تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 59-63)
قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 59 – 63].
رد الله تعالى على النصارى قولهم في المسيح أنه ابن الله، فقال:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} أي: مثل عيسى في خلق الله إياه من غير أب، كمثل آدم في خلق الله إياه من غير أب، ولا أم، فليس هو بأبدع ولا أعجب من ذلك، فكيف أنكروا هذا وأقروا بذلك؟ ثم بين سبحانه كيف خلقه، فقال:
{خلقه} أي أنشأه {من تراب} وهذا إخبار عن آدم، ومعناه: خلق عيسى من الريح، ولم يخلق قبل أحدا من الريح، كما خلق آدم من التراب، ولم يخلق قبله أحدا من التراب {ثم قال له} أي: لآدم. وقيل: لعيسى {كن} أي: كن حيا بشرا سويا {فيكون} أي: فكان في الحال على ما أراد. وقد مر تفسير هذه الكلمة فيما قبل في سورة البقرة مشروحا.
وفي هذه الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال، لأن الله احتج على النصارى، ودل على جواز خلق عيسى من غير أب، ولا أم. {الحق من ربك} أي: هذا هو الحق من ربك. أضاف إلى نفسه تأكيدا وتعليلا أي: هو الحق، لأنه من ربك {فلا تكن} أيها السامع {من الممترين} وقد مر تفسيره في سورة البقرة {فمن حاجك} معناه: فمن خاصمك وجادلك يا محمد {فيه} أي في قصة عيسى {من بعد ما جاءك من العلم} أي: من البرهان الواضح على أنه عبدي ورسولي، عن قتادة في معناه. وقيل: فمن حاجك في الحق. والهاء في {فيه} عائدة إلى قوله {الحق من ربك} {فقل} يا محمد لهؤلاء النصارى {تعالوا} إلى كلمة أي: هلموا إلى حجة أخرى ماضية فاصلة، تميز الصادق من الكاذب.
{ندع أبناءنا وأبناءكم}: أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين. قال أبو بكر الرازي: هذا يدل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله، وأن ولد الإبنة ابن في الحقيقة. وقال ابن أبي علان، وهو أحد أئمة المعتزلة: هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين. وإنما جعل بلوغ الحلم حدا لتعلق الأحكام الشرعية. وقد كان سنهما في تلك الحال سنا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل. على أن عندنا يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة، ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم. فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن، لجاز ذلك فيهم، إبانة لهم عمن سواهم، ودلالة على مكانهم من الله تعالى، واختصاصهم. ومما يؤيده من الأخبار قول النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم “: ” ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا “.
{ونساءنا} اتفقوا على أن المراد به فاطمة ” عليها السلام “، لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء. وهذا يدل على تفضيل الزهراء على جميع النساء، ويعضده ما جاء في الخبر أن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” قال: ” فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ” وقال: ” إن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضائها “. وقد صح عن حذيفة أنه قال: سمعت النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” يقول: ” أتاني ملك فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء أمتي ” وعن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: أسر النبي إلى فاطمة شيئا فضحكت، فسألتها فقال: ” قال لي: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو نساء المؤمنين ” فضحكت لذلك. {ونساءكم} أي: من شئتم من نسائكم.
{وأنفسنا} يعني عليا خاصة. ولا يجوز أن يدعوا الانسان نفسه، وإنما يصح أن يدعوا غيره. وإذا كان قوله {وأنفسنا} لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول، وجب أن يكون إشارة إلى علي، لأنه لا أحد يدعي دخول غير أمير المؤمنين علي وزوجته وولديه في المباهلة. وهذا يدل على غاية الفضل، وعلو الدرجة والبلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله الله نفس الرسول. وهذا ما لا يدانيه فيه أحد، ولا يقاربه. ومما يعضده من الروايات ما صح عن النبي أنه سأل عن بعض أصحابه فقال له قائل: فعلي؟ فقال: ” ما سألتني عن الناس، ولم تسألني عن نفسي ” وقوله لبريدة الأسلمي: ” يا بريدة! لا تبغض عليا، فإنه مني وأنا منه. إن الناس خلقوا من شجر شتى، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة ” وقوله ” عليه السلام ” بأحد، وقد ظهرت كنايته في المشركين، ووقايته إياه بنفسه، حتى قال جبرائيل: إن هذا لهي المواساة! فقال: يا جبرائيل! إنه مني. فقال جبرائيل: وأنا منكما {وأنفسكم} يعني من شئتم من رجالكم.
