيقاً، في أيّ عمل من أعمالهم، ومن الإنخداع
بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبّة الحميمة، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.
لو أنّنا طالعنا تاريخ الاستعمار للاحظنا أنّ المستعمرين جاؤوا دائماً في لبوس الصداقة والترحّم وحبّ الإعمار والبناء فتغلغلوا بين طبقات المجتمع.
إنّ كلمة «استعمار» التي تعني الإعمار والبناء دليل على هذا الخداع، فهم بعد أن يتمكّنوا من إنشاب مخالبهم في جذور المجتمع المستعمَر، يبدأون بامتصاص دمائه بكلّ قسوة وبغير رحمة.
{من دون المؤمنين} إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الإجتماعية لابدّ لهم من إتّخاذ الأولياء والأصدقاء، فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين، لا من بين الكافرين.
{ليس من الله في شيء}.
تقول الآية : إن الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء الله، ليسوا من الله في أيّ شيء من الأشياء، أي أنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر الله وقطعوا علاقتهم بالجماعة المؤمنة الموحّدة، وانقطعت إرتباطاتهم من جميع الجهات.
{إلاَّ أن تتّقوا منهم تقاة}.
هذا إستثناء من الحكم المذكور، وهو أنّه إذا اقتضت الظروف ـ التقية ـ فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم. ولكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول : (يحذّركم الله نفسه وإلى الله المصير) فالله ينذر الناس أوّلاً بغضب منه وبعقاب شديد، ثمّ إنّ مرجع الناس جميعاً إلى الله. وإن تولّوا أعداء الله نالوا عاجلاً نتيجة أعمالهم.
قوله تعالى :{ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
العالم بأسراركم :
نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهياً شديداً، واستثنت من ذلك حالة «التقية».
إلاَّ أنّ بعضهم قد يتّخذ من «التقية» في غير محلّها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفّار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة اُخرى أنّهم قد يستغلّون «التقية» ويتّخذونها مبرّراً لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام. فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالِم بما ظهر وما خفي وتقول { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ولا يقتصر علم الله الواسع على ذلك بل : (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية، تشير إلى أنّ معرفة الله بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض. وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين : {والله على كلّ شيء قدير}.
قوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}
حضور الأعمال يوم القيامة :
تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كلّ امريء ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه. فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا)(2) فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً.
«الأمد» في اللغة الزمان المحدود، و «الأبد» اللامحدود، والأمد يقصد من استعماله غالباً انتهاء الزمان، وإن استعمل أحياناً أيضاً في مطلق الزمان المحدود.
بناءاً على ذلك، فإنّ المذنبين ـ كما تقول الآية ـ يتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلاً، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة، لأنّ طلب البُعد الزماني أبلغ فى التعبير عن هذا الإستياء من طلب البُعد المكاني، فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني، بينما ينتفي هذا الاحتمال تماماً في الفاصل الزماني.
فإذا عاش أحد ـ مثلاً ـ في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والإضطراب وإن ابتعد مكانياً عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق.
هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد» معنى البُعد المكاني أيضاً (كما ورد في مجمع البيان نقلاً عن بعض المفسّرين)، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر.
{ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }.
في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته. ويبدو أنّ هذين الجزءين هما ـ على عادة القرآن ـ مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني {والله رؤوف بالعباد} توكيداً للجزء الأوّل {ويحذّركم الله نفسه}، وهذا أشبه بمن يقول لك : إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك، إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك.
القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها :
هذه الآية تبيّن بكل وضوح تَجسُّد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة «تجد» من الوجود ضدّ العدم. ولفظتا «خير» و «سوء» وردتا نكرتين لتفيدا العموم. أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.
بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها.
ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية، لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة «يجد» عمله. وتقول : إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين «عمله» القبيح فواصل مديدة. فهنا «العمل» نفسه هو الذي يدور حوله الكلام. لا سجلّ الأعمال، ولا الثواب والعقاب.
كذلك نقرأ في الآية أنّ المسيء يودّ لو بَعُدَ عنه عمله، ولكنّه لا يتمنّى زوال عمله إطلاقاً. وهذا يعني أنّ زوال الأعمال غير ممكن، ولذلك فهو لا يتمنّاه.
هناك آيات كثيرة أُخرى تؤيّد هذا الأمر، كالآية 49 من سورة الكهف.
{وَ وَجَدوا مَا عَمِلُوا حاضِراً ولا يَظلِمُ رَبُّكَ أحَداً} والآيتان 7 و 8 من سورة الزلزال {فَمَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ}.
سبق أن قلنا إنّ بعض المفسّرين يرون أنّ لفظ «الجزاء» مقدّر وهذا خلاف ظاهر الآية.
يستفاد من بعض الآيات أنّ الدنيا مرزعة الآخرة، وأنّ عمل الإنسان أشبه بالحبّ الذي يُزرع في التربة، فتنمو تلك الحبّة، ثمّ يحصد الإنسان معها حبّاً كثيراً. كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدّلات وتغيّرات تناسب يوم القيامة، ثمّ تعود إلى الإنسان نفسه، كما جاء في الآية 20 من سورة الشورى : {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه}.
ويستفاد من آيات أُخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء، فيطلبه المنافقون من المؤمنين : (انظرُونا نَقتَبِس مِن نُورِكم)
فيقال لهم : {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13].
هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام.
هناك روايات كثيرة أيضاً عن أئمّة الإسلام تؤكّد هذا المعنى، من ذلك :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن طلب أن يعظه :
«لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاَّ معك ولا تحشر إلاَّ معه، ولا تُسأل إلاَّ عنه، ولا تُبعث إلاَّ معه، فلا تجعله إلاَّ صالحاً، فإنّه إن كان صالحاً لم تستأنس إلاَّ به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاَّ منه، وهو عملك»(3).
ولإلقاء الضوء على هذا البحث لابدّ من معرفة كيفية الإثابة والعقاب على الأعمال.
للعلماء آراء مختلفة في الثواب والعقاب :
1 ـ يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الاُخروي أمر اعتباري، مثل المكافأة والعقوبة في هذه الدنيا، أي كما أنّ هناك في هذه الدنيا عقاباً على كلّ عمل سَيّء أقرّه القانون الوضعي، كذلك وضع الله لكلّ عمل ثواباً أو عقاباً معيّنين. وهذه هي نظرة الأجر المعيّن والجزاء القانوني.
2 ـ ثمّة آخرون يعتقدون أنّ النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب، فالنفس تخلق ذلك في العالم الآخر دون إختيار، أي أنّ الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة
في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيّئة، وهذه الصفات تصبح جزءاً متمكّناً من ذات الإنسان، وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب. فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصوّرات الحسنة، والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوّراتهم الدنيئة في نومهم ويقظتهم.
وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء والسعادة. وبعبارة أُخرى أنّ ما نقرأه عن نِعم الجنّة وعذاب جهنّم ليس سوى ما تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيّئة في الإنسان.
3 ـ فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتّخذوا سبيلاً آخر دعموه بكثير من الآيات والأحاديث. يقول هؤلاء : إنّ لكلّ عمل من أعمالنا ـ حسناً كان أم سيّئاً ـ صورة دنيوية هي التي نراها، وصورة أُخروية كامنة في باطن ذلك العمل. وفي يوم القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأُخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه.
هذه النظرة، من بين النظرات الأُخرى، تتّفق مع كثير من آيات القرآن، وبناءاً على ذلك، فإنّ أعمال الإنسان ـ وهي مظاهر مختلفة من الطاقة ـ لا تفنى بموجب قانون بقاء «المادة / الطاقة» وتبقى أبداً في هذه الدنيا، على الرغم من أنّ الناظر السطحي يظنّها قد تلاشت.
إنّ بقاء هذه الأعمال بقاءاً أبدياً يتيح من جهة أن يراها الإنسان عند محاسبته يوم القيامة ولا يبقى له مجال للإنكار، كما يتيح للإنسان من جهة أُخرى أن يعيش يوم القيامة بين أعماله، فيشقى أو يسعد. وعلى الرغم من أنّ علم الإنسان لم يبلغ بعد مرحلة اكتشاف الماضي، إلاَّ للحظات قليلة سابقة(4) ، فممّا لا شكّ فيه أنّه لو تمّ
صنع جهاز أدقّ وأكمل، أو لو كانت لنا «رؤية» و «إدراك» أكمل لاستطعنا أن نرى وندرك كلّ ما حدث في الماضي. (ليس هناك ما يمنع أن يكون جانب من الثواب والعقاب ذا طابع توافقي).
العلم وتجسيد الأعمال :
لإثبات إمكان تجسيد الأعمال الماضية، يمكن الإستناد إلى مبادىء الفيزياء الثابتة اليوم، فقوانين الفيزياء تقول إنّ المادة تتحوّل إلى طاقة، وذلك لأنّ «المادّة» و «الطاقة» مظهران لحقيقة واحدة، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص، وأنّ المادّة طاقة متراكمة مضغوطة تتحوّل إلى طاقة في ظروف معيّنة. وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادّة تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت.
ملخّص القول : إنّ المادّة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة، وبالنظر لعدم فناء الطاقة والمادّة، فليس هناك ما يحول دون تراكم الطاقات المنتشرة مرّة أُخرى وتتّخذ صورة مادّة أو جسم، فإذا كانت نتيجة الأعمال صالحة ظهرت بصورة نِعم مادّية جميلة، وإذا كانت شرّاً وسيئّة فإنّها تتجسّد في وسائل عذاب وعقاب.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص244-253.
2- (يوم) في الجملة اعلاه مقدر مثل :(واذكروا) أو(واحذروا).وهناك احتمالات اخرى ولكنها بعيد لا يعتنى بها .
3 ـ البحار : طبعة كمباني : ج 3 ص 257.
4 ـ اكتشف العلماء جهاز تصوير يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء تستطيع أن تصوّر حدثاً لم يمض عليه أكثر من بضع لحظات، إنّ الجهاز يعمل وفق نظام حراري يجتذب الأمواج الصادرة عن الأجسام، ويحوّلها بوساطة جهاز يدعى «ثرموجرام» إلى سالب وموجب، ثمّ يصوّرها بالأسود والأبيض ـ كما ذكرت وسائل الإعلام ـ وبهذا يمكن ـ أن نعرف كيفية وقوع جريمة وتصوير أعمال المجرمين السابقة ثمّ عرضها عليهم وكشف كذبهم.