{ثم نبتهل} أي: نتضرع في الدعاء، عن ابن عباس. وقيل: نلتعن فنقول:
لعن الله الكاذب. {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} منا. وفي هذه الآية دلالة على أنهم علموا أن الحق مع النبي، لأنهم امتنعوا عن المباهلة، وأقروا بالذل والخزي لقبول الجزية. فلو لم يعلموا ذلك لباهلوه، فكان يظهر ما زعموا من بطلان قوله في الحال. ولو لم يكن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” متيقنا بنزول العقوبة بعدوه دونه، لما أدخل أولاده، وخواص أهله في ذلك، مع شدة إشفاقه عليهم.
{إن هذا لهو القصص الحق} معناه: إن هذا الذي أوحينا إليك في أمر عيسى ” عليه السلام ” وغيره، لهو الحديث الصدق، فمن خالفك فيه مع وضوح الأمر، فهو معاند {وما من إله إلا الله} أي: وما لكم أحد يستحق إطلاق اسم الإلهية، إلا الله، وإن عيسى ليس بإله كما زعموا، وإنما هو عبد الله، ورسوله. ولو قالوا: ما إله إلا الله بغير {من} لم يفد هذا المعنى. {وإن الله لهو العزيز} أي: القادر على الكمال {الحكيم} في الأقوال والأفعال والتدبير.
{فإن تولوا} أي: فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، وعما أتيت به من الدلالات والبينات {فإن الله عليم بالمفسدين} أي: بمن يفسد من خلقه، فيجازيهم على إفسادهم. وإنما ذكر ذلك على جهة الوعيد، وإلا فإنه تعالى عليم بالمفسد والمصلح جميعا، ونظيره قول القائل لغيره: أنا عالم بشرك وفسادك. وقيل: معناه إنه عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق، وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك، لمعرفتهم بنبوتك.
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص308-312.
مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ :
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
قال المفسرون : ان وفد نجران اليمن قالوا لرسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : مالك تشتم صاحبنا ؟
– أي عيسى – قال : وكيف ؟ قالوا : تقول : انه عبد . قال : أجل ، هو عبد اللَّه ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء . قالوا : وهل رأيت إنسانا من غير أب ؟ فنزل قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ } .
وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح فإن هذا هو موضوعها بالذات . .
فلقد كان النصارى ، وما زالوا يحتجون لعقيدتهم بربوبية عيسى انه نشأ من غير أب . . وقد قطع اللَّه حجتهم هذه ، وأبطلها بآدم ، فإن كان عيسى إلها أو ابن إله لأنه من غير أب فبالأولى أن يكون آدم كذلك لأنه من غير أب وأم . . وما أجابوا عن هذا النقض ، ولن يجيبوا عنه إلى آخر يوم .
وتسأل : ان الظاهر من قوله تعالى : {خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ } ان اللَّه قد أنشأ آدم وأوجده ، وانتهى كل شيء ، وعليه يكون الخلق متقدما على قول : ( كُنْ فَيَكُونُ ) ولم يبق أي وجه لهذا القول ، لأنه إيجاد للموجود ، وخلق للمخلوق . .
وبديهة ان كلام اللَّه يجب أن يحمل على أحسن المحامل .
الجواب : ان اللَّه خلق آدم على مراحل ، منها انه خلقه من طين بلا روح ،
ثم جعل فيه الروح ، وعليه يكون المعنى : أيها الطين كن إنسانا من لحم ودم ، وعاطفة وادراك .
الأنبياء والمعصية :
{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } . أي ان هذا الذي أنزلناه عليك ، وأخبرناك به عن عيسى هو الحق من ربك { فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } .
وتسأل : ان النبي محال أن يشك فيما أخبر اللَّه به . . لأن الشك يتنافى مع الايمان فضلا عن العصمة . فما هو المبرر لهذا النهي ؟ .
وأجاب المفسرون بجوابين : الأول ان ظاهر الخطاب موجه إلى النبي ، والمقصود في الواقع غيره . الجواب الثاني : ان المراد استمرار النبي على اليقين .
وفي كلا الوجهين نظر ، لأنهما مبنيان على ان اللَّه تعالى ليس له أن ينهى أنبياءه عن المعصية . . والصحيح ان للَّه أن ينهى الأنبياء عن المعصية . . أولا لأنه أمر من الأعلى إلى من هو دونه في الرتبة والعلو . ثانيا : ان العصمة ليست طبيعة وغريزة في الأنبياء بحيث تستحيل المعصية عليهم بحسب الذات والإمكان ، والا لم يكن لهم من فضل ، وانما يستحيل صدور المعصية منهم بحسب الواقع ، لا بحسب الإمكان ، فيصح ، والحال هذه ، أن يوجه النهي إليهم بهذا الاعتبار ، ولكن من اللَّه لا من غيره ، إذ لا أحد فوق الأنبياء الا اللَّه جلَّت عظمته .
وعلى هذا الوجه تحمل النواهي الكثيرة الواردة في القرآن الكريم في هذا الباب ، مثل قوله تعالى لحبيبه محمد ( صلى الله عليه واله ) : ( ولا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) . . ثم ما يدرينا ان الأنبياء كانوا يحبون هذه النواهي من اللَّه سبحانه ، بل ويطلبونها ، كما يطلب المؤمن الصالح من الأعلم الأكمل ان يعظه ، ويذكّره باللَّه .
المباهلة :
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ }
{ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ } . هذه هي الآية المعروفة بآية المباهلة ، وهي من أمهات الكتاب .
والقصد الأول من هذه الآية الكريمة العظيمة هو تدعيم الدين الحنيف ، واثبات الرسالة المحمدية الانسانية بطريق لا عهد به للعلم والعلماء ، ولا يقدر عليه أحد على الإطلاق سوى خالق الأرض والسماء ، ومع ذلك يفهمه بسهولة ويسر الجاهل والعالم . . وفيما يلي حكاية هذه الآية من أولها ، ولكن بإيجاز :
ترتبط هذه الآية بالسنة التاسعة لهجرة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) إلى المدينة ، وهي السنة المعروفة بعام الوفود ، لأن الناس توافدت فيه على رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) من شتى بقاع الجزيرة العربية ، يخطبون وده بعد ان أعلى اللَّه كلمة الإسلام ، ونصر المسلمين على أعداء الدين ، وقد وفد على الرسول فيمن وفد ستون رجلا من نصارى نجران اليمن ، وقيل : أربعة عشر من أشرافهم . . منهم كبيرهم وأميرهم ، واسمه عبد المسيح ، والثاني مشيرهم وصاحب رأيهم ، واسمه الأيهب ، ويلقب بالسيد ، والثالث حبرهم واستفهم ، وكان في شرف كبير ، وخطر عظيم ، وقد بنى له ملك الروم الكنائس والمدارس ، وخصه بالأموال والمراتب .
ورحب رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) بهم ، وأكرم وفادتهم ، وحين حانت صلاتهم ضربوا بالناقوس ، وصلوا في مسجد الرسول إلى المشرق ، فأراد الأصحاب منعهم ، فقال النبي : دعوهم . . وسبقت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية 8 من هذه السورة .
وبعد أن استقر المقام بوفد نجران أخذوا يجادلون رسول اللَّه في عيسى زاعمين تارة انه اللَّه ، ومرة انه ابن اللَّه ، وأخرى انه ثالث ثلاثة ، وأوردوا أدلة سبق ذكرها وتفسيرها وإبطالها .
والذي أبطل أدلة النصارى هو اللَّه بالذات ، ولكن على لسان محمد ( صلى الله عليه واله ) ، وكان في الوفد علماء لا تخفى الحقيقة على أمثالهم ، منهم أبو حارثة الرئيس الديني للوفد ، وكان معه أخ له ، اسمه كرز . . وبعد أن سمع أبو حارثة ما سمع من آيات اللَّه البينات أسرّ إلى أخيه كرز ان محمدا هو النبي الذي كنا ننتظره . .
فقال له أخوه هذا : ما يمنعك منه ما دمت على يقين من صدقه ؟ قال أبو حارثة :
ان الملوك أعطونا أموالا كثيرة ، وأكرمونا ، فلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل
شيء . . فوقع ذلك في قلب كرز ، وأضمره في نفسه أمدا ، ثم أعلن إسلامه ، وحدّث عما جرى من أخيه .
وصدق هذه الرواية لا يحتاج إلى دليل ، لأنها بنفسها تدل على صدقها ، وتحمل قياسها معها ، كما يقول أهل المنطق . . ان أكثر الذين أنكروا الحق وعاندوه كان الدافع إلى موقفهم المصالح الخاصة ، والمنافع الشخصية ، كما شرحنا ذلك مفصلا عند الآية 54 من هذه السورة ، فقرة « الحق وأرباب المنافع » .
ناظر الرسول وفد نجران في صفات عيسى ، وجادلهم بالحجة الدامغة ، والمنطق السليم بما لا يقبل المزيد ، ولما أصروا على العناد قطع الكلام معهم ، وأنهى المناظرة ، ودعاهم إلى ما لا يشبه شيئا ، ولا يشبهه شيء من الحجاج والنقاش ، ولكنه يحسم الموقف بسرعة ، ويستأصل النزاع من الجذور ، دعاهم إلى التفوه بكلمة واحدة فقط لا يقدم عليها في تلك اللحظة إلا من كان على يقين من صدقه ، ولا يحجم عنها إلا من كان عالما بكذبه . . وهذه الكلمة هي لعنة اللَّه على الكاذبين ، ولكنها تقترن بمعجزة خارقة ، دونها معجزات المسيح مجتمعة ، حيث تنهال على رأس الكاذب صاعقة من السماء تملأ الأرض عليه نارا .
وقد تواترت الروايات في كتب الحديث والتفسير ، ومنها صحيح مسلم والترمذي ، وتفسير الطبري والرازي والبحر المحيط وغرائب القرآن وروح البيان والمنار والمراغي ، وغيرها كثير ، تواترت الروايات ان محمدا ( صلى الله عليه واله ) خرج ، وعليه مرط – أي كساء غير مخيط – أسود ، وقد احتضن الحسين ، وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة وعلي يمشيان خلفه ، وهو يقول : إذا دعوت فأمنوا ، فقال الرئيس الديني للوفد : يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو دعت اللَّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ثم قال : يا أبا القاسم رأينا ان لا نباهلك . فقال لهم : أسلموا . فأبوا ، ثم صالحهم على أن يؤدوا الجزية .
وعاد الوفد مخذولا مرذولا ، يجر وراءه ثوب الفشل ، والخزي . . وآمن بعد هذه المباهلة كثير من الذين لم يكونوا قد آمنوا بعد ، كما ازداد المؤمنون إيمانا وتسليما .
لقد أقدم محمد ( صلى الله عليه واله ) ، ومعه أهل بيته وأعز الناس على قلبه ، أقدم على المباهلة ، وهو يضمن النصر سلفا ، حتى كأنه بيده . . ولا شيء أوضح وأصدق في الدلالة على نبوته من هذا الاقدام . . انه أوضح من دلالة نور الشمس على وجود الشمس . . وما عرفت هذه المعجزة لواحد من الأنبياء ، وانما كانوا يدعون على الكافرين ، فيستجيب اللَّه دعوتهم .
وتسأل : ان النبي دعا بعض الكفار إلى الإيمان ، فقالوا : { اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ – 32 الأنفال } . ومع هذا لم يقع العذاب بهم ؟
الجواب : ان الكلام فيما نحن فيه يدور حول المباهلة ، وهي لا تتحقق إلا في معرض الاحتجاج والادعاء ، وأيضا لا تجوز إلا بإذن من اللَّه ، أو رسوله خشية ان لا يظهر صدق الصادق . . وقول الكافرين : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ } ليس من المباهلة في شيء . . ولذا أخر اللَّه عقابهم إلى يوم يبعثون .
أهل البيت :
ومما قاله الرازي في تفسير آية المباهلة : « روي أن محمد ( صلى الله عليه واله ) لما خرج في المرط الأسود ، فجاء الحسن رضي اللَّه عنه فأدخله ، ثم جاء الحسين رضي اللَّه عنه فأدخله ، ثم فاطمة ، ثم علي رضي اللَّه عنهما ، ثم قال النبي ( صلى الله عليه واله ) : { إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } واعلم ان هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث – ثم قال الرازي – : ان هذه الآية دالة على ان الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) ، وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن يكونا ابنيه ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الانعام : { ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ } إلى قوله :
{ وزَكَرِيَّا ويَحْيى وعِيسى } ومعلوم ان عيسى ( عليه السلام ) انما انتسب إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بالأم لا بالأب » .
وقد بحثت هذا الموضوع بحثا مطولا في كتاب « فضائل الإمام علي » وعقدت له فصلا مستقلا بعنوان « أبناء رسول اللَّه » .
{ إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وإِنَّ اللَّهً لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهً عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } . هذا إشارة إلى ما تقدم من شأن عيسى ، وانه نبي مرسل ، لا ابن زنا كما يزعم اليهود ، ولا هو إله أو ابن إله كما تدعي النصارى ، ومن يصدق ويؤمن بهذه الحقيقة فدعه يا محمد وشأنه ، فان اللَّه سبحانه أعلم بفساده وضلاله ، وقادر على عقابه بما يستحق .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص73-79.
قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا، و الإيجاز بعد الإطناب – وخاصة في مورد الاحتجاج و الاستدلال – من مزايا الكلام، و الآيات نازلة في الاحتجاج و متعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب أن يوجز البيان في خلقته بعد الإطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم (عليه السلام) فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد و أعظم مما قيل في آدم، و هو أنه بشر خلقه الله من غير أب.
فمعنى الآية: إن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم، و كيفية خلقه أنه جمع أجزاءه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب.
فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عن المسيح (عليه السلام).
إحداهما: أن عيسى مخلوق لله – على ما يعلمه الله و لا يضل في علمه – خلقة بشر و إن فقد الأب و من كان كذلك كان عبدا لا ربا.
وثانيهما: أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بألوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضا لمكان المماثلة.
ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد.
والظاهر أن قوله: {فيكون}، أريد به حكاية الحال الماضية، و لا ينافي ذلك دلالة قوله: ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] ، و كثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية.
وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] ، وسيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إن شاء الله تعالى في محله المناسب له.
على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله: {ثم قال له كن} إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالإمكان و الاستحالة، والهوان و العسر، والقرب و البعد، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده و قال له كن، كان من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.
قوله تعالى: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن و نحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله: ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم الآية، و فيه تطييب لنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على الحق، و تشجيع له في المحاجة.
وهذا أعني قوله: {الحق من ربك} من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال: الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك و نسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.
وذلك أن هذه الأقاويل الحقة و القضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت و إن كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و نحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى، فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه، و لذلك كان تعالى لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا، و أما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.
قوله تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم}، الفاء للتفريع، و هو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم (عليهما السلام) مع ما أكده في ختمه بقوله: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين}.
والضمير في قوله: فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.
وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} الآية، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا، و لذلك كان يشمل أثره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم، و لعله لذلك قيل: من بعد ما جاءك من العلم و لم يقل: من بعد ما بيناه لهم.
و هاهنا نكتة أخرى و هي أن في تذكيره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله، و أن ربه ناصره و غير خاذله البتة.
قوله تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم}، المتكلم مع الغير في قوله: ندع، غيره في قوله: أبناءنا و نساءنا و أنفسنا فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام و النصرانية، و في الثاني و ما يلحق به من جانب الإسلام، و لذا كان الكلام في معنى قولنا: ندع الأبناء و النساء و الأنفس فندعو نحن أبناءنا و نساءنا و أنفسنا و تدعون أنتم أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، ففي الكلام إيجاز لطيف.
والمباهلة والملاعنة و إن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله و بين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء و النساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه و كونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم و الشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه، و يركب الأهوال و المخاطرات دونهم، و في سبيل حمايتهم والغيرة عليهم و الذب عنهم، و لذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد و أدوم.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بقوله: {ندع أبناءنا و أبناءكم }”الخ” ندع نحن أبناءكم و نساءكم و أنفسكم، و تدعوا أنتم أبناءنا و نساءنا و أنفسنا.
وذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء و النساء في المباهلة.
و في تفصيل التعداد دلالة أخرى على اعتماد الداعي و ركونه إلى الحق، كأنه يقول: ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن و العذاب الأبناء و النساء و الأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين، و ينبت أصل المبطلين.
و بذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء و لا على كثرة النساء و لا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير و كبير، و ذكور و إناث، و قد أطبق المفسرون و اتفقت الرواية و أيده التاريخ: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حضر للمباهلة و لم يحضر معه إلا علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) فلم يحضر لها إلا نفسان و ابنان و امرأة واحدة و قد امتثل أمر الله سبحانه فيها.
على أن المراد من لفظ الآية أمر، والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب الخارج أمر آخر، و قد كثر في القرآن الحكم أو الوعد و الوعيد للجماعة، و مصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] ، و قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] ، و قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] ، و قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة: 219] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع و مصداقها بحسب شأن النزول مفرد(2).
قوله تعالى: {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}، – الابتهال – من البهلة بالفتح و الضم وهي اللعنة، هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح(3).
وقوله: {فنجعل لعنة الله}، كالبيان للابتهال، و قد قيل: فنجعل، و لم يقل، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف والابتناء.
وقوله: الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين النصارى حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله لا إله غيره و إن عيسى عبده و رسوله، و قالوا: إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة.
وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى و المباهلة عليها بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا و الطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد و الجمع معا كقولنا: فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة و المباهلة على أي حال: إما في جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إما في جانب النصارى، و هذا يعطي أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) شركة في الدعوى و الدعوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما خصهم باسم الأنفس و النساء و الأبناء لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين رجال الأمة و نسائهم و أبنائهم.
فإن قلت: قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد و أن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة (عليها السلام) فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو؟.
قلت: إن بين المقامين فارقا و هو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم، و أما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم، و لا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] و قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل: 103] و قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} – إلى أن قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده و هو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله: الكاذبين بصيغة الجمع البتة.
فإن قلت: كما أن النصارى الوافدين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب دعوى و هي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا و لا بين نسائهم و بين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي أن الله لا إله إلا هو و أن عيسى بن مريم عبده و رسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحضر من أحضر منهم على سبيل الأنموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء و النساء و الأنفس، على أن الدعوى غير الدعوة و قد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.
قلت: لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الأنموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين و نسوة و أبناء ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار و هو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى وهو رجل و امرأة و ابنان.
وإنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه، و أما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل و لا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل}، و كذا قوله تعالى – قبل عدة آيات -:{ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن}.
و من هنا يظهر: أن إتيان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الأنموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتى يعرضوا للعن و العذاب المتردد بينهم و بين خصمهم، و إنما أتى (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن أتى به من جهة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان طرف المحاجة و المداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء و الأنفس بهم لا من جهة الإتيان بالأنموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.
ثم إن النصارى إنما قصدوه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى بن مريم (عليهما السلام) عبد الله و رسوله و يعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه و يدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود و المحاجة فحضوره و حضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى و الدعوة معا فقد كانوا شركاءه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.
فإن قلت: هب أن إتيانه بهم لكونهم منه، و انحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر – كما تعطيه العادة الجارية – أن إحضار الإنسان أحباءه وأفلاذ كبده من النساء و الصبيان في المخاطر و المهاول دليل على وثوقه بالسلامة و العافية و الوقاية فلا يدل إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم على أزيد من ذلك و أما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله.
قلت: نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله: {على الكاذبين}، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة و المباهلة البتة، و لا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشاركون معه في الدعوى و في الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى و دعوة معه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و شركاء في ذلك.
فإن قلت: لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة.
قلت: كلا فقد تبين فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة و التبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شئونها و لوازمها، و من المناصب و المقامات الإلهية التي يتقلدها، و كذا تبين مما تقدم من مبحث الإمامة أيضا أنهما ليسا بعين الإمامة و إن كانا من لوازمها بوجه.
قوله تعالى:{ إن هذا لهو القصص الحق و ما من إله إلا الله}، هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى (عليه السلام)، و الكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى.
و في الإتيان بإن واللام و ضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه و بصيرته و وثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه، و يتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها و هو قوله: {وما من إله إلا الله} فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا.
قوله تعالى: {وإن الله لهو العزيز الحكيم }معطوف على أول الآية، وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر و تشجيع لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله لا يعجز عن نصرة الحق و تأييده، ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز فلا يعجز عما أراده الحكيم فلا يجهل ولا يهمل لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه.
ومن هنا يظهر وجه الآيتان بالاسمين: العزيز الحكيم، وأن الكلام مسوق لقصر القلب أو الإفراد.
قوله تعالى: {فإن الله عليم بالمفسدين}، لما كان الغرض من المحاجة و كذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض و المقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون أن الله سبحانه ولي الحق لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية و الاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع، والسنة التي استحكمت عليه عادتهم، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهواؤهم وهوساتهم من شكل الحياة، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق و السعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون.
ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق.
وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم أكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة، و قد فعلوا و صدقوا قول الله بفعلهم(4).
____________________
1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 185-213.
2. فالمراد من الابناء هم اولاد الرسول (صلى الله عليه واله)المحصورون في الحسن والحسين (عليهما السلام) حين نزول الاية ومن (نسائنا) فاطمة الزهراء (عليه السلام) بالنصوص المتواترة ولفظ (النساء) جمع لا واحد له من لفظه وهو يشمل المرأة التي تنسب إلى الشخص بسبب او نسب كالزوجة والام والاخت والبنت وقد ورد استعماله في جميع تلك الموارد في القرآن الكريم .
(وانفسنا وانفسكم) المقصود بها نفس الرسول (صلى الله عليه واله) القائم بالدعوة إلى الله ومن هو بمنزلته في العلم والعمل والقضاء بالحق وهو منحصر في علي (عليه السلام) .
وهو اعلام منه (صلى الله عليه واله)بأن وجود علي (عليه السلام) بمنزلة وجوده في العلم والعمل.
3. ما ذكره (قدس سره) هو تبعاً للكشاف فإنه قال : (والبهلة بالفتح والضم باللعنة وبهله الله لعنه وابعده من رحمته من قولك ابهله إذا اهمله وناقة باهل لا صرار عليها واصلا الابتهال هذا). انتهى. وما ذكره الزمخشري في نظر من وجهين . الاول انه لم يرد في كتب اللغة ان اصل البهل هو اللعن بل الوارد كما عن ابن فارس (بهل) لها اصول ثلاثة . الاول بهلته إذا خليته وارواته .. والثاني التضرع في الدعاء والمباهلة يرجع إلى هذا فإنه المتباهلين يدعو كل واحد على صاحبه . والثالث : الماء القليل والثاني من الوجهين ان الزمخشري يريد بعبارته ان اصل الابتهار هو الاهمال فقوله ان اصل الابتهال هذا يرجع إلى قوله ابهله إذا اهمله وناقة باهل لا صرار عليها.
وقال الراغب في المفردات (البهل كون الشيء غير مراعى والباهل البعير المخلى عن قيده او عن سمه او المخلى ضرعها عن صراط .. وابهلت فلاناً خليته وارواته تشبيها بالبعير الباهل والابتهال في الدعاء الاسترسال فيه والتضرع نحو قوله عزوجل {ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل ان الاسترسال في هذا المكان لاجل اللعن ) . انتهى فيظهر من جميع ما تقدم ان يبتهل افتعال بمعنى المفاعلة أي يدعو بعضنا على بعض ويجتهد في دعاءه ويختص هذا المقام في اللعن بقرينة (فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
4.قال الزمخشري في كشافه :(فأن قلت : ما كان دعاؤه الى المباهلة الا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك امر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الابناء والاباء ؟ قلت :ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيفائه بصدقه حيث استجرأ على تعريض اعزته وافلاذ كبده واحب الناس اليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع احبته واعزته هلاك الاستئصال ان تمت المباهلة وخص الابناء والنساء لأنهم اعز الاهل والصقهم بالقلوب = وربما فداهم الرجل بنفسه دونهم حتى القتل ،وقدمهم في الذكر على الانفس لنبيه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الانفس مفدون بها . وفيه دليل لا شيء اقوى فيه على فضل اصحاب الكساء عليهم السلام وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه واله لأن لك يرو احد من موافق ولا مخالف انهم اجابوا الى ذلك انتهى ج1 ص369-370.
نفي الوهية المسيح :
الآية الأُولى تورد استدلالاً قصيراً وواضحاً في الردّ على مسيحيّي نجران بشأن الوهية المسيح : إنّ ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلاً على أنّه ابن الله أو أنّه الله بعينه، لأنّ هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد ولد من غير أب ولا أُم. وعليه، فكما أنّ خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجّب، لأنّ الله قادر على كلّ شيء، ولأن «فعله» و «إرادته» متناسقان فإذا أراد شيئاً يقول له : كن فيكون، كذلك ولادة عيسى من أُمّ وبغير أب، ليست مستحيلة.
وأساساً، فإن الميسور والمعسور يتحقّقان بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة كما في المخلوقات، أمّا من كانت قدرته مطلقة فلا مفهوم للصعب والسهل بالنسبة له. فخلق ورقة واحدة تتساوى بالنسبة له مع خلق غابة من آلاف الكيلومترات، وخلق ذرة واحدة كخلق المنظومة الشمسية لديه.
{الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين}.
هذه الآية تؤكّد الموضوع وتقول : إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمرٌ حقيقيٌ من الله ولا يعتوره الشكّ، فلا تتردّد في قبوله.
في تفسير {الحق من ربّك} للمفسّرين رأيان : الرأي الأول يقول : إنّ الجملة مبتدأ وخبر، وبذلك يكون المعنى : الحقّ دائماً من ربّك، وذلك لأنّ الحقّ هو الحقيقة، والحقيقة هو الوجود، وكلّ وجود ناشئ من وجوده. لذلك فكلّ باطل عدم، والعدم غريب على ذاته.
الرأي الثاني يقول : إنّ الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره «تلك الأخبار». أي تلك الأخبار التي أنزلناها عليك حقائق من الله. وكلّ من التفسيرين ينسجم مع الآية.
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}
{فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم…}.
بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بالوهية عيسى بن مريم، يأمر الله نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره ان يقول لهم : إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منّا {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}.
ولا حاجة للقول بأنّ القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن، ثمّ ليتفرّقوا كلٌ إلى سبيله، لأنّ عملاً كهذا لن يكون له أيّ تأثير، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عياناً فيحيق بالكاذب عذاب فوري.
وبعبارة أُخرى : فإنّ المباهلة ـ وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها ـ كانت بمثابة «السهم الأخير» بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإنّ الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو «أثرها الخارجي».
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}.
تقول الآية ـ بعد شرح حياة المسيح (عليه السلام) ـ : إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها الله عليك. وعليه، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة باُلوهية المسيح، أو إعتباره ابن الله، أو بعكس ذلك إعتباره لقيطاً، كلّها خرافات باطلة {إنَّ هذا لهوَ القصصُ الحقّ}.
ثمّ تضيف للتوكيد : إنّ الذي يليق للعبادة هو الله {وما من إله إلاَّ الله}وحده، وأن اتّخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحقّ والحقيقة {وان الله لهو العزيز الحكيم} فهو قادر على أن يخلق ولداً بدون أب، وذلك على الله يسير.
«القصص» مفرد، تعني القصّة، وهي في الأصل من «القص» بمعنى تعقّب الأثر. في موضع آخر من القرآن قالت أُمّ موسى لابنتها «قصّيه» أي عقّبيه وابحثي عنه {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] وقولهم لثأر الدم «القصاص» لأنّه تتبع لحقوق أصحاب الدم.
و«القصّة» تعني بتاريخ القدامى والبحث في سير حياتهم ومن ذلك يعلم أن المشار إليه في (هذا) هو قصة حياه المسيح لا القرآن الكريم ولا قصص الأنبياء.
الآية الثانية تهدد من لم يستسلم هؤلاء للحقّ بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح (عليه السلام)، وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصّبهم، لأن ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلاّب حقّ، بل هم مقيّدون بأغلال تعصّبهم المجحف، وأهوائهم الجامحة، وتقاليدهم المتحجّرة، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع : {فان تولوا فإن الله عليم بالمفسدين}.
لأن هدفهم تخدير الناس وإفساد العقائد السليمة لأفراد المجتمع، ومن المعلوم أن الله تعالى يعرف هؤلاء، ويعلم بنياتهم وسيجازيهم في الوقت المناسب.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص299-310.